التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0657-4
الصفحات: ٦٠٢

والرواسي : الجبال مأخوذ من الرسو ، وهو ثبات الأجسام الثقيلة ، يقال : رسا الشيء يرسو رسوا ورسوّا ، إذا ثبت واستقر ، وأرسيت الوتد في الأرض إذا أثبته فيها.

ولفظ رواسى : صفة لموصوف محذوف. وهو من الصفات التي تغنى عن ذكر موصوفها.

والأنهار : جمع نهر ، وهو مجرى الماء الفائض ، ويطلق على الماء السائل على الأرض.

والمراد بالثمرات : ما يشملها هي وأشجارها ، وإنما ذكرت الثمرات وحدها ، لأنها هي موضع المنة والعبرة.

والمراد بالزوجين : الذكر والأنثى ، وقيل المراد بهما الصنفان في اللون أو في الطعم أو في القدر وما أشبه ذلك.

والمعنى : وهو ـ سبحانه ـ الذي بسط الأرض طولا وعرضا إلى المدى الذي لا يدركه البصر ، ليتيسر الاستقرار عليها.

ولا تنافى بين مدها وبسطها. وبين كونها كروية ، لأن مدها وبسطها على حسب رؤية العين ، وكرويتها حسب الحقيقة.

وجعل في هذه الأرض جبالا ثوابت راسخات ، لتمسكها من الاضطراب ، وجعل فيها ـ أيضا ـ أنهارا ، لينتفع الناس والحيوان وغيرهما بمياه هذه الأنهار.

وجعل فيها كذلك من كل نوع من أنواع الثمرات ذكرا وأنثى.

قال صاحب الكشاف : «أى خلق فيها من جميع أنواع الثمرات زوجين زوجين حين مدها ، ثم تكاثرت بعد ذلك وتنوعت.

وقيل : أراد بالزوجين : الأسود والأبيض ، والحلو والحامض ، والصغير والكبير ، وما أشبه ذلك من الأوصاف المختلفة» (١).

وقال صاحب الظلال : «وهذه الجملة تتضمن حقيقة لم تعرف للبشر من طريق علمهم وبحثهم إلا قريبا ، وهي أن كل الأحياء وأولها النبات تتألف من ذكر وأنثى ، حتى النباتات التي كان مظنونا أنه ليس لها من جنسها ذكور ، تبين أنها تحمل في ذاتها الزوج الآخر ، فتضم أعضاء التذكير وأعضاء التأنيث مجتمعة في زهرة ، أو متفرقة في العود ...» (٢).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٤٩. طبعة دار المعرفة ـ ببيروت.

(٢) تفسير في ظلال القرآن ج ٤ ص ٢٠٤٦ طبعة دار الشروق.

٤٤١

وقوله (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته ـ سبحانه ـ ورحمته بعباده.

ولفظ (يُغْشِي) من التغشية بمعنى التغطية والستر.

والمعنى : أن من مظاهر قدرته ـ سبحانه ـ أنه يجعل الليل غاشيا للنهار مغطيا له فيذهب بنوره وضيائه. فيصير الكون مظلما بعد أن كان مضيئا. ويجعل النهار غاشيا لليل ، فيصير الكون مضيئا بعد أن كان مظلما ، وفي ذلك من منافع الناس ما فيه ، إذ بذلك يجمع الناس بين العمل والراحة ، وبين السعى والسكون.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

أى : إن في ذلك الذي فعله الله ـ تعالى ـ من بسط الأرض طولا وعرضا ومن تثبيتها بالرواسى ، ومن شقها بالأنهار ... لآيات باهرة ، ودلائل ظاهرة على قدرة الله ـ تعالى ـ ورحمته بعباده ، لقوم يحسنون التفكر ، ويطيلون التأمل في ملكوت السموات والأرض.

ثم ساق ـ سبحانه ـ مظاهر أخرى لقدرته فقال ـ تعالى ـ : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ).

والقطع : جمع قطعة ـ بكسر القاف ـ وهي الجزء من الشيء ، تشبيها لها ، بما يقتطع من الشيء.

ومتجاورات. أى : متلاقيات ومتقاربات.

وليس هذا الوصف مقصودا لذاته ، بل المقصود أنها مع تجاورها وتقاربها مختلفة في أوصافها مما يشهد بقدرة الله ـ تعالى ـ العظيمة.

ولذا قال ابن كثير ما ملخصه : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) أى : أراض يجاور بعضها بعضا ، مع أن هذه طيبة تنبت ما ينتفع به الناس ، وهذه سبخة مالحة لا تنبت شيئا ، وهذه تربتها حمراء ، وتلك تربتها سوداء ... وهذه محجرة وتلك سهلة ... والكل متجاورات ، فهذا كله مما يدل على الفاعل المختار ، لا إله إلا هو ولا رب سواه (١).

وقال ـ سبحانه ـ (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) بإعادة اسم الأرض الظاهر ، ولم يقل وفيها قطع متجاورات كما قال : (جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) في الآية السابقة ، وذلك ليكون كلاما مستقلا ، وليتجدد الأسلوب فيزداد حلاوة وبلاغة. وقوله (وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٣٥٣ طبعة دار الشعب.

٤٤٢

وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ ، وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ...) بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته ـ سبحانه ـ ورحمته بعباده.

والجنات : جمع جنة ، والمراد بها البستان ذو الشجر المتكاثف ، الملتف الأغصان الذي يظلل ما تحته ويستره.

والأعناب : جمع عنب وهو شجر الكرم.

والمراد بالزرع : أنواع الحبوب على اختلاف ألوانها وطعومها وصفاتها وقوله (صِنْوانٌ) صفة لنخيل ، وهو جمع صنو.

والصنو : الفرع الذي يجمعه مع غيره أصل واحد ، فإذا خرجت نخلتان أو أكثر من أصل واحد ، فكل واحدة منهن يطلق عليها اسم صنو.

ويطلق على الاثنتين صنوان ـ بكسر النون ـ ويطلق على الجمع صنوان ـ بضم النون ـ.

والصنو : بمعنى المثل ومنه قيل لعم الرجل : صنو أبيه ، أى : مثله ، فأطلق على كل غصن صنو لمماثلته للآخر في التفرع من أصل واحد «والأكل» اسم لما يؤكل من الثمار والحب.

والمعنى : أن من مظاهر قدرة الله ـ أيضا ـ ومن الأدلة على وحدانيته ـ سبحانه ـ أنه جعل في الأرض بقاعا كثيرة متجاورة ومع ذلك فهي مختلفة في أوصافها وفي طبيعتها ... وفيها أيضا بساتين كثيرة من أعناب ومن كل نوع من أنواع الحبوب.

وفيها كذلك نخيل يجمعها أصل واحد فهي صنوان ، ونخيل أخرى لا يجمعها أصل واحد فهي غير صنوان.

والكل من الأعناب والزرع والنخيل وغيرها (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) لا اختلاف في ذاته سواء أكان السقي من ماء الأمطار أم من ماء الأنهار ومع وجود أسباب التشابه ، فإننا لعظيم قدرتنا وإحساننا (نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ) آخر منها (فِي الْأُكُلِ) أى : في اختلاف الطعوم.

قال الإمام الرازي : «قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم (وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ) كلها بالرفع عطفا على قوله (وَجَنَّاتٌ) وقرأ الباقون بالجر عطفا على الأعناب ...» (١).

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٩ ص ٧٠ طبعة عبد الرحمن محمد.

٤٤٣

وخص ـ سبحانه ـ النخيل بوصفه بصنوان ، لأن العبرة به أقوى ، إذ المشاهدة له أكثر من غيره.

ووجه زيادة (غَيْرُ صِنْوانٍ) تجديد العبرة باختلاف الأحوال ، واقتصر ـ سبحانه ـ في التفاضل على الأكل ، لأنه أعظم المنافع.

وقوله ـ سبحانه ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) تذييل قصد به الحض على التعقل والتدبر.

أى : إن في ذلك الذي فصل الله ـ تعالى ـ أحواله من اختلاف أجناس الثمرات والزروع في أشكالها وألوانها وطعومها وأوراقها ... مع أنها تسقى بماء واحد. وتنبت في أرض متجاورة ، إن في ذلك كله لدلائل باهرة ، على قدرة الله ـ تعالى ـ واختصاصه بالعبادة ، لقوم يستعملون عقولهم في التفكير السليم ، والتأمل النافع.

أما الذين يستعملون عقولهم فيما لا ينفع ، فإنهم يمرون بالعبر والعظات وهم عنها معرضون.

وبذلك نرى أن الله ـ تعالى ـ قد ساق في هذه الآيات أدلة متعددة ومتنوعة من العالم العلوي والسفلى ، وكلها تدل على عظيم قدرته ، وجليل حكمته.

وهذه الأدلة منها :

١ ـ خلقه السموات مرتفعة بغير عمد.

٢ ـ تسخيره الشمس والقمر لمنافع الناس.

٣ ـ خلقه الأرض بتلك الصورة الصالحة للاستقرار عليها.

٤ ـ خلقه الجبال فيها لتثبيتها.

٥ ـ خلقه الأنهار فيها لمنفعة الإنسان والحيوان والنبات.

٦ ـ خلقه زوجين اثنين من كل نوع من أنواع الثمار.

٧ ـ معاقبته بين الليل والنهار.

٨ ـ خلقه بقاعا في الأرض متجاورة مع اختلافها في الطبيعة والخواص.

٩ ـ خلقه أنواعا من الزروع المختلفة في ثمارها وأشكالها.

١٠ ـ خلقه النخيل صنوانا وغير صنوان ، وجميعها تسقى بماء واحد.

ومع كل ذلك فضل ـ سبحانه ـ بعضها على بعض في الأكل.

٤٤٤

وهذه الأدلة يشاهدها الناس بأبصارهم ، ويحسونها بحواسهم ، تبصرة وذكرى لكل عبد منيب.

وبعد هذا الحديث المتنوع عن مظاهر قدرة الله في خلقه ، ساق ـ سبحانه ـ بعض أقوال المشركين الفاسدة ، ورد عليها بما يدحضها فقال ـ تعالى ـ :

(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ)(٧)

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) أى : إن تعجب يا محمد من تكذيبهم لك بعد ما كنت عندهم الصادق الأمين. فأعجب منه تكذيبهم بالبعث ـ لأن من شاهد ما عدد ـ سبحانه ـ من الآيات الدالة على قدرته. أيقن بأن من قدر على إنشائها ، كانت الإعادة أهون شيء عليه وأيسره ، والله ـ تعالى ـ لا يتعجب ، ولا يجوز عليه التعجب ، لأنه ـ أى التعجب ـ تغير النفس بما تخفى أسبابه ، وذلك في حقه ـ تعالى ـ محال ، وإنما ذكر ذلك ليتعجب منه نبيه والمؤمنون» (١).

وجوز بعضهم أن يكون الخطاب لكل من يصلح له ، أى : وإن تعجب أيها العاقل لشيء بعد أن شاهدت من مظاهر قدرة الله في هذا الكون ما شاهدت فازدد تعجبا ممن ينكر بعد كل هذا قدرته ـ سبحانه ـ على إحياء الموتى.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٩ ص ٢٨٤ طبعة دار الكتب.

٤٤٥

قال الجمل : وقوله (فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) فيه وجهان : أحدهما أنه خبر مقدم وقولهم مبتدأ مؤخر ، ولا بد من حذف صفة لتتم الفائدة ، أى : فعجب أى عجب قولهم. أو فعجب غريب قولهم. والثاني أنه مبتدأ ، وسوغ الابتداء ما ذكرته من الوصف المقدر ، ولا يضر حينئذ كون خبره معرفة (١).

والتنكير في قوله (فَعَجَبٌ) للتهويل والتعظيم.

وجملة (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) في محل نصب مقول القول.

أى : وإن تعجب من شيء ـ أيها الرسول الكريم ـ فاعجب من قول أولئك المشركين : أإذا صرنا ترابا وعظاما نخرة بعد موتنا أإنا بعد ذلك لنعاد إلى الحياة مرة أخرى من جديد.

والاستفهام للإنكار ، لاستبعادهم الشديد إعادتهم إلى الحياة مرة أخرى لمحاسبتهم على أعمالهم ، كما حكى القرآن عنهم قولهم في آية أخرى : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) (٢).

وكرر همزة الاستفهام في (أَإِذا) ، و (أَإِنَّا ..) لتأكيد هذا الإنكار.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك جزاءهم على هذا القول الباطل فقال ـ تعالى ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ...).

أى : أولئك المنكرون لقدرة الله ـ تعالى ـ على البعث ، هم الذين كفروا بربهم (وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) والأغلال : جمع غل. وهو قيد من حديد تشد به اليد إلى العنق ، وهو أشد أنواع القيود.

أى : وأولئك هم الذين توضع الأغلال والقيود في أيديهم وأعناقهم يوم القيامة ، عند ما يساقون إلى النار بذلة وقهر ، بسبب إنكارهم لقدرة الله على إعادتهم إلى الحياة ، وبسبب جحودهم لنعم خالقهم ورازقهم.

قال ـ تعالى ـ : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ* فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) (٣).

وقيل إن الجملة الكريمة تمثيل لحالهم في الدنيا ، حيث شبه ـ سبحانه ـ امتناعهم عن

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٤٩١ طبعة عيسى الحلبي.

(٢) سورة ق الآية ٣.

(٣) سورة غافر الآيتان ٧١ ، ٧٢.

٤٤٦

الإيمان ، وعدم التفاتهم إلى الحق ، بحال قوم في أعناقهم قيود لا يستطيعون معها التفاتا أو تحركا.

والأول أولى لأن حمل الكلام على الحقيقة واجب ، ما دام لا يوجد مانع يمنع منه ، وهنا لا مانع ، بل صريح القرآن يشهد له.

وقوله : (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أى : وأولئك الموصوفون بما ذكر ، هم أصحاب النار التي لا ينفكون عنها. ولا يخرجون منها.

وكرر ـ سبحانه ـ اسم الإشارة ، للتنبيه على أنهم أحرياء بما يرد بعده من عقوبات.

وجاء به للبعيد ، للإشارة إلى بعد منزلتهم في الجحود والضلال.

ثم حكى ـ سبحانه ـ لونا آخر من طغيانهم واستهزائهم برسولهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال :

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ، وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ ...).

والمراد بالسيئة : الحالة السيئة كالعقوبات والمصائب التي تسوء من تنزل به.

والمراد بالحسنة : الحالة الحسنة كالعافية والسلامة.

والمثلات : جمع مثلة ـ بفتح الميم وضم الثاء كسمرة ، وهي العقوبة الشديدة الفاضحة التي تنزل بالإنسان فتجعله مثالا لغيره في الزجر والردع.

والاستعجال : طلب حصول الشيء قبل حلول وقته.

أى أن هؤلاء المشركين بلغ بهم الحال في الطغيان ، أنهم كانوا إذا هددهم الرسول.

صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعقاب الله إذا ما استمروا في كفرهم ، سخروا منه ، وتهكموا به وقالوا له على سبيل الاستهزاء : ائتنا بما تعدنا به من عذاب إن كنت من الصادقين.

وشبيه بهذا قوله ـ تعالى ـ : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (١).

وقوله ـ تعالى ـ (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٢).

والجملة الكريمة تحكى لونا عجيبا من ألوان توغلهم في الجحود والضلال ، حيث طلبوا من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعجيل العقوبة التي توعدهم بها ، بدل أن يطلبوا منه الدعاء لهم بالسلامة والأمان والخير والعافية.

__________________

(١) سورة العنكبوت الآيتان ٥٣ ، ٥٤.

(٢) سورة الأنفال الآية ٣٢.

٤٤٧

وجملة (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) في موضع الحال ، لزيادة التعجب من جهلهم وطغيانهم ، لأن آثار الأقوام المهلكين بسبب كفرهم ما زالت ماثلة أمام أبصارهم ، وهم يمرون عليها في أسفارهم ، فكان من الواجب عليهم ـ لو كانوا يعقلون ـ أن يعتبروا بها.

وقوله ـ سبحانه ـ (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) بيان لرحمة الله ـ تعالى ـ بعباده ، ولشدة عقابه للمصرين على الكفر منهم أى : وإن ربك ـ أيها الرسول الكريم ـ لذو مغفرة عظيمة للناس مع ظلمهم لأنفسهم ، حيث أطاعوها في ارتكاب الذنوب والمعاصي.

ومن مظاهر هذه المغفرة أنه ـ سبحانه ـ لم يعاجلهم بالعقوبة. بل صبر عليهم ، وأمهلهم ، لعلهم يتوبون إليه ويستغفرونه ، ويقلعون عن ذنوبهم.

قال ـ تعالى ـ : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ ...) (١).

وإن ربك ـ أيها الرسول الكريم ـ لشديد العقاب للمصرين على كفرهم وضلالهم ومعاصيهم.

وقدم ـ سبحانه ـ مغفرته على عقوبته ، في مقابل تعجل هؤلاء الكافرين للعذاب ، ليظهر الفارق الضخم بين الخير الذي يريده ـ سبحانه ـ لهم ، وبين الشر الذي يريدونه لأنفسهم بسبب انطماس بصائرهم ...

قال ابن كثير ما ملخصه : قوله ـ سبحانه ـ (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ).

أى : إنه ذو عفو وصفح وستر للناس مع أنهم يظلمون ويخطئون بالليل والنهار.

ثم قرن هذا الحكم بأنه شديد العقاب ، ليعتدل الرجاء والخوف. كما قال ـ تعالى ـ (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ).

وقال ـ تعالى ـ (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ).

وعن سعيد بن المسيب قال : لما نزلت هذه الآية (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ ...) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحدا العيش. ولولا

__________________

(١) سورة فاطر الآية ٤٥.

٤٤٨

وعيده وعقابه لا تكل كل أحد» (١).

ثم حكى ـ سبحانه ـ لونا آخر من رذائلهم ، وهو عدم اعتدادهم بالقرآن الكريم ، الذي هو أعظم الآيات والمعجزات فقال ـ تعالى ـ : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ...).

و (لَوْ لا) هنا حرف تحضيض بمعنى هلا.

ومرادهم بالآية : معجزة كونية كالتي جاء بها موسى من إلقائه العصى فإذا هي حية تسعى ، أو كالتي جاء بها عيسى من إبرائه الأكمه والأبرص وإحيائه الموتى بإذن الله ، أو كما يقترحون هم من جعل جبل الصفا ذهبا ...

لأن القرآن ـ في زعمهم ـ ليس كافيا لكونه معجزة دالة على صدقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أى : ويقول هؤلاء الكافرون الذين عموا وصموا عن الحق واستعجلوا العذاب. هلا أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية أخرى غير القرآن الكريم تدل على صدقه.

ولقد حكى القرآن مطالبهم المتعنتة في آيات كثيرة ، منها قوله ـ تعالى ـ : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً ...) (٢).

وقد رد الله ـ تعالى ـ عليهم ببيان وظيفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ...).

أى : أن وظيفتك ـ أيها الرسول الكريم ـ هي إنذار هؤلاء الجاحدين بسوء المصير ، إذا ما لجوا في طغيانهم ، وأصروا على كفرهم وعنادهم وليس من وظيفتك الإتيان بالخوارق التي طلبوها منك.

وإنما قصر ـ سبحانه ـ هنا وظيفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الإنذار ، لأنه هو المناسب لأحوال المشركين الذين أنكروا كون القرآن معجزة.

وقوله (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) أى : ولكل قوم نبي يهديهم إلى الحق والرشاد بالوسيلة التي يراها مناسبة لأحوالهم ، وأنا ـ أيها الرسول الكريم ـ قد جئتهم بهذا القرآن الهادي للتي هي أقوم. والذي هو خير وسيلة لإرشاد الناس إلى ما يسعدهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم.

قال الشيخ القاسمى : «أو المعنى : ولكل قوم هاد عظيم الشأن ، قادر على هدايتهم. هو

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٥٥.

(٢) سورة الإسراء الآيات ٩٠ وما بعدها.

٤٤٩

الله ـ تعالى ـ فما عليك إلا إنذارهم لا هدايتهم كما قال ـ تعالى ـ : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ...).

أو المعنى : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) أى : قائد يهديهم إلى الرشد ، وهو الكتاب المنزل عليهم ، الداعي بعنوان الهداية إلى ما فيه صلاحهم.

يعنى : أن سر الإرسال وآيته الفريدة إنما هو الدعاء إلى الهدى ، وتبصير سبله ، والإنذار من الاسترسال في مساقط الردى. وقد أنزل عليك من الهدى أحسنه. فكفى بهدايته آية كبرى وخارقة عظمى. وأما الآيات المقترحة فأمرها إلى الله وحده ...» (١).

* * *

ثم صور ـ سبحانه ـ سعة علمه تصويرا عميقا ، تقشعر منه الجلود ، وترتجف له المشاعر ، وساق سنة من سننه التي لا تتغير ولا تتبدل ، فقال ـ تعالى ـ :

(اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ)(١١)

فقوله ـ سبحانه ـ (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) كلام مستأنف مسوق لبيان كمال علمه وقدرته ـ سبحانه ـ.

__________________

(١) تفسير القاسمى ج ٩ ص ٣٦٤٨.

٤٥٠

و (تَغِيضُ) من الغيض بمعنى النقص. يقال : غاض الماء إذا نقص.

و (ما) موصولة والعائد محذوف. أى : الله وحده هو الذي يعلم ما تحمله كل أنثى في بطنها من علقة أو مضغة ومن ذكر أو أنثى ... وهو وحده ـ سبحانه ـ الذي يعلم ما يكون في داخل الأرحام من نقص في الخلقة أو زيادة فيها ، ومن نقص في مدة الحمل أو زيادة فيها ، ومن نقص في العدد أو زيادة فيه ...

قال ابن كثير : «قوله : (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) ، قال البخاري : حدثنا إبراهيم بن المنذر. حدثنا معن ، حدثنا مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله : لا يعلم ما في غد إلا الله ، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ، ولا يعلم متى يأتى المطر إلا الله ، ولا تدرى نفس بأى أرض تموت ، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله».

وقال العوفى عن ابن عباس (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) يعنى السقط (وَما تَزْدادُ).

يقول : ما زادت الرحم في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تماما. وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر ، ومنهن من تحمل تسعة أشهر ، ومنهن من تزيد في الحمل ومنهن من تنقص. فذلك الغيض والزيادة التي ذكر الله ـ تعالى ـ وكل ذلك بعلمه ـ سبحانه ـ (١).

وقوله : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) أى : وكل شيء عنده ـ سبحانه ـ بقدر وحد لا يجاوزه ولا ينقص عنه ، كما قال ـ تعالى ـ (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٢). وكما قال ـ تعالى ـ (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (٣). فهو ـ سبحانه ـ يعلم كمية كل شيء وكيفيته وزمانه ومكانه وسائر أحواله.

وقوله (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) تأكيد لعموم علمه ـ سبحانه ـ ودقته.

والغيب : مصدر غاب يغيب ، وكثيرا ما يستعمل بمعنى الغائب ، وهو : ما لا تدركه الحواس ولا يعلم ببداهة العقل.

والشهادة : مصدر شهد يشهد ، وهي هنا بمعنى الأشياء المشهودة.

والمتعال : المستعلى على كل شيء في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله ـ سبحانه ـ.

أى : أنه ـ سبحانه ـ هو وحده الذي يعلم أحوال الأشياء الغائبة عن الحواس كما يعلم

__________________

(١) تفسير ابن كثير المجلد الرابع ص ٣٥٧ طبعة دار الشعب.

(٢) سورة القمر الآية ٤٩.

(٣) سورة الحجر الآية ٢١.

٤٥١

أحوال المشاهدة منها ، وهو العظيم الشأن ، المستعلى على كل شيء.

وقوله ـ سبحانه ـ (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) تأكيد آخر لشمول ـ علمه ـ سبحانه ـ لأحوال عباده.

وسواء : اسم مصدر بمعنى الاستواء ، والمراد به هنا اسم الفاعل. أى : مستو.

قال الجمل : «وفيه وجهان : أحدهما أنه خبر مقدم ، ومن أسر ومن جهر هو المبتدأ ، وإنما لم يثن الخبر لأنه في الأصل مصدر ، وهو هنا بمعنى مستو.

والثاني أنه مبتدأ ، وجاز الابتداء به لوصفه بقوله (مِنْكُمْ) (١).

(وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) أى : ظاهر بالنهار. يقال : سرب في الأرض يسرب سربا وسروبا. أى : ذهب في سربه ـ بسكون الراء وكسر السين وفتحها ـ أى طريقه.

والمعنى : أنه ـ تعالى ـ مستو في علمه من أسر منكم القول ، ومن جهر به بأن أعلنه لغيره.

ومستو في علمه ـ أيضا ـ من هو مستتر في الظلمة الكائنة في الليل ، ومن هو ذاهب في سربه وطريقه بالنهار بحيث يبصره غيره.

وذكر ـ سبحانه ـ الاستخفاء مع الليل لكونه أشد خفاء ، وذكر السروب مع النهار لكونه أشد ظهورا.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض مظاهر رعايته لعباده فقال ـ تعالى ـ (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ ...).

والضمير في (لَهُ) يعود إلى (مِنْ) في قوله (مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) باعتبار تأويله بالمذكور.

و «معقبات» صفة لموصوف محذوف أى : ملائكة معقبات.

قال الشوكانى : «والمعقبات المتناوبات التي يخلف كل واحد منها صاحبه ويكون بدلا منه. وهم الحفظة من الملائكة في قول عامة المفسرين. قال الزجاج : المعقبات ملائكة يأتى بعضهم بعقب بعض ، وإنما قال «معقبات» مع كون الملائكة ذكورا ؛ لأن الجماعة من الملائكة يقال لها معقبة ، ثم جمع معقبة على معقبات.

قال الجوهري : والتعقب العود بعد البدء قال الله ـ تعالى ـ (وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) (٢).

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٤٩٤.

(٢) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٣ ص ٦٩.

٤٥٢

يقال : عقب الفرس في عدوه ، أى : جرى بعد جريه. وعقبه تعقيبا. أى : جاء عقبه.

و «من» في قوله (مِنْ أَمْرِ اللهِ) بمعنى باء السببية.

والمعنى : لكل واحد من هؤلاء المذكورين ممن يسرون القول أو يجهرون به ، ملائكة يتعاقبون عليه بالليل والنهار ويحيطون به من جميع جوانبه لحفظه ورعايته ، ولكتابة أقواله وأعماله ، وهذا التعقيب والحفظ ، إنما هو بسبب أمر الله ـ تعالى ـ لهم بذلك.

قال ابن كثير : وفي الحديث الصحيح : «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ، فيصعد الذين باتوا فيكم فيسألهم ـ سبحانه ـ وهو أعلم بهم : كيف تركتم عبادي؟. فيقولون : أتيناهم وهم يصلون ، وتركناهم وهم يصلون».

وفي الحديث الآخر : «إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع ، فاستحيوهم وأكرموهم». أى : فاستحيوا منهم وأكرموهم بالتستر وغيره.

وقال عكرمة عن ابن عباس «يحفظونه من أمر الله ، قال ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه» (١).

ثم ساق ـ سبحانه ـ سنة من سننه التي لا تتخلف فقال : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ. وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ، وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ).

أى : إن الله ـ تعالى ـ قد اقتضت سنته ، أنه ـ سبحانه ـ لا يغير ما بقوم من نعمة وعافية وخير بضده ، حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعة إلى معصية ؛ ومن جميل إلى قبيح ، ومن صلاح إلى فساد.

وإذا أراد ـ سبحانه ـ بقوم سوءا من عذاب أو هلاك أو ما يشبههما بسبب إيثارهم الغي على الرشد ، فلا راد لقضائه ، ولا دافع لعذابه.

وما لهم من دونه ـ سبحانه ـ من وال أى من ناصر ينصرهم منه ـ سبحانه ـ ويرفع عنهم عقابه ، ويلي أمورهم ويلتجئون إليه عند الشدائد.

فالجملة الكريمة بيان لمظهر من مظاهر عدل الله في شئون عباده ، وتحذير شديد لهم من الإصرار على الشرك والمعاصي وجحود النعمة ، فإنه ـ سبحانه ـ لا يعصم الناس من عذابه عاصم. ولا يدفعه دافع.

قال الإمام ابن كثير : «قال ابن أبى حاتم : أوحى الله إلى نبي من أنبياء بنى إسرائيل أن

__________________

(١) تفسير ابن كثير المجلد الرابع ص ٣٥٩.

٤٥٣

قل لقومك إنه ليس من أهل قرية ، ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله ، فيتحولون منها إلى معصية الله ، إلا تحول الله لهم مما يحبون إلى ما يكرهون.

ثم قال : إن مصداق ذلك في كتاب الله (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ).

وعن عمير بن عبد الملك قال : خطبنا على بن أبى طالب على منبر الكوفة فقال : كنت إذا سكت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابتدأنى ، وإذا سألته عن الخبر أنبأنى ، وإنه حدثني عن ربه ـ عزوجل ـ قال : «قال الرب : وعزتي وجلالي وارتفاعي فوق عرشي ، ما من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على ما كرهت من معصيتي ، ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي ، إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي» (١).

ثم لفت ـ سبحانه ـ أنظار عباده إلى أنواع متعددة من الظواهر الكونية الدالة على قدرته ووحدانيته ، وبين أن هذه الظواهر قد تكون نعما ، وقد تكون نقما ، وأنها وغيرها تسبح بحمد الله ، وتخضع لسلطانه فقال ـ تعالى ـ :

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ)(١٥)

__________________

(١) تفسير ابن كثير المجلد ٤ ص ٣٦٢ طبعة دار الشعب.

٤٥٤

والبرق : ما يراه الرائي من نور لا مع يظهر من خلال السحاب ، وخوفا وطمعا : حالان من الكاف في يريكم ، أو هما في محل المفعول لأجله.

والمعنى : هو الله ـ تعالى ـ وحده الذي يريكم بقدرته البرق ، فيترتب على ذلك أن بعضكم يخاف ما ينجم عنه من صواعق. أو سيل مدمر ، وبعضكم يطمع في الخير من ورائه ، فقد يعقبه المطر النافع ، والغيث المدرار.

فمن مظاهر حكمة الله ـ تعالى ـ في خلقه ، أنه جعل البرق علامة إنذار وتبشير معا ، لأنه بالإنذار والتبشير تعود النفوس إلى الحق ، وتفيء إلى الرشد.

وجملة «وينشئ السحاب الثقال» بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته ـ سبحانه ـ وإنشاء السحاب : تكوينه من العدم.

والسحاب : الغيم المنسحب في الهواء ، وهو اسم جنس واحده سحابة ، فلذلك وصف بالجمع وهو «الثقال» جمع ثقيلة.

أى : وهو ـ سبحانه ـ الذي ينشئ السحاب المثقل بالماء ، فيرسله من مكان إلى مكان على حسب حكمته ومشيئته.

قال ـ تعالى ـ (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ. حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ ، فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ ، فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ، كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) بيان لمظهر ثالث من مظاهر قدرته. والرعد : اسم للصوت الهائل الذي يسمع إثر تفجير شحنة كهربية في طبقات الجو.

وعطف ـ سبحانه ـ الرعد على البرق والسحاب ، لأنه مقارن لهما في كثير من الأحوال. والتسبيح : مشتق من السبح وهو المرور السريع في الماء أو في الهواء وسمى الذاكر لله ـ تعالى ـ مسبحا ، لأنه مسرع في تنزيهه سبحانه عن كل نقص.

وتسبيح الرعد ـ وهو هذا الصوت الهائل ـ بحمد الله ، يجب أن نؤمن به ، ونفوض كيفيته إلى الله ـ تعالى ـ لأنه من الغيب الذي لا يعلمه إلا هو ـ سبحانه ـ وقد بين لنا ـ سبحانه ـ في كتابه أن كل شيء يسبح بحمده فقال : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ٥٧.

٤٥٥

وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (١).

وقد فصل القول في معنى هذه الجملة الكريمة الإمام الآلوسى فقال ـ رحمه‌الله ـ ما ملخصه :

وقوله : «ويسبح الرعد» قيل هو اسم للصوت المعلوم ، والكلام على حذف مضاف أى : ويسبح سامعو الرعد بحمده ـ سبحانه ـ رجاء للمطر.

ثم قال : والذي اختاره أكثر المحدثين كون الإسناد حقيقيا بناء على أن الرعد اسم للملك الذي يسوق السحاب ، فقد أخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي وآخرون عن ابن عباس أن اليهود سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : أخبرنا ما هذا الرعد؟ فقال : «ملك من ملائكة الله ـ تعالى ـ موكّل بالسحاب ، بيديه مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره الله ـ تعالى ـ قالوا. فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال صوته ـ قالوا : صدقت».

ثم قال : واستشكل بأنه لو كان علما للملك لما ساغ تنكيره ، وقد نكر في سورة البقرة في قوله ـ تعالى ـ (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ).

وأجيب بأن له إطلاقين : ثانيهما إطلاقه على نفس الصوت ، والتنكير على هذا الإطلاق ...» (٢).

والذي نراه أن تسبيح الرعد بحمد الله يجب الإيمان به ، سواء أكان الرعد اسما لذلك الصوت المخصوص ؛ أم اسما لملك من الملائكة ، أما كيفية هذا التسبيح فمردها إلى الله.

قال الإمام الشوكانى : «ويسبح الرعد بحمده» أى يسبح الرعد نفسه بحمد الله. أى : متلبسا بحمده ، وليس هذا بمستبعد ، ولا مانع من أن ينطقه الله بذلك.

وأما على تفسير الرعد بملك من الملائكة فلا استبعاد في ذلك ، ويكون ذكره على الإفراد مع ذكر الملائكة بعده لمزيد خصوصية له. وعناية به» (٣).

وقال الإمام ابن كثير : قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ... عن سالم عن أبيه قال : كان

__________________

(١) سورة الإسراء الآية ٤٤.

(٢) راجع تفسير الآلوسى ج ١٣ ص ١٠٦ ـ طبعة منير الدمشقي.

(٣) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٣ ص ٧٢.

٤٥٦

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سمع الرعد والصواعق قال : «اللهم لا تقتلنا بغضبك ، ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا قبل ذلك».

وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا أحمد بن إسحاق ... عن أبى هريرة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا سمع صوت الرعد قال : «سبحان من يسبح الرعد بحمده» (١).

وقوله ـ سبحانه ـ (وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) نوع رابع من الأدلة الدالة على وحدانية الله وقدرته. أى ويسبح الرعد بحمد الله ، ويسبح الملائكة ـ أيضا ـ بحمد الله ، خوفا منه ـ تعالى ـ وإجلالا لمقامه وذاته.

و (مِنْ) في قوله ـ تعالى ـ (مِنْ خِيفَتِهِ) للتعليل ، أى : يسبحون لأجل الخوف منه. وقوله (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) نوع خامس من الظواهر الكونية الدالة على كمال قدرته ـ سبحانه ـ.

والصواعق جمع صاعقة ، وهي ـ كما يقول ابن جرير ـ كل أمر هائل رآه الرائي أو أصابه ، حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب وذهاب عقل ...» (٢).

والمراد بها هنا : النار النازلة من السماء.

أى ويرسل ـ سبحانه ـ الصواعق المهلكة فيصيب بها من يشاء إصابته من خلقه.

وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها : أنها نزلت في رجل من طواغيت العرب ، بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفرا يدعونه إلى الإسلام ، فقال لهم : أخبرونى عن رب محمد ما هو ، أمن فضة أم من حديد؟.

فبينا النفر ينازعونه ويدعونه إذا ارتفعت سحابة فكانت فوق رءوسهم فرعدت وأبرقت ورمت بصاعقة فأهلكت الكافر وهم جلوس.

فرجعوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستقبلهم بعض الصحابة فقالوا لهم : احترق صاحبكم؟ فقالوا : من أين علمتم؟ قالوا : أوحى الله إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) (٣).

وضمير الجماعة في قوله (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) يعود إلى أولئك

__________________

(١) تفسير ابن كثير المجلد الرابع ص ٣٦٣.

(٢) تفسير ابن جرير ج ١ ص ٢٩٠.

(٣) تفسير القرطبي ج ٩ ص ٩٢٦.

٤٥٧

الكافرين الذين سبق أن ساق القرآن بعض أقوالهم الباطلة ، والتي منها قولهم : (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ).

والمجادلة : المخاصمة والمراجعة بالقول.

والمراد بمجادلتهم في الله : تكذيبهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أمرهم به من وجوب إخلاص عبادتهم لله ـ تعالى ـ وإيمانهم بيوم القيامة وما فيه من ثواب وعقاب.

والمحال : الكيد والمكر ، والتدبير والقوة ، والعقاب ... يقال : محل فلان بفلان ـ بتثليث الحاء ـ محلا ومحالا ، إذا كاده وعرضه للهلاك.

قال القرطبي : قال ابن الأعرابى : المحال المكر وهو من الله ـ تعالى ـ التدبير بالحق أو إيصال المكروه إلى من يستحقه من حيث لا يشعر.

وقال الأزهرى : المحال : أى القوة والشدة.

وقال أبو عبيد : المحال : العقوبة والمكروه» (١).

أى : أن هؤلاء الكافرين يجادلونك ـ أيها الرسول في ذات الله وفي صفاته ، وفي وحدانيته ، وفي شأن البعث ، وينكرون ما جئتهم به من بينات والحال أن الله ـ تعالى ـ شديد المماحلة والمكايدة والمعاقبة لأعدائه.

قال ـ تعالى ـ : (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن دعوته هي الدعوة الحق ، وما عداها فهو باطل ضائع فقال : (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) أى : له وحده ـ سبحانه ـ الدعوة الحق المطابقة للواقع ، لأنه هو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ، وهو الحقيق بالعبادة والالتجاء.

فإضافة الدعوة إلى الحق من إضافة الموصوف إلى صفته ، وفي هذه الإضافة إيذان بملابستها للحق ، واختصاصها به ، وأنها بمعزل عن الباطل.

ومعنى كونها له : أنه ـ سبحانه ـ شرعها وأمر بها.

قال الشوكانى : قوله : «له دعوة الحق» إضافة الدعوة إلى الحق للملابسة. أى : الدعوة الملابسة للحق ، المختصة به التي لا مدخل للباطل فيها بوجه من الوجوه.

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ٩ ص ٢٩٩.

(٢) سورة النمل الآيتان ٥٠ ، ٥١.

٤٥٨

وقيل : الحق هو الله ـ تعالى ـ والمعنى : أنه لله ـ تعالى ـ دعوة المدعو الحق وهو الذي يسمع فيجيب.

وقيل : المراد بدعوة الحق هاهنا كلمة التوحيد والإخلاص والمعنى : لله من خلقه أن يوحدوه ويخلصوا له العبادة.

وقيل : دعوة الحق ، دعاؤه ـ سبحانه ـ عند الخوف ، فإنه لا يدعى فيه سواه ، كما قال ـ تعالى ـ (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ).

وقيل : الدعوة الحق ، أى العبادة الحق فإن عبادة الله هي الحق والصدق» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ حال ـ من يعبد غيره فقال : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ).

والمراد بالموصول «والذين» الأصنام التي يعبدها المشركون من دون الله.

والضمير في يدعون ، للمشركين ، ورابط الصلة ضمير نصب محذوف أى : يدعونهم.

والمعنى : لله ـ تعالى ـ العبادة الحق ، والتضرع الحق النافع ، أما الأصنام التي يعبدها هؤلاء المشركون من غير الله. فإنها لا تجيبهم إلى شيء يطلبونه منها ، إلا كإجابة الماء لشخص بسط كفيه إليه من بعيد ، طالبا منه أن يبلغ فمه وما الماء ببالغ فم هذا الشخص الأحمق ، لأن الماء لا يحس ولا يسمع نداء من يناديه.

والمقصود من الجملة الكريمة نفى استجابة الأصنام لما يطلبه المشركون منها نفيا قاطعا ، حيث شبه ـ سبحانه ـ حال هذه الآلهة الباطلة عند ما يطلب المشركون منها ما هم في حاجة إليه ، بحال إنسان عطشان ولكنه غبى أحمق لأنه يمد يده إلى الماء طالبا منه أن يصل إلى فمه دون أن يتحرك هو إليه. فلا يصل إليه شيء من الماء لأن الماء لا يسمع نداء من يناديه.

ففي هذه الجملة الكريمة تصوير بليغ لخيبة وجهالة من يتوجه بالعبادة والدعاء لغير الله ـ تعالى ـ.

وأجرى ـ سبحانه ـ على الأصنام ضمير العقلاء في قوله (لا يَسْتَجِيبُونَ) مجاراة للاستعمال الشائع عند المشركين ، لأنهم يعاملون الأصنام معاملة العقلاء.

ونكر شيئا في قوله (لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) للتحقير. والمراد أنهم لا يستجيبون لهم أية استجابة حتى ولو كانت شيئا تافها.

__________________

(١) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٣ ص ٧٣.

٤٥٩

والاستثناء في قوله (إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ ...) من أعم الأحوال.

أى : لا تستجيب الأصنام لمن طلب منها شيئا ، إلا استجابة كاستجابة الماء لملهوف بسط كفيه إليه يطلب منه أن يدخل فمه ، والماء لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه ولا يقدر أن يجيب طلبه ولو مكث على ذلك طوال حياته.

والضمير «هو» في قوله «وما هو ببالغه» للماء ، والهاء في «ببالغه» للفم : أى : وما الماء ببالغ فم هذا الباسط لكفيه.

وقيل الضمير «هو» للباسط ، والهاء للماء ، أى : وما الباسط لكفيه ببالغ الماء فمه.

قال القرطبي : «وفي معنى هذا المثل ثلاثة أوجه :

أحدها : أن الذي يدعو إلها من دون الله كالظمآن الذي يدعو الماء إلى فيه من بعيد يريد تناوله ولا يقدر عليه بلسانه ، ويشير إليه بيده فلا يأتيه أبدا لأن الماء لا يستجيب ، وما الماء ببالغ إليه ، قاله مجاهد.

الثاني : أنه كالظمآن الذي يرى خياله في الماء وقد بسط كفه فيه ليبلغ فاه وما هو ببالغه ، لكذب ظنه وفساد توهمه. قاله ابن عباس.

الثالث : انه كباسط كفيه إلى الماء ليقبض عليه ، فلا يجد في كفه شيئا منه (١).

وقد ضربت العرب مثلا لمن سعى فيما لا يدركه ، بالقبض على الماء كما قال الشاعر :

ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض

على الماء ، خانته فروج الأصابع (٢)

وقوله ـ سبحانه ـ (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أى : وما عبادة الكافرين للأصنام ، والتجائوهم إليها في طلب الحاجات ، إلا في ضياع وخسران لأن هذه الآلهة الباطلة لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا ، فضلا عن أن تملك ذلك لغيرها.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن هذا الكون كله خاضع له ـ عزوجل ـ فقال : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ).

والمراد بالسجود له ـ سبحانه ـ : الانقياد والخضوع لعظمته.

وظلالهم : جمع ظل وهو صورة الجسم المنعكس إليه نور.

والغدو : جمع غدوة وهو ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٩ ص ٣٠١.

(٢) تفسير الشوكانى ج ٣ ص ٧٣.

٤٦٠