التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0657-4
الصفحات: ٦٠٢

إلى أبيهم ليلا يتباكون فقال ـ تعالى ـ :

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)(١٥)

وقوله ـ سبحانه ـ : (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) شروع في حكاية قصة يوسف مع إخوته ، بعد أن بين ـ سبحانه ـ صفة القرآن الكريم ، وبعد أن أخبر عما رآه يوسف في منامه ، وما قاله أبوه له.

وإخوة يوسف هم : رأوبين ، وشمعون ، ولاوى ، ويهوذا ، ويساكر ، وزبولون ، ودان ، ونفتالى ، وجاد ، وأشير ، وبنيامين.

٣٢١

والآيات : جمع آية والمراد بها هنا العبر والعظات والدلائل الدالة على قدرة الله ـ تعالى ـ ووجوب إخلاص العبادة له.

والمعنى : لقد كان في قصة يوسف مع إخوته عبر وعظات عظيمة ، ودلائل تدل على قدرة الله القاهرة ، وحكمته الباهرة ، وعلى ما للصبر وحسن الطوية من عواقب الخير والنصر ، وعلى ما للحسد والبغي من شرور وخذلان.

وقوله : «للسائلين» أى : لمن يتوقع منهم السؤال ، بقصد الانتفاع بما ساقه القرآن الكريم من مواعظ وأحكام.

أى : لقد كان فيما حدث بين يوسف وإخوته ، آيات عظيمة ، لكل من سأل عن قصتهم ، وفتح قلبه للانتفاع بما فيها من حكم وأحكام ، تشهد بصدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يبلغه عن ربه.

وهذا الافتتاح لتلك القصة ، كفيل بتحريك الانتباه لما يلقى بعد ذلك منها ، ومن تفصيل لأحداثها ، وبيان لما جرى فيها.

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ..).

بيان لما قاله إخوة يوسف فيما بينهم ، قبل أن ينفذوا جريمتهم.

و «إذ» ظرف متعلق بالفعل «كان» في قوله ـ سبحانه ـ قبل ذلك : (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ..).

واللام في قوله (لَيُوسُفُ) لتأكيد أن زيادة محبة أبيهم ليوسف وأخيه ، أمر ثابت ، لا يقبل التردد أو التشكك.

والمراد بأخيه : أخوه من أبيه وأمه وهو «بنيامين» وكان أصغر من يوسف ـ عليه‌السلام ـ أما بقيتهم فكانوا إخوة له من أبيه فقط.

ولم يذكروه باسمه ، للإشعار بأن محبة يعقوب له ، من أسبابها كونه شقيقا ليوسف ، ولذا كان حسدهم ليوسف أشد.

وجملة «ونحن عصبة» حالية. والعصبة كلمة تطلق على ما بين العشرة إلى الأربعين من الرجال ، وهي مأخوذة من العصب بمعنى الشد ، لأن كلا من أفرادها يشد الآخر ويقويه ويعضده ، أو لأن الأمور تعصب بهم. أى تشتد وتقوى.

أى : قال إخوة يوسف وهم يتشاورون في المكر به : ليوسف وأخوه «بنيامين» أحب إلى قلب

٣٢٢

أبينا منا ، مع أننا نحن جماعة من الرجال الأقوياء الذين عندهم القدرة على خدمته ومنفعته والدفاع عنه دون يوسف وأخيه.

وقولهم ـ كما حكى القرآن عنهم ـ : (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) تذييل قصدوا به درء الخطأ عن أنفسهم فيما يفعلونه بيوسف وإلقائه على أبيه الذي فرق بينهم ـ في زعمهم ـ في المعاملة.

والمراد بالضلال هنا : عدم وضع الأمور المتعلقة بالأبناء في موضعها الصحيح ، وليس المراد به الضلال في العقيدة والدين.

أى : إن أبانا لفي خطأ ظاهر ، حيث فضل في المحبة صبيين صغيرين على مجموعة من الرجال الأشداء النافعين له القادرين على خدمته.

قال القرطبي : لم يريدوا بقولهم (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الضلال في الدين إذ لو أرادوه لكانوا كفارا ، بل أرادوا : إن أبانا لفي ذهاب عن وجه التدبير في إيثاره اثنين على عشرة ، مع استوائهم في الانتساب إليه» (١).

وهذا الحكم منهم على أبيهم ليس في محله ، لأن يعقوب ـ عليه‌السلام ـ كان عنده من أسباب التفضيل ليوسف عليهم ما ليس عندهم.

قال الآلوسى ما ملخصه : يروى أن يعقوب ـ عليه‌السلام ـ كان يوسف أحب إليه لما يرى فيه من المناقب الحميدة ، فلما رأى الرؤيا تضاعفت له المحبة.

وقال بعضهم : إن زيادة حبه ليوسف وأخيه ، صغرهما ، وموت أمهما ، وقد قيل لإحدى الأمهات : أى بنيك أحب إليك؟ قالت : الصغير حتى يكبر ، والغائب حتى يقدم ، والمريض حتى يشفى.

ولا لوم على الوالد في تفضيله بعض ولده على بعض في المحبة لمثل ذلك وقد صرح غير واحد أن المحبة ليست مما يدخل تحت وسع البشر ...» (٢).

ثم أخبر ـ سبحانه ـ عما اقترحوه للقضاء على يوسف فقال ـ تعالى ـ : (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ، وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ).

ولفظ «اطرحوه» مأخوذ من الطرح ، ومعناه رمى الشيء وإلقاؤه بعيدا ، ولفظ «أرضا» منصوب على نزع الخافض ، والتنوين فيه للإبهام. أى : أرضا مجهولة.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٩ ص ١٣١.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٢ ص ١٧١.

٣٢٣

والمعنى : لقد بالغ أبونا في تفضيل يوسف وأخيه علينا ، مع أننا أولى بذلك منهما ؛ وما دام هو مصرا على ذلك ، فالحل أن تقتلوا يوسف ، أو أن تلقوا به في أرض بعيدة مجهولة حتى يموت فيها غريبا.

قال الآلوسى : «وحاصل المعنى : اقتلوه أو غربوه ، فإن التغريب كالقتل في حصول المقصود ، ولعمري لقد ذكروا أمرين مرين ، فإن الغربة كربة أية كربة ، ولله ـ تعالى ـ در القائل :

حسنوا القول وقالوا غربة

إنما الغربة للأحرار ذبح

وجملة «يخل لكم وجه أبيكم» جواب الأمر.

والخلو : معناه الفراغ. يقال خلا المكان يخلو خلوا وخلاء ، إذا لم يكن به أحد.

والمعنى : اقتلوا يوسف أو اقذفوا به في أرض بعيدة مجهولة حتى يموت ، فإنكم إن فعلتم ذلك ، خلصت لكم محبة أبيكم دون أن يشارككم فيها أحد ، فيقبل عليكم بكليته ، ويكون كل توجهه إليكم وحدكم ، بعد أن كان كل توجهه إلى يوسف.

قال صاحب الكشاف : «يخل لكم وجه أبيكم» أى : يقبل عليكم إقبالة واحدة ، لا يلتفت عنكم إلى غيركم والمراد سلامة محبته لهم ممن يشاركهم فيها ، وينازعهم إياها ، فكان ذكر الوجه لتصوير معنى إقباله عليهم ، لأن الرجل إذا أقبل على الشيء أقبل عليه بوجهه ...» (١).

وقوله : (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) معطوف على جواب الأمر.

أى : وتكونوا من بعد الفراغ من أمر يوسف بسبب قتله أو طرحه في أرض بعيدة ، قوما صالحين في دينكم ، بأن تتوبوا إلى الله بعد ذلك فيقبل الله توبتكم ، وصالحين في دنياكم بعد أن خلت من المنغصات التي كان يثيرها وجود يوسف بينكم.

وهكذا النفوس عند ما تسيطر عليها الأحقاد ، وتقوى فيها رذيلة الحسد ، تفقد تقديرها الصحيح للأمور ، وتحاول التخلص ممن يزاحمها بالقضاء عليه ، وتصور الصغائر في صورة الكبائر ، والكبائر في صورة الصغائر.

فإخوة يوسف هنا ، يرون أن محبة أبيهم لأخيهم جرم عظيم ، يستحق إزهاق روح الأخ. وفي الوقت نفسه يرون أن هذا الإزهاق للروح البريئة شيء هين ، في الإمكان أن يعودوا بعده قوما صالحين أمام خالقهم ، وأمام أبيهم ، وأمام أنفسهم.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٠٥.

٣٢٤

وقوله ـ سبحانه ـ (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ ، وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) بيان للرأى الذي اقترحه أحدهم ، واستقر عليه أمرهم.

قال القرطبي ما ملخصه : قوله (وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) قرأ أهل مكة وأهل البصرة وأهل الكوفة «في غيابة الجب» بالإفراد ـ وقرأ أهل المدينة «في غيابات الجب» ـ بالجمع ـ.

وكل شيء غيب عنك شيئا فهو غيابة ، ومنه قيل للقبر غيابة ـ قال الشاعر :

فإن أنا يوما غيبتني غيابتى

فسيروا بسيرى في العشيرة والأهل

والجب : الركية ـ أى الحفرة ـ التي لم تطو ـ أى لم تبن بالحجارة ـ فإذا طويت فهي بئر. وسميت جبا لأنها قطعت في الأرض قطعا. وجمع الجب جببة وجباب وأجباب.

وجمع بين الغيابة والجب ، لأنه أراد ألقوه في موضع مظلم من الجب حتى لا يلحقه نظر الناظرين ...» (١).

والسيارة : جمع سيار ، والمراد بهم جماعة المسافرين الذين يبالغون في السير ليصلوا إلى مقصودهم.

والمعنى : قال قائل من إخوة يوسف أفزعه ما هم مقدمون عليه بشأن أخيهم الصغير : لا تقتلوا يوسف ، لأن قتله جرم عظيم ، وبدلا من ذلك ، ألقوه في قعر الجب حيث يغيب خبره ، إلى أن يلتقطه من الجب بعض المسافرين ، فيذهب به إلى ناحية بعيدة عنكم ، وبذلك تستريحون منه ويخل لكم وجه أبيكم.

ولم يذكر القرآن اسم هذا القائل أو وصفه ، لأنه لا يتعلق بذكر ذلك غرض ، وقد رجح بعض المفسرين أن المراد بهذا القائل «يهوذا».

والفائدة في وصفه بأنه منهم ، الإخبار بأنهم لم يجمعوا على قتله أو طرحه في أرض بعيدة حتى يدركه الموت.

وأتى باسم يوسف دون ضميره. لاستدرار عطفهم عليه ، وشفقتهم به ، واستعظام أمر قتله.

وجواب الشرط في قوله «إن كنتم فاعلين» محذوف لدلالة «وألقوه» عليه.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٩ ص ١٣٢.

٣٢٥

والمعنى : إن كنتم فاعلين ما هو خير وصواب ، فألقوه في غيابة الجب ، ولا تقتلوه ولا تطرحوه أرضا.

وفي هذه الجملة من هذا القائل ، محاولة منه لتثبيطهم عما اقترحوه من القتل أو التغريب بأسلوب بليغ ، حيث فوض الأمر إليهم ، تعظيما لهم ، وحذرا من سوء ظنهم به ، فكان أمثلهم رأيا ، وأقربهم إلى التقوى.

قالوا : وفي هذا الرأى عبرة في الاقتصاد عند الانتقام ، والاكتفاء بما حصل به الغرض دون إفراط ، لأن غرضهم إنما هو إبعاد يوسف عن أبيهم. وهذا الإبعاد يتم عن طريق إلقائه في غيابة الجب.

ثم حكى ـ سبحانه ـ محاولاتهم مع أبيهم ، ليأذن لهم بخروج يوسف معهم فقال : (قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ ، أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).

أى : قال إخوة يوسف لأبيهم ـ محاولين استرضاءه لاستصحاب يوسف معهم ـ : يا أبانا «مالك لا تأمنا على يوسف» أى : أى شيء جعلك لا تأمنا على أخينا يوسف في خروجه معنا ، والحال أننا له ناصحون ، فهو أخونا ونحن لا نريد له إلا الخير الخالص ، والود الصادق.

وفي ندائهم له بلفظ «يا أبانا» استمالة لقلبه ، وتحريك لعطفه ، حتى يعدل عن تصميمه على عدم خروج يوسف معهم.

والاستفهام في قولهم «مالك لا تأمنا ..» للتعجيب من عدم ائتمانهم عليه مع أنهم إخوته ، وهو يوحى بأنهم بذلوا محاولات قبل ذلك في اصطحابه معهم ولكنها جميعا باءت بالفشل.

ثم أضافوا إلى ذلك قولهم (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ ..).

والرتع والرتوع هو الاتساع في الملاذ والتنعم في العيش ، يقال : رتع الإنسان في النعمة إذا أكل ما يطيب له ورتعت الدابة إذا أكلت حتى شبعت ، وفعله كمنع والمراد باللعب هنا الاستجمام ورفع السآمة ، كالتسابق عن طريق العدو ، وما يشبه ذلك من ألوان الرياضة المباحة.

أى : أرسله معنا غدا ليتسع في أكل الفواكه ونحوها ، وليدفع السآمة عن نفسه عن طريق القفز والجري والتسابق معنا.

(وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ). كل الحفظ من أن يصيبه مكروه ، أو يمسه سوء.

٣٢٦

وقد أكدوا هذه الجملة والتي قبلها وهي قوله «وإنا له لناصحون» بألوان من المؤكدات ، لكي يستطيعوا الحصول على مقصودهم في اصطحاب يوسف معهم.

وهو أسلوب يبدو فيه التحايل الشديد على أبيهم ، لإقناعه بما يريدون تنفيذه وتحقيقه من مآرب سيئة.

ثم أخبر ـ سبحانه ـ عما رد به عليهم أبوهم فقال : (قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ).

والحزن : الغم الحاصل لوقوع مكروه أو فقد محبوب.

والخوف : فزع النفس من مكروه يتوقع حصوله.

والذئب : حيوان معروف بعدوانه على الضعاف من الإنسان ومن الحيوان ، وأل فيه للجنس ، والمراد به أى فرد من أفراد الذئاب.

أى : قال يعقوب لأبنائه ردا على إلحاحهم في طلب يوسف للذهاب معهم يا أبنائى إننى ليحزنني حزنا شديدا فراق يوسف لي ، وفضلا عن ذلك فإننى أخشى إذا أخذتموه معكم في رحلتكم أن يأكله الذئب ، وأنتم عنه غافلون ، بسبب اشتغالكم بشئون أنفسكم ، وقلة اهتمامكم برعايته وحفظه.

قالوا : وخص الذئب بالذكر من بين سائر الحيوانات ، ليشعرهم بأن خوفه عليه مما هو أعظم من الذئب توحشا وافتراسا أشد وأولى.

أو خصه بالذكر لأن الأرض التي عرفوا بالنزول فيها كانت كثيرة الذئاب.

وقوله ـ سبحانه ـ : (قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) رد مؤكد من إخوة يوسف على تخوف أبيهم وتردده في إرساله معهم. إذ اللام في قوله : «لئن» موطئة للقسم ، وجواب القسم قوله : «إنا إذا لخاسرون».

أى : قال إخوة يوسف لأبيهم محاولين إدخال الطمأنينة على قلبه ، وإزالة الحزن والخوف عن نفسه : يا أبانا والله لئن أكل الذئب يوسف وهو معنا ، ونحن عصابة من الرجال الأقوياء الحريصين على سلامته ، إنا إذا في هذه الحالة لخاسرون خسارة عظيمة ، نستحق بسببها عدم الصلاح لأى شيء نافع.

وأخيرا استسلم الأب ، لإلحاح أبنائه الكبار ، ليتحقق قدر الله الذي قدره على يوسف. ولتسير قصة حياته في الطريق الذي شاء الله تعالى ـ له أن تسير فيه.

وقد حكى القرآن ذلك بأسلوبه البليغ فقال : (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَة

٣٢٧

الْجُبِّ. وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ).

أى : فلما أقنعوا أباهم بإرسال يوسف معهم ، وذهبوا به في الغد إلى حيث يريدون ، وأجمعوا أمرهم على أن يلقوا به في قعر الجب ، فعلوا به ما فعلوا من الأذى ، ونفذوا ما يريدون تنفيذه بدون رحمة أو شفقة.

فالفاء في قوله فلما : للتفريع على كلام مقدر ، وجواب «لما» محذوف ، دل عليه السياق. وفعل «أجمع» يتعدى إلى المفعول بنفسه ، ومعناه العزم والتصميم على الشيء ، تقول : أجمعت المسير أى : عزمت عزما قويا عليه.

وقوله «أن يجعلوه» مفعول أجمعوا.

قال الآلوسى : «والروايات في كيفية إلقائه في الجب ، وما قاله لإخوته عند إلقائه وما قالوه له كثيرة ، وقد تضمنت ما يلين له الصخر ، لكن ليس فيها ما له سند يعول عليه» (١).

والضمير في قوله ، وأوحينا إليه يعود على يوسف ـ عليه‌السلام ـ.

أى : وأوحينا إليه عند إلقائه في الجب عن طريق الإلهام القلبي ، أو عن طريق جبريل ـ عليه‌السلام ـ أو عن طريق الرؤيا الصالحة. (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا) أى : لتخبرنهم في الوقت الذي يشاؤه الله ـ تعالى ـ في مستقبل الأيام ، بما فعلوه معك في صغرك من إلقائك في الجب ، ومن إنجاء الله ـ تعالى ـ لك ، فالمراد بأمرهم هذا : إيذاؤهم له وإلقاؤهم إياه في قعر الجب ، ولم يصرح ـ سبحانه ـ به ، لشدة شناعته.

وجملة «وهم لا يشعرون» حالية ، أى : والحال أنهم لا يحسون ولا يشعرون في ذلك الوقت الذي تخبرهم فيه بأمرهم هذا ، بأنك أنت يوسف. لاعتقادهم أنك قد هلكت ولطول المدة التي حصل فيها الفراق بينك وبينهم ، ولتباين حالك وحالهم في ذلك الوقت ، فأنت ستكون الأمين على خزائن الأرض ، وهم سيقدمون عليك فقراء يطلبون عونك ورفدك.

وقد تحقق كل ذلك ـ كما يأتى ـ عند تفسير قوله تعالى ـ : (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ ..).

وكان هذا الإيحاء ـ على الراجح ـ قبل أن يبلغ سن الحلم ، وقبل أن يكون نبيا.

وكان المقصود منه ، إدخال الطمأنينة على قلبه ، وتبشيره بما يصير إليه أمره من عز وغنى وسلطان.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٢ ص ١٧٧.

٣٢٨

قالوا : وكان هذا الجب الذي ألقى فيه يوسف على بعد ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب ـ عليه‌السلام ـ بفلسطين.

ثم حكى ـ سبحانه ـ أقوالهم لأبيهم بعد أن فعلوا فعلتهم وعادوا إليه ليلا يبكون فقال :

(وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ)(١٨)

فقوله : (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ).

والعشاء : وقت غيبوبة الشفق الباقي من بقايا شعاع الشمس ، وبدء حلول الظلام والمراد بالبكاء هنا : البكاء المصطنع للتمويه والخداع لأبيهم ، حتى يقنعوه ـ في زعمهم ـ أنهم لم يقصروا في حق أخيهم.

أى : وجاءوا أباهم بعد أن أقبل الليل بظلامه يتباكون ، متظاهرين بالحزن والأسى لما حدث ليوسف ، وفي الأمثال : «دموع الفاجر بيديه».

(قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) أى : نتسابق عن طريق الرمي بالسهام ، أو على الخيل ، أو على الأقدام. يقال : فلان وفلان استبقا أى : تسابقا حتى ينظر أيهما يسبق الآخر.

(وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا) أى : عند الأشياء التي نتمتع بها وننتفع في رحلتنا ، كالثياب والأطعمة وما يشبه ذلك.

(فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) في تلك الفترة التي تركناه فيها عند متاعنا.

والمراد : قتله الذئب ، ثم أكله دون أن يبقى منه شيئا ندفنه.

(وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) أى : وما أنت بمصدق لنا فيما أخبرناك به من أن

٣٢٩

يوسف قد أكله الذئب ، حتى ولو كنا صادقين في ذلك ، لسوء ظنك بنا ، وشدة محبتك له.

وهذه الجملة الكريمة توحى بكذبهم على أبيهم ، وبمخادعتهم له ، ويكاد المريب أن يقول خذوني ـ كما يقولون ـ.

ولكنهم لم يكتفوا بهذا التباكي وبهذا القول ، بل أضافوا إلى ذلك تمويها آخر حكاه القرآن في قوله : (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ...) أى : بدم ذي كذب ، فهو مصدر بتقدير مضافه ، أو وصف الدم بالمصدر مبالغة ، حتى لكأنه الكذب بعينه ، والمصدر هنا بمعنى المفعول ، كالخلق بمعنى المخلوق ، أى : بدم مكذوب.

والمعنى : وبعد أن ألقوا بيوسف في الجب ، واحتفظوا بقميصه معهم ، ووضعوا على هذا القميص دما مصطنعا ليس من جسم يوسف ، وإنما من جسم شيء آخر قد يكون ظبيا وقد يكون خلافه.

وقال ـ سبحانه ـ (عَلى قَمِيصِهِ) للإشعار بأنه دم موضوع على ظاهر القميص وضعا متكلفا مصطنعا ، ولو كان من أثر افتراس الذئب لصاحبه ، لظهر التمزق والتخريق في القميص ، ولتغلغل الدم في قطعة منه.

ولقد أدرك يعقوب ـ عليه‌السلام ـ من قسمات وجوههم ، ومن دلائل حالهم ، ومن نداء قلبه المفجوع أن يوسف لم يأكله الذئب ، وأن هؤلاء المتباكين هم الذين دبروا له مكيدة ما ، وأنهم قد اصطنعوا هذه الحيلة المكشوفة مخادعة له ، ولذا جابههم بقوله : (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ...).

والتسويل : التسهيل والتزيين. يقال : سولت لفلان نفسه هذا الفعل أى زينته وحسنته له ، وصورته له في صورة الشيء الحسن مع أنه قبيح.

أى : قال يعقوب لأبنائه بأسى ولوعة بعد أن فعلوا ما فعلوا وقالوا ما قالوا : قال لهم ليس الأمر كما زعمتم من أن يوسف قد أكله الذئب ، وإنما الحق أن نفوسكم الحاقدة عليه هي التي زينت لكم أن تفعلوا معه فعلا سيئا قبيحا ، ستكشف الأيام عنه بإذن ربي ومشيئته.

ونكر الأمر في قوله : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) لاحتماله عدة أشياء مما يمكن أن يؤذوا به يوسف ، كالقتل ، أو التغريب ، أو البيع في الأسواق لأنه لم يكن يعلم على سبيل اليقين ما فعلوه به.

وفي هذا التنكير والإبهام ـ أيضا ـ ما فيه من التهويل والتشنيع لما اقترفوه في حق أخيهم.

٣٣٠

وقوله (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أى : فصبرى صبر جميل ، وهو الذي لا شكوى فيه لأحد سوى الله ـ تعالى ـ ولا رجاء معه إلا منه ـ سبحانه ـ.

ثم أضاف إلى ذلك قوله : (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) أى : والله ـ تعالى ـ هو الذي أستعين به على احتمال ما تصفون من أن ابني يوسف قد أكله الذئب.

أو المعنى : والله ـ تعالى ـ وحده هو المطلوب عونه على إظهار حقيقة ما تصفون ، وإثبات كونه كذبا ، وأن يوسف ما زال حيا ، وأنه ـ سبحانه ـ سيجمعنى به في الوقت الذي يشاؤه.

قال الآلوسى : «أخرج ابن ابى حاتم وأبو الشيخ عن قتادة : أن إخوة يوسف ـ بعد أن ألقوا به في الجب ـ أخذوا ظبيا فذبحوه ، ولطخوا بدمه قميصه ، ولما جاءوا به إلى أبيهم جعل يقلبه ويقول : تالله ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا الذئب!! أكل ابني ولم يمزق عليه قميصه ...» (١).

وقال القرطبي : «استدل الفقهاء بهذه الآية في إعمال الأمارات في مسائل الفقه كالقسامة وغيرها ، وأجمعوا على أن يعقوب ـ عليه‌السلام ـ قد استدل على كذب أبنائه بصحة القميص ، وهكذا يجب على الحاكم أن يلحظ الأمارات والعلامات ...» (٢).

وقال الشيخ القاسمى ما ملخصه : «وفي الآية من الفوائد : أن الحسد يدعو إلى المكر بالمحسود وبمن يراعيه ... وأن الحاسد إذا ادعى النصح والحفظ والمحبة ، لم يصدق ، وأن من طلب مراده بمعصية الله ـ تعالى ـ فضحه الله ـ عزوجل ـ ، وأن القدر كائن ، وأن الحذر لا ينجى منه ...» (٣).

وإلى هنا نجد الآيات الكريمة قد حكت لنا بأسلوبها البليغ ، وتصويرها المؤثر ، ما تآمر به إخوة يوسف عليه ، وما اقترحوه لتنفيذ مكرهم ، وما قاله لهم أوسطهم عقلا ورأيا ، وما تحايلوا به على أبيهم لكي يصلوا إلى مآربهم ، وما رد به عليهم أبوهم ، وما قالوه له بعد أن نفذوا جريمتهم في أخيهم. بأن ألقوا به في الجب ...

ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك ، لتقص علينا مرحلة أخرى من مراحل حياة يوسف ـ عليه‌السلام ـ حيث حدثتنا عن انتشاله من الجب ، وعن بيعه بثمن بخس وعن وصية الذي اشتراه لامرأته ، وعن مظاهر رعاية الله ـ تعالى ـ له فقال ـ سبحانه ـ :

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٢ ص ١٧٩.

(٢) تفسير القرطبي ج ٩ ص ١٥٠.

(٣) تفسير القاسمى ج ٩ ص ٣٥٢٠.

٣٣١

(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠) وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)(٢٢)

فقوله ـ سبحانه ـ : (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ ، فَأَدْلى دَلْوَهُ ...) شروع في الحديث عما جرى ليوسف من أحداث بعد أن ألقى به إخوته في الجب.

والسيارة : جماعة المسافرين ، وكانوا ـ كما قيل ـ متجهين من بلاد الشام إلى مصر.

والوارد : هو الذي يرد الماء ليستقى للناس الذين معه. ويقع هذا اللفظ على الفرد والجماعة. فيقال لكل من يرد الماء وارد ، كما يقال للماء مورود.

وقوله (فَأَدْلى) من الإدلاء بمعنى إرسال الدلو في البئر لأخذ الماء.

والدلو : إناء معروف يوضع فيه الماء.

وفي الآية الكريمة كلام محذوف دل عليه المقام ، والتقدير :

وبعد أن ألقى إخوة يوسف به في الجب وتركوه وانصرفوا لشأنهم ، جاءت إلى ذلك المكان قافلة من المسافرين ، فأرسلوا واردهم ليبحث لهم عن ماء ليستقوا ، فوجد جبا ، فأدلى دلوه فيه ، فتعلق به يوسف ، فلما خرج ورآه فرح به وقال : يا بشرى هذا غلام.

٣٣٢

وأوقع النداء على البشرى ، للتعبير عن ابتهاجه وسروره ، حتى لكأنها شخص عاقل يستحق النداء ، أى : يا بشارتي أقبلى فهذا أوان إقبالك.

وقيل المنادى محذوف والتقدير : يا رفاقى في السفر أبشروا فهذا غلام ، وقد خرج من الجب.

وقرأ أهل المدينة ومكة : يا بشر اى هذا غلام. بإضافة البشرى إلى ياء المتكلم. والضمير المنصوب وهو الهاء في قوله : (وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً) يعود إلى يوسف.

أما الضمير المرفوع فيعود إلى السيارة. وأسر من الإسرار الذي هو ضد الإعلان.

والبضاعة : عروض التجارة ومتاعها. وهذا اللفظ مأخوذ من البضع بمعنى القطع ، وأصله جملة من اللحم تبضع أى : تقطع. وهو حال من الضمير المنصوب في (وَأَسَرُّوهُ).

والمعنى : وأخفى جماعة المسافرين خبر التقاط يوسف من الجب مخافة أن يطلبه أحد من السكان المجاورين للجب ، واعتبره بضاعة سرية لهم ، وعزموا على بيعه على أنه من العبيد الأرقاء.

ولعل يوسف ـ عليه‌السلام ـ قد أخبرهم بقصته بعد إخراجه من الجب.

ولكنهم لم يلتفتوا إلى ما أخبرهم به طمعا في بيعه والانتفاع بثمنه.

ومن المفسرين من يرى أن الضمير المرفوع في قوله (وَأَسَرُّوهُ) يعود على الوارد ورفاقه ، فيكون المعنى :

وأسر الوارد ومن معه أمر يوسف عن بقية أفراد القافلة ، مخافة أن يشاركوهم في ثمنه إذا علموا خبره ، وزعموا أن أهل هذا المكان الذي به الجب دفعوه إليهم ليبيعوه لهم في مصر على أنه بضاعة لهم.

ومنهم من يرى أن الضمير السابق يعود إلى إخوة يوسف.

قال الشوكانى ما ملخصه : وذلك أن يهوذا كان يأتى إلى يوسف كل يوم بالطعام. فأتاه يوم خروجه من الجب فلم يجده ، فأخبر إخوته بذلك ، فأتوا إلى السيارة وقالوا لهم : إن الغلام الذي معكم عبد لنا قد أبق ، فاشتروه منهم بثمن بخس ، وسكت يوسف مخافة أن يأخذه إخوته فيقتلوه» (١).

وعلى هذا الرأى يكون معنى (وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً) : أخفى إخوة يوسف كونه أخا لهم ،

__________________

(١) تفسير الشوكانى ج ٣ ص ١٣.

٣٣٣

واعتبروه عرضا من عروض التجارة القابلة للبيع والشراء.

ويكون المراد بقوله ـ تعالى ـ بعد ذلك (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ) الشراء الحقيقي ، بمعنى أن السيارة اشتروا يوسف من إخوته بثمن بخس.

والحق أن الرأى الأول هو الذي تطمئن إليه النفس ، لأنه هو الظاهر من معنى الآية ، ولأنه بعيد عن التكلف الذي يرى واضحا في القولين الثاني والثالث.

وقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) أى : لا يخفى عليه شيء من أسرارهم. ومن عملهم السيئ في حق يوسف. حيث إنهم استرقوه وباعوه بثمن بخس ، وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم. كما جاء في الحديث الشريف.

وقوله : ـ سبحانه ـ (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) بيان لما فعله السيارة بيوسف بعد أن أسروه بضاعة.

وقوله (شَرَوْهُ) هنا بمعنى باعوه.

والبخس : النقص ، يقال بخس فلان فلانا حقه ، إذا نقصه وعابه. وهو هنا بمعنى المبخوس.

و (دَراهِمَ) جمع درهم ، وهي بدل من (بِثَمَنٍ).

و (مَعْدُودَةٍ) صفة لدراهم ، وهي كناية عن كونها قليلة ، لأن الشيء القليل يسهل عده ، بخلاف الشيء الكثير ، فإنه في الغالب يوزن وزنا.

والمعنى : أن هؤلاء المسافرين بعد أن أخذوا يوسف ليجعلوه عرضا من عروض تجارتهم ، باعوه في الأسواق بثمن قليل تافه ، وهو عبارة عن دراهم معدودة ، ذكر بعضهم أنها لا تزيد على عشرين درهما.

وقوله : (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) بيان لعدم حرصهم على بقائه معهم ، إذ أصل الزهد قلة الرغبة في الشيء ، تقول زهدت في هذا الشيء ، إذا كنت كارها له غير مقبل عليه.

أى : وكان هؤلاء الذين باعوه من الزاهدين في بقائه معهم ، الراغبين في التخلص منه بأقل ثمن قبل أن يظهر من يطالبهم به.

قال الآلوسى ما ملخصه : «وزهدهم فيه سببه أنهم التقطوه من الجب ، والملتقط للشيء متهاون به لا يبالى أن يبيعه بأى ثمن خوفا من أن يعرض له مستحق ينزعه منه ...» (١).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٢ ص ١٠٣.

٣٣٤

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ...) بيان لبعض مظاهر رعاية الله ـ تعالى ـ ليوسف ـ عليه‌السلام ـ.

والذي اشتراه ، قالوا إنه كان رئيس الشرطة لملك مصر في ذلك الوقت ولقبه القرآن بالعزيز كما سيأتى في قوله ـ تعالى ـ : (قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ...).

و (مِنْ مِصْرَ) صفة لقوله (الَّذِي اشْتَراهُ).

وامرأته : المراد بها زوجته ، واسمها كما قيل زليخا أو راعيل.

ومثواه من المثوى وهو مكان الإقامة والاستقرار. يقال : ثوى فلان بمكان كذا ، إذا أطال الإقامة به. ومنه قوله ـ تعالى ـ (وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ...) أى مقيما معهم.

أى : وقال الرجل المصرى الذي اشترى يوسف لامرأته : اجعلي محل إقامته كريما ، وأنزليه منزلا حسنا مرضيا.

وهذا كناية عن وصيته لها بإكرامه على أبلغ وجه ، لأن من أكرم المحل بتنظيفه وتهيئته تهيئة حسنة فقد أكرم صاحبه.

قال صاحب الكشاف : قوله (أَكْرِمِي مَثْواهُ) أى : اجعلي منزله ومقامه عندنا كريما : أى حسنا مرضيا بدليل قوله بعد ذلك (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ).

والمراد : تفقديه بالإحسان ، وتعهديه بحسن الملكة ، حتى تكون نفسه طيبة في صحبتنا ، ساكنة في كنفنا. ويقال للرجل : كيف أبو مثواك وأم مثواك؟ لمن ينزل به من رجل أو امرأة ، يراد هل تطيب نفسك بثوائك عنده وهل يراعى حق نزولك به؟ واللام في (لِامْرَأَتِهِ) متعلق بقال ...» (١).

وقوله : (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ...) بيان لسبب أمره لها بإكرام مثواه.

أى : عسى هذا الغلام أن ينفعنا في قضاء مصالحنا ، وفي مختلف شئوننا ، أو نتبناه فيكون منا بمنزلة لولد ، فإنى أرى فيه علامات الرشد والنجابة ، وأمارات الأدب وحسن الخلق.

قالوا وهذه الجملة (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) توحى بأنهما لم يكن عندهما أولاد. والكاف في قوله ـ سبحانه ـ (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) في محل نصب ، على أنه نعت لمصدر محذوف والإشارة الى ما تقدم من إنجائه من إخوته ، وانتشاله من الجب ، ومحبة العزيز له ..

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣١٠.

٣٣٥

و «مكنا» من التمكين بمعنى التثبيت ، والمراد بالأرض : أرض مصر التي نزل فيها.

أى : ومثل ذلك التمكين البديع الدال على رعايتنا له ، مكنا ليوسف في أرض مصر ، حتى صار أهلا للأمر والنهى فيها.

وقوله ـ سبحانه ـ (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) علة لمعلل محذوف ، فكأنه قيل : وفعلنا ذلك التمكين له ، لنعلمه من تأويل الأحاديث ، بأن نهبه من صدق اليقين ، واستنارة العقل ، ما يجعله يدرك معنى الكلام إدراكا سليما ، ويفسر الرؤى تفسيرا صحيحا صادقا.

وقوله : (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) تذييل قصد به بيان قدرة الله ـ تعالى ـ ونفاذ مشيئته.

فأمر الله هنا : هو ما قدره وأراده.

أى : والله ـ تعالى ـ متمم ما قدره وأراده ، لا يمنعه من ذلك مانع ، ولا ينازعه منازع ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك حق العلم ، فيما يأتون ويذرون من أقوال وأفعال.

والتعبير بقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) احتراس لإنصاف ومدح القلة من الناس الذين يعطيهم الله ـ تعالى ـ من فضله ما يجعلهم لا يندرجون في الكثرة التي لا تعلم ، بل هو ـ سبحانه ـ يعطيهم من فضله ما يجعلهم يعلمون ما لا يعلمه غيرهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ مظهرا آخر من مظاهر إنعامه على يوسف فقال : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).

والأشد : قوة الإنسان ، وبلوغه النهاية في ذلك ، مأخوذ من الشدة بمعنى القوة والارتفاع ، يقال : شد النهار إذا ارتفع.

ويرى بعضهم أنه مفرد جاء بصيغة الجمع ويرى آخرون أنه جمع لا واحد له من لفظه وقيل هو جمع شدة كأنعم ونعمة.

والمعنى : وحين بلغ يوسف ـ عليه‌السلام ـ منتهى شدته وقوته ، وهي السن التي كان فيها ـ على ما قيل ـ ما بين الثلاثين والأربعين.

(آتَيْناهُ) أى : أعطيناه بفضلنا وإحساننا.

(حُكْماً) أى : حكمة ، وهي الإصابة في القول والعمل أو هي النبوة.

و (عِلْماً) أى فقها في الدين. وفهما سليما لتفسير الرؤى ، وإدراكا واسعا لشئون الدين والدنيا.

وقوله : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أى : ومثل هذا الجزاء الحسن والعطاء الكريم ،

٣٣٦

نعطى ونجازي الذين يحسنون أداء ما كلفهم الله ـ تعالى ـ به ، فكل من أحسن في أقواله وأعماله أحسن الله ـ تعالى ـ جزاءه.

ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك ، لتحدثنا عن مرحلة من أدق المراحل وأخطرها ، في حياة يوسف ـ عليه‌السلام ـ وهي مرحلة التعرض للفتن والمؤامرات بعد أن بلغ أشده ، وآتاه الله ـ تعالى ـ حكما وعلما ، وقد واجه يوسف ـ عليه‌السلام ـ هذه الفتن بقلب سليم ، وخلق قويم ، فنجاه الله ـ تعالى ـ منها.

استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكى بأسلوبها البليغ ما فعلته معه امرأة العزيز من ترغيب وترهيب ، وإغراء وتهديد ... فتقول :

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ)(٢٩)

٣٣٧

وقوله ـ سبحانه ـ (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ ...) رجوع إلى شرح ما جرى ليوسف في منزل العزيز بعد أن أمر امرأته بإكرام مثواه ، وما كان من حال تلك المرأة مع يوسف ، وكيف أنها نظرت إليه بعين ، تخالف العين التي نظر بها إليه زوجها.

والمراودة ـ كما يقول صاحب الكشاف ـ مفاعلة من راد يرود إذا جاء وذهب ، كأن المعنى : خادعته عن نفسه ، أى : فعلت معه ما يفعله المخادع لصاحبه عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده ، يحتال أن يغلبه عليه ويأخذه منه ، وهو عبارة عن التحايل لمواقعته إياها (١).

والتعبير عن حالها معه بالمراودة المقتضية لتكرار المحاولة ، للإشعار بأنها كان منها الطلب المستمر ، المصحوب بالإغراء والترفق والتحايل على ما تشتهيه منه بشتى الوسائل والحيل. وكان منه ـ عليه‌السلام ـ الإباء والامتناع عما تريده خوفا من الله ـ تعالى ..

وقال ـ سبحانه ـ (الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها) دون ذكر لاسمها ، سترا لها ، وابتعادا عن التشهير بها ، وهذا من الأدب السامي الذي التزمه القرآن في تعبيراته وأساليبه ، حتى يتأسى أتباعه بهذا اللون من الأدب في التعبير.

والمراد ببيتها : بيت سكناها ، والإخبار عن المراودة بأنها كانت في بيتها. أدعى لإظهار كمال نزاهته عليه‌السلام ـ فإن كونه في بيتها يغرى بالاستجابة لها ، ومع ذلك فقد أعرض عنها ، ولم يطاوعها في مرادها.

وعدى فعل المراودة بعن ، لتضمنه معنى المخادعة.

قال بعض العلماء : و «عن» هنا للمجاوزة ، أى : راودته مباعدة له عن نفسه ، أى : بأن يجعل نفسه لها ، والظاهر أن هذا التركيب من مبتكرات القرآن الكريم ، فالنفس هنا كناية عن غرض المواقعة ، قاله ابن عطية ، أى : فالنفس أريد بها عفافه وتمكينها منه لما تريد ، فكأنها تراوده عن أن يسلم إليها إرادته وحكمه في نفسه» (٢).

وقوله (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) أى : أبواب بيت سكناها الذي تبيت فيه بابا فبابا ، قيل : كانت الأبواب سبعة.

والمراد أنها أغلقت جميع الأبواب الموصلة إلى المكان الذي راودته فيه إغلاقا شديدا محكما ، كما يشعر بذلك التضعيف في «غلّقت» زيادة في حمله على الاستجابة لها.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣١٠.

(٢) تفسير التحرير والتنوير ج ١٢ ص ٢٥٠ للشيخ الفاضل بن عاشور.

٣٣٨

ثم أضافت إلى كل تلك المغريات أنها قالت له : هيت لك ، أى : ها أنا ذا مهيئة لك فأسرع في الإقبال على ...

وهذه الدعوة السافرة منها له ، تدل على أن تلك المرأة كانت قد بلغت النهاية في الكشف عن رغبتها ، وأنها قد خرجت عن المألوف من بنات جنسها ، فقد جرت العادة أن تكون المرأة مطلوبة لا طالبة ...

و «هيت» اسم فعل أمر بمعنى أقبل وأسرع ، فهي كلمة حض وحث على الفعل ، واللام في «لك» لزيادة بيان المقصود بالخطاب ، كما في قولهم : سقيا لك وشكرا لك. وهي متعلقة بمحذوف فكأنما تقول : إرادتى كائنة لك.

قال الجمل ما ملخصه : «ورد في هذه الكلمة قراءات : «هيت» كليت ، و «هيت» كفيل و «هيت» كحيث ، و «هئت» بكسر الهاء وضم التاء ، و «هئت» بكسر الهاء وفتح التاء.

ثم قال : فالقراءات السبعية خمسة ، وهذه كلها لغات في هذه الكلمة ، وهي في كلها اسم فعل بمعنى هلم أى أقبل وتعال (١).

وقوله ـ سبحانه ـ (قالَ مَعاذَ اللهِ ، إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) بيان لما ردّ به يوسف عليها ، بعد أن تجاوزت في إثارته كل حد.

و «معاذ» مصدر أضيف إلى لفظ الجلالة ، وهو منصوب بفعل محذوف أى : قال يوسف في الرد عليها : أعوذ بالله معاذا مما تطلبينه منى ، وأعتصم به اعتصاما مما تحاولينه معى ، فإن ما تطلبينه وتلحين في طلبه يتنافى مع الدين والمروءة والشرف .. ولا يفعله إلا من خبث منبته ، وساء طبعه ، وأظلم قلبه.

وقوله (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) تعليل لنفوره مما دعته إليه ، واستعاذ بالله منه.

والضمير في «إنه» يصح أن يعود إلى الله ـ تعالى ـ فيكون لفظ ربي بمعنى خالقي. والتقدير : قال يوسف في الرد عليها : معاذ الله أن أفعل الفحشاء والمنكر ، بعد أن أكرمنى الله ـ تعالى ـ بما أكرمنى به من النجاة من الجب ، ومن تهيئة الأسباب التي جعلتني أعيش معززا مكرما ، وإذا كان ـ سبحانه ـ قد حباني كل هذه النعم فكيف أرتكب ما يغضبه؟.

وجوز بعضهم عودة الضمير في «إنه» إلى زوجها ، فيكون لفظ ربي بمعنى سيدي

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٤٤٤.

٣٣٩

ومالكى ، والتقدير : معاذ الله أن أقابل من اشترانى بماله ، وأحسن منزلي ، وأمرك بإكرامى ـ بالخيانة له في عرضه.

وفي هذه الجملة الكريمة تذكير لها بألطف أسلوب بحقوق الله ـ تعالى ـ وبحقوق زوجها ، وتنبيه لها إلى وجوب الإقلاع عما تريده منه من مواقعتها ، لأنه يؤدى إلى غضب الله وغضب زوجها عليها.

وجملة (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) تعليل آخر لصدها عما تريده منه.

والفلاح : الظفر وإدراك المأمول.

أى : إن كل من ارتكب ما نهى الله ـ تعالى ـ عنه ، تكون عاقبته الخيبة والخسران وعدم الفلاح في الدنيا والآخرة فكيف تريدين منى أن أكون كذلك؟.

هذا ، والمتأمل في هذه الآية الكريمة يرى أن القرآن الكريم قد قابل دواعي الغواية الثلاث التي جاهرت بها امرأة العزيز والمتمثلة في المراودة ، وتغليق الأبواب ، وقولها ، هيت لك : بدواعى العفاف الثلاث التي رد بها عليها يوسف ، والمتمثلة في قوله ـ كما حكى القرآن عنه ـ (مَعاذَ اللهِ ، إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ).

وذلك ليثبت أن الاعتصام بالعفاف والشرف والأمانة ، كان سلاح يوسف ـ عليه‌السلام ـ في تلك المعركة العنيفة بين نداء العقل ونداء الشهوة ...

ولكن نداء العقل ونداء الشهوة الجامحة لم ينته عند هذا الحد ، بل نرى القرآن الكريم يحكي لنا بعد ذلك صداما آخر بينهما فيقول : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ ...).

وهذه الآية الكريمة من الآيات التي خلط المفسرون فيها بين الأقوال الصحيحة والأقوال السقيمة.

وسنبين أولا الرأى الذي نختاره في تفسيرها ، ثم نتبعه بعد ذلك بغيره فنقول : الهمّ : المقاربة من الفعل من غير دخول فيه ، تقول هممت على فعل هذا الشيء ، إذا أقبلت نفسك عليه دون أن تفعله.

وقال : بعض العلماء : الهم نوعان : هم ثابت معه عزم وعقد ورضا ، وهو مذموم مؤاخذ به صاحبه ، وهمّ بمعنى خاطر وحديث نفس ، من غير تصميم وهو غير مؤاخذ به صاحبه ، لأن خطور المناهي في الصدور ، وتصورها في الأذهان ، لا مؤاخذة بها ما لم توجد في الأعيان.

روى الشيخان وأهل السنن عن أبى هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله

٣٤٠