التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0657-4
الصفحات: ٦٠٢

وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ)(٣٩)

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) معطوف على قوله (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا ..).

أى : بعد أن لج قوم نوح في طغيانهم ، وصموا آذانهم عن سماع دعوته .. أوحى الله ـ تعالى ـ إلى نوح بأن يكتفى بمن معه من المؤمنين ، فإنه لم يبق في قومه من يتوقع إيمانه بعد الآن ، وبعد أن مكث فيهم زمنا طويلا يدعوهم إلى الدخول في الدين الحق ، فلم يزدهم دعاؤه إلا فرارا ..

وقوله : (فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) تسلية له ـ عليه‌السلام ـ عما أصابه منهم من أذى.

والابتئاس : الحزن. يقال : ابتأس فلان بالأمر ، إذا بلغه ما يكرهه ويغمه ، والمبتئس : الكاره الحزين في استكانة.

أى : فلا تحزن بسبب إصرارهم على كفرهم ، وتماديهم في سفاهاتهم وطغيانهم ، فقد آن الأوان للانتقام منهم.

قال الإمام ابن كثير : يخبر الله ـ تعالى ـ في هذه الآية ، أنه أوحى إلى نوح لما استعجل قومه نقمة الله بهم ، وعذابه لهم ، فدعا عليهم نوح دعوته وهي (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) فمنذ ذلك أوحى الله ـ تعالى ـ إليه (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) فلا تحزن عليهم ، ولا يهمنك أمرهم» (١).

وقوله : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا ...) معطوف على قوله .. (فَلا تَبْتَئِسْ ...).

والفلك : ما عظم من السفن ، ويستعمل هذا اللفظ للواحد والجمع ، والمراد به هنا سفينة واحدة عظيمة قام بصنعها نوح ـ عليه‌السلام ـ.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٥٢ طبعة دار الشعب.

٢٠١

والباء في قوله (بِأَعْيُنِنا) للملابسة ، والجار والمجرور في موضع الحال من ضمير اصنع.

أى : واصنع الفلك يا نوح ، حالة كونك بمرأى منا ، وتحت رعايتنا وتوجيهنا وإرشادنا عن طريق وحينا.

وقوله ـ سبحانه ـ (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) نهى له عن المراجعة بشأنهم.

أى : ولا تخاطبني يا نوح في شأن هؤلاء الظالمين ، بأن ترجوني في رحمتهم أو في دفع العذاب عنهم ، فقد صدر قضائي بإغراقهم ولا راد لقضائي.

وقوله ـ تعالى ـ (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) بيان لامتثال نوح لأمر ربه.

وجاء التعبير بالفعل المضارع مع أن الصنع كان في الماضي : استحضارا لصورة الصنع ، حتى لكأن نوحا ـ عليه‌السلام ـ يشاهد الآن وهو يصنعها.

ثم بين ـ سبحانه ـ موقف قومه منه وهو يصنعها وقال : (وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ...).

والسخرية : الاستهزاء. يقال : سخر فلان من فلان وسخر به ، إذا استخف به وضحك منه.

أى : امتثل نوح لأمر ربه ، فطفق يصنع الفلك ، فكان الكافرون من قومه كلما مروا به وهو يصنعها استهزءوا به ، وتعجبوا من حاله ، وقالوا له على سبيل التهكم به ، يا نوح صرت نجارا بعد أن كنت نبيا ، كما جاء في بعض الآثار.

وهنا يرد عليهم نوح بقوله : (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ).

أى قال نوح لهم : إن تسخروا منى ومن أتباعى اليوم لصنعنا السفينة ، وتستجهلوا منا هذا العمل ، فإنا سنسخر منكم في الوقت القريب سخرية محققة في مقابل سخريتكم الباطلة.

قال الإمام الرازي : وقوله (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) فيه وجوه :

الأول : التقدير : إن تسخروا منا في هذه الساعة فإنا نسخر منكم سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا والخزي في الآخرة.

الثاني : إن حكمتم علينا بالجهل فيما نصنع فإنا نحكم عليكم بالجهل فيما أنتم عليه من الكفر والتعرض لسخط الله وعذابه ، فأنتم أولى بالسخرية منا.

الثالث : إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم ، واستجهالكم أقبح وأشد ، لأنكم لا تستجهلون

٢٠٢

إلا لأجل الجهل بحقيقة الأمر ، والاغترار بظاهر الحال ، كما هو عادة الأطفال (١).

ثم أضاف نوح ـ عليه‌السلام ـ إلى تهديدهم تهديدا آخر فقال : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ).

أى : فسوف تعلمون عما قريب ، من منا الذي سينزل عليه العذاب المخزى المهين في الدنيا ، ومن منا الذي سيحل عليه العذاب الدائم الخالد في الآخرة.

وبهذا نرى أن هذه الآيات الكريمة قد قررت حكم الله الفاصل في شأن قوم نوح ـ عليه‌السلام ـ بعد أن لبث فيهم زمنا طويلا يدعوهم إلى الحق ، ولكنهم صموا آذانهم عنه فماذا كان من أمره وأمرهم بعد ذلك.

كان من أمره وأمرهم بعد ذلك أن أمر الله ـ تعالى ـ نوحا ـ عليه‌السلام ـ أن يحمل في السفينة بعد أن أتم صنعها من كل نوع من أنواع الحيوانات ذكرا وأنثى ، ثم نزل الطوفان ، وسارت السفينة بمن فيها ، وأغرق الله ـ تعالى ـ الظالمين ، وقد حكى ـ سبحانه ـ كل ذلك فقال ـ تعالى.

(حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٧ ص ١٢٤.

٢٠٣

مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(٤٤)

فقوله ـ سبحانه ـ (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ...) بيان لمرحلة جديدة من مراحل قصة نوح ـ عليه‌السلام ـ مع قومه.

و (حَتَّى) هنا حرف غاية لقوله ـ تعالى ـ قبل ذلك (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ ..) إلخ.

والمراد بالأمر في قوله ـ سبحانه ـ (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا ...) حلول وقت نزول العذاب بهم ، فهو مفرد الأمور ، أى : حتى إذا حل بهم وقت عذابنا .. قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين.

ويصح أن يكون المراد به الأمر بالشيء على أنه مفرد الأوامر ، فيكون المعنى : حتى إذا جاء أمرنا لنوح بركوب السفينة ، وللأرض بتفجير عيونها ، وللسماء بإنزال أمطارها ... قلنا احمل فيها ...

وجملة ، وفار التنور ، معطوفة على (جاءَ أَمْرُنا) ، وكلمة (فارَ) من الفور والفوران ، وهو شدة الغليان للماء وغيره.

قال صاحب المنار ما ملخصه : «والفور والفوران ضرب من الحركة والارتفاع القوى ، يقال في الماء إذا غلا وارتفع ... ويقال في النار إذا هاجت قال ـ تعالى ـ (إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ) ...

ومن المجاز : فار الغضب ، إذا اشتد ...» (١).

وللمفسرين في المراد بلفظ (التَّنُّورُ) أقوال منها : أن المراد به الشيء الذي يخبز فيه الخبز ، وهو ما يسمى بالموقد أو الكانون ...

ومنها أن المراد به وجه الأرض ...

ومنها : أن المراد به موضع اجتماع الماء في السفينة ...

ومنها : أن المراد به طلوع الفجر من قولهم : تنور الفجر ...

__________________

(١) تفسير المنار ج ١٢ ص ٧٥.

٢٠٤

ومنها : أن المراد به أعالى الأرض والمواضع المرتفعة فيها ..

وقيل : إن الكلام على سبيل المجاز ، والمراد بقوله ـ سبحانه ـ (فارَ التَّنُّورُ) التمثيل بحضور العذاب ، كقولهم ، حمى الوطيس ، إذا اشتد القتال (١).

وأرجح هذه الأقوال أولها ، لأن التنور في اللغة يطلق على الشيء الذي يخبز فيه ، وفورانه معناه : نبع الماء منه بشدة مع الارتفاع والغليان ، كما يفور الماء في القدر عند الغليان ، ولعل ذلك كان علامة لنوح ـ عليه‌السلام ـ على اقتراب وقت الطوفان.

وقد رجح هذا القول المحققون من المفسرين ، فقد قال الإمام ابن جرير بعد أن ذكر جملة من الأقوال في معنى التنور : «وأولى الأقوال عندنا بتأويل قوله (التَّنُّورُ) قول من قال : هو التنور الذي يخبز فيه ، لأن هذا هو المعروف من كلام العرب ، وكلام الله لا يوجه إلا إلى الأغلب الأشهر من معانيه عند العرب ، إلا أن تقوم حجة على شيء منه بخلاف ذلك ، فيسلم لها.

وذلك لأنه جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم به لإفهامهم معنى ما خاطبهم به.

أى : قلنا لنوح حين جاء عذابنا قومه ... وفار التنور الذي جعلنا فورانه بالماء آية مجيء عذابنا .. احمل فيها ـ أى السفينة من كل زوجين اثنين ..» (٢).

وقال الإمام الرازي ما ملخصه : فإن قيل : فما الأصح من هذه الأقوال ـ في معنى التنور ..؟.

قلنا : الأصل حمل الكلام على حقيقته ، ولفظ التنور حقيقة في الموضع الذي يخبز فيه ، فوجب حمل اللفظ عليه ...

ثم قال : والذي روى من أن فور التنور كان علامة لهلاك القوم لا يمتنع لأن هذه واقعة عظيمة ، وقد وعد الله ـ تعالى ـ المؤمنين النجاة فلا بد أن يجعل لهم علامة بها يعرفون الوقت المعين «فلا يبعد جعل هذه الحالة علامة لحدوث هذه الواقعة» (٣).

وجملة (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ) جواب إذا ولفظ (زَوْجَيْنِ) تثنية زوج ، والمراد به هنا الذكر والأنثى من كل نوع.

قراءة الجمهور : (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) بدون تنوين للفظ كل ، وإضافته إلى زوجين.

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ٩ ص ٢٣.

(٢) تفسير ابن جرير ج ١٢ ص ٢٥.

(٣) تفسير الفخر الرازي ج ١٧ ص ٢٢٦.

٢٠٥

وقرأ حفص : (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) بتنوين لفظ كل وهو تنوين عوض عن مضاف إليه ، والتقدير : احمل فيها من كل نوع من أنواع المخلوقات التي أنت في حاجة إليها ذكرا وأنثى.

ويكون لفظ (زَوْجَيْنِ) مفعولا لقوله (احْمِلْ) واثنين صفة له.

والمراد بأهله : أهل بيته كزوجته وأولاده ، وأكثر ما يطلق لفظ الأهل على الزوجة ، كما في قوله ـ (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً ، قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً ...) (١).

والمراد بأهله : من كان مؤمنا منهم.

وجملة (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) استثناء من الأهل.

أى : احمل فيها أهلك إلا من سبق عليه قضاؤنا بكفره منهم فلا تحمله.

والمراد بمن سبق عليه القول : زوجته التي جاء ذكرها في سورة التحريم في قوله ـ تعالى (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما ..) وابنه الذي أبى أن يركب معه السفينة.

قال الآلوسى عند تفسيره لهذه الجملة : والمراد زوجة له أخرى تسمى (واعلة) بالعين المهملة ، وفي رواية (والقه) وابنه منها واسمه (كنعان) .. وكانا كافرين» (٢).

وجملة (وَمَنْ آمَنَ) معطوفة على قوله (وَأَهْلَكَ) أى : واحمل معك من آمن بك من قومك.

والمعنى للآية الكريمة : لقد امتثل نوح أمر ربه له بصنع السفينة ، حتى إذا ما تم صنعها ، وحان وقت نزول العذاب بالكافرين من قومه ، وتحققت العلامات الدالة على ذلك ، قال الله ـ تعالى ـ لنوح : احمل فيها من كل نوع من أنواع المخلوقات التي أنت في حاجة إليها ذكرا وأنثى ، واحمل فيها أيضا من آمن بك من أهل بيتك دون من لم يؤمن ، واحمل فيها كذلك جميع المؤمنين الذين اتبعوا دعوتك من غير أهل بيتك.

وقد ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بما يدل على قلة عدد من آمن به فقال : (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ).

__________________

(١) سورة القصص الآية ٢٩.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٢ ص ٥٠.

٢٠٦

أى : وما آمن معه إلا عدد قليل من قومه بعد أن لبث فيهم قرونا متطاولة يدعوهم إلى الدين الحق ليلا ونهارا ، وسرا وعلانية.

قال الآلوسى بعد أن ساق أقوالا في عدد من آمن بنوح ـ عليه‌السلام ـ من قومه : ... والرواية الصحيحة أنهم كانوا تسعة وسبعين : زوجته ، وبنوه الثلاثة ونساؤهم ، واثنان وسبعون رجلا وامرأة من غيرهم ...» (١).

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قاله نوح للمؤمنين عند ركوبهم السفينة فقال : (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

ومجريها ومرساها ، قرأهما الجمهور بضم الميمين فيهما ، وهما مصدران من جرى وأرسى. والباء في باسم الله للملابسة ، والآية الكريمة معطوفة على جملة ، قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين.

أى : قلنا له ذلك فامتثل أمرنا ، وقال لمن معه من المؤمنين : سلموا أمركم لمشيئة الله ـ تعالى ـ وقولوا عند ركوب السفينة : باسم الله جريها في هذا الطوفان العظيم ، وباسم الله إرساءها في المكان الذي يريد الله ـ تعالى ـ إرساءها فيه.

قال الشيخ الفاضل ابن عاشور : وعدى فعل (ارْكَبُوا) بفي ، جريا على الأسلوب الفصيح ، فإنه يقال : ركب الدابة إذا علاها. وأما ركوب الفلك فيعدى بفي ، لأن إطلاق الركوب عليه مجاز ، وإنما هو جلوس واستقرار ، فلا يقال : ركب السفينة ؛ فأرادوا التفرقة بين الركوب الحقيقي والركوب المشابه له ، وهي تفرقة حسنة» (٢).

وجملة (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) تعليل للأمر بالركوب المصاحب لذكر الله ـ تعالى ـ :

أى : إن ربي لعظيم المغفرة ولعظيم الرحمة لمن كان مطيعا له مخلصا في عبادته.

قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : يقول الله ـ تعالى ـ إخبارا عن نوح أنه قال للذين أمر بحملهم معه في السفينة (ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها ..).

وقال ـ سبحانه ـ في موضع آخر : (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ).

ولهذا تستحب التسمية في ابتداء الأمور : عند الركوب في السفينة وعلى الدابة.

فقد روى الطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أمان أمتى من الغرق إذا

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٢ ص ٥٠.

(٢) تفسير سورة هود ص ٧٣.

٢٠٧

ركبوا في السفن أن يقولوا : بسم الله الملك .. بسم الله مجريها ومرساها إن ربي لغفور رحيم» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ حال السفينة وهي تمخر بهم عباب الماء فقال :

(وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ).

والموج : ما ارتفع من ماء البحر عند اضطرابه. وأصله من ماج الشيء يموج إذا اضطرب ومنه قوله ـ تعالى ـ (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ).

قال صاحب الكشاف : فإن قلت. بم اتصل قوله ـ تعالى ـ (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ)؟

قلت : اتصل بمحذوف دل عليه اركبوا فيها باسم الله ، كأنه قيل : فركبوا فيها وهم يقولون : باسم الله ، وهي تجرى بهم. أى تجرى بهم وهم فيها في موج كالجبال ، يريد موج الطوفان ، شبه كل موجة بالجبل في تراكمها وارتفاعها .. (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ : يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) تصوير لتلك اللحظة الرهيبة الحاسمة التي أبصر فيها نوح ـ عليه‌السلام ـ ابنه الكافر وهو منعزل عنه وعن جماعة المؤمنين.

والمعزل : مكان العزلة ، أى : الانفراد.

أى : وقبل أن يشتد الطوفان وترتفع أمواجه ، رأى نوح ابنه كنعان ، وكان هذا الابن في مكان منعزل ، فقال له نوح بعاطفة الأبوة الناصحة الملهوفة يا بنى اركب معنا في السفينة ، ولا تكن مع القوم الكافرين الذين سيلفهم الطوفان بين أمواجه عما قريب. ولكن هذه النصيحة الغالية من الأب الحزين على مصير ابنه ، لم تجد أذنا واعية من هذا الابن العاق المغرور ، بل رد على أبيه : (قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ ..).

أى : قال : سألتجئ إلى جبل من الجبال الشاهقة ، لكي أتحصن به من وصول الماء إلى.

وهنا يرد عليه أبوه الرد الأخير فيقول ـ كما حكى القرآن عنه ـ : (قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ ..).

أى : قال نوح لابنه : لا معصوم اليوم من عذاب الله إلا من رحمه ـ سبحانه ـ بلطفه وإحسانه ، وأما الجبال وأما الحصون .. وأما غيرهما من وسائل النجاة ، فسيعلوها الطوفان ، ولن تغنى عن المحتمى بها شيئا.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ١٥٥.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٧٠.

٢٠٨

وعبر عن العذاب بأمر الله ، تهويلا لشأنه.

وقوله : (وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) بيان للعاقبة السيئة التي آل إليها أمر الابن الكافر.

أى : وحال وفصل الموج بهديره وسرعته بين الابن وأبيه ، فكانت النتيجة أن صار الابن الكافر من بين الكافرين المغرقين.

والتعبير بقوله : (وَحالَ ...) يشعر بسرعة فيضان الماء واشتداده ، حتى لكأن هذه السرعة لم تمهلهما ليكملا حديثهما.

والتعبير بقوله : (فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) يشير إلى أنه لم يغرق وحده ، وإنما غرق هو وغرق معه كل من كان على شاكلته في الكفر.

وهكذا تصور لنا هذه الآية الكريمة ما دار بين نوح وابنه من محاورات في تلك اللحظات الحاسمة المؤثرة ، التي يبذل فيها كل أب ما يستطيع بذله من جهود لنجاة ابنه من هذا المصير المؤلم.

وبعد أن غرق الكافرون ، ونجا نوح ومن معه من المؤمنين ، وجه الله ـ تعالى ـ أمره إلى الأرض وإلى السماء .. فقال : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ، وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ ، وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ، وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

أى : وبعد أن أدى الطوفان وظيفته فأغرق بأمر الله ـ تعالى ـ الكافرين ، قال الله ـ تعالى ـ للأرض : (يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ).

أى : اشربى أيتها الأرض ما على وجهك من ماء ، وابتلعيه بسرعة في باطنك كما يبتلع الإنسان طعامه في بطنه بدون استقرار في الفم.

وقال ـ سبحانه ـ للسماء (وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) أى : أمسكى عن إرسال المطر يقال :

أقلع فلان عن فعله إقلاعا ، إذا كف عنه وترك فعله. ويقال : أقلعت الحمى عن فلان ، إذا تركته.

فامتثلتا ـ أى الأرض والسماء ـ لأمر الله ـ تعالى ـ في الحال ، فهو القائل وقوله الحق : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١).

وقوله (وَغِيضَ الْماءُ) أى : نقص ونضب. يقال : غاض الماء يغيض ، إذا قل ونقص.

__________________

(١) سورة يس الآية ٨٢.

٢٠٩

والمراد به هنا : الماء الذي نشأ عن الطرفان.

وقوله : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أى : تم ونفذ ما وعد الله ـ تعالى ـ به نبيه نوحا ـ عليه‌السلام ـ من إهلاكه للقوم الظالمين.

والضمير في قوله : (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) للسفينة ، والجودي ، جيل بشمال العراق بالقرب من مدينة الموصل. وقيل هو جبل بالشام.

أى : واستقرت السفينة التي تحمل نوحا والمؤمنين بدعوته ، على الجبل المعروف بهذا الاسم ، بعد أن أهلك الله أعداءهم.

قال ابن كثير ما ملخصه : وكان خروجهم من السفينة في يوم عاشوراء من المحرم ، فقد روى الإمام أحمد عن أبى هريرة قال : مر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأناس من اليهود ، وقد صاموا يوم عاشوراء ، فقال لهم : ما هذا الصوم؟ قالوا ، هذا اليوم الذي نجى الله موسى وبنى إسرائيل من الغرق ، وغرق فيه فرعون. وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي. فصامه نوح وموسى ـ عليه‌السلام ـ شكرا لله.

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنا أحق بموسى ، وأحق بصوم هذا اليوم». فصامه ، وقال لأصحابه : من كان أصبح منكم صائما فليتم صومه ، ومن كان قد أصاب من غذاء أهله ، فليتم بقية يومه» (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : وقيل بعدا للقوم الظالمين.

أى : هلاكا وسحقا وطردا من رحمة الله ـ تعالى ـ للقوم الذين ظلموا أنفسهم بإيثارهم الكفر على الإيمان ، والضلالة على الهداية.

قال الجمل : و (بُعْداً) مصدر بعد ـ بكسر العين ـ ، يقال بعد بعدا ـ بضم فسكون ـ وبعدا ـ بفتحتين ـ إذا بعد بعدا بعيدا بحيث لا يرجى عوده ، ثم استعير للهلاك ، وخص بدعاء السوء ، وهو منصوب على المصدر بفعل مقدر. أى : وقيل بعدا بعدا ...» (٢).

هذا وقد تكلم بعض العلماء عن أوجه البلاغة والفصاحة في هذه الآية كلاما طويلا ، نكتفي بذكر جانب مما قاله في ذلك الشيخ القاسمى في تفسيره.

قال ـ رحمه‌الله ـ ما ملخصه : «هذه الآية بلغت من أسرار الإعجاز غايتها ، وحوت من بدائع الفوائد نهايتها. وقد اهتم علماء البيان بإبراز ذلك ، ومن أوسعهم مجالا في مضمار معارفها

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٥٧.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٤٠٠.

٢١٠

الإمام «السكاكي» فقد أطال وأطنب في كتابه «المفتاح» في الحديث عنها.

فقد قال ـ عليه الرحمة ـ في بحث البلاغة والفصاحة :

وإذ قد وقفت على البلاغة ، وعثرت على الفصاحة ، فأذكر لك على سبيل الأنموذج ، آية أكشف لك فيها من وجوههما ما عسى أن يكون مستورا عنك ، وهذه الآية هي قوله ـ تعالى ـ (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ، وَيا سَماءُ أَقْلِعِي ، وَغِيضَ الْماءُ ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ ...).

والنظر في هذه الآية من أربع جهات : من جهة علم البيان ، ومن جهة علم المعاني ، ومن جهة الفصاحة المعنوية ، ومن جهة الفصاحة اللفظية.

أما النظر فيها من جهة علم البيان .. فتقول : إنه ـ عز سلطانه ـ لما أراد أن يبين معنى هو : أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد ، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع ، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض لما أراد ذلك : بنى الكلام على التشبيه ، بأن شبه الأرض والسماء بالمأمور الذي لا يتأتى منه أن يعصى أمره .. وكأنهما عقلاء مميزون فقال : (يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ، وَيا سَماءُ أَقْلِعِي ...)

ثم قال : (ماءَكِ) بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز ، تشبيها لاتصال الماء بالأرض ، باتصال الملك بالمالك.

ثم اختار لاحتباس المطر لفظ الإقلاع الذي هو ترك الفاعل للفعل.

وأما النظر فيها من حيث علم المعاني ... فذلك أنه اختير (يا) دون سائر أخواتها ، لكونها أكثر في الاستعمال ... واختير لفظ «ابلعي» على «ابتلعى» لكونه أخصر. ثم أطلق الظلم ليتناول كل نوع منه ، حتى يدخل فيه ظلمهم لأنفسهم.

وأما النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية فهي كما ترى. نظم للمعاني لطيف ، وتأدية لها ملخصة مبينة ، لا تعقيد يعثر الفكر في طلب المراد ، ولا التواء يشيك الطريق إلى المرتاد ، بل إذا جربت نفسك عند استماعها ، وجدت ألفاظها تسابق معانيها ، ومعانيها تسابق ألفاظها ، فما من لفظة في تركيب الآية ونظمها تسبق إلى أذنك ، إلا ومعناها أسبق إلى قلبك.

وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية : فألفاظها على ما ترى عربية ، مستعملة جارية على قوانين اللغة ، سليمة من التنافر ، بعيدة عن البشاعة.

ولا تظن الآية مقصورة على ما ذكرت ، فلعل ما تركت أكثر مما ذكرت (١).

__________________

(١) راجع تفسير القاسمى ج ٩ ص ٣٤٤٦ وتفسير المنار ج ١٢ ص ٩٠.

٢١١

ثم ختم ـ سبحانه ـ قصة نوح مع قومه في هذه السورة ، بتلك الضراعة التي تضرع بها نوح ـ عليه‌السلام ـ بشأن ولده ، وبذلك الرد الحكيم الذي رد به الخالق ـ عزوجل ـ على نوح ـ عليه‌السلام ، وبتعقيب على القصة يدل على وحدانية الله ـ تعالى ـ ، وعلى صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يبلغه عن ربه قال ـ تعالى ـ :

(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)(٤٩)

والمراد بالنداء في قوله ـ سبحانه ـ : (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ) .. الدعاء والضراعة إلى الله ـ تعالى ـ والجملة الكريمة معطوفة على ما قبلها.

أى : وبعد أن تخلف ابن نوح عليه‌السلام عن الركوب معه في السفينة ، وقضى الأمر بهلاك الكافرين ونجاة المؤمنين .. تضرع نوح ـ عليه‌السلام ـ إلى ربه فقال في استعطاف ورجاء :

٢١٢

يا رب! ان ابني «كنعان» (مِنْ أَهْلِي) فهو قطعة منى ، فأسألك أن ترحمه برحمتك (إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) أى : وإن كل وعد تعده لعبادك هو الوعد الحق وأنت ـ يا ربي ـ قد وعدتني بنجاة أهلى إلا من سبق عليه القول منهم ، لكني في هذا الموقف العصيب أطمع في عفوك عن ابني وفي رحمتك له.

وقوله : (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) أى : وأنت يا إلهى ـ لا راد لما تحكم به ، ولا معقب لحكمك ، وحكمك هو الحق والعدل ، وهو المنزه عن الخطأ والمحاباة ، لأنه صادر عن كمال العلم والحكمة.

واكتفى نوح ـ عليه‌السلام ـ بأن يقول : (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي. وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ، وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) دون أن يصرح بمطلوبه وهو نجاة ابنه تأدبا مع الله ـ تعالى ـ وحياء منه ـ سبحانه ـ واعتقادا منه بأنه ـ سبحانه ـ عليم بما يريده ، وخبير بما يجول في نفسه.

وهذا لون من الأدب السامي ، سلكه الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ في مخاطبتهم لربهم ـ عزوجل ـ ومن أولى منهم بذلك؟!!

ولعل نوحا ـ عليه‌السلام ـ عند ما تضرع إلى ربه ـ سبحانه ـ بهذا الدعاء لم يكن يعلم أن طلب الرحمة أو النجاة لابنه الكافر ممنوع ، فكان حاله في ذلك كحال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ما قال لعمه أبى طالب : «لأستغفرن لك ما لم أنه عن ذلك» واستمر يستغفر له إلى أن نزل قوله ـ تعالى ـ (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى ..) (١).

وقال الشيخ القاسمى : وإنما قال نوح ذلك ـ أى : رب إن ابني من أهلى .. ألخ ـ لفهمه من الأهل ذوى القرابة الصورية ، والرحمة النسبية ، وغفل ـ لفرط التأسف على ابنه ـ عن استثنائه ـ تعالى ـ بقوله : (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) ولم يتحقق أن ابنه هو الذي سبق عليه القول ، فاستعطف ربه بالاسترحام ، وعرض بقوله (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) إلى أن العالم العادل الحكيم لا يخلف وعده (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ (قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ..) رد من الله ـ تعالى ـ على نوح فيما طلبه منه.

أى : قال الله ـ تعالى ـ مجيبا لنوح ـ عليه‌السلام ـ فيما سأله إياه : يا نوح إن ابنك

__________________

(١) راجع تفسيرنا لسورة التوبة ج ٦ ص ٣١.

(٢) تفسير القاسمى ج ٩ ص ٣٤٤٨.

٢١٣

هذا (لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) لأن مدار الأهلية مبنى على القرابة الدينية ، وقد انقطعت بالكفر ، فلا علاقة بين مسلم وكافر.

أو ليس من أهلك الذين وعدتك بنجاتهم ، بل هو ممن سبق عليه القول بسبب كفره.

فالمراد نفى أن يكون من أهل دينه واعتقاده ، وليس المراد نفى أن يكون من صلبه ، لأن ظاهر الآية يدل على أنه ابنه من صلبه ، ومن قال بغير ذلك فقوله ساقط ولا يلتفت إليه ، لخلوه عن الدليل.

قال ابن كثير : وقد نص غير واحد من الأئمة على تخطئة من ذهب في تفسير هذا إلا أنه ليس بابنه ، وإنما كان ابن زنية.

وقال ابن عباس وغير واحد من السلف : ما زنت امرأة نبي قط ، ثم قال : وقوله : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) أى : الذين وعدتك بنجاتهم.

وقول ابن عباس في هذا هو الحق الذي لا محيد عنه ؛ فإن الله ـ تعالى ـ أغير من أن يمكن امرأة نبي من الفاحشة (١).

وجملة (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) تعليل لنفى الأهلية.

وقد قرأ الجمهور (عمل) بفتح الميم وتنوين اللام ـ على أنه مصدر مبالغة في ذمه حتى لكأنه هو نفس العمل غير الصالح وأصل الكلام إنه ذو عمل غير صالح ، فحذف المضاف للمبالغة بجعله عين عمله الفاسد لمداومته عليه.

وقرأ الكسائي ويعقوب (عَمَلٌ) بوزن فرح بصيغة الفعل الماضي ـ أى : إنه عمل عملا غير صالح وهو الكفر والعصيان ، فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه.

قال صاحب الكشاف وقوله : (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) تعليل لانتفاء كونه من أهله.

وفيه إيذان بأن قرابة الدين غامرة لقرابة النسب ، وأن نسيبك في دينك ومعتقدك من الأباعد في المنصب وإن كان حبشيا وكنت قرشيا لصيقك وخصيصك ، ومن لم يكن على دينك وإن كان أمس أقاربك رحما فهو أبعد بعيد منك (٢).

وقال الفخر الرازي : هذه الآية تدل على أن العبرة بقرابة الدين لا بقرابة النسب ، فإن في هذه الصورة كانت قرابة النسب حاصلة من أقوى الوجوه ، ولكن لما انتفت قرابة الدين ، لا جرم نفاه الله ـ تعالى ـ بأبلغ الألفاظ وهو : قوله : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) (٣).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٥٩.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٧٣.

(٣) تفسير الفخر الرازي ج ١٨ ص ٣.

٢١٤

والفاء في قوله : (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ..) للتفريع.

أى : ما دمت قد وقفت على حقيقة الحال ، فلا تلتمس منى ملتمسا لا تعلم على وجه اليقين ، أصواب هو أم غير صواب ، بل عليك أن تتثبت من صحة ما تطلبه ، قبل أن تقدم على طلبه.

وجملة (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) تأكيد لما قبلها ، ونهى له عن مثل هذا السؤال في المستقبل ، بعد أن أعلمه بحقيقة حال ابنه.

أى : إنى أنهاك يا نوح عن أن تكون من القوم الجاهلين ، الذين يسألون عن أشياء لا يتحققون وجه الصواب فيها.

وهنا بين الله ـ تعالى ـ أن نوحا ـ عليه‌السلام ـ قد تنبه إلى ما أرشده إليه ربه ، فبادر بطلب العفو والصفح منه ـ سبحانه ـ فقال : (قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ..).

أى : قال نوح ـ عليه‌السلام ـ ملتمسا الصفح من ربه : رب إنى أستجير بك ، وأحتمى بجنابك من أن أسألك شيئا بعد الآن ، ليس عندي علم صحيح بأنه جائز ولائق (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي) ما فرط منى من قول ، وما صدر عنى من فعل.

(وَتَرْحَمْنِي) برحمتك الواسعة التي وسعت كل شيء.

(أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) الذين خسروا أنفسهم بالاحتجاب عن علمك وحكمتك. ثم بشر ـ سبحانه ـ نبيه نوحا ـ عليه‌السلام ـ بقبول توبته فقال : (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا ، وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ ..).

والسلام : التحية المقرونة بالأمان والاطمئنان ، وأصله السلامة ، والباء فيه للمصاحبة والبركات. جمع بركة وهي ثبوت الخير ونماؤه وزيادته ، واشتقاقها من البرك ، وهو صدر البعير. يقال : برك البعير إذا ألقى بركه أى صدره على الأرض وثبت. ومنه البركة لثبوت الماء فيها.

والأمم : جمع أمة ، وهي الجماعة الكثيرة من الناس ، يجمعها نسب واحد أو لغة واحدة ، أو موطن واحد.

أى : قال الله ـ تعالى ـ مبشرا نوحا ـ عليه‌السلام ـ بقبول توبته : يا نوح اهبط من السفينة مصحوبا منا بالأمان مما تكره ، وبالخيرات النامية والنعم الثابتة عليك ، وعلى أمم متشعبة ومتفرعة وناشئة من الأمم المؤمنة التي ستهبط معك ، بعد أن أنجاكم الله ـ تعالى ـ

٢١٥

بفضله ورحمته من العذاب ، الذي حل بالكافرين من قومك.

وكان مقتضى الظاهر أن يقال : قال يا نوح اهبط بسلام .. ولكن جاء التعبير بقيل ، مسايرة للتعبيرات السابقة في أجزاء القصة ، مثل قوله ـ سبحانه ـ (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ..) وقوله : (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

وقوله (اهْبِطْ بِسَلامٍ ..) فيه إشارة إلى أنه كان قبل الهبوط في ضيافة الله ورعايته ، وأنه لولا عناية الله به وبمن معه من المؤمنين ، لما نجت السفينة من ذلك الطوفان العظيم.

والتعبير بقوله (مِنَّا) لزيادة التكريم ، وتأكيد السلام. أى : انزل بسلام ناشئ من عندنا ، وليس من عند غيرنا ؛ لأن كل سلام من غيرنا لا قيمة له بجانب سلامنا.

وقوله (عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) متعلق بسلام وبركات.

وفي هذا إشارة إلى أنه ـ سبحانه ـ سيجعل من ذرية نوح ومن ذرية من معه من المؤمنين ، أمما كثيرة تكون محل كرامة الله وأمانه وبركاته.

وقوله ـ سبحانه ـ (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) كلام مستأنف مسوق للاحتراز والتحذير من سوء عاقبة المخالفة لأمر الله.

أى : أن الأمم التي تكون من نسلك ومن نسل أتباعك يا نوح على قسمين : قسم منهم له منا السلام ، وعليه البركات بسبب إيمانه وعمله الصالح.

وقسم آخر سنمتعه في الدنيا وبالكثير من زينتها وخيراتها ، ثم يصيبه يوم القيامة عذاب أليم بسبب جحوده لنعمنا ، وعصيانه لرسلنا.

فعلى كل عاقل أن يجتهد في أن يكون من القسم الأول ، وأن يتجنب القسم الثاني.

ثم اختتم الله ـ تعالى ـ قصة نوح ـ عليه‌السلام ـ مع قومه في هذه السورة ، بقوله : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ، ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ).

واسم الإشارة (تِلْكَ) يعود إلى ما قصة الله ـ تعالى ـ من قصة نوح مع قومه في هذه السورة.

والأنباء : جمع نبأ وهو الخبر الهام. والغيب : مصدر غاب ، وهو مالا تدركه الحواس ولا يعلم ببداهة العقل.

أى : تلك القصة التي قصصناها عليك يا محمد بهذا الأسلوب الحكيم ، من أخبار الغيب الماضية ، التي لا يعلم دقائقها وتفاصيلها أحد سوانا.

٢١٦

ونحن (نُوحِيها إِلَيْكَ) ونعرفك بها عن طريق وحينا الصادق الأمين.

وهذه القصة وأمثالها (ما كُنْتَ تَعْلَمُها) أنت يا محمد ، وما كان يعلمها (قَوْمُكَ) أيضا ، بهذه الصورة الصادقة الحكيمة ، الخالية من الأساطير والأكاذيب.

(مِنْ قَبْلِ) هذا الوقت الذي أوحيناها إليك فيه.

وما دام الأمر كذلك (فَاصْبِرْ) صبرا جميلا على تبليغ رسالتك ، وعلى أذى قومك كما صبر أخوك نوح من قبل.

وجملة (إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) تعليل للأمر بالصبر.

والعاقبة : الحالة التي تعقب حالة قبلها ، وقد شاعت عند الإطلاق في حالة الخير كما في قوله ـ تعالى ـ (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى). وأل فيها للجنس ، واللام في قوله (لِلْمُتَّقِينَ) للاختصاص.

أى : إن العاقبة الحسنة الطيبة في الدنيا والآخرة ، للمتقين الذين صانوا أنفسهم عن كل ما لا يرضى الله ـ تعالى ـ ، وليست لغيرهم ممن استحبوا العمى على الهدى.

والآية الكريمة تعقيب حكيم على قصة نوح ـ عليه‌السلام ـ قصد به الامتنان على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والموعظة ، والتسلية.

فالامتنان نراه في قوله ـ تعالى ـ (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا).

والموعظة نراها في قوله ـ سبحانه ـ (فَاصْبِرْ).

والتسلية نراها في قوله ـ عزوجل ـ (إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ).

وبعد ، فهذه قصة نوح ـ عليه‌السلام ـ كما وردت في هذه السورة الكريمة ، ومن العبر والعظات والهدايات والحقائق التي نأخذها منها ما يأتى :

١ ـ الدلالة على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يبلغه عن ربه ، وعلى أن هذا القرآن من عند الله ـ تعالى ـ ، فقد أخبرنا عن قصة نوح ـ عليه‌السلام ـ مع قومه ، وعن غيرها من القصص ، التي هي من أنباء الغيب ، والتي لا يعلم حقيقتها وتفاصيلها أحد سوى الله ـ عزوجل ـ.

٢ ـ أن نوحا ـ عليه‌السلام ـ قد سلك في دعوته إلى الله ـ تعالى ـ أحسن الأساليب وأحكمها ، فقد دعا قومه إلى عبادة الله ـ تعالى ـ وحده في الليل وفي النهار. وفي السر وفي العلانية ، وأقام لهم ألوانا من الأدلة على صدقه ، ورغبهم في الإيمان بشتى ألوان الترغيب ، وحذرهم من الكفر بشتى أنواع التحذير ، وصبر على أذاهم صبرا جميلا ، ورد على سفاهاتهم

٢١٧

وأقوالهم بمنطق سليم ، أبطل به حججهم .. مما جعلهم يكفون عن مناقشته ، ويلجئون إلى التحدي والتعنت.

وما أحوج الدعاة إلى الله ـ عزوجل ـ إلى التماس العبرة والعظة من قصة نوح مع قومه.

٣ ـ أن النسب مهما شرف وعظم لن ينفع صاحبه عند الله ، إلا إذا كان معه الإيمان والعمل الصالح ، وأن الإيمان والصلاح ليسا مرتبطين بالوراثة والأنساب لأنه لو كان الأمر كذلك لكانت ذرية نوح ومن معه من المؤمنين الذين نجوا معه في السفينة. كلها من المؤمنين الصالحين ، مع أن المشاهد غير ذلك.

ورحم الله الإمام القرطبي فقد قال ـ ما ملخصه ـ عند تفسيره لقوله ـ تعالى ـ (قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ..) : «وفي هذه الآية تسلية للآباء في فساد أبنائهم وإن كان الآباء صالحين» ، فقد روى أن ابنا لمالك بن أنس ارتكب أمرا لا يليق بمسلم ، فعلم بذلك مالك فقال : «الأدب أدب الله ، لا أدب الآباء والأمهات ، والخير خير الله ، لا خير الآباء والأمهات ..» (١).

٤ ـ أن سؤال نوح ـ عليه‌السلام ـ ما سأله لابنه لم يكن ـ كما قال صاحب المنار معصية لله ـ تعالى ـ خالف فيها أمره أو نهيه ، وإنما كان خطأ في اجتهاد رأى بنية صالحة.

وإنما عدها الله ـ تعالى ـ ذنبا له لأنها كانت دون مقام العلم الصحيح اللائق بمنزلته من ربه ، هبطت بضعفه البشرى ، وما غرس في الفطرة من الرحمة والرأفة بالأولاد إلى اتباع الظن ، ومثل هذا الاجتهاد لم يعصم منه الأنبياء ، فيقعون فيه أحيانا ليشعروا بحاجتهم إلى تأديب ربهم وتكميله إياهم آنا بعد آن ، بما يصعدون به في معارج العرفان» (٢).

٥ ـ إن القرآن في إيراده للقصص والأخبار ، لا يهتم إلا بإبراز النافع المفيد منها ، أما ما عدا ذلك مما لا فائدة من ذكره ، فيهمل القرآن الحديث عنه.

فمثلا في قصة نوح ـ عليه‌السلام ـ هنا ، لم يتعرض القرآن لبيان المدة التي قضاها نوح في صنع السفينة. ولا لبيان طول السفينة وعرضها وارتفاعها ، ولا لتفاصيل الأنواع التي حملها معه في السفينة ، ولا لبيان الفترة التي عاشها نوح ومن معه فيها.

ولا لبيان المكان الذي هبط فيه نوح بعد أن استوت السفينة على الجودي .. ولا لبيان

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٩ ص ٤٧.

(٢) تفسير المنار ج ١٢ ص ٨٦.

٢١٨

الزمان الذي استغرقه الطوفان فوق الأرض.

وما ورد في ذلك من أقوال وأخبار ، أكثرها من الإسرائيليات التي لا يؤيدها دليل من الشرع أو العقل.

ومن المسائل التي تكلم عنها كثير من العلماء ، وذهبوا بشأنها مذاهب شتى مسألة الطوفان.

وقد أصدر الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ـ رحمه‌الله ـ فتوى في هذا الشأن ، ملخصها كما يقول صاحب المنار : أن ظواهر القرآن والأحاديث أن الطوفان كان عاما شاملا لقوم نوح الذين لم يكن في الأرض غيرهم فيجب اعتقاده ، ولكنه لا يقتضى أن يكون عاما للأرض ، إذ لا دليل على أنهم كانوا يملؤون الأرض.

وهذه المسائل التاريخية ليست من مقاصد القرآن ، ولذلك لم يبينها بنص قطعى ، فنحن نقول بما تقدم إنه ظاهر النصوص ، ولا نتخذه عقيدة دينية قطعية ، فإن أثبت العلم خلافه لا يضرنا ، لأنه لا ينقض نصا قطعيا عندنا) (١).

٦ ـ أن سنة الله ـ تعالى ـ في خلقه لا تتخلف ولا تتبدل وهي أن العاقبة للمتقين ، مهما طال الصراع بين الحق والباطل ، وبين الأخيار والأشرار.

فلقد لبث نوح ـ عليه‌السلام ـ في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى عبادة الله وحده ، وقد لقى خلال تلك المدة الطويلة ما لقى من الأذى ... ولكن كانت النتيجة في النهاية نجاته ومن معه من المؤمنين ، وإغراق أعدائه بالطوفان العظيم.

ولقد أفاض صاحب الظلال ـ رحمه‌الله ـ وهو يتحدث عن هذا المعنى فقال ما ملخصه : «ثم نقف الوقفة الأخيرة مع قصة نوح ، لنرى قيمة الحفنة المسلمة في ميزان الله ـ سبحانه ـ.

إن حفنة من المسلمين من أتباع نوح ـ عليه‌السلام ـ تذكر بعض الروايات ، أنهم اثنا عشر ، هم كانوا حصيلة دعوة نوح في ألف سنة إلا خمسين عاما.

إن هذه الحفنة ـ وهي ثمرة ذلك العمر الطويل والجهد الطويل ـ ، قد استحقت أن يغير الله لها المألوف من ظواهر هذا الكون ، وأن يجرى لها ذلك الطوفان الذي يغمر كل شيء ... وأن يجعل هذه الحفنة وحدها هي وارثة الأرض بعد ذلك ، وبذرة العمران فيها.

وهذه هي عبرة الحادث الكونى العظيم.

إنه لا ينبغي لأحد يواجه الجاهلية بالإسلام ، أن يظن أن الله تاركه للجاهلية وهو يدعو إلى

__________________

(١) تفسير المنار ج ١٢ ص ١٠٨.

٢١٩

إفراد الله ـ سبحانه ـ بالربوبية. كما أنه لا ينبغي له أن يقيس قوته الذاتية إلى قوى الجاهلية فيظن أن الله تاركه لهذه القوى ، وهو عبده الذي يستنصر به حين يغلب فيدعوه : (أنى مغلوب فانتصر).

إن القوى في حقيقتها ليست متكافئة ولا متقاربة .. إن الجاهلية تملك قواها .. ولكن الداعي إلى الله يستند إلى قوة الله. والله يملك أن يسخر له بعض القوى الكونية ـ حينما يشاء وكيفما يشاء ـ ، وأيسر هذه القوى يدمر قوى الجاهلية من حيث لا تحتسب!!.

والذين يسلكون السبيل إلى الله ليس عليهم إلا أن يؤدوا واجبهم كاملا ، ثم يتركوا الأمور لله في طمأنينة وثقة. وعند ما يغلبون عليهم أن يلجئوا إلى الناصر المعين ، وأن يجأروا إليه وحده كما جأر عبده الصالح نوح : (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ).

ثم عليهم أن ينتظروا فرج الله القريب ، وانتظار الفرج من الله عبادة ، فهم على هذا الانتظار مأجورون .. والعاقبة للمتقين» (١).

ثم تابعت السورة الكريمة حديثها عن قصة هود ـ عليه‌السلام ـ مع قومه ، بعد حديثها عن قصة نوح ـ عليه‌السلام ـ مع قومه ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣)

__________________

(١) في ظلال القرآن ج ١٢ ص ٨٥ للأستاذ سيد قطب.

٢٢٠