التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0657-4
الصفحات: ٦٠٢

قال القرطبي : «المراد صلوا في بيوتكم سرا لتأمنوا ، وذلك حين أخافهم فرعون ، فأمروا بالصبر واتخاذ المساجد في البيوت ، والإقدام على الصلاة ، والدعاء ، إلى أن ينجز الله وعده ، وهو المراد بقوله (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا) وكان من دينهم أنهم لا يصلون إلا في البيع والكنائس ماداموا على أمن ، فإذا خافوا فقد أذن لهم أن يصلوا في بيوتهم ...» (١).

وقوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أى : داوموا عليها ، وأدوها في أوقاتها بخشوع وإخلاص ، فإن في أدائها بهذه الصورة. وسيلة إلى تفريج الكروب ، وفي الحديث الشريف : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حزبه أمر صلى».

وقوله (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) تذييل قصد به بعث الأمل في نفوسهم متى أدوا ما كلفوا به.

أى : وبشر المؤمنين بالنصر والفلاح في الدنيا ، وبالثواب الجزيل في الآخرة.

قال صاحب الكشاف : «فإن قلت : كيف نوع الخطاب فثنى أولا ، ثم جمع ، ثم وحد آخرا؟

قلت : خوطب موسى وهارون ـ عليه‌السلام ـ أن يتبوآ لقومهما بيوتا ويختاراها للعبادة ، وذلك مما يفوض إلى الأنبياء. ثم سيق الخطاب عاما لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها ، لأن ذلك واجب على الجمهور. ثم خص موسى ـ عليه‌السلام ـ بالبشارة التي هي الغرض تعظيما لها ، وللمبشر بها» (٢).

ولأن بشارة الأمة ـ كما يقول الآلوسى ـ وظيفة صاحب الشريعة ، وهي من الأعظم أسرّ وأوقع في النفس (٣).

هذا ، ومن التوجيهات الحكيمة التي نأخذها من هذه الآية الكريمة ، أن مما يعين المؤمنين على النصر والفلاح ، أن يعتزلوا أهل الكفر والفسوق والعصيان ، إذا لم تنفع معهم النصيحة ، وأن يستعينوا على بلوغ غايتهم بالصبر والصلاة ، وأن يقيموا حياتهم فيما بينهم على المحبة الصادقة ، وعلى الأخوة الخالصة ، وأن يجعلوا توكلهم على الله وحده (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ، إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ ، قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً).

ثم حكى القرآن الكريم بعد ذلك ، ما تضرع به موسى ـ عليه‌السلام ـ إلى الله ـ تعالى ـ من دعوات خاشعات ، بعد أن يئس من إيمان فرعون وملئه فقال ـ سبحانه ـ :

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٢٧١.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٤٩.

(٣) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١٥٢.

١٢١

(وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)(٨٩)

والزينة : اسم لما يتزين به الإنسان من ألوان اللباس وأوانى الطعام والشراب ، ووسائل الركوب .. وغير ذلك مما يستعمله الإنسان في زينته ورفاهيته.

والمال : يشمل أصناف الزينة ، ويشمل غير ذلك مما يتملكه الإنسان.

والمعنى : وقال موسى ـ عليه‌السلام ـ مخاطبا ربه ، بعد أن فقد الأمل في إصلاح فرعون وملئه : يا ربنا إنك أعطيت فرعون وأشراف قومه وأصحاب الرياسات منهم ، الكثير من مظاهر الزينة والرفاهية والتنعم ، كما أعطيتهم الكثير من الأموال في هذه الحياة الدنيا.

وهذا العطاء الجزيل لهم ؛ قد يضعف الإيمان في بعض النفوس ، إما بالإغراء الذي يحدثه مظهر النعمة في نفوس الناظرين إليها ، وإما بالترهيب الذي يملكه هؤلاء المنعمون ، بحيث يصيرون قادرين على إذلال غيرهم.

واللام في قوله (رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) لام العاقبة والصيرورة أى : أعطيتهم ما أعطيتهم من الزينة والمال ، ليخلصوا لك العبادة والطاعة ، وليقابلوا هذا العطاء بالشكر ، ولكنهم لم يفعلوا بل قابلوا هذه النعم بالجحود والبطر ، فكانت عاقبة أمرهم الخسران والضلال ، فأزل يا مولانا هذه النعم من بين أيديهم.

قال القرطبي : «اختلف في هذه اللام ، وأصح ما قبل فيها ـ وهو قول الخليل وسيبويه ـ أنها لام العاقبة والصيرورة ، وفي الخبر : «إن لله ـ تعالى ـ ملكا ينادى كل يوم :

١٢٢

لدوا للموت وابنوا للخراب» أى : لما كان عاقبة أمرهم إلى الضلال ، صار كأنه أعطاهم ليضلوا» (١).

وقال صاحب المنار : «قوله : (رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) أى : لتكون عاقبة هذا العطاء إضلال عبادك عن سبيلك الموصلة إلى مرضاتك باتباع الحق والعدل والعمل الصالح ، ذلك لأن الزينة سبب الكبر والخيلاء والطغيان على الناس ، وكثرة الأموال تمكنهم من ذلك ، وتخضع رقاب الناس لهم ، كما قال ـ تعالى ـ (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى ، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى).

فاللام في قوله (لِيُضِلُّوا) تسمى لام العاقبة والصيرورة ، وهي الدالة على أن ما بعدها أثر وغاية فعلية لمتعلقها ، يترتب عليه بالفعل لا بالسببية ، ولا بقصد فاعل الفعل الذي تتعلق به كقوله ـ تعالى ـ (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ...) (٢).

ومنهم من يرى أن هذه اللام للتعليل ، والفعل منصوب بها ، فيكون المعنى :

وقال موسى مخاطبا ربه : يا ربنا إنك قد أعطيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ، وإنك يا ربنا قد أعطيتهم ذلك على سبيل الاستدراج ليزدادوا طغيانا على طغيانهم ، ثم تأخذهم أخذ عزيز مقتدر.

وشبيه بهذه الجملة في هذا المعنى قوله ـ تعالى ـ : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ ، إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٣).

وقد رجح هذا المعنى الإمام ابن جرير فقال : «والصواب من القول في ذلك عندي أنها لام كي ، ومعنى الكلام : ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم من زينة الحياة الدنيا والأموال لتفتنهم فيه ، ويضلوا عن سبيلك عبادك عقوبة منك لهم ، وهذا كما قال جل ثناؤه (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً. لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ.) (٤).

ومنهم من يرى أن هذه اللام هي لام الدعاء ، وأنها للدعاء عليهم بالزيادة من الإضلال والغواية فيكون المعنى :

وقال موسى يا ربنا إنك أعطيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ؛ اللهم يا ربنا زدهم ضلالا على ضلالهم.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٣٧٤.

(٢) راجع تفسير المنار ج ١١ ص ٤٧٣.

(٣) سورة آل عمران الآية ١٧٨.

(٤) تفسير ابن جرير ج ٧ ص ١٠٨.

١٢٣

وقد سار على هذا الرأى صاحب الكشاف. فقد قال ما ملخصه : «فإن قلت : ما معنى قوله : (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ)؟

قلت : هو دعاء بلفظ الأمر كقوله : ربنا اطمس واشدد. وذلك أنه لما عرض عليهم آيات الله وبيناته عرضا مكررا ، وردد عليهم النصائح والمواعظ زمانا طويلا. وحذرهم من عذاب الله ومن انتقامه ، وأنذرهم سوء عاقبة ما كانوا عليه من الكفر والضلال ، ورآهم لا يزيدون على عرض الآيات إلا كفرا وعلى الإنذار إلا استكبارا ، وعن النصيحة إلا نبوا ، ولم يبق له مطمع فيهم. وعلم بالتجربة وطول الصحبة أو بوحي من الله ، أنه لا يجيء منهم إلا الغي والضلال.

لما رأى منهم كل ذلك : اشتد غضبه عليهم ، وكره حالهم ، فدعا الله عليهم بما علم أنه لا يكون غيره وهو ضلالهم.

فكأنه قال : ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال ..» (١).

وعلى أية حال فهذه الأقوال الثلاثة ، لكل واحد منها اتجاهه في التعبير عن ضيق موسى ـ عليه‌السلام ـ لإصرار فرعون وشيعته على الكفر ، ولما هم فيه من نعم لم يقابلوها بالشكر ، بل قابلوها بالجحود والبطر.

وإن كان الرأى الأول هو أظهرها في الدلالة على ذلك ، وأقربها إلى سياق الآية الكريمة.

قال الشوكانى : «وقرأ الكوفيون (لِيُضِلُّوا) بضم الياء. أى : ليوقعوا الإضلال على غيرهم. وقرأ الباقون بالفتح أى يضلون في أنفسهم» (٢).

وقوله : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ ، وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ. فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) دعا عليهم بما يستحقونه من عقوبات بسبب إصرارهم على الكفر والضلال.

والطمس : الإهلاك والإتلاف ومحو أثر الشيء يقال : طمس الشيء ويطمس طموسا إذا زال بحيث لا يرى ولا يعرف لذهاب صورته.

والشد : الربط والطبع على الشيء ، بحيث لا يخرج منه ما هو بداخله ، ولا يدخل فيه ما هو خارج منه.

والمعنى : وقال موسى مخاطبا ربه : يا ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ، وقد أعطيتهم ذلك ليشكروك ، ولكنهم لم يفعلوا ، بل قابلوا عطاءك بالجحود ، اللهم

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٥.

(٢) تفسير فتح القدير ، للإمام الشوكانى ج ٢ ص ٤٧٠.

١٢٤

يا ربنا اطمس على أموالهم بأن تهلكها وتزيلها وتمحقها من بين أيديهم ، حتى ترحم عبادك المؤمنين ، من سوء استعمال الكافرين لنعمك في الإفساد والأذى.

(وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) بأن تزيدها قسوة على قسوتها ، وعنادا على عنادها مع استمرارها على ذلك ، حتى يأتيهم العذاب الأليم الذي لا ينفع عند إتيانه إيمان ، ولا تقبل معه توبة ، لأنهما حدثا في غير وقتهما.

قال الجمل : «وهذا الطمس هو أحد الآيات التسع التي أوتيها موسى ـ عليه‌السلام ـ (١).

وقال الإمام ابن كثير : «وهذه الدعوة كانت من موسى ـ عليه‌السلام ـ غضبا لله ـ تعالى ـ ولدينه على فرعون وملئه. الذين تبين له أنه لا خير فيهم ، كما دعا نوح ـ عليه‌السلام ـ على قومه فقال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ..) ولهذا استجاب الله ـ تعالى ـ لموسى ـ عليه‌السلام ـ هذه الدعوة فيهم ..» (٢).

فقال : (قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما ، وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ).

أى : قال الله ـ تعالى ـ لموسى وهارون ـ عليهما‌السلام ـ : أبشرا فقد أجبت دعوتكما في شأن فرعون وملئه (فَاسْتَقِيما) على أمرى ، وامضيا في دعوتكما الناس إلى الحق ، وأثبتا على ما أنتما عليه من الإيمان بي والطاعة لأمري.

(وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) ما جرت به سنتي في خلقي ، ولا يدركون طريق الخير من طريق الشر.

وكان الجواب من الله ـ تعالى ـ لموسى وهارون ، مع أن الداعي موسى فقط كما صرحت الآيات السابقة ، لأن هارون كان يؤمن على دعاء أخيه موسى والتأمين لون من الدعاء.

هذا ، ومن الحكم والعظات التي نأخذها من هاتين الآيتين الكريمتين : أن من علامات الإيمان الصادق. أن يكون الإنسان غيورا على دين الله ، ومن مظاهر هذه الغيرة أن يتمنى زوال النعمة من بين أيدى المصرين على جحودهم وفسوقهم وبطرهم لأن وجود النعم بين أيديهم كثيرا ما يكون سببا في إيذاء المؤمنين ، وإدخال القلق والحيرة على نفوس بعضهم.

وأن الداعي متى توجه إلى الله ـ تعالى ـ بقلب سليم ، ولسان صادق ، كان دعاؤه مرجو القبول عنده ـ سبحانه ـ.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ٣٧٠.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٢٥.

١٢٥

ثم ختم ـ سبحانه ـ قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ مع فرعون في هذه السورة الكريمة ببيان سنة من سننه التي لا تتخلف ، وهي حسن عاقبة المؤمنين وسوء عاقبة المكذبين فقال ـ تعالى ـ :

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢) وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(٩٣)

قوله ـ سبحانه ـ (وَجاوَزْنا) هو من جاوز المكان ، إذا قطعه وتخطاه وخلفه وراء ظهره وهو متعد بالباء إلى المفعول الأول الذي كان فاعلا في الأصل ، وإلى الثاني بنفسه.

والمراد بالبحر هنا : بحر القلزم ، وهو المسمى الآن بالبحر الأحمر. وقوله (بَغْياً وَعَدْواً) أى ظلما واعتداء. يقال : بغى فلان على فلان بغيا ، إذا تطاول عليه وظلمه. ويقال : عدا عليه عدوا وعدوانا إذا سلبه حقه.

وهما مصدران منصوبان على الحالية بتأويل اسم الفاعل. أى : باغين وعادين. أو على المفعولية لأجله أى : من أجل البغي والعدوان.

والمعنى : وجاوزنا ببني إسرائيل البحر ، وهم تحت رعايتنا وقدرتنا ، حيث جعلناه لهم طريقا

١٢٦

يبسا ، فساروا فيه حتى بلغوا نهايته ، فأتبعهم فرعون وجنوده لا لطلب الهداية والإيمان ، ولكن لطلب البغي والعدوان.

قال الآلوسى : «وذلك أن الله ـ تعالى ـ لما أخبر موسى وهارون ـ عليهما‌السلام ـ بإجابته دعوتهما ، أمرهما بإخراج بنى إسرائيل من مصر ليلا ، فخرجا بهم على حين غفلة من فرعون وملئه ، فلما أحسن بذلك ، خرج هو وجنوده على أثرهم مسرعين ، فالتفت القوم فإذا الطامة الكبرى وراءهم ، فقالوا يا موسى ، هذا فرعون وجنوده وراءنا. وهذا البحر أمامنا فكيف الخلاص ، فأوحى الله ـ تعالى ـ إلى موسى ، أن اضرب بعصاك البحر ، فضربه فانفلق اثنى عشر فرقا كل فرق كالطود العظيم ، وصار لكل سبط طريق فسلكوا ، ووصل فرعون ومن معه إلى الساحل وبنو إسرائيل قد خرجوا من البحر ومسلكهم باق على حاله ، فسلكه فرعون وجنوده ، فلما دخل آخرهم وهم أولهم بالخروج من البحر ، انطبق عليهم وغشيهم من اليم ما غشيهم» (١).

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قاله فرعون عند ما نزل به قضاء الله الذي لا يرد فقال ـ تعالى ـ : (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

أى : لقد اتبع فرعون وجنوده بنى إسرائيل بغيا وعدوا ، فانطبق عليه البحر ، ولفه تحت أمواجه ولججه ، حتى إذا أدركه الغرق وعاين الموت وأيقن أنه لا نجاة له منه ، قال آمنت وصدقت. بأنه لا معبود بحق سوى الإله الذي آمنت به بنو إسرائيل ، وأنا من القوم الذين أسلموا نفوسهم لله وحده وأخلصوها لطاعته.

ولما كان هذا القول قد جاء في غير أوانه ، وأن هذا الإيمان لا ينفع لأنه جاء عند معاينة الموت ، فقد رد الله ـ تعالى ـ على فرعون بقوله ـ سبحانه ـ (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ، وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).

أى : آلآن تدعى الإيمان حين يئست من الحياة ، وأيقنت بالموت ، والحال أنك كنت قبل ذلك من العصاة المفسدين في الأرض ، المصرين على تكذيب الحق الذي جاءك به رسولنا موسى ـ عليه‌السلام ـ والظرف «آلآن» متعلق بمحذوف متأخر ، والاستفهام للتقريع والتوبيخ والإنكار.

وقوله : (وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) جملة حالية من فاعل الفعل المقدر ، أى : آلآن تدعى

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١٦٠.

١٢٧

الإيمان والحال أنك عصيت قبل وكنت من المفسدين.

قال الإمام ابن كثير : «وهذا الذي حكاه الله ـ تعالى ـ عن فرعون من قوله هذا في حاله ذاك. من أسرار الغيب التي أعلم الله ـ تعالى ـ بها رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه‌الله.

حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن على بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «لما قال فرعون : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ، قال جبريل لي يا محمد لو رأيتنى وقد أخذت حالا من حال البحر ـ أى طينا أسود من طين البحر ـ فدسسته في فمه مخافة أن تناله الرحمة».

ورواه الترمذي ، وابن جرير ، وابن أبى حاتم في تفاسيرهم ، من حديث ، حماد بن سلمة وقال الترمذي : حديث حسن.

ثم ساق ابن كثير بعد ذلك جملة من الأحاديث في هذا المعنى» (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ..) تهكم به ، وتخييب لآماله ، وقطع لدابر أطماعه ، والمعنى إن دعواك الإيمان الآن مرفوضة ، لأنها جاءت في غير وقتها ، وإننا اليوم بعد أن حل بك الموت ، نلقى بجسمك الذي خلا من الروح على مكان مرتفع من الأرض لتكون عبرة وعظة للأحياء الذين يعيشون من بعدك سواء أكانوا من بنى إسرائيل أم من غيرهم ، حتى يعرف الجميع بالمشاهدة أو الإخبار ، سوء عاقبة المكذبين ، وأن الألوهية لا تكون إلا لله الواحد الأحد ، الفرد الصمد.

قال الإمام الشوكانى : «قوله (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ ..) قرئ ننجيك بالتخفيف ، والجمهور على التثقيل.

أى : نلقيك على نجوة من الأرض. وذلك أن بنى إسرائيل لم يصدقوا أن فرعون قد غرق ، وقالوا : هو أعظم شأنا من ذلك ، فألقاه الله على نجوة من الأرض أى مكان مرتفع من الأرض حتى شاهدوه.

ومعنى (بِبَدَنِكَ) بجسدك بعد سلب الروح منه. وقيل معناه بدرعك والدرع يسمى بدنا ، ومنه قول كعب بن مالك :

ترى الأبدان فيها مسبغات

على الأبطال واليلب الحصينا

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٢٧ ، طبعة دار الشعب.

١٢٨

أراد بالأبدان الدروع (١) ـ وباليلب ـ بفتح الياء واللام ـ الدروع اليمانية كانت تتخذ من الجلود.

وقوله : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) تذييل قصد به دعوة الناس جميعا إلى التأمل والتدبر ، والاعتبار بآيات الله ، وبمظاهر قدرته.

أى : وإن كثيرا من الناس لغافلون عن آياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا على إهلاك كل ظالم جبار.

قال ابن كثير : وكان هلاك فرعون يوم عاشوراء. كما قال البخاري : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا غندر ، حدثنا شعبة ، عن أبى بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء فقالوا : هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : أنتم أحق بموسى منهم فصوموه» (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك بعض مظاهر نعمه على بنى إسرائيل بعد أن أهلك عدوهم فرعون فقال ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ).

وقوله : (بَوَّأْنا) أى : أنزلنا وأسكنا ، من التبوء ، وهو اتخاذ المباءة أى : المنزل والمسكن.

وفي إضافة المبوأ إلى الصدق مدح له ، فقد جرت عادة العرب على أنهم إذا مدحوا شيئا أضافوه إلى الصدق فقالوا : رجل صدق إذا كان متحليا بمكارم الأخلاق.

قال الآلوسى : «والمراد بهذا المبوأ ، كما رواه ابن المنذر وغيره عن الضحاك : الشام ومصر ، فإن بنى إسرائيل الذين كانوا في زمان موسى ـ عليه‌السلام ـ وهم المرادون هنا ، ملكوا ذلك حسبما ذهب إليه جمع من الفضلاء (٣).

وأخرج أبو الشيخ وغيره عن قتادة أن المراد به الشام وبيت المقدس ، واختاره بعضهم ، بناء على أن أولئك لم يعودوا إلى مصر بعد ذلك.

وينبغي أن يراد ببني إسرائيل على القولين ، ما يشمل ذريتهم بناء على أنهم ما دخلوا الشام في حياة موسى ـ عليه‌السلام ـ إنما دخلها أبناؤهم ـ بقيادة يوشع بن نون.

وقيل المراد به أطراف المدينة إلى جهة الشام ، وببني إسرائيل ؛ الذين كانوا على عهد نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) تفسير فتح القدير ج ٢ ص ٤٧٠.

(٢) تفسير أبن كثير ج ٤ ص ٢٢٩.

(٣) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١٦٧.

١٢٩

والمعنى : ولقد أنزلنا بنى إسرائيل بعد هلاك عدوهم فرعون منزلا صالحا مرضيا ، فيه الأمان ، والاطمئنان لهم ، وأعطيناهم فوق ذلك الكثير من ألوان المأكولات والمشروبات الطيبات التي أحللناها لهم.

وقوله : (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ ....) توبيخ لهم على موقفهم الجحودى من هذه النعم التي أنعم الله بها عليهم.

أى : أنهم ما تفرقوا في أمور دينهم ودنياهم على مذاهب شتى ، إلا من بعد ما جاءهم العلم الحاسم لكل شبهة ، وهو ما بين أيديهم من الوحى الذي أمرهم الله ـ تعالى ـ أن يتلوه حق تلاوته ، وان لا يستخدموه في التأويلات الباطلة.

فالجملة الكريمة توبخهم على جعلهم العلم الذي كان من الواجب عليهم أن يستعملوه ـ في الحق والخير ـ وسيلة للاختلاف والابتعاد عن الطريق المستقيم.

وقوله : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) تذييل قصد به الزجر عن الاختلاف واتباع الباطل.

أى : إن ربك يفصل بين هؤلاء المختلفين ، فيجازى أهل الحق بما يستحقونه من ثواب ، ويجازى أهل الباطل بما يستحقونه من عقاب.

وبعد هذا الحديث المتنوع عن قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ مع فرعون وملئه ، ومع قومه بنى إسرائيل ، وجه القرآن خطابا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تثبيتا لقلبه ، وتسلية له عما أصابه من أذى ، فقال ـ تعالى ـ :

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ)(٩٧)

١٣٠

والمراد (مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) هنا : ما أوحاه الله ـ تعالى ـ إلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قصص حكيم يتعلق بأنبياء الله ـ تعالى ـ ورسله.

قال الآلوسى : «وخصت القصص بالذكر ، لأن الأحكام المنزلة عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ناسخة لأحكامهم ، ومخالفة لها فلا يتصور سؤالهم عنها» (١).

والمراد بالكتاب : جنسه فيشمل التوراة والإنجيل.

والمعنى : فإن كنت أيها الرسول الكريم ـ على سبيل الفرض والتقدير ـ في شك مما أنزلنا إليك من قصص حكيم كقصة موسى ونوح وغيرهما (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) وهم علماء أهل الكتاب ، فإن ما قصصناه عليك ثابت في كتبهم.

فليس المراد من هذه الآية ثبوت الشك للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما المراد على سبيل الفرض والتقدير ، لا على سبيل الثبوت.

قال ابن كثير : «قال قتادة بن دعامة : بلغنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا أشك ولا أسأل».

وكذا قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن البصري ، وهذا فيه تثبيت للأمة ، وإعلام لهم بأن صفة نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم موجودة في الكتب المتقدمة التي بأيدى أهل الكتاب ، كما قال ـ تعالى ـ (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ ..) (٢).

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ في شأن عيسى ـ عليه‌السلام ـ : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ؟ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ. إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ..).

فعيسى ـ عليه‌السلام ـ يعلم علم اليقين أنه لم يقل ذلك ، وإنما يفرض قوله فرضا. ليستدل عليه بأنه لو قاله لعلمه الله ـ تعالى ـ منه.

أى : إن كنت قلته ـ على سبيل الفرض والتقدير ـ فقولي هذا لا يخفى عليك.

قال صاحب الكشاف ما ملخصه : فإن قلت : كيف قال الله ـ تعالى ـ لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ ..)؟

قلت : هو على سبيل الفرض والتمثيل. كأنه قيل : فإن وقع لك شك ـ مثلا ـ وخيل

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١٦٨.

(٢) تفسير أبن كثير ج ٤ ص ٢٣١.

١٣١

لك الشيطان خيالا منه تقديرا (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ).

والمعنى : أن الله ـ عزوجل ـ قدم ذكر بنى إسرائيل ، وهم قراء الكتاب ووصفهم بأن العلم قد جاءهم ، لأن أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل ، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم فأراد أن يؤكد علمهم بصحة القرآن ، وصحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويبالغ في ذلك فقال : فإن وقع لك شك فرضا وتقديرا. فسل علماء أهل الكتاب يعنى أنهم من الإحاطة بصحة ما أنزل إليك ، بحيث يصلحون لمراجعة مثلك ، فضلا عن غيرك.

فالغرض وصف الأحبار بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا وصفه بالشك فيه.

ويجوز أن يكون على طريق التهييج والإلهاب كقوله (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ ..) ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند نزوله : «لا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق».

وقيل : خوطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد خطاب أمته.

ومعناه : «فإن كنتم في شك مما أنزلنا إليكم ..» (١).

وقوله (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) كلام مستأنف مؤكد لاجتثاث إرادة الشك.

والتقدير : أقسم لقد جاءك الحق الذي لا لبس فيه من ربك لا من غيره ، فلا تكونن من الشاكين المترددين في صحة ذلك.

وقوله : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ) تعريض بأولئك الشاكين والمكذبين له صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قومه. أى : ولا تكونن من القوم الذين كذبوا بآيات الله الدالة على صدقك فيما تبلغه عنا ، فتكون بذلك من الخاسرين الذين أضاعوا دنياهم وأخراهم.

قال الآلوسى : «وفائدة النهى في الموضعين التهييج والإلهاب نظير ما مر. والمراد بذلك الإعلام بأن الامتراء والتكذيب قد بلغا في القبح والمحذورية إلى حيث ينبغي أن ينهى عنهما من لا يمكن أن يتصف بهما ، فكيف بمن يمكن اتصافه بذلك ..» (٢).

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٥٣.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١٦٨.

١٣٢

الْعَذابَ الْأَلِيمَ) توبيخ للكافرين على إصرارهم على الكفر ، وجحودهم للحق.

والمراد بكلمة ربك : حكمه النافذ ، وقضاؤه الذي لا يرد ، وسنته التي لا تتغير ولا تتبدل في الهداية والإضلال.

والمراد بالآية : المعجزات والبراهين الدالة على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أى : إن الذين حكم الله ـ تعالى ـ عليهم بعدم الإيمان ـ لأنهم استحبوا العمى على الهدى ـ لا يؤمنون بالحق الذي جئت به ـ أيها الرسول الكريم .. مهما سفت لهم من معجزات وبراهين دالة على صدقك ..

ولكنهم سيؤمنون بأن ما جئت به هو الحق ، حين يرون العذاب الأليم وقد نزل بهم من كل جانب.

وهنا سيكون إيمانهم كلا إيمان ، لأنه جاء في غير وقته ، وصدق الله إذ يقول : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا ..) (١).

وسيكون حالهم كحال فرعون ، الذي عند ما أدركه الغرق قال آمنت.

وبذلك ترى الآيات الكريمة قد نهت عن الشك والافتراء في شأن الحق الذي جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأبلغ أسلوب ، وأقوى بيان ، كما بينت سنة من سنن الله في خلقه ، وهي أن من لا يأخذ بأسباب الهدى لا يهتدى ، ومن لا يفتح بصيرته للنور لا يراه ، فتكون نهايته إلى الضلال ، مهما تكن الآيات والبينات الدالة على طريق الحق.

ثم فتحت السورة الكريمة للمكذبين باب الأمل والنجاة ، فذكرتهم بقوم يونس ـ عليه‌السلام ـ الذين نجوا من العذاب بسبب إيمانهم ، كما ذكرتهم بإرادة الله التامة ، وقدرته النافذة ، ودعتهم إلى الاعتبار والاتعاظ بما اشتمل عليه هذا الكون.

استمع إلى السورة الكريمة وهي تسوق كل ذلك وغيره بأسلوبها البليغ المؤثر فتقول :

(فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ

__________________

(١) سورة غافر الآية ٨٥.

١٣٣

جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠) قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ)(١٠٣)

قال القرطبي ما ملخصه : «روى في قصة يونس ـ عليه‌السلام ـ عن جماعة من المفسرين ، أن قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل ـ بالعراق ـ وكانوا يعبدون الأصنام ، فأرسل الله إليهم يونس يدعوهم إلى الإسلام ، وترك ما هم عليه فأبوا ، فقيل : إنه أقام يدعوهم تسع سنين فيئس من إيمانهم. فقيل له : أخبرهم أن العذاب مصبحهم إلى ثلاث ففعل. وقالوا : هو رجل لا يكذب فارقبوه ، فإن أقام معكم وبين أظهركم فلا عليكم ، وإن ارتحل عنكم ، فهو نزول العذاب لا شك ...

فلما كان الليل تزود يونس وخرج عنهم ، فأصبحوا فلم يجدوه ، فآمنوا وتابوا ، ودعوا الله ولبسوا المسوح ، وفرقوا بين الأمهات والأولاد من الناس والبهائم ، وردوا المظالم ..

قال الزجاج : إنهم لم يقع بهم العذاب ، وإنما رأوا العلامة التي تدل على العذاب ، ولو رأوا العذاب لما نفعهم الإيمان» (١).

وكلمة (فَلَوْ لا) في قوله ـ سبحانه ـ (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ ...) للحث والتحضيض ، فهي بمعنى هلا.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٣٨٧.

١٣٤

والمقصود بالقرية أهلها وهم أقوام الأنبياء السابقين ، وهي اسم كان. وقوله (آمَنَتْ) خبرها. وقوله (فَنَفَعَها إِيمانُها) معطوف على (آمَنَتْ).

والمعنى : فهلا عاد المكذبون إلى رشدهم وصوابهم ، فآمنوا بالحق الذي جاءتهم به رسلهم ، فنجوا بذلك من عذاب الاستئصال الذي حل بهم فقطع دابرهم ، كما نجا منه قوم يونس ـ عليه‌السلام ـ فإنهم عند ما رأوا أمارات العذاب الذي أنذرهم به نبيهم آمنوا وصدقوا ، فكشف الله عنهم هذا العذاب الذي كاد ينزل بهم ، ومتعهم بالحياة المقدرة لهم ، إلى حين انقضاء آجالهم في هذه الدنيا.

قال الإمام الشوكانى : والاستثناء بقوله : (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ ..) منقطع ، وهو استثناء من القرية لأن المراد أهلها.

والمعنى : فهلا قرية واحدة من القرى التي أهلكناها آمنت إيمانا معتدا به ـ وذلك بأن يكون خالصا لله ـ قبل معاينة العذاب ، ولم تؤخره كما أخره فرعون ، لكن قوم يونس «لما آمنوا» إيمانا معتدا به قبل معاينة العذاب ، أو عند أول المعاينة قبل حلوله بهم «كشفنا عنهم عذاب الخزي» أى : الذل والهوان.

وقيل يجوز أن يكون متصلا ، والجملة في معنى النفي ، كأنه قيل : ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس ..» (١).

وقال الشيخ القاسمى ما ملخصه : «وما يرويه بعض المفسرين هنا من أن العذاب نزل عليهم ، وجعل يدور على رءوسهم .. ونحو هذا ، ليس له أصل لا في القرآن ولا في السنة ...

وفي الآية إشارة إلى أنه لم توجد قرية آمنت بأجمعها بنبيها المرسل إليها من سائر القرى ، سوى قوم يونس.

والبقية دأبهم التكذيب ، كلهم أو أكثرهم ، كما قال ـ تعالى ـ (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ).

وفي الحديث الصحيح : «عرض على الأنبياء ، فجعل النبي يمر ومعه الفئام من الناس ـ أى العدد القليل ـ والنبي معه الرجل ، والنبي معه الرجلان ، والنبي ليس معه أحد» (٢).

وفي الآية الكريمة ـ أيضا ـ تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من حزن بسبب إعراض

__________________

(١) تفسير فتح القدير ج ٢ ص ٤٧٣.

(٢) تفسير القاسمى ج ٦ ص ٣٤٠٠.

١٣٥

قومه عن دعوته ، وفيها كذلك تعريض بأهل مكة ، وإنذارهم من سوء عاقبة الإصرار على الكفر والجحود ، وحض لهم على أن يكونوا كقوم يونس ـ عليه‌السلام ـ الذين آمنوا قبل نزول العذاب فنفعهم إيمانهم.

ثم أضاف ـ سبحانه ـ إلى هذه التسلية لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسلية أخرى فقال : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ...) ومفعول المشيئة محذوف والتقدير :

ولو شاء ربك ـ يا محمد ـ إيمان أهل الأرض كلهم جميعا لآمنوا دون أن يتخلف منهم أحد ، ولكنه ـ سبحانه ـ لم يشأ ذلك ، لأنه مخالف للحكمة التي عليها أساس التكوين والتشريع ، والإثابة والمعاقبة ، فقد اقتضت حكمته ـ سبحانه ـ أن يخلق الكفر والإيمان ، وأن يحذر من الكفر ويحض على الإيمان ، ثم بعد ذلك من كفر فعليه تقع عقوبة كفره ، ومن آمن فله ثواب إيمانه.

والهمزة في قوله ـ سبحانه ـ (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) للاستفهام الإنكارى ، والفاء للتفريع.

والمراد بالناس : المصرين على كفرهم وعنادهم.

والمعنى : تلك هي مشيئتنا لو أردنا إنفاذها لنفذناها ، ولكننا لم نشأ ذلك فهل أنت يا محمد في وسعك أن تكره الناس الذين لم يرد الله هدايتهم على الإيمان؟.

لا ، ليس ذلك في وسعك ولا في وسع الخلق جميعا ، بل الذي في وسعك هو التبليغ لما أمرناك بتبليغه.

وفي هذه الجملة الكريمة تسلية أخرى للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودفع لما يضيق به صدره ، من إعراض بعض الناس عن دعوته.

وقوله ـ سبحانه ـ (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ...) تأكيد لما اشتملت عليه الآية السابقة من قدرة نافذة لله ـ تعالى ـ أى : وما صح وما استقام لنفس من الأنفس ، أن تؤمن في حال من الأحوال ، إلا بإذن الله» أى : إلا بإرادته ومشيئته وتوفيقه وهدايته.

وقوله : (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ). معطوف على محذوف يدل عليه الكلام السابق دلالة الضد على الضد ، والرجس : يطلق على الشيء القبيح المستقذر.

والمعنى : وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ، فيأذن لمن يشاء من تلك الأنفس بالإيمان ، ويجعل الرجس أى الكفر وما يترتب عليه من عذاب على القوم الذين لم يستعملوا عقولهم فيما يهدى إلى الحق والخير ، بل استعملوها فيما يوصل إلى الأباطيل والشرور.

١٣٦

ولما كان التأمل في ملكوت السموات والأرض ، يعين على التفكير السليم ، وعلى استعمال العقل فيما يهدى إلى الحق والخير ، أمر الله ـ تعالى ـ الناس بالنظر والاعتبار فقال ـ سبحانه ـ : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...).

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لقومك : انظروا وتأملوا وتفكروا فيما اشتملت عليه السموات من شموس وأقمار ، وكواكب ونجوم ، وسحاب وأمطار ...

وفيما اشتملت عليه الأرض من زروع وأنهار ، ومن جبال وأشجار ، ومن حيوانات ودواب متنوعة.

انظروا إلى كل ذلك وتفكروا ، فإن هذا التفكر يهدى أصحاب العقول السليمة إلى أن لهذا الكون إلها واحدا عليما قديرا ، هو وحده المستحق للعبادة والطاعة.

وقوله : (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) توبيخ للغافلين عن النظر السليم الذي يؤدى إلى الهداية.

و (ما) نافية ، والمراد بالآيات : ما أشار إليه ـ سبحانه ـ قبل ذلك بقوله : (ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) والنذر : جمع نذير ، وهو من يخبر غيره بأمر مخوف حتى يحذره.

والمعنى : انظروا وتفكروا واعتبروا بما في السموات والأرض من آيات بينات دالة على وحدانية الخالق وقدرته ..

ومع ذلك فإن الآيات مهما اتضحت ، والنذر مهما تعددت ، لا تجدى شيئا ، بالنسبة لمن تركوا الإيمان ، وأصروا على الجحود والعناد.

ويجوز أن تكون (ما) للاستفهام الإنكارى ، فيكون المعنى وأى شيء تجدى الآيات السماوية والأرضية ، والنذر بحججها وبراهينها ، أمام قوم جاحدين معاندين ، قد استحبوا الكفر على الإيمان؟.

ثم ساق ـ سبحانه ـ للمكذبين برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تهديدا يخلع قلوبهم فقال : (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ ، قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ).

قال القرطبي : «الأيام هنا بمعنى الوقائع ، يقال فلان عالم بأيام العرب أى بوقائعهم قال قتادة : يعنى وقائع الله في قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ، والعرب تسمى العذاب أياما والنعم أياما ، كقوله ـ تعالى ـ (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) ، وكل ما مضى لك من خير أو شر فهو أيام» (١).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٣٨٦.

١٣٧

والمعنى : إذا كان الأمر كما قصصنا عليك من إثابتنا للمؤمنين ، وجعل الرجس على الذين لا يعقلون ، فهل ينتظر هؤلاء المكذبون لدعوتك ، إلا العذاب الذي نزل بالمكذبين لدعوة الرسل من قبلك؟ فالاستفهام للتهكم والتقريع.

وقوله : (قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) أمر من الله ـ تعالى ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يستمر في تهديدهم ووعيدهم.

أى : قل ـ يا محمد ـ لهؤلاء الجاحدين للحق الذي جئت به : إذا فانتظروا العذاب الذي نزل بالسابقين من أمثالكم ، إنى معكم من المنتظرين لوعد ربي لي ، ولوعيده لكم.

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه الآيات الكريمة ببيان سنة من سننه التي لا تتخلف ولا تتبدل فقال : (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا ، كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ).

والجملة الكريمة عطف على محذوف ، والتقدير : تلك سنتنا في خلقنا نهلك الأمم المكذبة (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا) الذين أرسلناهم لإخراج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، وننجي ـ أيضا ـ الذين آمنوا برسلنا وصدقوهم وقوله (كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) الكاف في (كَذلِكَ) بمعنى : مثل ، وهي صفة لمصدر محذوف ، واسم الإشارة يعود على الإنجاء الذي تكفل الله به للرسل السابقين ولمن آمن بهم ولفظ (حَقًّا) منصوب بفعل مقدر أى : حق ذلك علينا حقا أى : مثل ذلك الإنجاء الذي تكفلنا به لرسلنا ولمن آمن بهم ، ننج المؤمنين بك ـ أيها الرسول الكريم ـ ، ونعذب المصرين على تكذيبك ، وهذا وعد أخذناه على ذاتنا فضلا منا وكرما.

(سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً) (١) وبذلك ترى الآيات الكريمة قد حضت الضالين على الاقتداء بقوم يونس ـ عليه‌السلام ـ لكي ينجوا من العذاب ، وذكرتهم بنفاذ إرادة الله وقدرته ، ودعتهم إلى التفكر في ملكوت السموات والأرض ، وأخبرتهم بأن سنة الله ماضية في إنجاء المؤمنين ، وفي إهلاك المكذبين.

وبعد هذا الحديث المتنوع الذي زخرت به سورة يونس ـ عليه‌السلام ـ عن وحدانية الله وقدرته ، وعن صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعن النفس الإنسانية وأحوالها ، وعن يوم القيامة وأهوالها ...

بعد كل ذلك وجهت في ختامها نداءين إلى الناس أمرتهم فيهما بإخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ وبالاعتماد عليه وحده ، وبتزكية نفوسهم ...

__________________

(١) سورة الإسراء الآية ٧٧.

١٣٨

استمع إلى السورة الكريمة في ختامها وهي تقول :

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ)(١٠٩)

والمعنى : (قُلْ) أيها الرسول الكريم ، لجميع من ارتاب في دينك.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) الذي جئتكم به من عند الله ـ تعالى ـ ، وترغبون في تحويلي عنه ، فاعلموا أنى برىء من شككم ومن أديانكم التي أنتم عليها.

ومادام الأمر كذلك ، فأنا «لا أعبد الذين تعبدون من دون الله» من آلهة باطلة في حال من الأحوال.

(وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ) ـ تعالى ـ الذي خلقكم و (الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) عند انقضاء آجالكم ، ويعاقبكم على كفركم.

وقوله (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) تأكيد لإخلاص عبادته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لله وحده.

١٣٩

أى : وأمرت من قبل خالقي ـ عزوجل ـ بأن أكون من المؤمنين بأنه لا معبود بحق سواه.

وأوثر الخطاب باسم الجنس «الناس» مع تصديره بحرف التنبيه ، تعميما للخطاب ، وإظهارا لكمال العناية بشأن المبلغ إليهم.

وعبر عن شكهم «بإن» المفيدة ؛ لعدم اليقين ، مع أنهم قد شكوا فعلا في صحة هذا الدين بدليل عدم إيمانهم به ، تنزيلا للمحقق منزلة المشكوك فيه ، وتنزيها لساحة هذا الدين عن أن يتحقق الشك فيه من أى أحد ، وتوبيخا لهم على وضعهم الأمور في غير مواضعها.

وقدم ـ سبحانه ـ ترك عبادة الغير على عبادته ـ عزوجل ـ ، إيذانا بمخالفتهم من أول الأمر ، ولتقديم التخلية على التحلية.

وتخصيص التوفي بالذكر ، للتهديد والترهيب ، أى : ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم فيفعل بكم ما يفعل من العذاب الشديد ، ولأنه أشد الأحوال مهابة في القلوب.

وقوله : (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ...) معطوف على قوله : (أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

و (حَنِيفاً) حال من الدين أو من الوجه ، والحنيف : هو المائل عن كل دين من الأديان إلى دين الإسلام.

وخص الوجه بالذكر ، لأنه أشرف الأعضاء.

والمعنى : أن الله ـ سبحانه ـ أمره بالاستقامة في الدين. والثبات عليه ، وعدم التزلزل عنه بحال من الأحوال.

قال الآلوسى : «إقامة الوجه للدين ، كناية عن توجيه النفس بالكلية إلى عبادته ـ تعالى ـ ، والإعراض عما سواه ، فإن من أراد أن ينظر إلى شيء نظر استقصاء ، يقيم وجهه في مقابلته ، بحيث لا يلتفت يمينا ولا شمالا ، إذ لو التفت بطلت المقابلة ، فلذا كنى به عن صرف العمل بالكلية إلى الدين ، فالمراد بالوجه الذات.

أى : اصرف ذاتك وكليتك للدين ..» (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) تأكيد للأمر بإخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ وحده. وهو معطوف على (أَقِمْ).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١٧٨.

١٤٠