التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0657-4
الصفحات: ٦٠٢

وقوله (إِماماً وَرَحْمَةً) منصوبان على الحالية من قوله (كِتابُ).

والمعنى ومن قبل هذا الشاهد على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو القرآن الكريم أنزل الله ـ تعالى ـ على موسى كتابه التوراة مشتملا على صفات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم و (إِماماً) يؤتم به في أمور الدين والدنيا ورحمة لبنى إسرائيل من العذاب إذا ما آمنوا به واتبعوا تعاليمه.

قال الشوكانى : وإنما قدم الشاهد على كتاب موسى مع كونه متأخرا في الوجود لكونه ـ أى الشاهد بمعنى المعجز ـ وصفا لازما غير مفارق فكان أغرق في الوصفية من كتاب موسى.

وهي شهادة كتاب موسى وهو التوراة أنه بشر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبر بأنه رسول من الله ـ تعالى ـ (١).

واسم الإشاره في قوله (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) يعود الى الموصوفين بأنهم على بينة من ربهم وهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتباعه المؤمنون الصادقون.

أى : أولئك الموصوفون بأنهم على بينة من ربهم يؤمنون بأن الإسلام هو الدين الحق وبأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسول صدق وبأن القرآن من عند الله ـ تعالى ـ وحده.

فالضمير في قوله (بِهِ) يعود على كل ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عند ربه ويدخل في ذلك دخولا أوليا القرآن الكريم.

وقوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) بيان لسوء عاقبة الكافرين بما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد بيان حسن عاقبة المؤمنين به.

والأحزاب جمع حزب وهم الذين تحزبوا وتجمعوا من أهل مكة وغيرهم لمحاربة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعوته.

أى : ومن يكفر بهذا القرآن وبما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هدايات فإن نار جهنم هي المكان الذي ينتظره وينتظر كل متحزب ضد دعوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفي جعل النار موعدا لهذا الكافر بالقرآن إشعار بأن فيها ما لا يحيط به الوصف من ألوان العذاب الذي يجعله لا يموت فيها ولا يحيا.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بالحض على النظر الصحيح الذي يؤدى إلى اليقين بأن ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الحق الذي لا يشوبه باطل فقال ـ تعالى ـ : (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ).

__________________

(١) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٢ ص ٤٨٨.

١٨١

أى : فلا تك ـ أيها العاقل ـ في شك من أن هذا القرآن من عند الله ومن أن ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الصدق ، بل عليك أن تعتقد اعتقادا جازما في صحة ذلك ، لأن ما جاء به صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الحق الثابت من عند ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون بذلك لانطماس بصائرهم ، ولتقليدهم لآبائهم ، ولإيثارهم الغي على الرشد.

وبذلك نرى الآية الكريمة قد ميزت بين من كان على الحق ومن كان على الباطل وساقت حشودا من الأدلة الدالة على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعوته ، وعلى صحة ما عليه أتباعه ، وأمرتهم بالثبات على الحق الذي آمنوا به ، وتوعدت المتحزبين ضد دعوة الإسلام بنار جهنم التي هي بئس القرار.

هذا ، وهذه الآية الكريمة هي من الآيات التي قيل بأنها مدنية ، وبمراجعتنا لتفسيرها لم نجد ما يؤيد ذلك ، بل الذي نراه أن السورة كلها مكية كما سبق أن أشرنا إلى ذلك في المقدمة.

ثم وصف ـ سبحانه ـ الكافرين بالإسلام ببضعة عشر وصفا. وبين سوء مصيرهم كما بين حسن عاقبة المؤمنين وضرب مثلا لحال الفريقين فقال ـ تعالى ـ :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

١٨٢

الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ)(٢٤)

قال الإمام الرازي : اعلم أن الكفار كانت لهم عادات كثيرة وطرق مختلفة فمنها شدة حرصهم على الدنيا ، ورغبتهم في تحصيلها ، وقد أبطل الله ـ تعالى ـ هذه الطريقة بقوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها ...) إلى آخر الآية. ومنها أنهم كانوا ينكرون نبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقدحون في معجزاته وقد أبطل الله ـ تعالى ـ ذلك بقوله (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ...).

ومنها أنهم كانوا يزعمون في الأصنام أنها شفعاؤهم عند الله ، وقد أبطل الله ـ تعالى ـ ذلك بهذه الآيات وذلك لأن هذا الكلام افتراء على الله ...» (١).

وجمله (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ....) معطوفة على قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ).

والاستفهام للإنكار والنفي ، والتقدير : لا أحد أشد ظلما ممن تعمد الكذب على الله ـ تعالى ـ بأن زعم بأن الأصنام تشفع لعابديها عنده ، أو زعم بأن الملائكة بنات الله ، أو أن هذا القرآن ليس من عنده ـ سبحانه ـ.

وقوله : (أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) بيان لما يقال لهؤلاء الظالمين على سبيل التشهير والتوبيخ يوم القيامة والأشهاد : جمع شهيد كشريف وأشراف. أو جمع شاهد بمعنى حاضر كصاحب وأصحاب والمراد بهم ـ على الراجح ـ جميع أهل الموقف من الملائكة الذين كانوا يسجلون عليهم أقوالهم وأعمالهم ، ومن الأنبياء والمؤمنين.

والمعنى : أولئك الموصوفون بافتراء الكذب على الله ـ تعالى ـ يعرضون يوم الحساب ، على ربهم ومالك أمرهم ، كما يعرض المجرم للقصاص منه ، ولفضيحته أمام الناس.

(وَيَقُولُ الْأَشْهادُ) الذين يشهدون عليهم بأنهم قد افتروا الكذب على الله (هؤُلاءِ) المجرمون هم (الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ) بأن نسبوا إليه ما هو منزه عنه.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٧ ص ٢٠٣ طبعة عبد الرحمن محمد.

١٨٣

(أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) الذين وضعوا الأمور في غير مواضعها ، فأوردوا أنفسهم المهالك».

وجيء باسم الإشارة (هؤُلاءِ) زيادة في التشنيع عليهم ، وفي تمييزهم عن غيرهم وصدرت جملة (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) بأداة الاستفتاح (أَلا) لتأكيد الدعاء عليهم بالطرد والإبعاد عن رحمة الله ـ تعالى ـ بسبب افترائهم الكذب.

والظاهر أن هذه الجملة من كلام الأشهاد ويؤيد ذلك ما أخرجه الشيخان عن صفوان بن محرز قال : كنت آخذا بيد ابن عمر إذ عرض له رجل فقال : كيف سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله ـ عزوجل ـ يدنى المؤمن فيضع عليه كنفه ـ أى ستره وعفوه ـ ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له : أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال : فإنى قد سترتها عليك في الدنيا وإنى أغفرها لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته ، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد (هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (١).

ويجوز أن تكون هذه الجملة من كلام الله ـ تعالى ـ على سبيل الاستئناف بعد أن قال الأشهاد (هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ).

ثم بين ـ سبحانه ـ جانبا آخر من أفعالهم الشنيعة فقال : (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً ...)

و (يَصُدُّونَ) من صد بمعنى صرف الغير عن الشيء ومنعه منه. يقال صد يصد صدودا وصدا.

و (سَبِيلِ اللهِ) طريقه الموصلة إلى رضائه. والمراد بها ملة الإسلام.

(وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أى يطلبون لها العوج ، يقال : بغيت لفلان كذا إذا طلبته له.

والعوج ـ بكسر العين ـ الميل والزيغ في الدين والقول والعمل. وكل ما خرج عن طريق الهدى إلى طريق الضلال فهو عوج.

والعوج ـ بفتح العين ـ يكون في المحسوسات كالميل في الحائط والرمح وما يشبههما. أى أن مكسور العين يكون في المعاني ومفتوحها يكون في المحس.

والمعنى : ألا لعنة الله وخزيه على الظالمين الذين من صفاتهم أنهم لا يكتفون بانصرافهم

__________________

(١) تفسير ابن كثير المجلد الرابع ص ٢٤٧ طبعة دار الشعب.

١٨٤

عن الحق بل يحاولون صرف غيرهم عنه ويطلبون لملة الإسلام العوج ويصفونها بذلك تنفيرا للناس منها ، وقوله عوجا مفعول ثان ليبغون ، أو حال من سبيل الله.

وقوله (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) بيان لعقيدتهم الباطلة في شأن البعث والحساب.

أى : وهم بالآخرة وما فيها من حساب وثواب وعقاب كافرون.

وكرر الضمير (هُمْ) لتأكيد كفرهم وللإشارة إلى أنهم بلغوا فيه مبلغا لم يبلغه أحد سواهم حتى لكأن كفر غيرهم يسير بالنسبة لكفرهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ أنه كان قادرا على تعذيبهم في الدنيا قبل الآخرة ولكنه أخر عذابهم إملاء لهم فقال : (أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ...).

وقوله : معجزين من الإعجاز بمعنى عدم المقدرة على الشيء.

أى : أولئك الذين افتروا على الله الكذب لم يكن ـ سبحانه ـ عاجزا عن إنزال العذاب الشديد بهم في الدنيا. وما كان لهم من غيره من نصراء ينصرونهم من بأسه لو أراد إهلاكهم.

قال الإمام الرازي : قال الواحدي : معنى الإعجاز المنع من تحصيل المراد ، يقال أعجزنى فلان أى : منعني عن مرادى ...

والمقصود أن قوله (أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) دل على أنه لا قدرة لهم على الفرار.

وقوله : (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) دل على أن أحدا لا يقدر على تخليصهم من عذابه. فجمع ـ سبحانه ـ بين ما يرجع إليهم وبين ما يرجع إلى غيرهم ، ووضح بذلك انقطاع حيلهم في الخلاص من عذاب الدنيا والآخرة» (١).

وقوله : (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) جملة مستأنفة لبيان أن من حكمة تأخير العذاب عنهم في الدنيا مضاعفة العذاب لهم في الآخرة.

وقوله : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) تصوير بليغ لاستحواذ الشيطان عليهم.

أى أن هؤلاء المجرمين بلغ بهم الجهل والعناد والجحود أنهم ما كانوا يستطيعون السماع للحق الذي جاءهم من ربهم لثقله على نفوسهم الفاسدة ، وما كانوا يبصرون المعجزات الدالة على صدق نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٧ ص ٢٠٦.

١٨٥

فليس المراد نفى السماع والإبصار الحسيين عنهم وإنما المراد أنهم لانطماس بصائرهم صاروا كمن لا يسمع ولا يرى.

ثم أكد ـ سبحانه ـ سوء مصيرهم فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ).

أى : أولئك الذين استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله ، هم الذين خسروا أنفسهم وأوردوها المهالك بسبب تعمدهم الكذب على الله ، (وَضَلَّ عَنْهُمْ) أى : وغاب عنهم ما كانوا يفترونه في الدنيا من اعتقادات باطلة وادعاءات فاسدة.

وقوله (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) زيادة في تأكيد خسرانهم.

وكلمة (لا جَرَمَ) وردت في القرآن الكريم في خمسة مواضع. وفي كل موضع جاءت متلوة بأن واسمها.

وجمهور النحاة على أن هذه الكلمة مركبة من «لا» و «جرم» تركيب خمسة عشر ومعناها بعد هذا التركيب معنى الفعل : حق أو ثبت ، والجملة بعدها هي الفاعل لهذا الفعل.

أى : وثبت كونهم في الآخرة هم الأخسرون.

ومن النحاة من يرى أن «لا» نافية للجنس و «جرم» اسمها وما بعدها خبرها.

والمعنى. لا محالة ولا شك في أنهم في الآخرة هم الأخسرون.

ثم بين ـ سبحانه ـ حسن عاقبة المؤمنين بعد بيان سوء عاقبة الكافرين فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

قال الجمل : والإخبات في اللغة هو الخشوع والخضوع وطمأنينة القلب. ولفظ الإخبات يتعدى بإلى وباللام. فإذا قلت أخبت فلان إلى كذا فمعناه اطمأن إليه. وإذا قلت أخبت له فمعناه : خشع وخضع له. فقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) إشارة الى جميع أعمال الجوارح. وقوله : (وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) إشارة إلى أعمال القلوب وهي الخشوع والخضوع لله ـ تعالى ـ» (١).

والمعنى : إن الذين آمنوا بالله ـ تعالى ـ إيمانا حقا وعملوا الأعمال الصالحات التي ترضيه ـ سبحانه ـ واطمأنوا إلى قضاء ربهم وخشعوا له أولئك الموصوفون بذلك هم أصحاب الجنة وهم الخالدون فيها خلودا أبديا وهم الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٨٩.

١٨٦

ثم ضرب ـ سبحانه ـ مثلا لفريق الكافرين ولفريق المؤمنين فقال : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ).

وقوله : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ ...) أى : حالهم وصفتهم.

وأصل المثل بمعنى المثل. والمثل : النظير والشبيه ثم أطلق على القول السائر المعروف لمماثلة مضربه ـ وهو الذي يضرب فيه ـ لمورده ـ أى الذي ورد فيه أولا.

ولا يكون إلا فيما فيه غرابة. ثم استعير للصفة أو الحال أو القصة إذا كان لها شأن عجيب وفيها غرابة.

وإنما تضرب الأمثال لإيضاح المعنى الخفى ، وتقريب المعقول من المحسوس وعرض الغائب في صورة الشاهد. فيكون المعنى الذي ضرب له المثل أوقع في القلوب وأثبت في النفوس.

والمعنى : حال الفريقين المذكورين قبل ذلك وهما الكافرون والمؤمنون كحال الضدين المختلفين كل الاختلاف.

أما الكافرون فحالهم وصفتهم كحال وصفة من جمع بين العمى والصمم. لأنهم مع كونهم يرون ويسمعون لكنهم لم ينتفعوا بذلك فصاروا كالفاقد لهما.

وأما المؤمنون فحالهم وصفتهم كحال وصفة من جمع بين البصر السليم والسمع الواعي لأنهم انتفعوا بما رأوا من دلائل تدل على وحدانية الله وقدرته وبما سمعوا من توجيهات تدل على صحة تعاليم الإسلام.

والمقصود من هذا التمثيل. تنبيه الكافرين إلى ما هم عليه من ضلال وجهالة لعلهم بهذا التنبيه يتداركون أمرهم ، فيدخلوا في دين الإسلام وتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من حق ، وبذلك يزدادون إيمانا على إيمانهم.

والاستفهام في قوله (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) للإنكار والنفي ، أى : هل يستوي في الصفة والحال من كان ذا سمع وبصر بمن فقدهما؟ كلا إنهما لا يستويان حتى عند أقل العقلاء عقلا وقوله : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) حض على التذكر والتدبر والتفكر.

أى : أتشكون في عدم استواء الفريقين؟ لا إن الشك في عدم استوائهما لا يليق بعاقل وإنما اللائق به هو اعتقاد تباين صفتيهما والدخول في صفوف المؤمنين الذين عملوا الأعمال الصالحات وأخبتوا إلى ربهم.

وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد بينت حال الكافرين وذكرت من أوصافهم أربعة

١٨٧

عشر وصفا أولها : افتراء الكذب ... وآخرها : الخسران في الآخرة. كما بينت حال المؤمنين وبشرتهم بالخلود في الجنة : ثم ضربت مثلا لكل فريق وشبهت حاله بما يناسبه من صفات ..

وفي ذلك ما فيه من الهداية إلى الطريق المستقيم ، لمن كان له قلب ، أو ألقى السمع وهو شهيد.

وبعد هذا الحديث المتنوع عن مظاهر قدرة الله ووحدانيته وعن إعجاز القرآن الكريم وعن حسن عاقبة المؤمنين وسوء عاقبة المكذبين ساقت السورة الكريمة بترتيب حكيم قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم وقد استغرق هذا القصص معظم الآيات الباقية فيها فقد حدثتنا عن قصة نوح مع قومه وعن قصة هود مع قومه ، وعن قصة صالح مع قومه ، وعن قصة لوط مع قومه ، وعن قصة شعيب مع قومه ، كما تحدثت عن قصة إبراهيم مع رسل الله الذين جاءوه بالبشرى ، وعن جانب من قصة موسى مع فرعون.

قال الإمام الرازي : اعلم أنه ـ تعالى ـ لما ذكر في تقرير المبدأ والمعاد دلائل ظاهرة ، وبينات قاهرة ، وبراهين باهرة ، أتبعها بذكر قصص الأنبياء وفيه فوائد :

أحدها : التنبيه على أن إعراض الناس عن قبول هذه الدلائل والبينات ليس من خواص قوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل هذه العادة المذمومة كانت حاصلة في جميع الأمم السالفة ، والمصيبة إذا عمت خفت. فكان ذكر قصصهم وحكاية إصرارهم وعنادهم يفيد تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتخفيف ذلك على قلبه.

وثانيها : أنه ـ تعالى ـ يحكى في هذه القصص أن عاقبة أمر أولئك المنكرين كان إلى اللعن في الدنيا والخسارة في الآخرة. وعاقبة أمر المحقين الى الدولة في الدنيا والسعادة في الآخرة ، وذلك يقوى قلوب المحقين ، ويكسر قلوب المبطلين.

وثالثها : التنبيه على أنه ـ تعالى ـ وإن كان يمهل هؤلاء المبطلين ، ولكنه لا يهملهم ، بل ينتقم منهم على أكمل الوجوه.

ورابعها : بيان أن هذه القصص دالة على نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه كان أميا ، وما طالع كتابا ولا تتلمذ على أستاذ ، فإذا ذكر هذه القصص على هذا الوجه من غير تحريف ولا خطأ ، دل ذلك على أنه إنما عرفه بالوحي من الله ـ تعالى ـ (١).

وقد بدأت السورة الكريمة قصصها بقصة نوح مع قومه ، وقد وردت هذه القصة في سور متعددة منها سورة الأعراف ، وسورة المؤمنون ، وسورة نوح ... إلا أنها وردت هنا بصورة أكثر تفصيلا من غيرها.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٢٤٠.

١٨٨

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ)(٢٧)

وقوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ...) جواب لقسم محذوف. أى والله لقد أرسلنا نوحا إلى قومه. والدليل على هذا القسم وجود لامه في بدء الجملة.

وافتتحت القصة بصيغة القسم لأن المخاطبين بها لما لم يحذروا ما نزل بقوم نوح بسبب كفرهم نزلوا منزلة المنكر لرسالته.

وينتهى نسب نوح ـ عليه‌السلام ـ إلى شيث بن آدم ـ عليه‌السلام ـ وقد ذكر نوح في القرآن في ثلاثة وأربعين موضعا.

وقوم الرجل : هم أقرباؤه الذين يجتمعون معه في جد واحد وقد يقيم الرجل بين الأجانب فيسميهم قومه مجازا للمجاورة.

وكان قوم نوح يعبدون الأصنام : فأرسل الله إليهم نوحا ليدلهم على طريق الرشاد.

قال ابن كثير : قال ابن عباس وغير واحد من علماء التفسير : كان أول ما عبدت الأصنام أن قوما صالحين ماتوا. فبنى قومهم عليهم مساجد ، وصوروا صور أولئك الصالحين فيها ليتذكروا حالهم وعبادتهم فيتشبهوا بهم. فلما طال الزمان جعلوا أجسادا على تلك الصور فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام وسموها بأسماء أولئك الصالحين : ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا فلما تفاقم الأمر بعث الله ـ تعالى ـ رسوله نوحا فأمرهم بعبادة الله وحده» (١).

وقوله : (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ، أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ...) بيان للوظيفة التي من أجلها أرسل الله ـ تعالى ـ نوحا إلى قومه.

قال الشوكانى : قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بفتح الهمزة في (إِنِّي) على تقدير

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٢٢٢.

١٨٩

حرف الجر أى : أرسلناه بأنى. أى : أرسلناه متلبسا بذلك الكلام وهو أنى لكم نذير مبين. وقرأ الباقون بالكسر على إرادة القول. أى : أرسلناه قائلا لهم (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (١).

ونذير من الإنذار وهو إخبار معه تخويف ..

ومبين : من الإبانة بمعنى التوضيح والإظهار ..

أى : أرسلناه إلى قومه فقال لهم يا قوم : إنى لكم محذر تحذيرا واضحا من موجبات العذاب التي تتمثل في عبادتكم لغير الله ـ تعالى ـ.

واقتصر على الإنذار لأنهم لم يعملوا بما بشرهم به وهو الفوز برضا الله ـ تعالى ـ إذا ما أخلصوا له العبادة والطاعة.

وجملة (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) بدل من قوله (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أى أرسلناه بأن لا تعبدوا إلا الله.

وقوله : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) جملة تعليلية ، تبين حرص نوح الشديد على مصلحة قومه ومنفعتهم.

أى إنى أحذركم من عبادة غير الله ، لأن هذه العبادة ستؤدى بكم الى وقوع العذاب الأليم عليكم ، وما حملني على هذا التحذير الواضح إلا خوفي عليكم ، وشفقتي بكم ، فأنا منكم وأنتم منى بمقتضى القرابة والنسب.

ووصف اليوم بالأليم على سبيل المجاز العقلي ، وهو أبلغ من أن يوصف العذاب بالأليم ، لأن شدة العذاب لما بلغت الغاية والنهاية في ذلك ، جعل الوقت الذي تقع فيه وقتا أليما أى مؤلما.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما رد به قوم نوح عليه فقال : (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ، ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا ، وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ ، وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ).

والمراد بالملإ : أصحاب الجاه والغنى من قوم نوح. وهذا اللفظ اسم جمع لا واحد له من لفظه كرهط وهو ـ كما يقول الآلوسى ـ : مأخوذ من قولهم فلان ملئ بكذا : إذا كان قادرا عليه ... أو لأنهم متمالئون أى متظاهرون متعاونون ، أو لأنهم يملؤون القلوب والعيون ...

ووصفهم بالكفر ، لتسجيل ذلك عليهم من أول الأمر زيادة في ذمهم.

__________________

(١) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٢ ص ٤٩٣.

١٩٠

أى : بعد هذا النصح الحكيم الذي وجهه نوح ـ عليه‌السلام ـ لقومه ، رد عليه أغنياؤهم وسادتهم بقولهم (ما نَراكَ) يا نوح إلا بشرا مثلنا ، أى : إلا إنسانا مثلنا ، ليست فيك مزية تجعلك مختصا بالنبوة دوننا ...

فهم ـ لجهلهم وغبائهم ـ توهموا أن النبوة لا تجامع البشرية ، مع أن الحكمة تقتضي أن يكون الرسول بشرا من جنس المرسل إليهم ، حتى تتم فائدة التفاهم معه ، والاقتداء به في أخلاقه وسلوكه.

وقد حكى القرآن قولهم هذا في أكثر من موضع ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ ، وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ ...) (١).

ثم إنهم في التعليل لعدم اتباع نبيهم لم يكتفوا بقولهم ما نراك إلا بشر مثلنا : بل أضافوا إلى ذلك قولهم : (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) ومرادهم بقولهم : (أَراذِلُنا) أى فقراؤنا ومن لا وزن لهم فينا.

قال الجمل : ولفظ (أَراذِلُنا) فيه وجهان : أحدهما أنه جمع الجمع فهو جمع أرذل ـ بضم الذال ـ جمع رذل ـ بسكونها ـ نحو كلب وأكلب وأكالب ...

ثانيهما : انه جمع مفرد وهو أرذل كأكبر وأكابر .. والأرذل هو المرغوب عنه لرداءته» (٢).

ومرادهم بقولهم : (بادِيَ الرَّأْيِ) أى : أوله من البدء. يقال : بدأ يبدأ إذا فعل الشيء أولا وعليه تكون الياء مبدلة من الهمزة لانكسار ما قبلها ويؤيده قراءة أبى عمرو «بادئ الرأى».

أى : وما نراك اتبعك يا نوح إلا الذين هم أقلنا شأنا وأحقرنا حالا من غير أن يتثبتوا من حقيقة أمرك ، ولو تثبتوا وتفكروا ما اتبعوك ويصح أن يكون مرادهم بقولهم (بادِيَ الرَّأْيِ) أى اتبعوك ظاهرا لا باطنا ، ويكون لفظ (بادِيَ) من البدو بمعنى الظهور. يقال : بدا الشيء يبدو بدوا وبدوءا وبداء أى ظهر وعليه يكون المعنى : وما نراك اتبعك يا نوح إلا الذين هم أهوننا أمرا ، ومع ذلك فإن اتباعهم لك إنما هو في ظاهر أمرهم ، أما بواطنهم فهي تدين بعقيدتنا.

__________________

(١) سورة المؤمنون الآية ٣٣ ، ٣٤.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٩١.

١٩١

وشبيه بهذه الجملة قوله ـ تعالى ـ (قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) (١).

قال صاحب الكشاف : وإنما استرذلوا المؤمنين لفقرهم وتأخرهم في الأسباب الدنيوية لأنهم أى الملأ من قوم نوح ـ كانوا جهالا ما كانوا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا فكان الأشرف عندهم من له جاه ومال كما ترى أكثر المتسمين بالإسلام ، يعتقدون ذلك ، ويبنون عليه إكرامهم وإهانتهم ، ولقد زال عنهم أن التقدم في الدنيا ـ مع ترك الآخرة ـ لا يقرب أحدا من الله وإنما يبعده ، ولا يرفعه بل يضعه ، فضلا عن أن يجعله سببا في الاختيار للنبوة والتأهيل لها ...» (٢).

ثم أضافوا إلى مزاعمهم السابقة زعما جديدا فقالوا : (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ).

والفضل : الزيادة في الشرف والغنى وغيرهما مما يتميز به الإنسان عن غيره.

والمراد هنا : آثاره التي تدل عليه.

أى : أنت يا نوح لست إلا بشرا مثلنا ، وأتباعك هم أحقرنا شأنا ، وما نرى لك ولمتبعيك شيئا من الزيادة علينا لا في العقل ولا في غيره ، بل إننا لنعتقد أنكم كاذبون في دعواكم أنكم على الحق ، لأن الحق في نظرنا هو في عبادة هذه الأصنام التي عبدها من قبلنا آباؤنا.

وهكذا نرى أن الملأ من قوم نوح ـ عليه‌السلام ـ قد عللوا كفرهم بما جاءهم به بثلاث علل ، أولها : أنه بشر مثلهم وثانيها : أن أتباعه من فقرائهم وثالثها : أنه لا مزية له ولأتباعه عليهم ..

وهي كلها علل باطلة ، تدل على جهلهم ، وانطماس بصيرتهم ، ويدل على ذلك ، رد نوح ـ عليه‌السلام ـ الذي حكاه القرآن في قوله ـ تعالى ـ :

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ

__________________

(١) سورة الشعراء الآية ١١١.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٦٥.

١٩٢

قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ)(٣١)

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ....).

أى : قال نوح ـ عليه‌السلام ـ في رده على الملأ الذين كفروا من قومه : (يا قَوْمِ) أى : يا أهلى وعشيرتي الذين يسرني ما يسرهم ويؤلمنى ما يؤلمهم.

(أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أى : أخبروني إن كنت على بصيرة من أمرى ، وحجة واضحة من ربي ، بها يتبين الحق من الباطل.

(وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) أى : ومنحني بفضله وإحسانه النبوة التي هي طريق الرحمة لمن آمن بها ، واتبع من اختاره الله لها. فالمراد بالرحمة هنا النبوة (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) أى : فأخفيت عليكم هذه الرحمة ، وغاب عنكم الانتفاع بهداياتها ، لأنكم ممن استحب العمى على الهدى.

يقال : عمّى على فلان الأمر : أى أخفى عليه حتى صار بالنسبة اليه كالأعمى قال صاحب المنار : قرأ الجمهور فعميت ـ بالتخفيف ـ كخفيت وزنا ومعنى. قال ـ تعالى ـ (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ).

وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالتشديد والبناء للمفعول (فَعُمِّيَتْ) أى : فحجبها عنكم جهلكم وغروركم ..

والتعبير بعميت مخففة ومشددة أبلغ من التعبير بخفيت وأخفيت ، لأنه مأخوذ من العمى المقتضى لأشد أنواع الخفاء (١).

والاستفهام في قوله : (أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) للإنكار والنفي.

أى : إذا كانت الهداية إلى الخير التي جئتكم بها قد خفيت عليكم مع وضوحها وجلائها ،

__________________

(١) تفسير المنار ج ١٢ ص ٦٤.

١٩٣

فهل أستطيع أنا وأتباعى أن نجبركم إجبارا ، ونقسركم قسرا على الإيمان بي ، وعلى التصديق بنبوتي ، والحال أنكم كارهون لها نافرون منها.

كلا إننا لا نستطيع ذلك لأن الإيمان الصادق يكون عن اقتناع واختيار لا عن إكراه وإجبار.

قال صاحب الظلال ما ملخصه : واللفظ في القرآن قد يرسم بجرسه صورة كاملة للتناسق الفنى بين الألفاظ ، ومن أمثله ذلك قوله ـ تعالى ـ في قصة نوح مع قومه (أَنُلْزِمُكُمُوها ...) فأنت تحس أن كلمة أنلزمكموها تصور جو الإكراه ، بإدماج كل هذه الضمائر في النطق ، وشد بعضها الى بعض كما يدمج الكارهون مع ما يكرهون ، ويشدون إليه وهم نافرون ، وهكذا يبدو لون من التناسق في التعبير أعلى من البلاغة الظاهرية ، وأرفع من الفصاحة اللفظية (١).

ثم وجه نوح ـ عليه‌السلام ـ نداء ثانيا إلى قومه زيادة في التلطف معهم ، وطمعا في إثارة وجدانهم نحو الحق فقال : (وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً).

أى : لا أطلب منكم شيئا من المال في مقابل تبليغ ما أمرنى ربي بتبليغه إليكم : لأن طلبى هذا قد يجعلكم تتوهمون أنى محب للمال ..

(إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) ـ تعالى وحده ، فهو الذي يثيبني على دعوتي إلى عبادتكم له ، وفي هذه الجملة إشارة إلى أنه لا يسأل الله ـ تعالى ـ مالا ، وإنما يسأله ثوابا ، إذ ثواب الله يسمى أجرا ، لأنه جزاء على العمل الصالح.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ في سورة الشعراء : (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) وجملة (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) معطوفة على جملة (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً) لأن مضمونها كالنتيجة لمضمون المعطوف عليها ، إذ أن زهده في مالهم يقتضى تمسكه بأتباعه المؤمنين.

الطرد : الأمر بالبعد عن مكان الحضور تحقيرا أو زجرا.

أى : وما أنا بطارد الذين آمنوا بدعوتي ، سواء أكانوا من الفقراء أم من الأغنياء ، لأن من استغنى عن مال الناس وعطائهم لا يقيسهم بمقياس الغنى والجاه والقوة ... وإنما يقيسهم بمقياس الإيمان والتقوى.

قال الآلوسى : والمروي عن ابن جريح أنهم قالوا له : يا نوح إن أحببت أن نتبعك فاطرد هؤلاء الأراذل ـ وإلا فلن نرضى أن نكون نحن وهم في الأمر سواء.

__________________

(١) تفسير في ظلال القرآن ج ١٢ ص ٥٤٢.

١٩٤

وذلك كما قال زعماء قريش للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شأن فقراء الصحابة : اطرد هؤلاء عن مجلسك ونحن نتبعك فإنا نستحي أن نجلس معهم في مجلسك ...» (١).

وجملة (إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) تعليل لنفى طردهم.

أى : لن أطردهم عن مجلسي أبدا ، لأنهم قد آمنوا بي ، ولأن مصيرهم إلى الله ـ تعالى ـ ، فيحاسبهم على سرهم وعلنهم ، أما أنا فأكتفى منهم بظواهرهم التي تدل على صدق إيمانهم ، وشدة إخلاصهم.

وجاءت هذه الجملة بصيغة التأكيد ، لأن الملأ الذين كفروا من قومه كانوا ينكرون البعث والحساب.

وقوله : (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) استدراك مؤكد لمضمون ما قبله.

أى : لن اطردهم ، لأن ذلك ليس من حقي بعد أن آمنوا ، وبعد أن تكفل الله بمحاسبتهم ، ولكني مع هذا البيان المنطقي الواضح ، أراكم قوما تجهلون القيم الحقيقية التي يقدر بها الناس عند الله ، وتجهلون أن مرد الناس جميعا إليه وحده ـ سبحانه ـ ليحاسبهم على أعمالهم ، وتتطاولون على المؤمنين تطاولا يدل على طغيانكم وسفاهتكم.

وحذف مفعول (تَجْهَلُونَ) للعلم به ، وللإشارة الى شدة جهلهم.

أى : تجهلون كل ما ينبغي ألا يجهله عاقل.

ثم وجه إليهم نداء ثالثا لعلهم يفيئون إلى رشدهم فقال : (وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ).

أى : افترضوا يا قوم أنى طردت هؤلاء المؤمنين الفقراء من مجلسي ، فمن ذا الذي يحمينى ويجيرني من عذاب الله ، لأنه ـ سبحانه ـ ميزانه في تقييم الناس ليس كميزانكم ، إن أكرم الناس عنده هو أتقاهم وليس أغناهم ، وهؤلاء المؤمنون الفقراء هم أكرم عنده ـ سبحانه ـ منكم ، فكيف أطردهم؟

والاستفهام في قوله : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) لتوبيخهم وزجرهم. والجملة معطوفة على مقدر.

أى : أتصرون على جهلكم ؛ فلا تتذكرون أن لهم ربا ينصرهم إن طردتهم؟ إنكم إن بقيتم على هذا الإصرار سيكون أمركم فرطا ، وستتعرضون للعذاب الأليم الذي يهلككم.

ثم أخذ نوح ـ عليه‌السلام ـ في تفنيد شبهاتهم ، وفي دحض مفترياتهم ، وفي تعريفهم

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٢ ص ٣٥.

١٩٥

بحقيقة أمره فقال : (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ ..).

والخزائن : جمع خزانة ـ بكسر الخاء ـ وهو المكان الذي يخزن فيه المال أو الطعام أو غيرهما خشية الضياع ، والمراد منها هنا : أنواع رزقه ـ سبحانه ـ التي يحتاج إليها عباده ، وأضيفت إليه ـ سبحانه ـ لاختصاصه بها. وملكيته لها.

أى : إنى لا أقول لكم إن النبوة التي وهبنى الله إياها ، تجعلني أملك خزائن أرزاقه ـ سبحانه ـ فأصير بذلك من الأثرياء ، وأعطى من أشاء بغير حساب ...

كلا. إنى لا أملك شيئا من ذلك ، وإنما أنا عبد الله ورسوله ، أرسلنى لأخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.

وهذه الجملة الكريمة رد على قولهم السابق! (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ).

وأيضا لا أقول لكم إنى أعلم الغيوب التي اختص الله بعلمها ، فأدعى قدرة ليست للبشر ، أو أزعم أن لي صلة بالله ـ تعالى ـ غير صلة النبوة ـ أو أدعى الحكم على قلوب الناس وعلى منزلتهم عند الله ، كما ادعيتم أنتم فقلتم (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ ...).

وأيضا فإنى لا أقول لكم إنى ملك ، بل أنا بشر مثلكم آكل مما تأكلون منه ، وأشرب مما تشربون منه ، إلا أن الله ـ تعالى ـ اختصني من بينكم بالنبوة ، والبشرية مقتض للنبوة وليست مانعا منها ـ كما تزعمون ـ حيث قلتم (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا).

ولم يكتف نوح ـ عليه‌السلام ـ بهذا الرد المبطل لدعاواهم الفاسدة ، بل أضاف إلى ذلك ـ كما حكى القرآن عنه ـ (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً ، اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ ، إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ).

وقوله : (تَزْدَرِي) من الازدراء بمعنى التحقير والانتقاص ، يقال : ازدرى فلان فلانا إذا احتقره وعابه.

أى : أنا لا أقول لكم بأنى أملك خزائن الله ، أو بأنى أعلم الغيب ، أو بأنى ملك من الملائكة ، ولا أقول لكم ـ أيضا ـ في شأن الذين تنظرون إليهم نظر احتقار واستصغار : إنهم ـ كما تزعمون ـ (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) يسعدهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم ، بل أقول لكم إنه ـ سبحانه ـ سيؤتيهم ذلك ـ إذا شاء ـ لأنه ـ سبحانه ـ هو الأعلم بما في نفوسهم من خير أو شر ـ أما أنا فلا علم لي إلا بظواهرهم التي تدل على إيمانهم وإخلاصهم ؛ و (إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) لنفسي ولغيري إذا ادعيت أية دعوى من هذه الدعاوى.

١٩٦

قال البيضاوي ما ملخصه ، وأسند ـ سبحانه ـ الازدراء إلى الأعين في قوله (تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ) للمبالغة والتنبيه على أنهم استرذلوهم بادى الرؤية ـ أى بمجرد نظرهم إليهم ـ من غير روية بسبب ما عاينوه من رثاثة حالهم وقلة منالهم ، دون تأمل في معانيهم وكمالاتهم» (١) وهذا الإسناد من باب المجاز العقلي ، لأن الازدراء ينشأ عن مشاهدة الصفات الحقيرة «في نظر الناظر» فتكون الأعين سببا في هذا الازدراء.

وأكد جملة (إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) بعدة مؤكدات ، تحقيقا لظلم كل من يدعى شيئا من هذه الدعاوى ، وتكذيبا لأولئك الكافرين الذين احتقروا المؤمنين ، وزعموا أن الله ـ تعالى ـ لن يؤتيهم خيرا.

وهكذا نجد نوحا ـ عليه‌السلام ـ يشرح لقومه بأسلوب مهذب حكيم حقيقة أمره ، ويرد على شبهاتهم بما يزهقها ...

وعند ما وجدوا أنفسهم عاجزين عن الرد على نبيهم بأسلوب مقارعة الحجة بالحجة ، لجئوا ـ على عادة طبقتهم ـ إلى أسلوب التحدي وقد أخذتهم العزة بالإثم فقالوا ـ كما حكى القرآن عنهم :

(قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٣٤)

أى : قال قوم نوح ـ عليه‌السلام ـ له بعد أن غلبهم بحجته ، وعجزوا عن الدفاع عن أنفسهم : (يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا ...)

أى : خاصمتنا ونازعتنا فأكثرت في ذلك حتى لم تترك لنا منفذا للرد عليك ، والجدال : هو المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة. وأصله ـ كما يقول الآلوسى ـ من جدلت الحبل إذا أحكمت فتله ، ومنه الجديل ـ أى الحبل المفتول ـ ، وجدلت البناء : أحكمته ، والأجدل :

__________________

(١) تفسير البيضاوي ص ٤٦٧.

١٩٧

الصقر المحكم البنية ، والمجدل ـ كمنبر القصر المحكم البناء ...

وسميت المنازعة في الرأى جدالا ، لأن كل واحد من المتجادلين كأنما ، يفتل الآخر عن رأيه ـ أى بصرفه عنه ـ ...

وقيل : الأصل في الجدال الصراع ، وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة ـ بفتح الجيم ـ أى : الأرض الصلبة» (١).

ثم أضافوا إلى هذا العجز عن مجابهة الحجة سفاهة في القول فقالوا : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ).

أى : لقد سئمنا مجادلتك لنا ومللناها ، فأتنا بالعذاب الذي تتوعدنا به ، إن كنت من الصادقين في دعواك النبوة ، وفي وعيدك لنا بعقاب الله ، فإننا مصرون على عبادة آلهتنا ، وكارهون لما تدعونا إليه.

وهذا شأن الجاهل المعاند ، إنه يشهر السيف إذا أعجزته الحجة ، ويعلن التحدي إذا يئس عن مواجهة الحق ...

ولكن نوحا ـ عليه‌السلام ـ لم يخرجه هذا التحدي عن سمته الكريم ، ولم يقعده عناد قومه عن مداومة النصح لهم ، وإرشادهم إلى الحقيقة التي ضلوا عنها ، فقد رد عليهم بقوله (إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ ـ إِنْ شاءَ ـ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ).

أى : إنما يأتيكم بهذا العذاب الذي تستعجلونه الله ـ تعالى ـ وحده ، إن شاء ذلك ، لأنه هو الذي يملكه (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أى : وما أنتم بمستطيعين الهروب من عذابه متى اقتضت مشيئته ـ سبحانه ـ إنزاله لكم ، لأنه ـ تعالى ـ لا يعجزه شيء.

ثم أضاف إلى هذا الاعتراف بقدرة الله ـ تعالى ـ اعترافا آخر بشمول إرادته فقال : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ).

والنصح معناه : تحرى الصلاح والخير للمنصوح مع إخلاص النية من شوائب الرياء.

يقال : نصحته ونصحت له ... أى : أرشدته إلى ما فيه صلاحه.

ويقال : رجل ناصح الجيب إذا كان نقى القلب طاهر السريرة. والناصح الخالص من كل شيء.

أى : إنى قد دعوتكم إلى طاعة الله ليلا ونهارا ، ولم أقصر معكم في النصيحة ومع ذلك فإن

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٢ ص ٤١.

١٩٨

نصحى الدائم لن يفيدكم شيئا ، ما دامت قلوبكم في عمى عنه ، وأسماعكم في صمم منه ، ونفوسكم على غير استعداد له.

وجواب الشرط في قوله (إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ) محذوف لدلالة ما قبله عليه.

وقوله (إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) : زيادة تأكيد منه ـ عليه‌السلام ـ لعموم قدرة الله وإرادته.

أى : إن كان الله ـ تعالى ـ يريد أن يضلكم عن طريق الحق ، ويصرفكم عن الدخول فيه ، بسبب إصراركم على الجحود والعناد ، فعل ذلك ، لأنه هو ربكم ومالك أمركم ، وإليه وحده ترجعون يوم القيامة ، ليجازيكم الجزاء الذي تستحقونه.

وهكذا نجد نوحا ـ عليه‌السلام ـ قد سلك في دعوته إلى الله ، أحكم السبل ، واستعمل أبلغ الأساليب ، وصبر على سفاهة قومه صبرا جميلا.

وعند هذا الحد من قصة نوح مع قومه ، تنتقل السورة الكريمة انتقالا سريعا بقارئها إلى الحديث عن مشركي مكة ، الذين أنكروا أن يكون القرآن من عند الله ، ووقفوا من نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم موقفا يشبه موقف قوم نوح منه ـ عليه‌السلام ـ فترد عليهم بقوله ـ تعالى ـ :

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ)(٣٥)

وأم هنا منقطعة بمعنى بل التي للإضراب ، وهو انتقال المتكلم من غرض إلى آخر.

والافتراء : الكذب المتعمد الذي لا توجد أدنى شبهة لقائله.

والإجرام : اكتساب الجرم وهو الشيء القبيح الذي يستحق فاعله العقاب.

يقال : أجرم فلان وجرم واجترم ، بمعنى اقترف الذنب الموجب للعقوبة وللمفسرين في معنى هذه الآية اتجاهان :

الاتجاه الأول يرى أصحابه : أنها معترضة بين أجزاء قصة نوح مع قومه ، وأنها في شأن مشركي مكة الذين أنكروا أن يكون القرآن من عند الله.

وعليه يكون المعنى. لقد سقنا لك يا محمد من أخبار السابقين ما هو الحق الذي لا يحوم حوله باطل ، ولكن المشركين من قومك لم يعتبروا بذلك ، بل يقولون إنك قد افتريت هذا

١٩٩

القرآن ، قل لهم : إن كنت قد افتريته ـ على سبيل الفرض ـ فعلى وحدي تقع عقوبة إجرامى وافترائى الكذب ، وأنا برىء من عقوبة إجرامكم وافترائكم الكذب.

أما الاتجاه الثاني فيرى أصحابه أن الآية الكريمة ليست معترضة ، وإنما هي من قصة نوح عليه‌السلام ـ وعليه يكون المعنى : بل أيقول قوم نوح إن نوحا ـ عليه‌السلام ـ قد افترى واختلق ما جاء به من عند نفسه ثم نسبه إلى الله ـ تعالى ـ قل لهم إن كنت قد افتريته فعلى سوء عاقبة إجرامى وكذبى ، وأنا برىء مما تقترفونه من منكرات ، وما تكتسبونه من ذنوب.

ويبدو لنا أن الاتجاه الأول أرجح ، لأن التعبير عن أفكارهم بيقولون ، وعن الرد عليهم بقل ، الدالين على الحال والاستقبال ، يقوى أن الآية الكريمة في شأن مشركي مكة.

وقد اقتصر الإمام ابن جرير على الاتجاه الأول ، ولم يذكر شيئا عن الاتجاه الثاني مما يدل على ترجيحه للاتجاه الأول فقال ما ملخصه : يقول ـ تعالى ـ ذكره : أيقول يا محمد هؤلاء المشركون من قومك : افترى محمد هذا القرآن وهذا الخبر عن نوح ، قل لهم : إن افتريته فتخرصته واختلقته فعلى إثمى في افترائى ما افتريت على ربي دونكم .. وأنا برىء مما تذنبون وتأثمون في حقي وحق ربكم ...» (١).

وإلى هنا نرى الآيات الكريمة قد حكت لنا جانبا من مجادلة قوم نوح له ، ومن تطاولهم عليه ، ومن تحديهم لدعوته ، كما حكت لنا رده عليهم بأسلوب حكيم ، جعلهم يعجزون عن مجابهته فماذا كان من شأنه وشأنهم بعد ذلك؟

* * *

لقد تابعت السورة الكريمة حديثها عن هذه القصة ، فبينت بعد ذلك قضاء الله العادل في هؤلاء الظالمين ، حيث حكت لنا ما أوحاه الله إلى نوح ـ عليه‌السلام ـ في شأنهم ، وما أمره بصنعه ... فقال ـ تعالى ـ :

(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧)

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١٢ ص ٢٠.

٢٠٠