التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0657-4
الصفحات: ٦٠٢

وقوله (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ ، قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) بيان لموقفه من مقالتهم ، والضمير في «فأسرها» يعود إلى تلك المقالة التي قالوها.

أى : سمع يوسف ـ عليه‌السلام ـ ما قاله إخوته في حقه وفي حق شقيقه فساءه ذلك ، ولكنه كظم غيظه ، ولم يظهر لهم تأثره مما قالوه وإنما رد عليهم بقوله «بل أنتم» أيها الإخوة «شر مكانا» أى : موضعا ومنزلا ممن نسبتموه إلى السرقة وهو برىء ، لأنكم أنتم الذين كذبتم على أبيكم وخدعتموه ، وقلتم له بعد أن ألقيتم أخاكم في الجب ، لقد أكله الذئب.

«والله» ـ تعالى ـ «أعلم» منى ومنكم «بما تصفون» به غيركم من الأوصاف التي يخالفها الحق ، ولا يؤيدها الواقع.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قالوا ليوسف على سبيل الرجاء والاستعطاف لكي يطلق لهم أخاهم حتى يعود معهم إلى أبيهم فقال : (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).

أى : قال إخوة يوسف له على سبيل الاستعطاف : (يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ) الذي أكرمنا وأحسن إلينا «إن» أخانا هذا الذي أخذته على سبيل الاسترقاق لمدة سنة ، قد ترك من خلفه في بلادنا «أبا شيخا كبيرا» متقدما في السن ، وهذا الأب يحب هذا الابن حبا جما فإذا كان ولا بد من أن تأخذ واحدا على سبيل الاسترقاق بسبب هذه السرقة «فخذ أحدنا مكانه» حتى لا نفجع أبانا فيه.

وإننا ما طلبنا منك هذا الطلب ، إلا لأننا «نراك من المحسنين» إلينا ، المكرمين لنا ، فسر على طريق هذا الإحسان والإكرام ، وأطلق سراح أخينا «بنيامين» ليسافر معنا.

ولكن هذا الرجاء والتلطف والاستعطاف منهم ليوسف ، لم ينفعهم شيئا ، فقد رد عليهم في حزم وحسم بقوله : (قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ ...) و «معاذ» منصوب بفعل محذوف.

أى : قال يوسف لهم : نعوذ بالله ـ تعالى ـ معاذا ، من أن نأخذ في جريمة السرقة إلا الشخص الذي وجدنا صواع الملك عنده وهو «بنيامين».

وأنتم الذين أفتيتم بأن السارق في شريعتكم عقوبته استرقاقه لمدة سنة ، فنحن نسير في هذا الحكم تبعا لشريعتكم.

(إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) إذا أخذنا شخصا آخر سوى الذي وجدنا متاعنا عنده. والظلم تأباه

٤٠١

شريعتنا كما تأباه شريعتكم ، فاتركوا الجدال في هذا الأمر الذي لا ينفع معه الجدال ، لأننا لا نريد أن نكون ظالمين.

وبهذا الرد الحاسم قطع يوسف حبال آمال إخوته في العفو عن بنيامين أو في أخذ أحدهم مكانه ، فانسحبوا من أمامه تعلوهم الكآبة ، وطفقوا يفكرون في مصيرهم وفي موقفهم من أبيهم عند العودة إليه ...

وقد حكى القرآن ذلك بأسلوبه البليغ فقال : (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ ...).

وقوله «استيأسوا» يئسوا يأسا تاما فالسين والتاء للمبالغة.

و «خلصوا» من الخلوص بمعنى الانفراد.

و «نجيا» حال من فاعل خلصوا. وهو مصدر أطلق على المتناجين في السر على سبيل المبالغة.

والفاء في قوله (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ ...) معطوفة على محذوف يفهم من الكلام.

والتقدير : لقد بذل إخوة يوسف أقصى جهودهم معه ليطلق لهم سراح أخيهم بنيامين ، فلما يئسوا يأسا تاما من الوصول إلى مطلوبهم ، انفردوا عن الناس ليتشاوروا فيما يفعلونه ، وفيما يقولونه لأبيهم عند ما يعودون إليه ولا يجد معهم «بنيامين» ..

هذه الجملة الكريمة وهي قوله ـ تعالى ـ (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) من أبلغ الجمل التي اشتمل عليها القرآن الكريم ، ومن العلماء الذين أشاروا إلى ذلك الإمام الثعالبي في كتاب «الإيجاز والإعجاز» فقد قال : من أراد أن يعرف جوامع الكلم ، ويتنبه لفضل الاختصار ويحيط ببلاغة الإيجاز ، ويفطن لكفاية الإيجاز ، فليتدبر القرآن وليتأمل علوه على سائر الكلام.

ثم قال : فمن ذلك قوله ـ تعالى ـ في إخوة يوسف (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) وهذه صفة اعتزالهم جميع الناس ، وتقليبهم الآراء ظهرا لبطن ، وأخذهم في تزوير ما يلقون به أباهم عند عودتهم إليه ، وما يوردون عليه من ذكر الحادث. فتضمنت تلك الكلمات القصيرة ، معاني القصة الطويلة» (١).

__________________

(١) تفسير القاسمى ج ٩ ص ٣٥٧٨.

٤٠٢

وقوله : (قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ ...) إلخ بيان لما قاله لهم أحدهم خلال تناجيهم مع بعضهم في عزلة عن الناس.

ولم يذكر القرآن اسم كبيرهم ، لأنه لا يتعلق بذكره غرض منهم ، وقد ذكر بعض المفسرين أن المراد به «روبيل» لأنه أسنهم ، وذكر بعضهم أنه «يهوذا» لأنه كبيرهم في العقل ...

أى : وحين اختلى إخوة يوسف بعضهم مع بعض لينظروا في أمرهم بعد أن احتجز عزيز مصر أخاهم بنيامين ، قال لهم كبيرهم :

«ألم تعلموا» وأنتم تريدون الرجوع إلى أبيكم وليس معكم «بنيامين».

«أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله» عند ما أرسله معكم ، بأن تحافظوا عليه ، وأن لا تعودوا إليه بدونه إلا أن يحاط بكم.

وألم تعلموا كذلك أنكم في الماضي قد فرطتم وقصرتم في شأن يوسف ، حيث عاهدتم أباكم على حفظه ، ثم ألقيتم به في الجب.

والاستفهام في قوله : «ألم تعلموا ...» للتقرير. أى : لقد علمتم علما يقينا بعهد أبيكم عليكم بشأن بنيامين ، وعلمتم علما يقينا بخيانتكم لعهد أبيكم في شأن يوسف ، فبأى وجه تعودون إلى أبيكم وليس معكم أخوكم بنيامين؟

قال الشوكانى : قوله : (أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) أى عهدا من الله ـ تعالى ـ بحفظ ابنه ورده إليه. ومعنى كونه من الله : أنه بإذنه.

وقوله (وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) معطوف على ما قبله. والتقدير : ألم تعلموا أن أباكم ... وتعلموا تفريطكم في يوسف ، فقوله «ومن قبل» متعلق بتعلموا.

أى : تعلموا تفريطكم في يوسف من قبل. على أن ما مصدرية (١).

وقوله (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي ...) حكاية للقرار الذي اتخذه كبيرهم بالنسبة لنفسه.

أى : قال كبير إخوة يوسف لهم : لقد علمتم ما سبق أن قلته لكم ، فانظروا في أمركم ، أما أنا «فلن أبرح الأرض» أى : فلن أفارق أرض مصر «حتى يأذن لي أبى» بمفارقتها ، لأنه قد أخذ علينا العهد الذي تعلمونه بشأن أخى بنيامين. «أو يحكم الله لي» بالخروج منها

__________________

(١) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٣ ص ٤٦.

٤٠٣

وبمفارقتها على وجه لا يؤدى إلى نقض الميثاق مع أبى «وهو» ـ سبحانه ـ «خير الحاكمين» لأنه لا يحكم إلا بالحق والعدل.

ثم واصل كبيرهم حديثه معهم فقال : «ارجعوا» يا إخوتى «إلى أبيكم» يعقوب «فقولوا» له برفق وتلطف. «يا أبانا إن ابنك» بنيامين «سرق» صواع الملك ، ووجد الصواع في رحله وقولوا له أيضا : إننا «ما شهدنا إلا بما علمنا» أى : وما شهدنا على أخينا بهذه الشهادة إلا على حسب علمنا ويقيننا بأنه سرق.

«وما كنا للغيب حافظين» أى : وما كنا نعلم الغيب بأنه سيسرق صواع الملك ، عند ما أعطيناك عهودنا ومواثيقنا بأن نأتيك به معنا إلا أن يحاط بنا.

وقولوا كذلك على سبيل زيادة التأكيد ، إن كنت في شك من قولنا هذا فاسأل «القرية التي كنا فيها» والمراد بالقرية أهلها.

أى : فأرسل من تريد إرساله إلى أهل القرية التي حصلت فيها حادثة السرقة فإنهم سيذكرون لك تفاصيلها.

قالوا : ومرادهم بالقرية مدينة مصر التي حدث فيها ما حدث ، وعبروا عنها بالقرية لأنهم يقصدون مكانا معينا منها ، وهو الذي حصل فيه التفتيش لرحالهم ، والمراجعة بينهم وبين عزيز مصر ومعاونيه.

وقوله : (وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) معطوف على ما قبله.

أى : اسأل أهل القرية التي كنا فيها ، واسأل «العير» أى : قوافل التجارة التي كنا فيها عند ذهابنا وإيابنا فإن أصحاب هذه القوافل يعلمون ما حدث من ابنك «بنيامين».

وقوله (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) أى : وإنا لصادقون في كل ما أخبرناك به. فكن واثقا من صدقنا.

وقد ختم كبيرهم كلامه بهذه الجملة ، زيادة في تأكيد صدقهم ، لأن ماضيهم معه يبعث على الريبة والشك ، فهم الذين قالوا له قبل ذلك في شأن يوسف : «أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون» ثم ألقوا به في الجب ، «وجاءوا أباهم عشاء يبكون ...».

وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد صورت بأسلوب حافل بالإثارة والمحاورة ، والأخذ والرد ، والترغيب والترهيب .. ما دار بين يوسف وإخوته عند ما قدموا إليه للمرة الثانية ومعهم شقيقه «بنيامين».

* * *

٤٠٤

فماذا كان بعد ذلك؟ لقد كان بعد ذلك أن عاد الإخوة إلى أبيهم وتركوا بمصر كبيرهم وأخاهم بنيامين ، ويطوى القرآن الحكيم ـ على عادته في هذه السورة الكريمة ـ أثر ذلك على قلب أبيهم المفجوع ، إلا أنه يسوق لنا رده عليهم ، الذي يدل على كمال إيمانه ، وسعة آماله في رحمة الله ـ تعالى ـ فيقول :

(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ)(٨٧)

أى : «قال» يعقوب لبنيه ، الذين حضروا إليه من رحلتهم ، فأخبروه بما هيج أحزانه ...

قال لهم : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أى : ليس الأمر كما تدعون ، ولكن أنفسكم هي التي زينت لكم أمرا أنتم أردتموه ، فصبرى على ما قلتم صبر جميل ، أى لا جزع معه ، ولا شكوى إلا لله ـ تعالى ـ.

قال ابن كثير : «قال لهم كما قال لهم حين جاءوا على قميص يوسف بدم كذب «بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل».

قال محمد بن إسحاق : لما جاءوا يعقوب وأخبروه بما جرى ، اتهمهم ، وظن أن ما فعلوه

٤٠٥

ببنيامين يشبه ما فعلوه بيوسف فقال : «بل سولت لكم أنفسكم أمرا ...».

وقال بعض الناس : لما كان صنيعهم هذا مرتبا على فعلهم الأول ، سحب حكم الأول عليه ، وصح قوله «بل سولت لكم أنفسكم أمرا ...».

والخلاصة أن الذي حمل يعقوب ـ عليه‌السلام ـ على هذا القول لهم ، المفيد لتشككه في صدق ما أثبتوه لأنفسهم من البراءة ، هو ماضيهم معه ، فإنهم قد سبق لهم أن فجعوه في يوسف بعد أن عاهدوه على المحافظة عليه.

ولكن يعقوب هنا أضاف إلى هذه الجملة جملة أخرى تدل على قوة أمله في رحمة الله ، وفي رجائه الذي لا يخيب في أن يجمع شمله بأبنائه جميعا فقال ـ عليه‌السلام ـ (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).

أى : عسى الله ـ تعالى ـ أن يجمعني بأولادى جميعا ـ يوسف وبنيامين وروبيل الذي تخلف عنهم في مصر ـ إنه ـ سبحانه ـ هو العليم بحالي ، الحكيم في كل ما يفعله ويقضى به.

وهذا القول من يعقوب ـ عليه‌السلام ـ يدل دلالة واضحة على كمال إيمانه ، وحسن صلته بالله ـ تعالى ـ وقوة رجائه في كرمه وعطفه ولطفه ـ سبحانه ـ.

وكأنه بهذا القول يرى بنور الله الذي غرسه في قلبه ، ما يراه غيره بحواسه وجوارحه.

ثم يصور ـ سبحانه ـ ما اعترى يعقوب من أحزانه على يوسف ، جددها فراق بنيامين له فقال ـ تعالى ـ (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ ، وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ).

وقوله «يا أسفا» من الأسف وهو أشد الحزن والتحسر على ما فات من أحداث. يقال : أسف فلان على كذا يأسف أسفا ، إذا حزن حزنا شديدا.

وألفه بدل من ياء المتكلم للتخفيف والأصل يا أسفى.

وكظيم بمعنى مكظوم ، وهو الممتلئ بالحزن ولكنه يخفيه من الناس ولا يبديه لهم.

ومنه قوله ـ تعالى ـ (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) أى : المخفين له ، مأخوذ من كظم فلان السقاء : إذا سده على ما بداخله.

والمعنى : وبعد أن استمع يعقوب إلى ما قاله له أبناؤه ، ورد عليهم ... انتابته الأحزان والهموم ، وتجددت في قلبه الشجون ... فتركهم واعتزل مجلسهم وقال :

«يا أسفا على يوسف» أى : يا حزنى الشديد على يوسف أقبل فهذا أوان إقبالك.

٤٠٦

(وَابْيَضَّتْ) عينا يعقوب من شدة الحزن على يوسف وأخيه حتى ضعف بصره ، حيث انقلب سواد عينيه بياضا من كثرة البكاء.

(فَهُوَ كَظِيمٌ) أى : ممتلئ حزنا على فراق يوسف له ، إلا أنه كاتم لهذا الحزن لا يبوح به لغيره من الناس.

قالوا : وإنما تأسف على يوسف دون أخويه ـ بنيامين وروبيل ـ مع أن الرزء الأحدث أشد على النفس ... لأن الرزء في يوسف كان قاعدة مصيباته التي ترتبت عليها الرزايا والخطوب ولأن حبه ليوسف كان حبا خاصا لا يؤثر فيه مرور الأعوام ... ولأن من شأن المصيبة الجديدة أن تذكر بالمصيبة السابقة عليها ، وتهيج أحزانها ، وقد عبر عن هذا المعنى متمم ابن نويرة في رثائه لأخيه مالك فقال :

لقد لامنى عند القبور على البكا

رفيقي لتذراف الدموع السوافك

فقال أتبكي كل قبر رأيته

لقبر ثوى بين اللوى والدكادك

فقلت له : إن الشجى يبعث الشجى

فدعني ، فهذا كله قبر مالك

وقال صاحب الكشاف : «فإن قلت : كيف جاز لنبي الله يعقوب أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ؟

قلت : الإنسان مجبول على أن لا يملك نفسه عند الشدائد من الحزن.

ولقد بكى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ولده إبراهيم وقال : إن العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا ، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون.

وإنما الجزع المذموم ما يقع من الجهلة من الصياح والنياحة ، ولطم الصدور والوجوه وتمزيق الثياب.

وعن الحسن أنه بكى على ولد له ، فقيل له في ذلك؟ فقال : ما رأيت الله جعل الحزن عارا على يعقوب» (١).

ثم يحكى القرآن ما قاله أبناء يعقوب له ، وقد رأوه على هذه الصورة من الهم والحزن فيقول : (قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ).

قال الشوكانى : قوله «تفتأ» أى : لا تفتأ ، فحذف حرف النفي لأمن اللبس. قال الكسائي : فتأت وفتئت أفعل كذا : أى ما زلت أفعل كذا.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٢.

٤٠٧

وقال الفراء : إن «لا» مضمرة. أى لا تفتأ ... ومنه قول الشاعر :

فقلت يمين الله أبرح قاعدا

ولو قطعوا رأسى لديك وأوصالى

أى : «لا أبرح قاعدا ...» (١).

و «حرضا» مصدر حرض. كتعب ـ والحرض : الإشراف على الهلاك من شدة الحزن أو المرض أو غيرهما.

والمعنى : قال أبناء يعقوب له بعد أن سمعوه وهو يتحسر على فراق يوسف له : تالله ـ يا أبانا ـ ما تزال تذكر يوسف بهذا الحنين الجارف ، والحزن المضنى ، «حتى تكون حرضا». أى : مشرفا على الموت لطول مرضك.

«أو تكون من الهالكين» المفارقين لهذه الدنيا.

وهنا يرد عليهم الأب الذي يشعر بغير ما يشعرون به من ألم وأمل ... (قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).

و «البث» ما ينزل بالإنسان من مصائب يعظم حزن صاحبها بسببها. حتى أنه لا يستطيع إخفاء هذا الحزن ، وأصله التفريق وإثارة الشيء ومنه قولهم : بثت الريح التراب إذا فرقته.

قالوا : والإنسان إذا قدر على كتم ما نزل به من المصائب كان حزنا ، وإذا لم يقدر على كتمه كان بثا ...

والمعنى : قال يعقوب لأولاده الذين لاموه على شدة حزنه على يوسف : إنما أشكو ، «بثي» أى : همي الذي انطوى عليه صدري «إلى الله» ـ تعالى ـ وحده ، لا إلى غيره ، فهو العليم بحالي ، وهو القادر على تفريج كربى ، فاتركوني وشأنى مع ربي وخالقي. فإنى «أعلم من الله» أى : من لطفه وإحسانه وثوابه على الصبر على المصيبة «ما لا تعلمون» أنتم ، وإنى لأرجو أن يرحمني وأن يلطف بي ، وأن يجمع شملي بمن فارقنى من أولادى ، فإن حسن ظني به ـ سبحانه ـ عظيم.

قال صاحب الظلال : «وفي هذه الكلمات ـ التي حكاها القرآن عن يعقوب ـ عليه‌السلام ـ ، يتجلى الشعور بحقيقة الألوهية في هذا القلب الموصول ، كما تتجلى هذه الحقيقة ذاتها بجلالها الغامر ، ولألائها الباهر.

__________________

(١) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٣ ص ٤٨.

٤٠٨

إن هذا الواقع الظاهر الميئس من يوسف ، وهذا المدى الطويل الذي يقطع الرجاء من حياته فضلا عن عودته إلى أبيه ... إن هذا كله لا يؤثر شيئا في شعور الرجل الصالح بربه ، فهو يعلم من حقيقة ربه ومن شأنه ما لا يعلمه هؤلاء المحجوبون عن تلك الحقيقة ...

وهذه قيمة الإيمان بالله ...

إن هذه الكلمات «أعلم من الله ما لا تعلمون» تجلو هذه الحقيقة بما لا تملك كلماتنا نحن أن تجلوها. وتعرض مذاقا يعرفه من ذاق مثله ، فيدرك ماذا تعنى هذه الكلمات في نفس العبد الصالح يعقوب ... والقلب الذي ذاق هذا المذاق ، لا تبلغ الشدائد منه ـ مهما ـ بلغت إلا أن يتعمق اللمس والمشاهدة والمذاق ...» (١).

ثم يمضى يعقوب ـ عليه‌السلام ـ في رده على أولاده فيأمرهم أن يواصلوا بحثهم عن يوسف وأخيه ، وأن لا يقنطوا من رحمة الله فيقول : (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ).

والتحسس : هو طلب الشيء بطريق الحواس بدقة وحكمة وصبر على البحث.

أى : قال يعقوب لأبنائه : يا بنى «اذهبوا» إلى أرض مصر وإلى أى مكان تتوقعون فيه وجود يوسف وأخيه «فتحسسوا» أمرهما. وتخبروا خبرهما ، وتعرفوا نبأهما بدون كلل أو ملل.

وفي التعبير بقوله «فتحسسوا» إشارة إلى أمره لهم بالبحث الجاد الحكيم المتأنى «ولا تيأسوا من روح الله» أى : ولا تقنطوا من فرج الله وسعة رحمته ، وأصل معنى الروح التنفس. يقال : أراح الإنسان إذا تنفس ، ثم استعير لحلول الفرج.

وكلمة «روح» ـ بفتح الراء ـ أدل على هذا المعنى ، لما فيها من ظل الاسترواح من الكرب الخانق بما تتنسمه الأرواح من رحمة الله.

وقوله (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) تعليل لحضهم على التحسس أى : لا تقصروا في البحث عن يوسف وأخيه ، ولا تقنطوا من رحمة الله ، فإنه لا يقنط من رحمة الله إلا القوم الكافرون ، لعدم علمهم بالله ـ تعالى ـ وبصفاته وبعظيم قدرته ، وبواسع رحمته ...

أما المؤمنون فإنهم لا ييأسون من فرج الله أبدا ، حتى ولو أحاطت بهم الكروب ، واشتدت عليهم المصائب ...

__________________

(١) في ظلال القرآن ج ١٣ ص ٢٠٢٦.

٤٠٩

واستجاب الأبناء لنصيحة أبيهم ، فأعدوا عدتهم للرحيل إلى مصر للمرة الثالثة ، ثم ساروا في طريقهم حتى دخلوها ، والتقوا بعزيز مصر الذي احتجز أخاهم بنيامين ، وتحكى السورة الكريمة ما دار بينهم وبينه فتقول :

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا

٤١٠

يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(٩٨)

وقوله ـ تعالى ـ (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا ...) حكاية لما قاله إخوة يوسف له ، بعد أن امتثلوا أمر أبيهم ، فخرجوا إلى مصر للمرة الثالثة ، ليتحسسوا من يوسف وأخيه ، وليشتروا من عزيزها ما هم في حاجة إليه من طعام.

والبضاعة : هي القطعة من المال ، يقصد بها شراء شيء.

والمزجاة : هي القليلة الرديئة التي ينصرف عنها التجار إهمالا لها.

قالوا : وكانت بضاعتهم دراهم زيوفا لا تؤخذ إلا بوضيعة ـ أى : بأقل قيمة ـ وقيل غير ذلك.

وأصل الإزجاء : السوق والدفع قليلا قليلا ، ومنه قوله ـ تعالى ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ...). أى : يرسله رويدا رويدا ...

وسميت البضاعة الرديئة القليلة مزجاة ، لأنها ترد وتدفع ولا يقبلها التجار إلا بأبخس الأثمان.

والمعنى : وقال إخوة يوسف له بأدب واستعطاف ، بعد أن دخلوا عليه للمرة الثالثة «يا أيها العزيز» أى : الملك صاحب الجاه والسلطان والسعة في الرزق ، «مسنا وأهلنا الضر» أى : أصابنا وأصاب أهلنا معنا الفقر والجدب والهزل من شدة الجوع.

(وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) أى : وجئنا معنا من بلادنا ببضاعة قليلة رديئة يردها وينصرف عنها كل من يراها من التجار ، إهمالا لها ، واحتقارا لشأنها.

وإنما قالوا له ذلك : استدرارا لعطفه ، وتحريكا لمروءته وسخائه ، قبل أن يخبروه بمطلبهم الذي حكاه القرآن في قوله :

(فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا ...) أى : هذا هو حالنا شرحناه لك ، وهو يدعو إلى الشفقة والرحمة ، ما دام أمرنا كذلك ، فأتمم لنا كيلنا ولا تنقص منه شيئا ، وتصدق علينا فوق حقنا بما أنت أهل له من كرم ورحمة (إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) على غيرهم جزاء كريما حسنا

٤١١

ويبدو أن يوسف ـ عليه‌السلام ـ قد تأثر بما أصابهم من ضر وضيق حال ، تأثرا جعله لا يستطيع أن يخفى حقيقته عنهم أكثر من ذلك ، فبادرهم بقوله : (قالَ : هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ).

أى : قال لهم يوسف ـ عليه‌السلام ـ على سبيل التعريض بهم ، والتذكير بأخطائهم : هل علمتم ما فعلتموه بيوسف وأخيه من أذى وعدوان عليهما ، وقت أن كنتم تجهلون سوء عاقبة هذا الأذى والعدوان.

قالوا : وقوله هذا يدل على سمو أخلاقه حتى لكأنه يلتمس لهم العذر ، لأن ما فعلوه معه ومع أخيه كان في وقت جهلهم وقصور عقولهم ، وعدم علمهم بقبح ما أقدموا عليه ...

وقيل : نفى عنهم العلم وأثبت لهم الجهل ، لأنهم لم يعملوا بمقتضى علمهم.

والأول أولى وأقرب إلى ما يدل عليه سياق الآيات بعد ذلك ، من عفوه عنهم ، وطلب المغفرة لهم.

وهنا يعود إلى الإخوة صوابهم ، وتلوح لهم سمات أخيهم يوسف ، فيقولون له في دهشة وتعجب (قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ)؟.

أى : أإنك لأنت أخونا يوسف الذي أكرمنا ... والذي فارقناه وهو صغير فأصبح الآن عزيز مصر ، والمتصرف في شئونها؟ ..

فرد عليهم بقوله (قالَ أَنَا يُوسُفُ) الذي تتحدثون عنه. والذي فعلتم معه ما فعلتم ...

«وهذا أخى» بنيامين الذي ألهمنى الله الفعل الذي عن طريقه احتجزته عندي ، ولم أرسله معكم ...

«قد منّ الله» ـ تعالى ـ «علينا» حيث جمعنا بعد فراق طويل ، وبدل أحوالنا من عسر إلى يسر ومن ضيق إلى فرج ...

ثم علل ذلك بما حكاه القرآن عنه في قوله (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).

أى : إن من شأن الإنسان الذي يتقى الله ـ تعالى ـ ويصون نفسه عن كل ما لا يرضاه ، ويصبر على قضائه وقدره ، فإنه ـ تعالى ـ يرحمه برحمته ، ويكرمه بكرمه ، لأنه ـ سبحانه ـ لا يضيع أجر من أحسن عملا ، وتلك سنته ـ سبحانه ـ التي لا تتخلف ...

وهنا يتجسد في أذهان إخوة يوسف ما فعلوه معه في الماضي ، فينتابهم الخزي والخجل ،

٤١٢

حيث قابل إساءتهم إليه بالإحسان عليهم ، فقالوا له في استعطاف وتذلل : (قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا ، وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) أى : نقسم بالله ـ تعالى ـ لقد اختارك الله ـ تعالى ـ لرسالته ، وفضلك علينا بالتقوى وبالصبر وبكل الصفات الكريمة.

أما نحن فقد كنا خاطئين فيما فعلناه معك ، ومتعمدين لما ارتكبناه في حقك من جرائم ، ولذلك أعزك الله ـ تعالى ـ وأذلنا ، وأغناك وأفقرنا ، ونرجو منك الصفح والعفو.

فرد عليهم يوسف ـ عليه‌السلام ـ بقوله : (قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).

والتثريب : التعيير والتوبيخ والتأنيب. وأصله كما يقول الآلوسى : من الثرب ، وهو الشحم الرقيق في الجوف وعلى الكرش ... فاستعير للتأنيب الذي يمزق الأعراض ويذهب بهاء الوجه ، لأنه بإزالة الشحم يبدو الهزال ، كما أنه بالتأنيب واللوم تظهر العيوب ، فالجامع بينهما طريان النقص بعد الكمال.

أى : قال يوسف لإخوته على سبيل الصفح والعفو يا إخوتى : لا لوم ولا تأنيب ولا تعيير عليكم اليوم ، فقد عفوت عما صدر منكم في حقي وفي حق أخى من أخطاء وآثام وأرجو الله ـ تعالى ـ أن يغفر لكم ما فرط منكم من ذنوب وهو ـ سبحانه ـ أرحم الراحمين بعباده.

وقوله «لا تثريب» اسم لا النافية للجنس ، و «عليكم» متعلق بمحذوف خبر لا ، و «اليوم» متعلق بذلك الخبر المحذوف.

أى : لا تقريع ولا تأنيب ثابت أو مستقر عليكم اليوم.

وليس التقييد باليوم لإفادة أن التقريع ثابت في غيره ، بل المراد نفيه عنهم في كل ما مضى من الزمان ، لأن الإنسان إذا لم يوبخ صاحبه في أول لقاء معه على أخطائه فلأن يترك ذلك بعد أول لقاء أولى.

ثم انتقل يوسف ـ عليه‌السلام ـ من الحديث عن الصفح عنهم إلى الحديث عن أبيه الذي ابيضت عيناه عليه من الحزن فقال :

(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ).

أى. اذهبوا يا إخوتى بقميصي هذا «فألقوه على وجه أبى» الذي طال حزنه بسبب فراقي له «يأت بصيرا» أى يرتد إليه كامل بصره ، بعد أن ضعف من شدة الحزن.

«وأتونى» معه إلى هنا ومعكم أهلكم جميعا من رجال ونساء وأطفال.

وقول يوسف هذا إنما هو بوحي من الله ـ تعالى ـ فهو ـ سبحانه ـ الذي ألهمه أن إلقاء

٤١٣

قميصه على وجه أبيه يؤدى إلى ارتداد بصره إليه كاملا ، وهذا من باب خرق العادة بالنسبة لهذين النبيين الكريمين.

واستجاب الإخوة لتوجيه يوسف ، فأخذوا قميصه وعادوا إلى أوطانهم ويصور القرآن ما حدث فيقول : (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ).

و «فصلت العير» أى خرجت من مكان إلى مكان آخر. يقال : فصل فلان من بلده كذا فصولا ، إذا جاوز حدودها إلى حدود بلدة أخرى.

و «تفندون» من الفند وهو ضعف العقل بسبب المرض والتقدم في السن.

والمعنى : وحين غادرت الإبل التي تحمل إخوة يوسف حدود مصر ، وأخذت طريقها إلى الأرض التي يسكنها يعقوب وبنوه ، قال يعقوب ـ عليه‌السلام ـ لمن كان جالسا معه من أهله وأقاربه ، استمعوا إلى «إنى لأجد ريح يوسف».

أى : رائحته التي تدل عليه ، وتشير إلى قرب لقائي به.

و «لولا» أن تنسبونى إلى الفند وضعف العقل لصدقتمونى فيما قلت ، أو لولا أن تنسبونى إلى ذلك لقلت لكم إنى أشعر أن لقائي بيوسف قد اقترب وقته وحان زمانه.

فجواب لولا محذوف لدلالة الكلام عليه.

وقد أشم الله ـ تعالى ـ يعقوب ـ عليه‌السلام ـ ما عبق من القميص من رائحة يوسف من مسيرة أيام ، وهي معجزة ظاهرة له ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

وقال الإمام مالك ـ رحمه‌الله ـ أوصل الله ـ تعالى ـ ريح قميص يوسف ليعقوب ، كما أوصل عرش بلقيس إلى سليمان قبل أن يرتد إلى سليمان طرفه.

ولكن المحيطين بيعقوب الذين قال لهم هذا القول ، لم يشموا ما شمه ، ولم يجدوا ما وجده ، فردوا عليه بقولهم : (قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ).

قالوا له على سبيل التسلية : إنك يا يعقوب ما زلت غارقا في خطئك القديم الذي لا تريد أن يفارقك. وهو حبك ليوسف وأملك في لقائه والإكثار من ذكره.

وتحقق ما وجده يعقوب من رائحة يوسف ... وحل أوان المفاجأة التي حكاها القرآن في قوله (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً ، قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).

أى : وحين اقترب أبناء يعقوب من دار أبيهم ، تقدم البشير الذي يحمل قميص يوسف إلى

٤١٤

يعقوب ، فألقى القميص على وجهه فعاد إلى يعقوب بصره كأن لم يكن به ضعف أو مرض من قبل ذلك.

وهذه معجزة أكرم الله ـ تعالى ـ بها نبيه يعقوب ـ عليه‌السلام ـ حيث رد إليه بصره بسبب إلقاء قميص يوسف على وجهه.

وهنا قال يعقوب لأبنائه ولمن أنكر عليه قوله (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ أَلَمْ أَقُلْ) قبل ذلك (إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ) أى : من رحمته وفضله وإحسانه (ما لا تَعْلَمُونَ) أنتم.

وهنا قال الأبناء لأبيهم في تذلل واستعطاف : (يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا).

أى : تضرع إلى الله ـ تعالى ـ أن يغفر لنا ما فرط منا من ذنوب في حقك وفي حق أخوينا يوسف وبنيامين.

(إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) في حقك وفي حق أخوينا ، ومن شأن الكريم أن يصفح ويعفو عمن اعترف له بالخطإ.

فكان رد أبيهم عليهم أن قال لهم (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) أى : سوف أتضرع إلى ربي لكي يغفر لكم ذنوبكم.

(إِنَّهُ) ـ سبحانه ـ (هُوَ الْغَفُورُ) أى الكثير المغفرة (الرَّحِيمُ) أى : الكثير الرحمة لمن شاء أن يغفر له ويرحمه من عباده.

وهكذا صورت لنا السورة الكريمة ما دار بين يوسف وإخوته ، وبين يعقوب وبنيه في هذا اللقاء المثير الحافل بالمفاجآت والبشارات.

ولكن الأمر لم ينته عند هذا الحد ، فقد كانت هناك مفاجآت وبشارات أخرى تحققت معها رؤيا يوسف وهو صغير ، كما تحقق معها تأويل يعقوب لها فقد هاجر يعقوب ببنيه وأهله إلى مصر للقاء ابنه يوسف ، وهناك اجتمع شملهم واستمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى ذلك في نهاية القصة فيقول :

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها

٤١٥

رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)(١٠١)

وقوله ـ سبحانه ـ (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ...) معطوف على كلام محذوف والتقدير :

استجاب إخوة يوسف لقوله لهم : (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) فأتوا بأهلهم أجمعين ، حيث رحلوا جميعا من بلادهم إلى مصر ومعهم أبوهم ، فلما وصلوا إليها ودخلوا على يوسف ، ضم إليه أبويه وعانقهما عناقا حارا.

وقال للجميع (ادْخُلُوا) بلاد (مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) من الجوع والخوف.

وقد ذكر المفسرون هنا كلاما يدل على أن يوسف ـ عليه‌السلام ـ وحاشيته ووجهاء مصر ، عند ما بلغهم قدوم يعقوب بأسرته إلى مصر ، خرجوا جميعا لاستقبالهم كما ذكروا أن المراد بأبويه : أبوه وخالته ، لأن أمه ماتت وهو صغير.

إلا أن ابن كثير قال : «قال محمد بن إسحاق وابن جرير : كان أبوه وأمه يعيشان ، وأنه لم يقم دليل على موت أمه ، وظاهر القرآن يدل على حياتها» ...

ثم قال : «وهذا الذي ذكره ابن جرير ، هو الذي يدل عليه السياق» (١).

والمراد بدخول مصر : الاستقرار بها ، والسكن في ربوعها.

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٤٩١.

٤١٦

قالوا : وكان عدد أفراد أسرة يعقوب الذين حضروا معه ليقيموا في مصر ما بين الثمانين والتسعين.

والمراد بالعرش في قوله (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) السرير الذي يجلس عليه.

أى : وأجلس يوسف أبويه معه على السرير الذي يجلس عليه ، تكريما لهما ، وإعلاء من شأنهما.

(وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) أى : وخر يعقوب وأسرته ساجدين من أجل يوسف ، وكان ذلك جائزا في شريعتهم على أنه لون من التحية ، وليس المقصود به السجود الشرعي لأنه لا يكون إلا لله ـ تعالى ـ.

«وقال» يوسف متحدثا بنعمة الله (يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا ...).

أى : وقال يوسف لأبيه : هذا السجود الذي سجدتموه لي الآن ، هو تفسير رؤياي التي رأيتها في صغرى. فقد جعل ربي هذه الرؤيا حقا ، وأرانى تأويلها وتفسيرها بعد أن مضى عليها الزمن الطويل.

قالوا : وكان بين الرؤيا وبين ظهور تأويلها أربعون سنة.

والمراد بهذه الرؤيا ما أشار إليه القرآن في مطلع هذه السورة في قوله (يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ).

ثم قال يوسف لأبيه أيضا : (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) ربي ـ عزوجل ـ (إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) بعد أن مكثت بين جدرانه بضع سنين.

وعدى فعل الإحسان بالباء مع أن الأصل فيه أن يتعدى بإلى ، لتضمنه معنى اللطف ولم يذكر نعمة إخراجه من الجب ، حتى لا يجرح شعور إخوته الذين سبق أن قال لهم : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ).

وقوله (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) معطوف على ما قبله تعدادا لنعم الله ـ تعالى ـ أى : وقد أحسن بي ربي حيث أخرجنى من السجن ، وأحسن بي أيضا حيث يسر لكم أموركم ، وجمعنى بكم في مصر ، بعد أن كنتم مقيمين في البادية في أرض كنعان بفلسطين.

وقوله (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) أى جمعنى بكم من بعد أن أفسد الشيطان بيني وبين إخوتى ، حيث حملهم على أن يلقوا بي في الجب.

٤١٧

وأصل (نَزَغَ) من النزغ بمعنى النخس والدفع. يقال : نزغ الراكب دابته إذا نخسها ودفعها لتسرع في سيرها.

وأسند النزغ إلى الشيطان ، لأنه هو الموسوس به ، والدافع إليه ، ولأن في ذلك سترا على إخوته وتأدبا معهم.

وقوله (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) تذييل قصد به الثناء على الله ـ تعالى ـ بما هو أهله.

أى : إن ربي وخالقي ، لطيف التدبير لما يشاء تدبيره من أمور عباده ، رفيق بهم في جميع شئونهم من حيث لا يعلمون.

إنه ـ سبحانه ـ هو العليم بأحوال خلقه علما تاما ، الحكيم في جميع أقواله وأفعاله.

ثم ختم يوسف ـ عليه‌السلام ـ ثناءه على الله ـ تعالى ـ بهذا الدعاء الذي حكاه القرآن عنه في قوله : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) أى : يا رب قد أعطيتنى شيئا عظيما من الملك والسلطان بفضلك وكرمك.

(وَعَلَّمْتَنِي) ـ أيضا ـ شيئا كثيرا (مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أى : من تفسيرها وتعبيرها تعبيرا صادقا بتوفيقك وإحسانك.

(فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أى : خالقهما على غير مثال سابق ، وهو منصوب على النداء بحرف مقدر أى : يا فاطر السموات والأرض.

(أَنْتَ وَلِيِّي) وناصري ومعينى (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ).

(تَوَفَّنِي) عند ما يدركني أجلى على الإسلام ، وأبقنى (مُسْلِماً) مدة حياتي.

(وَأَلْحِقْنِي) في قبري ويوم الحساب (بِالصَّالِحِينَ) من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

وبهذا الدعاء الجامع الذي توجه به يوسف إلى ربه ـ تعالى ـ يختتم القرآن الكريم قصة يوسف مع أبيه ومع إخوته ومع غيرهم ممن عاشرهم والتقى بهم وهو دعاء يدل على أن يوسف ـ عليه‌السلام ـ لم يشغله الجاه والسلطان ولم يشغله لقاؤه عن طاعة ربه ، وعن تذكر الآخرة وما فيها من حساب ..

وهذا هو شأن المصطفين الأخيار الذين نسأل الله ـ تعالى ـ أن يحشرنا معهم ، ويلحقنا بهم ، ويوفقنا للسير على نهجهم ...

* * *

٤١٨

ثم يختتم الله ـ تعالى ـ هذه السورة الكريمة بما يدل على أن هذا القرآن من عند الله ـ تعالى ـ وبما يدخل التسلية على قلب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما يفتح له باب الأمل في النصر على أعدائه ... فيقول :

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠)

٤١٩

لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(١١١)

واسم الإشارة في قوله ـ سبحانه ـ (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ...). يعود على ما ذكره الله ـ تعالى ـ في هذه السورة من قصص يتعلق بيوسف وإخوته وأبيه وغيرهم ، أى : ذلك الذي قصصناه عليك ـ أيها الرسول الكريم ـ في هذه السورة ، وما قصصناه عليك في غيرها (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أى : من الأخبار الغيبية التي لا يعلمها علما تاما شاملا إلا الله ـ تعالى ـ وحده.

ونحن (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) ونعلمك به لما فيه من العبر والعظات.

وقوله : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) مسوق للتدليل على أن هذا القصص من أنباء الغيب الموحاة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أى : ومما يشهد بأن هذا الذي قصصناه عليك في هذه السورة من أنباء الغيب ، أنك ـ أيها الرسول الكريم ـ ما كنت حاضرا مع إخوة يوسف ، وقت أن أجمعوا أمرهم للمكر به ، ثم استقر رأيهم على إلقائه في الجب ، وما كنت حاضرا أيضا وقت أن مكرت امرأة العزيز بيوسف ، وما كنت مشاهدا لتلك الأحداث المتنوعة التي اشتملت عليها هذه السورة الكريمة ، ولكنا أخبرناك بكل ذلك لتقرأه على الناس ، ولينتفعوا بما فيه من حكم وأحكام ، وعبر وعظات.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ في خلال قصة نوح ـ عليه‌السلام ـ : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (١).

وقوله ـ تعالى ـ في خلال قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٢).

__________________

(١) سورة هود الآية ٤٩.

(٢) سورة القصص الآية ٤٤.

٤٢٠