التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0657-4
الصفحات: ٦٠٢

مخالفتكم ومنازعتكم ومعاكستكم ، أو أن آمركم بشيء ثم لا أفعله ، أو أنهاكم عنه ثم أفعله ، من أجل تحقيق منفعة دنيوية ..

كلا ، كلا إنى لا أريد شيئا من ذلك وإنما أنا إنسان يطابق قولي فعلى ، وأختار لكم ما أختاره لنفسي.

قال صاحب الكشاف ما ملخصه : قوله (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) يقال : خالفني فلان إلى كذا : إذا قصده وأنت مول عنه. وخالفني عنه : إذا ولى عنه وأنت تقصده.

ويلقاك الرجل صادرا عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقول : خالفني إلى الماء ، يريد أنه ذهب إليه واردا ، وهو ذهب عنه صادرا ، ومنه قوله ـ سبحانه : (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) يعنى : ما أريد أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستبد بها دونكم» (١).

وقال الإمام ابن كثير ، وعن مسروق أن امرأة جاءت إلى ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ فقالت له : أأنت الذي تنهى عن الواصلة ـ أى التي تصل شعرها بشعر آخر ـ؟ قال : نعم. فقالت : فلعله في بعض نسائك ، فقال : ما حفظت إذا وصية العبد الصالح (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) (٢).

ثم بين لهم أنه ما يريد لهم إلا الإصلاح فيقول : (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ...).

أى : ما أريد بما أنصحكم به إلا إصلاحكم وسعادتكم ، ومادمت أستطيع ذلك ، وأقدر عليه ، فلن أقصر في إسداء الهداية لكم.

ثم يفوض الأمور إلى الله ـ تعالى ـ فيقول : (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).

أى : وما توفيقي فيما أدعوكم إليه من خير أو أنهاكم عنه من شر إلا بتأييد الله وعونه ، فهو وحده الذي عليه أتوكل وأعتمد في كل شئونى ، وهو وحده الذي إليه أرجع في كل أمورى.

ثم يواصل شعيب ـ عليه‌السلام ـ نصحه لقومه ، فينتقل بهم إلى تذكيرهم بمصارع السابقين ، محذرا إياهم من أن يكون مصيرهم كمصير الظالمين من قبلهم فيقول : و (يا قَوْمِ

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٨٧.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٧٥.

٢٦١

لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ ، أَوْ قَوْمَ هُودٍ ، أَوْ قَوْمَ صالِحٍ ...).

ومعنى (لا يَجْرِمَنَّكُمْ) لا يحملنكم ، مأخوذ من جرمه على كذا ، إذا حمله عليه.

أو بمعنى لا يكسبنكم من جرم بمعنى كسب ، غير أنه لا يكون إلا في كسب ما لا خير فيه ، ومنه الجريمة ، وهي اقتراف الجرم والذنب.

وأصل الجرم : قطع الثمرة من الشجرة ، وأطلق على الكسب ، لأن الكاسب لشيء ينقطع له.

وقوله (شِقاقِي) من الشقاق بمعنى الخلاف والعداوة ، كأن كل واحد من المتعاديين في شق غير الشق الذي يكون فيه الآخر ، والشق : الجانب.

والمعنى ، ويا قوم لا تحملنكم عداوتكم لي ، على افتراء الكذب على ، وعلى التمادي في عصياني ومحاربتى. فإن ذلك سيؤدي بكم إلى أن يصيبكم العذاب الذي أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح.

وقوله : (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) : تذكير لهم بأقرب المهلكين إليهم.

أى : إذا كنتم لم تتعظوا بما أصاب قوم نوح من غرق ، وبما أصاب قوم هود من ريح دمرتهم ، وبما أصاب قوم صالح من صيحة أهلكتهم ، فاتعظوا بما أصاب قوم لوط من عذاب جعل أعلى مساكنهم أسفلها ، وهم ليسوا بعيدين عنكم لا في الزمان ولا في المكان.

والمراد بالبعد ـ في قوله : (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) ـ بعد الزمن والمكان والنسب.

فزمن لوط ـ عليه‌السلام ـ غير بعيد من زمن شعيب ـ عليه‌السلام ـ.

وديار قوم لوط قريبة من ديار قوم شعيب ، إذ منازل مدين عند عقبة أيلة بجوار معان مما يلي الحجاز ، وديار قوم لوط بناحية الأردن إلى البحر الميت.

وكان مدين بن إبراهيم ـ عليهما‌السلام ـ وهو جد قبيلة شعيب ، المسماة باسمه ، متزوجا بابنة لوط».

ثم فتح لهم بعد ذلك باب الأمل في رحمة الله ، إن هم تابوا إليه ـ سبحانه ـ وأنابوا فقال : (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ).

أى : واستغفروا ربكم من كل ما فرط منكم من ذنوب ثم توبوا إليه توبة صادقة نصوحا : (إِنَّ رَبِّي) ومالك أمرى (رَحِيمٌ) أى : واسع الرحمة لمن تاب إليه ، (وَدُودٌ) أى : كثير الود والمحبة لمن أطاعه.

وهكذا نجد شعيبا ـ عليه‌السلام ـ وهو خطيب الأنبياء ـ يلون لقومه النصح ، وينوع

٢٦٢

لهم المواعظ ، ويطوف بهم في مجالات الترغيب والترهيب ..

ولكن القوم كانوا قد بلغوا من الفساد نهايته ، ومن الجهل أقصاه ... فقد ردوا على هذه النصائح الغالية بقولهم : (قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ ...).

أى : قال قوم شعيب له على سبيل التحدي والتكذيب : يا شعيب إننا لا نفهم الكثير من قولك ، لأنه قول لم نألفه ولم تتقبله نفوسنا ، ولقد أطلت في دعوتنا إلى عبادة الله وترك النقص في الكيل والميزان حتى مللنا دعوتك وسئمناها ، وصارت ثقيلة على مسامعنا ، وخافية على عقولنا ...

فمرادهم بهذه الجملة الاستهانة به ، والصدود عنه ، كما يقول الرجل لمن لا يعبأ بحديثه : لا أدرى ما تقوله ، ولا أفهم ما تتفوه به من ألفاظ.

قال أبو السعود ما ملخصه : والفقه : معرفة غرض المتكلم من كلامه ، أى : ما نفهم مرادك وإنما قالوا ذلك بعد أن سمعوا منه دلائل الحق البين على أحسن وجه وأبلغه ، وضاقت عليهم الحيل ، فلم يجدوا إلى محاورته سبيلا ... كما هو ديدن المفحم المحجوج ، يقابل النصائح البينات بالسب والإبراق والإرعاد ... إذ جعلوا كلامه المشتمل على الحكم من قبيل ما لا يفهم معناه ....» (١).

ثم قالوا له ـ ثانيا ـ (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) أى : لا قوة لك إلى جانب قوتنا ، ولا قدرة عندك على مقاومتنا إن أردنا قتلك أو طردك من قريتنا.

ثم قالوا له .. ثالثا ـ (وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) ورهط الرجل : قومه وعشيرته الأقربون. ومنه الراهط لجحر اليربوع ، لأنه يحتمي فيه ...

ولفظ (الرهط) اسم جمع يطلق غالبا على العصابة دون العشرة من الرجال ليس فيهم امرأة.

أى : ولو لا عشيرتك التي هي على ملتنا وشريعتنا لرجمناك بالحجارة حتى تموت ، ولكن مجاملتنا لعشيرتك التي كفرت بك هي التي جعلتنا نبقى عليك.

ثم قالوا له ـ رابعا ـ (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) أى : وما أنت علينا بمكرم أو محبوب أو قوى حتى نمتنع عن رجمك ، بل أنت فينا الضعيف المكروه ...

وهنا نجد شعيبا ـ عليه‌السلام ـ ينتقل في أسلوب مخاطبته لهم من اللين إلى الشدة ، ومن

__________________

(١) تفسير أبى السعود ج ص.

٢٦٣

التلطف إلى الإنكار ، دفاعا عن جلال ربه ـ سبحانه ـ فيقول لهم : (قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ ...).

أى : أرهطي وعشيرتي الأقربون ، الذين من أجلهم لم ترجمونى ، أعز وأكرم عندكم من الله ـ تعالى ـ الذي هو خالقكم ورازقكم ومميتكم ومحييكم ...

(وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) أى : وجعلتم أوامره ونواهيه التي جئتكم بها من لدنه ـ سبحانه ـ كالشىء المنبوذ المهمل الملقى من وراء الظهر بسبب كفركم وطغيانكم (إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أى : إن ربي قد أحاط علمه بأقوالكم وأعمالكم السيئة ، وسيجازيكم عليها بما تستحقون من عذاب مهين.

ثم زاد في توبيخهم وتهديدهم فقال (وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ، مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ ، وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) والمكانة مصدر مكن ككرم ، يقال مكن فلان من الشيء مكانه ، إذا تمكن منه أبلغ تمكن ، والأمر في قوله (اعْمَلُوا) للتهديد والوعيد.

أى : اعملوا كل ما في إمكانكم عمله معى ، وابذلوا في تهديدى ووعيدي ما شئتم ، فإن ذلك لن يضيرنى ، وكيف يضيرنى وأنا المتوكل على الله المعتمد على عونه ورعايته ...؟.

وإنى سأقابل عملكم السيئ هذا بعمل آخر حسن من جانبي ، وهو الدعوة إلى وحدانية الله ـ تعالى ـ وإلى مكارم الأخلاق.

وقوله (سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ ...) استئناف مؤكد لتهديده لهم.

أى : اعملوا ما شئتم وأنا سأعمل ما شئت فإنكم بعد ذلك سوف تعلمون من منا الذي ينزل به عذاب يخزيه ويفضحه ويهينه ، ومن منا الذي هو كاذب في قوله وعمله.

(وَارْتَقِبُوا) عاقبة تكذيبكم للحق (إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) أى : إنى معكم منتظر ومراقب لما يفعله الله ـ تعالى ـ بكم.

وبذلك نرى شعيبا ـ عليه‌السلام ـ في هاتين الآيتين ، قد استعمل مع قومه أسلوبا آخر في المخاطبة ، يمتاز بالشدة عليهم والتهديد لهم ، لا غضبا لنفسه ، وإنما لأجل حرمات الله ـ تعالى ـ ، والدفاع عن دينه.

ولم يطل انتظار شعيب ـ عليه‌السلام ـ ومراقبته لما يحدث لقومه ، بل جاء عقاب الله ـ تعالى ـ لهم بسرعة وحسم ، بعد أن لجوا في طغيانهم ، وقد حكى ـ سبحانه ـ ذلك فقال :

٢٦٤

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا ..).

أى : وحين جاء أمرنا بعذابهم ، وحل أوان هذا العذاب ، نجينا نبينا شعيبا ونجينا الذين آمنوا به وصدقوه ، حالة كونهم مصحوبين برحمة عظيمة كائنة منا لا من غيرنا.

(وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) من قومه (الصَّيْحَةُ) التي زلزلتهم وأهلكتهم (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ) التي كانوا يسكنونها.

(جاثِمِينَ) أى : هامدين ميتين لا تحس لهم حركة ، ولا تسمع لهم ركزا ...

من الجثوم وهو للناس والطير بمنزلة البروك للإبل ، يقال ، جثم الطائر يجثم جثما وجثوما فهو جاثم إذا وقع على صدره ولزم مكانه فلم يبرحه.

(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) أى : كأن هؤلاء الهلكى من قوم شعيب ، لم يعيشوا في ديارهم قبل ذلك عيشة ملؤها الرغد والرخاء والأمان ...

يقال : غنى فلان بالمكان ، إذا أقام به وعاش فيه في نعمة ورغد ...

(أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) أى : ألا هلاكا مصحوبا بالخزي واللعنة والطرد من رحمة الله لقبيلة مدين ، كما هلكت من قبلهم قبيلة ثمود.

وهكذا طويت صفحة أخرى من صفحات الظالمين وهم قوم شعيب ... عليه‌السلام ـ كما طويت من قبلهم صفحات قوم نوح وهود وصالح ولوط ـ عليهم‌السلام ـ.

هذا ، ومن أهم العبر والعظات التي تتجلى واضحة في قصة شعيب مع قومه كما جاءت في هذه السورة الكريمة :

أن الداعي إلى الله لكي ينجح في دعوته ، عليه أن ينوع خطابه للمدعوين ، بحيث يشتمل توجيهه على الترغيب والترهيب ، وعلى الأسباب وما تؤدى إليه من نتائج ، وعلى ما يقنع العقل ويقنع العاطفة ...

ففي هذه القصة نجد شعيبا ـ عليه‌السلام ـ يبدأ دعوته بأمر قومه بعبادة الله ـ تعالى ـ ، ثم ينهاهم عن أبرز الرذائل التي كانت منتشرة وهي نقص المكيال والميزان ، ثم يبين لهم الأسباب التي حملته على ذلك : (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ).

ثم ينهاهم نهيا عاما عن الإفساد في الأرض (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ).

ثم يرشدهم إلى أن الرزق الحلال مع الإيمان والاستقامة ، خير لهم من التشبع بزينة الحياة الدنيا بدون تمييز بين ما هو صالح وما هو طالح : وبقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين ..».

٢٦٥

ثم يذكرهم بأنه لا يأمرهم إلا بما يأمر به نفسه ، ولا ينهاهم إلا عما ينهاهم عنه وأنه ليس ممن يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ، (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ ، إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ...)

ثم يذكرهم بمصارع السابقين ، ويحذرهم من أن يسلكوا مسلكهم ، لأنهم لو فعلوا ذلك لهلكوا كما هلك الذين من قبلهم : (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ ...).

ثم يفتح لهم باب الأمل في عفو الله عنهم متى استغفروه وتابوا إليه : (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ).

ثم تراه يثور عليهم عند ما يراهم يتجاوزون حدودهم بالنسبة لله ـ تعالى ـ وللحق الذي جاءهم به من عنده ـ سبحانه ـ : (أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ ، وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا ، إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ. وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ...)

وهكذا نجد شعيبا ـ عليه‌السلام ـ وهو خطيب الأنبياء كما وصفه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرشد قومه إلى ما يصلحهم ويسعدهم بأسلوب حكيم ، جامع لكل ألوان التأثير ، والتوجيه السديد.

وليت الدعاة إلى الله في كل زمان ومكان يتعلمون من قصة شعيب .. عليه‌السلام ـ مع قومه أسلوب الدعوة إلى الله ـ تعالى.

* * *

ثم ختمت السورة الكريمة حديثها عن قصص الأنبياء مع أقوامهم ، بالإشارة إلى قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ مع فرعون وملئه ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧)

٢٦٦

يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ)(٩٩)

وموسى ـ عليه‌السلام ـ هو ابن عمران ، من نسل «لاوى» بن يعقوب.

ويرى بعض المؤرخين أن ولادة موسى كانت في حوالى القرن الثالث عشر قبل الميلاد ، وأن بعثته كانت في عهد منفتاح بن رمسيس الثاني.

والمراد بالآيات : الآيات التسع المشار إليها في قوله ـ تعالى ـ «ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ...» (١).

وهي : العصا ، واليد البيضاء ، والسنون العجاف ، ونقص الثمرات ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم.

والسلطان المبين : الحجة الواضحة ، والبرهان الظاهر على صدقه ، وسمى ذلك سلطانا لأن صاحب الحجة والبرهان على ما يدعى ، يقهر ويغلب من لا حجة ولا برهان معه ، كما يقهر السلطان غيره.

والمعنى : ولقد أرسلنا نبينا موسى ـ عليه‌السلام ـ بمعجزاتنا الدالة على صدقه ، وبحجته القوية الواضحة ، الشاهدة على أنه رسول من عندنا ، إلى فرعون وملئه الذين هم خاصته ، وسادات قومه وكبراؤهم ...

وخصهم بالذكر مع فرعون ، لأنهم هم الذين كانوا ينفذون أوامره ، ويعاونونه على فساده والضمير في قوله (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ) يعود إلى الملأ.

أى : فاتبعوا أمره في كل ما قرره من كفر ، وفي كل ما أشار به من فساد.

وفي هذه الجملة الكريمة ـ كما يقول الزمخشري ـ تجهيل لهم ، حيث شايعوه على أمره ، وهو ضلال مبين لا يخفى على من فيه أدنى مسكة من العقل ، وذلك أنه ادعى الألوهية وهو بشر مثلهم ، وجاهر بالعسف والظلم والشر الذي لا يأتى إلا من شيطان مارد ، فاتبعوه وسلموا له دعواه ، وتتابعوا على طاعته.

__________________

(١) سورة الإسراء الآية ١٠١.

٢٦٧

وقال ـ سبحانه ـ (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ) ولم يقل فاتبعوا أمره ، للتشهير به ، والإعلان عن ذمه الذي صرح به في قوله ـ سبحانه ـ (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ).

والرشيد بزنة ـ فعيل ـ من الفعل رشد من باب نصر وفتح : هو الشخص المتصف بإصابة الرأى ، وجودة التفكير ، وأضيف الرشد إلى الأمر على سبيل المجاز ، مبالغة في اشتمال أمر فرعون على ما يناقض الرشد والسداد ، ويطابق الغي والفساد.

أى : ما شأن فرعون وأمره بذي رشد وهدى ، بل هو محض الغي والضلال ، فكان من الواجب على ملئه أن ينبذوه ويهملوه ، بدل أن يطيعوه ويتبعوه ...

ثم بين ـ سبحانه ـ سوء مصيره ومصير أتباعه فقال : (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ).

ويقدم ـ كينصر ـ بمعنى يتقدم مأخوذ من الفعل قدم ـ بفتح الدال ـ تقول : قدم الرجل يقدم قدما وقدوما بمعنى : تقدم ، ومنه قادمة الرحل بمعنى مقدمته.

وقوله (فَأَوْرَدَهُمُ) من الإيراد وهو جعل الشيء واردا إلى المكان ـ وداخلا فيه.

والورد ـ بكسر الواو ـ يطلق على الماء الذي يرد إليه الإنسان والحيوان للشرب.

والمعنى : يتقدم فرعون قومه يوم القيامة إلى جهنم ، كما كان يتقدمهم في الكفر في الدنيا ، فأوردهم النار ، أى : فدخلها وأدخلهم معه فيها.

وعبر بالماضي مع أن ذلك سيكون يوم القيامة لتحقيق الوقوع وتأكده ، وقد صرح القرآن بأنهم سيدخلون النار بمجرد موتهم فقال ـ تعالى ـ : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (١).

وقوله وبئس الورد المورود ، أى : وبئس الورد الذي يردونه النار ، لان الورد ـ الذي هو النصيب المقدر للإنسان من الماء ـ إنما يذهب إليه قاصده لتسكين عطشه ، وإرواء ظمئه ، وهؤلاء إنما يذهبون إلى النار التي هي الضد من ذلك.

ثم صرح ـ سبحانه ـ بلعتهم في الدارين فقال : (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) ...

أى : إن اللعنة والفضيحة لحقت بهم واتبعتهم في الدنيا وفي الأخرى ، كما قال ـ تعالى ـ في آية أخرى : (وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) (٢).

__________________

(١) سورة غافر الآية ٤٥.

(٢) سورة القصص الآية ٤٢.

٢٦٨

وجملة (بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) مستأنفة لإنشاء ذم اللعنة ، والمخصوص بالذم محذوف دل عليه ذكر اللعنة ، أى بئس الرفد هي.

الرفد العطاء والعون يقال رفد فلان فلانا يرفده رفدا أى أعطاه وأعانه على قضاء مصالحه ، أى : بئس العطاء المعطى لهم تلك اللعنة المضاعفة التي لا بستهم في الدنيا والآخرة.

وسميت اللعنة رفدا على سبيل التهكم بهم ، كما في قول القائل : تحية بينهم ضرب وجيع. فكأنه ـ سبحانه ـ يقول : هذه اللعنة هي العطاء المعطى من فرعون لأتباعه الذين كانوا من خلفه كقطيع الأغنام الذي يسير خلف قائده بدون تفكر أو تدبر ...

وبئس العطاء عطاؤه لهم ...

وإلى هنا تكون هذه السورة الكريمة قد حدثتنا عن قصة نوح مع قومه ، وعن قصة هود مع قومه ، وعن قصة صالح مع قومه ، وعن قصة إبراهيم مع الملائكة ، وعن قصة لوط مع قومه ومع الملائكة ، وعن قصة شعيب مع قومه ، وعن قصة موسى مع فرعون وملئه.

ويلاحظ أن السورة الكريمة قد ساقت لنا تلك القصص حسب ترتيبها التاريخى والزمنى ، لأهداف من أهمها :

١ ـ إبراز وحدة العقيدة في دعوة الأنبياء جميعا ، فكل نبي قد قال لقومه : اعبدوا الله مالكم من إله غيره ... ثم يسوق لهم الأدلة على صدقه فيما بلغه عن ربه.

٢ ـ إبراز أن الناس في كل زمان ومكان فيهم الأخيار الذين يتبعون الرسل ، وفيهم الأشرار الذين يحاربون الحق ...

٣ ـ بيان العاقبة الحسنة التي انتهى إليها المؤمنون بسبب إيمانهم وصدقهم وعملهم الصالح ... والعاقبة السيئة التي انتهى إليها الكافرون بسبب كفرهم وإعراضهم عن الحق ...

قال ـ تعالى ـ (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا ، وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (١).

* * *

ثم ساقت السورة بعد ذلك حتى نهايتها آيات كريمة اشتملت على تعليقات وتعقيبات

__________________

(١) سورة العنكبوت آية ٤٠.

٢٦٩

متنوعة ، وهذه التعليقات والتعقيبات قوية الصلة بما سبقها من آيات ...

وكان التعقيب الأول يهدف إلى بيان أن هذه القرى المهلكة التي منها ما هو قائم ومنها ما هو حصيد ، ما ظلم الله ـ تعالى ـ أهلها ، ولكن هم الذين ظلموا أنفسهم بعصيانهم الرسل ، وإصرارهم على الكفر والعناد ، قال ـ تعالى ـ :

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)(١٠٢)

أى : ذلك الذي قصصناه عليك ـ أيها الرسول الكريم ـ في هذه السورة الكريمة ، وهو جزء (مِنْ أَنْباءِ الْقُرى) المهلكة.

ونحن نقصه عليك ، في هذا القرآن عن طريق وحينا الصادق ، ليعتبر به الناس ، وليعلموا أن هذا القرآن المشتمل على هذا القصص الذي لا علم لهم به من عند الله.

وافتتح ـ سبحانه ـ الكلام باسم الإشارة المفيد للبعد ، للتنويه بشأن هذه الأنباء التي سبق الحديث عنها ، وللإشعار بأنها أنباء هامة فيها الكثير من العظات والعبر لقوم يعقلون.

والضمير في قوله : منها قائم وحصيد ، يعود إلى تلك القرى المهلكة ، والجملة مستأنفة للتحريض على النظر والاعتبار ، فكأن سائلا سأل ما حال هذه القرى المهلكة أباقية آثارها أم عفى عليها الزمن؟ فكان الجواب : منها قائم وحصيد.

أى : من هذه القرى المهلكة ما آثارها قائمة يراها الناظر إليها ، كآثار قوم ثمود.

ومنها ما أثارها عفت وزالت وانطمست وصارت كالزرع المحصود الذي استؤصل بقطعه ، فلم تبق منه باقية ، كديار قوم نوح.

٢٧٠

ففي هذه الجملة الكريمة تشبيه بليغ ، حيث شبه ـ سبحانه ـ القرى التي بعض آثارها ما يزال باقيا بالزرع القائم على ساقه ، وشبه ما زال منها واندثر بالزرع المحصود.

وحصيد مبتدأ محذوف الخبر لدلالة ما قبله عليه ، أى منها قائم ومنها حصيد.

وقوله ـ سبحانه ـ (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ : ..) بيان لمظاهر عدله في قضائه وأحكامه.

والضمير المنصوب في (ظَلَمْناهُمْ) يعود إلى أهل هذه القرى ، لأنهم هم المقصودون بالحديث.

أى : وما ظلمنا أهل هذه القرى بإهلاكنا إياهم ، ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم ، بسبب إصرارهم على الكفر ، وجحودهم للحق ، واستهزائهم بالرسل الذين جاءوا لهدايتهم ...

ثم بين ـ سبحانه ـ موقف آلهتهم المخزى منهم فقال : (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ..).

أى : أن هؤلاء المهلكين عند ما نزل بهم العذاب ، لم تنفعهم أصنامهم التي كانوا يعبدونها من دون الله شيئا من النفع ... بل هي لم تنفع نفسها فقد اندثرت معهم كما اندثروا.

والفاء في قوله ـ سبحانه ـ (فَما أَغْنَتْ) للتفريع على ظلمهم لأنفسهم ، لأن اعتمادهم على شفاعة الأصنام ، وعلى دفاعها عنهم ... من مظاهر جهلهم وغبائهم وظلمهم لأنفسهم.

و (مِنْ) في قوله : (مِنْ شَيْءٍ) لتأكيد انتفاء النفع والإغناء : أى : لم تغن عنهم شيئا ولو قليلا من الإغناء ؛ ولم تنفعهم لا في قليل ولا كثير ...

وجملة (وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) تأكيد لنفى النفع ، وإثبات للضر والخسران.

والتتبيب : مصدر تب بمعنى خسر ، وتبب فلان فلانا إذا أوقعه في الخسران.

ومنه قوله ـ تعالى ـ (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) أى : هلكتا وخسرتا كما قد هلك وخسر هو.

أى : وما زادتهم أصنامهم التي كانوا يعتمدون عليها في دفع الضر سوى الخسران والهلاك.

قال الإمام الرازي : والمعنى : أن الكفار كانوا يعتقدون في الأصنام أنها تعين على تحصيل المنافع ودفع المضار ، ثم إنه ـ تعالى ـ أخبر أنهم عند مساس الحاجة إلى المعين ، ما وجدوا منها شيئا لا جلب نفع ولا دفع ضر ، ثم كما لم يجدوا ذلك فقد وجدوا ضده ، وهو أن ذلك الاعتقاد

٢٧١

زالت عنهم به منافع الدنيا والآخرة ، وجلب لهم مضارهما ، فكان ذلك من أعظم موجبات الخسران» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ سنته في عقاب الظالمين في كل زمان ومكان فقال : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ ...).

والكاف في (وَكَذلِكَ) بمعنى مثل ، والمراد بالقرى : أهلها الظالمون.

والأخذ : هو العقاب المباغت السريع : يقال أخذ فلان الموت ، إذا نزل به بسرعة وقوة.

أى : ومثل ذلك الأخذ والإهلاك للظالمين السابقين ، يكون أخذ ربك وعقابه لكل ظالم يأتى بعدهم وينهج نهجهم.

وجملة ، وهي ظالمة ، في موضع الحال من القرى ، وفائدة هذه الحال الإشعار بأن عقابهم كان بسبب ظلمهم ، وفي ذلك ما فيه من التحذير لكل ظالم لا يبادر بالإقلاع عن ظلمه قبل فوات الأوان.

والمراد بالظلم ما يشمل الكفر وغيره من الجرائم والمعاصي التي نهى الله عنها ، كالكذب وشهادة الزور ، وأكل أموال الناس بالباطل.

وقوله : (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) زيادة في التحذير من الوقوع في الظلم.

أى : إن أخذه ـ سبحانه ـ للظالمين عظيم إيلامه ، شديد وقعه ، لا هوادة فيه ، ولا مخلص منه.

روى الشيخان عن أبى موسى الأشعرى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن ما ساقه في هذا القرآن عن أحوال السابقين فيه العبرة لمن اعتبر ، وفيه العظة لمن خاف عذاب الآخرة الذي ينقسم الناس فيه إلى شقي وسعيد ، فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٨ ص ٥٦.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٧٩.

٢٧٢

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ)(١٠٧)

أى (إِنَّ فِي ذلِكَ) القصص الذي قصصناه عليك ـ يا محمد ـ والمشتمل على بيان سنة الله التي لا تتخلف في إهلاك الظالمين.

(لَآيَةً) أى : لعبرة عظيمة ، وعظة بليغة ، وحجة واضحة.

(لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ) لأنه هو المنتفع بالعبر والعظات لصدق إيمانه ، وصفاء نفسه ، وإيقانه بأن هناك في الآخرة ثوابا وعقابا ، وحسابا على الأعمال الدنيوية ..

أما الذي ينكر الآخرة وما فيها من ثواب وعقاب ، فإنه لا يعتبر بما أصاب الظالمين من عذاب دنيوى دمرهم تدميرا ، بل ينسب ذلك إلى أسباب طبيعة أو فلكية أو غيرهما ، لا علاقة لها بكفرهم وظلمهم وطغيانهم ...

«لأن الخائف من عذاب الآخرة ، عند ما يرى ما حل بالمجرمين في الدنيا من عقاب ، يزداد إيمانا على إيمانه ، وتصديقا على تصديقه ، بأن الله ـ تعالى ـ قادر على أن يعذبهم في الآخرة عذابا أشد وأبقى من عذاب الدنيا ...

ثم بين ـ سبحانه ـ أن يوم القيامة آت لا ريب فيه فقال : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ).

واسم الإشارة في الموضعين ، يعود إلى يوم القيامة المدلول عليه بذكر عذاب الآخرة قبل ذلك ، واللام في قوله ـ سبحانه ـ (مَجْمُوعٌ لَهُ) لام العلة.

أى : ذلك اليوم وهو يوم القيامة ، يوم يجمع الناس فيه لأجل محاسبتهم ومجازاتهم على

٢٧٣

أعمالهم ، ويشهده جميع الخلائق الذين يؤمرون بشهوده ، دون أن يغيب منهم أحد قال صاحب الكشاف : و (النَّاسُ) رفع باسم المفعول الذي هو (مَجْمُوعٌ) كما يرفع بفعله إذا قلت يجمع له الناس.

فإن قلت : لأى فائدة أوثر اسم المفعول على فعله؟

قلت : لما في اسم المفعول من دلالة على ثبات معنى الجمع لليوم ، وأنه يوم لا بد من أن يكون ميعادا مضروبا لجمع الناس له ، وأنه الموصوف بذلك صفة لازمة ، وهو أثبت ـ أيضا ـ لإسناد الجمع إلى الناس وأنهم لا ينفكون منه.

ونظيره قول المهدد : إنك لمنهوب مالك ، محروب قومك ، فيه من تمكن الوصف وثباته ما ليس في الفعل ...

والمراد بالمشهود : الذي كثر شاهدوه ، ومنه قولهم : لفلان مجلس مشهود ، وطعام محضور ... والغرض من ذلك ، وصف هذا اليوم بالهول والعظم وتميزه من بين الأيام ، بأنه اليوم الذي يشهد فيه الخلائق الموقف لا يغيب عنه أحد ...» (١).

ثم قال ـ تعالى ـ (وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ).

والأجل في اللغة : الوقت المضروب لانتهاء مدة معينة ، فأجل الإنسان : هو الوقت المحدد لانقضاء عمره.

والمعدود : أصله المحسوب ، والمراد به هنا : المحدد بمدة معينة لا يزيد عليها ولا يتأخر عنها.

أى : أننا لا نؤخر هذا اليوم إلا لوقت محدد معلوم لنا ، فإذا ما جاء موعد هذا الوقت ، حل هذا اليوم الهائل الشديد وهو يوم القيامة ، الذي اقتضت حكمتنا عدم إطلاع أحد على موعده.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ جانبا من أهوال هذا اليوم ، ومن أحوال الناس فيه فقال : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ).

والشقي : صفة مشبهة من الفعل شقي ، وهو الشخص المتلبس بالشقاوة. والشقاء :

أى سوء الحال ـ بسبب إيثاره الضلالة على الهداية ، والباطل على الحق ...

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٩٢ ـ بتصرف وتلخيص.

٢٧٤

والسعيد : هو الشخص المتلبس بالسعادة ، وبالأحوال الحسنة بسبب إيمانه وعمله الصالح.

والمعنى : حين يأتى هذا اليوم ؛ وهو يوم القيامة ، لا تتكلم فيه نفس بأى كلام إلا بإذن الله ـ تعالى ـ ويكون الناس فيه منقسمين إلى قسمين : قسم شقي معذب بسبب كفره ، وسوء عمله ، وتفريطه في حقوق الله ...

وقسم سعيد منعم بسبب إيمانه : وعمله الصالح ...

فإن قيل : كيف نجمع بين هذه الآية التي تنفى الكلام عن كل نفس إلا بإذن الله وبين قوله ـ تعالى ـ (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها ...).

فالجواب : أن في يوم القيامة مواقف متعددة ، ففي بعضها يجادل الناس عن أنفسهم ، وفي بعضها يكفون عن الكلام إلا بإذن الله ، وفي بعضها يختم على أفواههم ، وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ...

وفي هذه الآية الكريمة إبطال لما زعمه المشركون من أن أصنامهم ستدافع عنهم ، وستشفع لهم يوم القيامة.

قال الإمام ابن كثير : قوله ـ تعالى ـ (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ...) أى : يوم يأتى هذا اليوم وهو يوم القيامة ، لا يتكلم أحد إلا بإذن الله ـ تعالى ـ كما قال ـ سبحانه ـ (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) (١).

وقال ـ سبحانه ـ (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) (٢).

ـ في الصحيحين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث الشفاعة الطويل : ـ «ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ، ودعوة الرسل يومئذ : اللهم سلم سلم» (٣).

ثم فصل ـ سبحانه ـ أحوال الأشقياء والسعداء فقال : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ).

قال الآلوسي : قال الراغب : الزفير ترديد النفس حتى تنتفخ الضلوع منه مأخوذ من زفر فلان إذا حمل حملا بمشقة فتردد فيه نفسه ، ومنه قيل للإماء الحاملات الماء : زوافر.

__________________

(١) سورة النبأ الآية ٣٨.

(٢) سورة طه الآية ١٠٨.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٧٩.

٢٧٥

والشهيق. رد النفس إلى الصدر بصعوبة وعناء.

والمراد بهما : الدلالة على شدة كربهم وغمهم ، وتشبيه حالهم بحال من استولت على قلبه الحرارة ، واستبد به الضيق حتى صار في كرب شديد (١).

والمعنى : فأما الذين كان نصيبهم الشقاء في الآخرة ، بسبب كفرهم واقترافهم للمعاصي في الدنيا ، فمصيرهم إلى الاستقرار في النار ، لهم فيها من ضيق الأنفاس. وحرج الصدور ، وشدة الكروب ما يجعلهم يفضلون الموت على ما هم فيه من هم وغم. وخص ـ سبحانه ـ من بين أحوالهم الأليمة حالة الزفير والشهيق ؛ تنفيرا من الأسباب التي توصل إلى النار ، وتبشيعا لتلك الحالة التي فيها ما فيها من سوء المنظر ، وتعاسة الحال ...

ثم أكد ـ سبحانه ـ خلودهم في النار فقال : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ...).

أى أن الأشقياء لهم في النار العذاب الأليم ، وهم ماكثون فيها مكث بقاء وخلود لا يبرحونها مدة دوام السموات التي تظلهم ، والأرض التي تقلهم فهو في معنى قوله ـ تعالى ـ (خالِدِينَ فِيها أَبَداً).

قال الآلوسى ما ملخصه : والمقصود من هذا التعبير : التأبيد ونفى الانقطاع على منهاج قول العرب لا أفعل كذا ، ما لاح كوكب ، وما أضاء الفجر ، وما اختلف الليل والنهار ... إلى غير ذلك من كلمات التأبيد عندهم ...

وليس المقصود منه تعليق قرارهم فيها بدوام هذه السموات والأرض ، فإن النصوص القاطعة دالة على تأبيد قرارهم فيها.

وجوز أن يحمل ذلك على التعليق ، ويراد بالسموات والأرض ، سماوات الآخرة وأرضها ، وهما دائمتان أبدا ...) (٢).

أما قوله ـ سبحانه ـ (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) فقد ذكر العلماء في المقصود به أقوالا متعددة أوصلها بعضهم إلى ثلاثة عشر قولا من أشهرها :

أن هذا الاستثناء في معنى الشرط فكأنه ـ سبحانه ـ يقول :

١ ـ خالدين فيها خلودا أبديا إن شاء ربك ذلك إذ كل شيء خاضع لمشيئة ربك وإرادته ... وعليه يكون المقصود من هذا الاستثناء وأمثاله إرشاد العباد إلى وجوب تفويض الأمور

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٢ ص ١٢٦.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٢ ص ١٢٦.

٢٧٦

إليه ـ سبحانه ـ وإعلامهم بأن كل شيء خاضع لإرادته ومشيئته فهو الفاعل المختار الذي لا يجب عليه شيء ولا حق لأحد عليه (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ).

وليس المقصود من هذا الاستثناء وأمثاله نفى خلودهم في النار لأنه لا يلزم من الاستثناء المعلق على المشيئة وقوع المشيئة ولأنه قد أخبرنا ـ سبحانه ـ في كتابه بخلود الكافرين خلودا أبديا في النار.

قال ـ تعالى ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً. إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) (١).

وشبيه بهذا الاستثناء ما حكاه ـ سبحانه ـ عن نبيه شعيب ـ عليه‌السلام ـ في قوله :

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ. قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها ، وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا ، وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ...) (٢).

فشعيب ـ عليه‌السلام ـ مع ثقته المطلقة في أنه لن يعود هو وأتباعه إلى ملة الكفر ، نراه يفوض الأمر إلى مشيئة الله تأدبا معه ـ سبحانه ..

فيقول : وما يكون لنا أن نعود فيها ـ أى ملة الكفر ـ إلا أن يشاء ربنا شيئا غير ذلك وهذا من الأدب العالي في مخاطبة الأنبياء لخالقهم ـ عزوجل.

وقد ذكر كثير من المفسرين هذا القول ضمن الأقوال في معنى الآية ، وبعضهم اقتصر عليه ولم يذكر سواه ، ومن هذا البعض صاحب المنار ، وصاحب محاسن التأويل ...

أما صاحب المنار فقد قال : قوله (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) أى : أن هذا الخلود الدائم هو المعد لهم في الآخرة ... إلا ما شاء ربك من تغيير في هذا النظام في طور آخر ، فهو إنما وضع بمشيئته ، وسيبقى في قبضة مشيئته ، وقد عهد مثل هذا الاستثناء في سياق الأحكام القطعية للدلالة على تقييد تأبيدها بمشيئة الله ـ تعالى ... فقط ، لا لإفادة عدم عمومها ...» (٣).

وأما صاحب محاسن التأويل فقد قال : فإن قلت : ما معنى الاستثناء بالمشيئة ، وقد ثبت خلود أهل الدارين فيهما من غير استثناء؟.

فالجواب : أن الاستثناء بالمشيئة قد استعمل في أسلوب القرآن ، للدلالة على الثبوت والاستمرار.

__________________

(١) سورة النساء. الآيتان ١٦٨ ، ١٦٩.

(٢) راجع تفسيرنا لسورة الأعراف ص ٣٢٣.

(٣) تفسير المنار ج ١٢ ص ١٦٠.

٢٧٧

والنكتة في الاستثناء بيان أن هذه الأمور الثابتة الدائمة ، إنما كانت كذلك بمشيئة الله ـ تعالى ـ لا بطبيعتها في نفسها ، ولو شاء ـ تعالى ـ أن يغيرها لفعل.

وابن كثير قد أشار إلى ذلك بقوله : يعنى أن دوامهم فيها ليس أمرا واجبا بذاته ، بل هو موكول إلى مشيئته ـ تعالى ـ» (١).

٢ ـ أن الاستثناء هنا خاص بالعصاة من المؤمنين.

ومن العلماء الذين رجحوا هذا القول الإمامان : ابن جرير وابن كثير.

أما ابن جرير فقد قال ما ملخصه بعد أن سرد الأقوال في ذلك :

«وأولى الأقوال في تأويل هذه الآية بالصواب ، القول الذي ذكرناه عن الضحاك وقتادة من أن ذلك استثناء في أهل التوحيد من أهل الكبائر ، أنه يدخلهم النار خالدين فيها أبدا ، إلا ما شاء تركهم فيها أقل من ذلك ، ثم يخرجهم فيدخلهم الجنة ـ أى العصاة من المؤمنين ...» (٢).

وأما ابن كثير فقد وضح ما اختاره ابن جرير ورجحه فقال ما ملخصه :

وقد اختلف المفسرون في المراد من هذا الاستثناء على أقوال كثيرة ... نقل كثيرا منها الإمام ابن جرير ، واختار : أن الاستثناء عائد على العصاة من أهل التوحيد ، ممن يخرجهم الله من النار بشفاعة الشافعين ، من الملائكة والنبيين والمؤمنين ، حين يشفعون في أصحاب الكبائر ، ثم تأتى رحمة أرحم الراحمين ، فتخرج من النار من لم يعمل خيرا قط ، وقال يوما من الدهر : لا إله إلا الله ، كما وردت بذلك الأخبار الصحيحة المستفيضة عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يبقى بعد ذلك في النار إلا من وجب عليه الخلود فيها ، ولا محيد له عنها ، وهذا الذي عليه كثير من العلماء قديما وحديثا في تفسير هذه الآية الكريمة» (٣).

وقد ذكر الشيخ الشوكانى هذا القول ضمن أحد عشر قولا فقال ما ملخصه :

وقوله (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) : قد اختلف أهل العلم في هذا الاستثناء على أقوال منها :

(أ) أنه من قوله (فَفِي النَّارِ) كأنه قال : إلا ما شاء ربك من تأخير قوم عن ذلك ...

(ب) أن الاستثناء إنما هو للعصاة من الموحدين وإنهم يخرجون بعد مدة من النار ، وعلى هذا يكون قوله (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) عاما في الكفرة والعصاة ، ويكون الاستثناء من

__________________

(١) تفسير القاسمى ج ٩ ص ٣٤٨٦.

(٢) تفسير ابن جرير ج ١٢ ص ٧٠.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٨١.

٢٧٨

خالدين ، وتكون ما بمعنى من ، وقد ثبت بالأحاديث المتواترة تواترا يفيد العلم الضروري بأنه يخرج من النار أهل التوحيد ، فكان ذلك مخصصا لكل عموم.

(ج) أن الاستثناء من الزفير والشهيق ، أى لهم فيها زفير وشهيق (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) من أنواع العذاب غير الزفير والشهيق ...» (١).

ويبدو لنا أن الرأى الأول أرجح الآراء ، ويشهد لهذا قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك :

(إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) أى فهو إن شاء غير ذلك فعله ، وإن شاء ذلك فعله ، ما شاء من الأفعال كان وما لم يشاء لم يكن.

وجاء ـ سبحانه ـ بصيغة المبالغة (فَعَّالٌ) للإشارة إلى أنه ـ سبحانه ـ لا يتعاصى عليه فعل من الأفعال بأى وجه من الوجوه.

ثم بين ـ سبحانه ـ حسن عاقبة السعداء فقال : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا) أى في الآخرة بسبب إيمانهم وتقواهم في الدنيا ، (فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ).

أى : عطاء منه ـ سبحانه ـ لهم غير مقطوع عنهم ، يقال : جذ الشيء يجذه جذا ، أى : كسره وقطعه ، ومنه الجذاذ ـ بضم الجيم ـ لما تكسر من الشيء كما في قوله ـ تعالى ـ حكاية عما فعله إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ بالأصنام (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) ...

وبذلك نرى أن هذه الآيات قد فصلت أحوال السعداء والأشقياء ، تفصيلا يدعو العقلاء إلى أن يسلكوا طريق السعداء ، وأن يتجنبوا طريق الأشقياء.

* * *

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك من الآيات ما فيه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من قومه من أذى ، وما فيه تثبيت لقلوب المؤمنين ، وما فيه إرشاد لهم إلى ما يقربهم من الخير ، ويبعدهم عن الشر فقال ـ تعالى ـ :

(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨)

__________________

(١) راجع تفسير الشوكانى ج ٢ ص ٥٢٥.

٢٧٩

فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)(١١٥)

قال الفخر الرازي : اعلم أنه ـ تعالى ـ لما شرح أقاصيص عبدة الأوثان ثم أتبعه بأحوال الأشقياء وأحوال السعداء شرح للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحوال الكفار من قومه فقال : (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ ...) والمعنى : فلا تكن ، إلا أنه حذف النون لكثرة الاستعمال ، ولأن حرف النون إذا وقع على طرف الكلام ، لم يبق عند التلفظ به إلا مجرد الغنة ، فلا جرم أسقطوه ..» (١).

والمرية بكسر الميم ـ الشك المتفرع عن محاجة ومجادلة بين المتخاصمين.

والمعنى : لقد قصصنا عليك أيها الرسول الكريم الكثير من أخبار السابقين وبينا لك مصير السعداء والأشقياء ... ومادام الأمر كذلك ، فلا تك في شك من أن عبادة هؤلاء المشركين

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٨ ص ٦٨.

٢٨٠