التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0657-4
الصفحات: ٦٠٢

و «وسخر لكم الليل والنهار» بأن جعلهما متعاقبين ، يأتى أحدهما في أعقاب الآخر ، فتنتفعون بكل منهما بما يصلح أحوالكم.

فالليل تنتفعون به في راحتكم ومنامكم ... والنهار تنتفعون به في معاشكم وطلب رزقكم قال ـ تعالى ـ (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً ، وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً).

تم ختم ـ سبحانه ـ هذه النعم بقوله (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ ...).

أى : وأعطاكم ـ فضلا عما تقدم من النعم ـ بعضا من جميع ما سألتموه إياه من نعم ، على حسب ما تقتضيه إرادته وحكمته التي لا تعلمونها كما قال ـ تعالى ـ (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ ، إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) (١).

قال الجمل ما ملخصه «قوله (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) أى : كل نوع أو كل صنف سألتموه أى : شأنكم أن تسألوه لاحتياجكم إليه ، وإن لم تسألوه بالفعل.

وفي «من» قولان : أحدهما أنها زائدة في المفعول الثاني ، أى : آتاكم كل ما سألتموه.

والثاني أن تكون تبعيضية أى : وآتاكم بعض جميع ما سألتموه وعلى هذا فالمفعول محذوف تقديره : وآتاكم شيئا من كل ما سألتموه ، وهو رأى سيبويه ..» (٢).

وجملة «وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها» مؤكدة لمضمون ما قبلها.

أى : وإن تحاولوا عد نعم الله عليكم ، وتحاولوا تحديد هذا العدد ، لن تستطيعوا ذلك لكثرة هذه النعم ، وخفاء بعضه عليكم.

والإحصاء : ضبط العدد وتحديده ، مأخوذ من الحصا وهو صغار الحجارة لأن العرب كانوا يعدون الأعداد الكثيرة بالحصى تجنبا للخطأ.

قال ابن كثير : «يخبر ـ سبحانه ـ عن عجز العباد من تعداد نعمه فضلا عن القيام بشكرها ، كما قال طلق بن حبيب ـ رحمه‌الله ـ : إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد ، وإن نعم الله أكثر من يحصيها العباد ولكن أصبحوا توابين وأمسوا توابين.

وفي صحيح البخاري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «لك الحمد غير مكفى ـ أى لم يكفه غيره بل هو ـ سبحانه ـ يكفى غيره ـ ولا مودع ـ أى متروك حمده ـ ،

__________________

(١) سورة الشورى آية ٢٧.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥٢٦.

٥٦١

ولا مستغنى عنه ربنا ـ أى هو الذي يحتاج إليه الخلق ...» (١).

والمراد بالإنسان في قوله (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) نوع معين منه وهو الكافر كما في قوله ـ تعالى ـ (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا).

أى : إن الإنسان الكافر لشديد الظلم لنفسه بعبادته لغير الله ـ تعالى ـ ، ولشديد الجحود والكفران لنعمه ـ عزوجل.

ويرى بعضهم أن المراد بالإنسان هنا الجنس.

قال الشوكانى : قوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ) أى لنفسه بإغفاله لشكر نعم الله عليه ، وظاهره شمول كل إنسان. وقال الزجاج : إن الإنسان هنا اسم جنس يقصد به الكافر خاصة ، كما في قوله ـ تعالى ـ (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) «كفار» أى : شديد كفران نعم الله عليه ، جاحد لها ، غير شاكر لله عليها كما ينبغي ويجب عليه» (٢).

وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد ابتدأت ببيان سوء عاقبة الذين بدلوا نعمة الله كفرا ، وثنت بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يحض المؤمنين الصادقين على الاستزادة من إقامة الصلاة ومن الإنفاق في سبيل الله.

ثم ساقت عشر نعم تدل دلالة واضحة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وعلمه وقدرته ، وهذه النعم هي خلق السموات والأرض ، وإنزال المطر من السماء ، وإخراج الثمرات به ، وتسخير الفلك في البحار ، وتسخير الأنهار ، وتسخير الشمس والقمر دائبين ، وتسخير الليل والنهار.

ثم ختمت ببيان أنه ـ سبحانه ـ قد أعطى الناس ـ فضلا عن كل ذلك ـ جميع ما يحتاجون إليه في مصالحهم على حسب حكمته ومشيئته ولكن الناس ـ إلا من عصم الله ـ لا يقابلون نعمه ـ سبحانه ـ بما تستحقه من شكر ، لشدة ظلمهم وكثرة جحودهم.

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك بعض الدعوات التي تضرع بها إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ إلى ربه ، وهي دعوات تدل على شكره لخالقه ، وحسن صلته به ، ورجائه في فضله .. فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٤٣٠.

(٢) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٣ ص ١١٠.

٥٦٢

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ)(٤١)

هذه بعض الدعوات التي ابتهل بها إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ إلى ربه ، وقد تقبلها الله ـ تعالى ـ منه قبولا حسنا.

وفي هذه الدعوات تنبيه لمشركي مكة الذين بدلوا نعمة الله كفرا ، والذين جحدوا نعم الله عليهم ، بأن من الواجب عليهم أن يثوبوا إلى رشدهم ، وأن يستجيبوا لدعوة الحق ، وأن يقتدوا بإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ في إيمانه وشكره لخالقه ـ سبحانه ـ.

٥٦٣

و «إذ» ظرف لما مضى من الزمان ، وهو منصوب على المفعولية لفعل محذوف.

و «رب» منادى بحرف نداء محذوف أى : يا رب.

والمراد بالبلد : مكة المكرمة شرفها الله ـ تعالى ـ.

والمعنى : واذكر ـ أيها العاقل ـ وقت أن قال إبراهيم مناديا ربه : يا رب اجعل هذا البلد ذا أمن وسلام واستقرار.

وقدم إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ في دعائه نعمة الأمن على غيرها ـ لأنها أعظم أنواع النعم ، ولأنها إذا فقدها الإنسان ، اضطرب فكره ، وصعب عليه أن يتفرغ لأمور الدين أو الدنيا بنفس مطمئنة ، وبقلب خال من المتغصات والمزعجات.

قال الإمام الرازي : «سئل بعض العلماء : الأمن أفضل أم الصحة؟ فقال الأمن أفضل ، والدليل عليه أن شاة لو انكسرت رجلها فإنها تصح بعد زمان ، ولا يمنعها هذا الكسر من الإقبال على الرعي والأكل والشرب.

ولو أنها ربطت ـ وهي سليمة ـ في موضع ، وربط بالقرب منها ذئب ، فإنها تمسك عن الأكل والشرب ، وقد تستمر على ذلك إلى أن تموت.

وذلك يدل على أن الضرر الحاصل من الخوف ، أشد من الضرر الحاصل من ألم الجسد ، (١).

وقال الإمام ابن كثير ما ملخصه : «يذكر الله ـ تعالى ـ في هذا المقام ـ محتجا على مشركي مكة الذين كانوا يزعمون أنهم على ملة إبراهيم ـ بأن مكة إنما وضعت أول ما وضعت على عبادة الله ـ تعالى ـ وحده ، وأن إبراهيم قد تبرأ ممن عبد غير الله ، وأنه دعا لمكة بالأمن وقد استجاب الله له فقال ـ تعالى ـ : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ..) وقال ـ تعالى ـ (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ ، فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ...) (٢).

وقال صاحب الكشاف : «فإن قلت : أى فرق بين قوله ـ تعالى ـ في سورة البقرة (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً ...) (٣).

وبين قوله هنا (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ...)؟.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ١٣٥.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٤٣١.

(٣) الآية ١٢٦.

٥٦٤

قلت : قد سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون ، وسأل في الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن ، كأنه قال : هو بلد مخوف فاجعله آمنا ..» (١).

وقوله ـ سبحانه ـ (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) حكاية لدعوة أخرى من الدعوات التي تضرع بها إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ إلى خالقه ـ سبحانه ـ.

وقوله «واجنبنى» بمعنى وأبعدنى مأخوذ من قولك جنبت فلانا عن كذا ، إذا أبعدته عنه ، وجعلته في جانب آخر ، وفعله جنب من باب نصر.

والمراد ببنيه : أولاده من صلبه ، أوهم من تناسل معهم.

والأصنام جمع صنم ، وهو التمثال الذي كان مشركو العرب يصنعونه من الحجر ونحوه لكي يعبدوه من دون الله.

والمعنى : أسألك يا ربي أن تجعل مكة بلدا آمنا ، كما أسألك أن تعصمني وتعصم ذريتي من بعدي من عبادة الأصنام ، وأن تجعل عبادتنا خالصة لوجهك الكريم.

وقد بين ـ سبحانه ـ في آيات أخرى ، أنه قد أجابه في بعض ذريته دون بعض.

ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ (سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ* كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ* وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ* وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) (٢).

وقوله : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ ...) تعليل لسؤال إبراهيم ربه أن يجنبه وذريته عبادة الأصنام.

أى : يا رب لقد تضرعت إليك بأن تعصمني وبنىّ عن عبادة الأصنام ، لأنها كانت سببا في إضلال كثير من الناس عن اتباع الحق ، وعن الهداية إلى الصراط المستقيم.

وأسند الإضلال إليها مع أنها جمادات لا تعقل ، لأنها كانت سببا في إضلال كثير من الناس ، فكأنها أضلتهم ، فنسبة الإضلال إليها مجازية من باب نسبة الشيء إلى سببه ، كما يقال : فلان فتنته الدنيا وأضلته ، وهو إنما فتن وضل بسببها.

وقوله ـ سبحانه ـ (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) بيان لموقفه ـ عليه‌السلام ـ من المهتدين والضالين.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٧٩.

(٢) سورة الصافات الآيات ١٠٩ ـ ١١٣.

٥٦٥

أى : فمن تبعني من الناس في ديني وعقيدتي ، فإنه يصير بهذا الاتباع من أهل ديني وهو دين الإسلام ، ومن عصاني ولم يقبل الدخول في الدين الحق ، فإنى أفوض أمره إليك ، فأنت ـ سبحانك ـ لا تسأل عما تفعل وغيرك يسأل.

فالجملة الكريمة تدل على الأدب السامي ، والخلق العالي ، الذي كان يتحلى به إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ في مخاطبته لربه ـ عزوجل ـ حيث فوض الأمور إليه دون أن يقطع فيها برأى ، كما تدل على رقة قلبه وشفقته على العصاة من الوقوع في العذاب الأليم.

وشبيه بهذه الآية ما حكاه ـ سبحانه ـ عن عيسى ـ عليه‌السلام ـ في قوله : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١).

هذا ، ولا نرى وجها لما ذهب إليه بعض المفسرين ، من أن قول إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ «ومن عصاني فإنك غفور رحيم» كان قبل أن يعلم بأن الله لا يغفر الشرك ، أو أن المراد بالمعصية هنا مادون الشرك ، أو أن المغفرة مقيدة بالتوبة من الشرك ..» (٢).

نقول : لا نرى وجها لكل ذلك ، لأن الجملة الكريمة ليس المقصود بها الدعاء بالمغفرة لمن عصى ، وإنما المقصود بها تفويض أمر العصاة إلى الله ـ تعالى ـ إن شاء غفر لهم ورحمهم ، وإن شاء عذبهم.

ثم حكى ـ سبحانه ـ دعاء آخر من تلك الأدعية التي تضرع بها إبراهيم إليه ـ تعالى ـ فقال : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ ..).

و «من» في قوله «من ذريتي» للتبعيض.

والوادي : هو المكان المنخفض بين مرتفعات ، والمقصود به وادي مكة المكرمة.

والمعنى : يا ربنا إنى أسكنت بعض ذريتي وهو ابني إسماعيل ومن يولد له ، بواد غير ذي زرع قريبا من بيتك المحرم ، أى : الذي حرمت التعرض له بسوء توقيرا وتعظيما ، والذي جعلته مثابة للناس وأمنا ، وفضلته على غيره من الأماكن.

وقوله (رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) بيان للباعث الذي دفعه لإسكان بعض ذريته في هذا المكان الطيب.

__________________

(١) سورة المائدة آية ١١٨.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٣ ص ٢١١.

٥٦٦

أى : يا ربنا إنى أسكنتهم ، هذا المكان ليتفرغوا لإقامة الصلاة في جوار بيتك ، وليعمروه بذكرك وطاعتك.

فاللام في قوله «ليقيموا» للتعليل وهي متعلقة بأسكنت.

وخصت الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات ، لمزيد فضلها ، ولكمال العناية بشأنها.

قال القرطبي : «تضمنت هذه الآية أن الصلاة بمكة أفضل من الصلاة بغيرها ، لأن معنى «ربنا ليقيموا الصلاة» أى : أسكنتهم عند بيتك المحرم ليقيموا الصلاة فيه.

وقد اختلف العلماء هل الصلاة بمكة أفضل أو في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟

فذهب عامة أهل الأثر إلى أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمائة صلاة ، واحتجوا بحديث عبد الله بن الزبير قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلاة في مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد ، إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدى هذا بمائة صلاة».

وقد روى عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديث ابن الزبير» (١).

وقوله (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) دعاء جامع لمطالب الدين والدنيا ، لأن الناس يذهبون إلى البيت الحرام للتقرب إلى الله ـ تعالى ـ ، وليتبادلوا المنافع عن طريق التجارة وغيرها مع السكان المجاورين لهذا البيت المعمور.

والأفئدة : جمع فؤاد ، والمراد بها القلوب والنفوس.

والمراد بالناس في قوله «من الناس» المؤمنون منهم ، لأنهم هم الذين يذهبون إلى البيت الحرام ، ليشهدوا منافع لهم ، وليتقربوا إليه ـ سبحانه ـ بحج بيته.

وتهوى إليهم : أى تسرع إليهم ، يقال : هوى ـ بفتح الواو ـ يهوى ـ بكسرها ـ إذا أسرع في السير ، ومنه قولهم : هوت الناقة تهوى هويا ، إذا عدت عدوا شديدا.

والأصل فيه أن يتعدى باللام ، وعدى هنا بإلى لتضمنه معنى تميل وتسرع.

أى : يا ربنا إنى تركت بعض ذريتي في جوار بيتك ، فأسألك يا إلهى أن تجعل نفوس الناس وقلوبهم تحن إلى هذا المكان ، وتطير فرحا إليه ، وارزق من تركتهم وديعة في جوار بيتك من

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ٩ ص ٢٧١.

٥٦٧

الثمرات المختلفة ما يغنيهم لعلهم بهذا العطاء الجزيل يزدادون شكرا لك ، ومسارعة في طاعتك وعبادتك.

وقال ـ سبحانه ـ (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) ولم يقل فاجعل الناس تهوى إليهم ، للإشارة إلى أن سعى الناس إليهم يكون عن شوق ومحبة حتى لكأن المسرع إلى هذا الجوار الطيب هو القلب والروح وليس الجسد وحده.

قال صاحب الكشاف ما ملخصه : «وقد أجاب الله ـ تعالى ـ دعوة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ فجعل البيت الحرام حرما آمنا تجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنه ، ثم فضله في وجود أصناف الثمار فيه على كل ريف وعلى أخصب البلاد وأكثرها ثمارا ، وفي أى بلد من الشرق والغرب ، ترى الأعجوبة التي يريكها الله بواد غير ذي زرع ـ وهي اجتماع البواكير من الفواكه المختلفة الأزمان من الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد ، وليس ذلك من آياته عجيب ، متعنا الله بسكنى حرمه ، ووفقنا لشكر نعمه وأدام لنا التشرف بالدخول تحت دعوة إبراهيم ، ورزقنا طرفا من سلامة ذلك القلب السليم» (١).

هذا ، وقد ساق الإمام الآلوسى عند تفسيره لهذه الآية قصة إسكان إبراهيم لبعض ذريته في هذا المكان فقال ما ملخصه : «وهذا الإسكان إنما كان بعد أن حدث ما حدث بين إبراهيم وبين زوجه سارة ، وذلك أن هاجر أم إسماعيل كانت أمة من القبط لسارة فوهبتها ـ لإبراهيم عليه‌السلام ـ فتزوجها فولدت له إسماعيل. فدبت الغيرة في قلب سارة ولم تصبر على بقائها معها فأخرج إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ هاجر وابنها إلى أرض مكة ، فوضعهما عند البيت ، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد ، وليس يومئذ أحد ، وليس بها ماء ، ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ، ثم قفى منطلقا فتبعته هاجر ، فقالت له : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس.

قالت له ذلك مرارا وهو لا يلتفت إليها ، فقالت له : آلله أمرك بهذا؟ قال : نعم. قالت : إذا لا يضيعنا ، ثم رجعت.

وانطلق إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه ، استقبل بوجهه البيت ـ وكان إذ ذاك مرتفعا من الأرض كالرابية ـ ثم دعا بهذه الدعوات ، ورفع يديه فقال : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ..) الآية.

ثم إنها جعلت ترضع ابنها وتشرب مما في السقاء حتى إذا نفد ما في السقاء ، عطشت

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٨١.

٥٦٨

وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلبط ـ أى يتلوى ويتمرغ ـ من شدة العطش ، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها ، فقامت عليه ، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا. فلم تر أحدا ، فهبطت من الصفا ، حتى إذا بلغت الوادي ، رفعت طرف درعها ، ثم سعت سعى الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا ، فلم تر أحدا ، ففعلت ذلك سبع مرات ، ولذلك سعى الناس بينهما سبعا.

فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت : صه! تريد نفسها ثم تسمعت فسمعت أيضا صوتا فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث ، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم ، فبحث بعقبه حتى ظهر الماء ، فجعلت تحوضه وتغرف منه في سقائها وهو يفور ، فشربت وأرضعت ولدها ، وقال لها الملك : لا تخافي الضيعة ، فإن هاهنا بيت الله ـ تعالى ـ يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وإن الله ـ تعالى ـ لن يضيع أهله.

ثم إنه مرت بهما رفقة من جرهم ، فرأوا طائرا عائفا ـ أى يتردد على الماء ولا يمضى ـ فقالوا : لا طير إلا على الماء ، فبعثوا رسولهم فنظر فإذا بالماء ، فأتاهم فقصدوه وأم إسماعيل عنده ، فقالوا : أشركينا في مائك نشركك في ألباننا ، ففعلت ، فلما أدرك إسماعيل ـ عليه‌السلام ـ زوجوه امرأة منهم» (١).

ثم حكى ـ سبحانه ـ دعاء آخر من تلك الدعوات الخاشعة التي تضرع بها إبراهيم إلى ربه فقال : (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ ، وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ).

أى : يا ربنا إنك وحدك العليم بما تخفيه نفوسنا من أسرار ؛ وما تعلنه وتظهره من أقوال ، لأن الظاهر والمضمر بالنسبة إليك سواء ، فأنت يا إلهى لا يخفى عليك شيء من الأشياء ، سواء أكان هذا الشيء في الأرض أم في السماء أم في غيرهما.

وإنما ذكر السماء والأرض لأنهما المشاهدتان للناس ، وإلا فعلمه ـ سبحانه ـ محيط بكل ما في هذا الكون.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قاله إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ في مقام شكره لله على نعمه فقال ـ تعالى ـ : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ ، إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٣ ص ٢١٢ وراجع صحيح البخاري تجد فيه حديثا طويلا في هذا الموضوع.

٥٦٩

والحمد هو الثناء باللسان على من صدرت منه النعمة ، وأل فيه للاستغراق أى : جميع أجناس الحمد ثابتة لله رب العالمين ، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء والحمد فهو صادر عنه ـ سبحانه ـ إذ هو الخالق لكل شيء.

وعلى في قوله «على الكبر» للاستعلاء المجازى وهي بمعنى مع. أى : وهب لي مع الكبر الذي لا تحصل معه في الغالب ولادة.

وإسماعيل هو الابن الأكبر لإبراهيم ، وقد رزقه الله به من زوجه هاجر كما سبق أن أشرنا ـ ، أما إسحاق فكان أصغر من إسماعيل ، وقد رزقه الله به من زوجه ساره.

قال الفخر الرازي : «اعلم أن القرآن يدل على أنه ـ تعالى ـ إنما أعطى إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ هذين الولدين على الكبر والشيخوخة ، فأما مقدار ذلك السن فغير معلوم من القرآن. وإنما يرجع فيه إلى الروايات فقيل لما ولد إسماعيل كان سن إبراهيم تسعا وتسعين سنة ، ولما ولد إسحاق كان سنه مائة واثنتي عشرة سنة.

وإنما ذكر قوله «على الكبر لأن المنة بهبة الولد في هذا السن أعظم ، من حيث إن هذا الزمان زمان وقوع اليأس من الولادة ، والظفر بالحاجة في وقت اليأس من أعظم النعم ، ولأن الولادة في هذه السن المتقدمة كانت آية لإبراهيم» (١).

وجملة «إن ربي لسميع الدعاء» تعليل لجملة «وهب لي على الكبر» أى : وهب لي على الكبر هذين الولدين ، لأنه ـ سبحانه ـ سمع دعائي وتقبله ، وأجاب طلبى دون أن يخيبني.

فالسميع هنا مستعمل على سبيل المجاز في إجابة المطلوب ، ومنه قول القائل : سمع الملك كلام فلان ، إذا اعتد به وقبله وعمل بمقتضاه. وهو من إضافة الصفة المتضمنة للمبالغة إلى المفعول. أى : إن ربي يسمع دعائي ويجيبه.

ثم ختم إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ تلك الدعوات الطيبات التي تضرع بها إلى ربه ، بما حكاه الله عنه في قوله : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ* رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ).

أى : يا رب اجعلنى من عبادك الذين يؤدون الصلاة في أوقاتها بإخلاص وخشوع ، واجعل من ذريتي من يقتدى بي في ذلك ، كما أسألك يا رب أن تتقبل دعائي ولا تخيبني في مطلوب أسألك إياه.

كما أسألك ـ يا إلهى ـ أن تغفر لي ذنوبي ، وأن تغفر لوالدي وللمؤمنين ، يوم يقوم الناس

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٩ ص ١٣٨.

٥٧٠

للحساب ، فتجازى كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب.

وإنما طلب إبراهيم لوالديه المغفرة ، قبل أن يتبين له أن والده عدو لله. فلما تبين له ذلك تبرأ منه. قال ـ تعالى ـ (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) (١).

أما أمه فقال بعضهم : إنها كانت مؤمنة ، وقال آخرون : لعلها توفيت قبل نبوته.

وبعد أن حكى ـ سبحانه ـ تلك الدعوات الطيبات التي تضرع بها إبراهيم إلى ربه ، والتي تضمنت أمهات الفضائل ، كسلامة القلب ، وطهارة النفس ، ورقة العاطفة ، وحسن المراقبة ، وحب الخير لغيره.

بعد كل ذلك حكى ـ سبحانه ـ أحوال الظالمين يوم القيامة ، وأقوالهم في ذلك اليوم الشديد ، ورده ـ تعالى ـ عليهم ، والأسباب التي أدت إلى خسرانهم ... فقال ـ تعالى ـ :

(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ

__________________

(١) سورة التوبة الآية ١١٤.

٥٧١

مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦) فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٥٢)

قال الإمام القرطبي : «قوله ـ تعالى ـ (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ...) هذا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن عجبه من أفعال المشركين ، ومخالفتهم دين إبراهيم ، أى : اصبر كما صبر إبراهيم ، وأعلم المشركين أن تأخير العذاب ليس للرضا بأفعالهم ، بل سنة الله إمهال العصاة مدة. قال ميمون بن مهران : هذا وعيد للظالم. وتعزية للمظلوم» (١).

والخطاب في «ولا تحسين» ، يجوز أن يكون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقصد زيادة تثبيته على الحق ، ودوامه على ذلك ، ويجوز أن يكون لكل من يصلح للخطاب.

والغفلة : سهو يعترى الإنسان بسبب قلة تيقظه وانتباهه ، ولا شك أن ذلك محال في حق الله ـ تعالى ـ ، لذا وجب حمل المعنى على أن المراد بالغفلة هنا : ترك عقاب المجرمين.

والمراد بالظالمين : كل من انحرفوا عن طريق الحق ، واتبعوا طريق الباطل ، ويدخل فيهم دخولا أوليا مشركو مكة ، الذين أبوا الدخول في الإسلام الذي جاءهم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٩ ص ٢٧٦.

٥٧٢

وقوله (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) استئناف وقع تعليلا للنهى السابق.

وقوله «تشخص» من الشخوص بمعنى رفع البصر بدون تحرك يقال شخص بصر فلان ـ من باب خضع ـ فهو شاخص ، إذا فتح عينيه وجعل لا يطرف من شدة الخوف والفزع.

والمعنى : ولا تحسبن ـ أيها الرسول الكريم ـ أن الله تعالى ـ تارك عقاب هؤلاء الظالمين ، الذين كذبوك في دعوتك ، كلا لن يترك الله ـ تعالى ـ عقابهم ، وإنما يؤخره ليوم هائل شديد ، هو يوم القيامة الذي ترتفع فيه أبصار أهل الموقف ، فلا تطرف أجفانهم من هول ما يرونه.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض أحوال هؤلاء الظالمين في هذا اليوم العظيم فقال ـ تعالى ـ : (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ ، لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ، وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ).

والإهطاع السير السريع. يقال : أهطع فلان في مشيه فهو يهطع إهطاعا إذا أسرع في سيره بذلة واضطراب.

و «مقنعي رؤوسهم» أى رافعيها ، يقال : أهطع فلان رأسه ، إذا نصبه ورفعه دون أن يلتفت يمينا أو شمالا. وقيل ، إقناع الرءوس طأطأتها وانتكاسها.

الأفئدة : جمع فؤاد ، والمراد بها القلوب.

والمعنى : أن هؤلاء الظالمين يخرجون من قبورهم في هذا اليوم مسرعين إلى الداعي بذلة واستكانة ، كإسراع الأسير الخائف ، رافعي رءوسهم إلى السماء مع إدامة النظر بأبصارهم إلى ما بين أيديهم من غير التفات إلى شيء.

«لا يرتد إليهم طرفهم» أى : لا تتحرك أجفان عيونهم ، بل تبقى مفتوحة بدون حراك لهول ما يشاهدونه في هذا اليوم العصيب.

«وأفئدتهم هواء» أى : وقلوبهم فارغة خالية عن الفهم ، بحيث لا تعى شيئا من شدة الفزع والدهشة ، ومنه قولهم في شأن الأحمق والجبان قلبهما هواء ، أى لا رأى فيه ولا قوة.

وأفرد هواء وإن كان خبرا عن جمع لأنه في معنى فارغة أو خالية.

قال ـ تعالى ـ (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً ...) أى خاليا من كل شيء إلا من التفكير في شأن مصير ابنها موسى ـ عليه‌السلام ـ.

فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ قد وصف هؤلاء الظالمين في هاتين الآيتين بجملة من الصفات الدالة على فزعهم وحيرتهم.

وصفهم أولا بشخوص الأبصار ، ووصفهم ثانيا بالإسراع إلى الداعي في ذلة وانكسار ،

٥٧٣

ووصفهم ثالثا برفع رءوسهم في حيرة واضطراب ، ووصفهم رابعا : بانفتاح عيونهم دون أن تطرف من شدة الوجل ، ووصفهم خامسا بخلو قلوبهم من إدراك أى شيء بسبب ما اعتراهم من دهشة ورعب.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) من باب التشبيه البليغ الذي حذفت فيه الأداة ، والتقدير : وقلوبهم كالهواء في الخلو من الإدراك من شدة الهول.

ثم أمر الله تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحذر الناس من أهوال هذا اليوم ، وأن يقدموا العمل الصالح الذي ينفعهم فقال ـ تعالى ـ (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ...).

والإنذار : التخويف من ارتكاب شيء تسوء عاقبته.

والمراد بالناس : جميعهم ، وقيل المراد بهم الكفار. ويبدو أن الأول أرجح لأن الإنذار يكون للمؤمن كما يكون للكافر ، إلا أن المؤمن يستجيب للنصح فينجو من العقاب ، والكافر لا يستجيب فيحل عليه العذاب.

والمعنى : وخوف ـ أيها الرسول الكريم ـ الناس من أهوال يوم القيامة ، ومرهم بأن يستعدوا له بالإيمان والعمل الصالح ، من قبل أن يحل عذابه بالظالمين منهم فيقولون : يا ربنا أعدنا إلى الحياة مرة أخرى ، وأخر أعمارنا وحسابنا إلى وقت قريب ، حتى نستطيع فيه أن نستجيب لدعوتك التي تأمرنا بإخلاص العبادة لك ، وأن نتبع رسلك في كل ما أمرونا به ونتدارك ما فرطنا فيه من أعمال الدنيا.

قال الجمل : «وقوله : «يوم يأتيهم العذاب ...» مفعول ثان لأنذر على حذف المضاف ، أى : أنذرهم أهواله وعظائمه ، فهو مفعول به لا مفعول فيه ، إذ لا إنذار في ذلك اليوم ، وإنما الإنذار يقع في الدنيا ..» (١).

وإنما اقتصر ـ سبحانه ـ على ذكر إتيان العذاب في هذا اليوم. مع كون الثواب يحصل فيه ـ أيضا ـ لأن المقام مقام تهديد وزجر ، فكان من المناسب ذكر أهواله وشدائده.

وجمع لفظ الرسل فقال : «نجب دعوتك ونتبع الرسل» للإشارة إلى أن الرسل جميعا قد جاءوا برسالة واحدة في جوهرها وأصولها ، وهي إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ ، والدعوة إلى مكارم الأخلاق.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥٣٢.

٥٧٤

وفي معنى هذه الآية الكريمة جاءت آيات كثيرة ومنها قوله ـ تعالى ـ (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ، كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) (٢).

وجملة «أو لم تكونوا أقسمتم من قبل مالكم من زوال» مقول لقول محذوف.

والزوال : الانتقال من مكان إلى آخر ، أو من حال إلى حال ، والمراد به هنا : انتقالهم من قبورهم إلى الحساب يوم القيامة.

والمعنى : أن هؤلاء الظالمين عند ما يقولون يا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل.

يقال لهم من قبل الله والملائكة على سبيل التوبيخ والتبكيت : أو لم تكونوا ـ أيها الظالمون ـ تقسمون بالأيمان المغلظة في الدنيا ، بأنكم بعد موتكم ستبقون في قبوركم إلى أن تبلى أجسادكم ، وأنه ليس بعد ذلك من بعث ولا حساب ، ولا ثواب ولا عقاب.

قال ـ تعالى ـ (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) (٣).

فالجملة الكريمة تحكى رفض مطالبهم بأبلغ أسلوب ، حتى يزدادوا حزنا على حزنهم ، وحسرة على حسرتهم.

وجملة «مالكم من زوال» جواب القسم.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ...) معطوف على «أقسمتم ..».

والمراد بالسكنى : الحلول في أماكن الظالمين لوقت يكفى للاتعاظ والاعتبار وكفار قريش كانوا يمرون بديار قوم ثمود في رحلتهم إلى الشام ، وكانوا يحطون رحالهم هناك ، كما كانوا يمرون على ديار قوم عاد في رحلتهم إلى اليمن.

والمعنى : لقد أقسمتم ـ أيها الضالون ـ بأنكم ما لكم من انتقال من دار الدنيا إلى دار الآخرة ، وحللتم في مساكن القوم الظالمين.

__________________

(١) سورة المؤمنون الآيتان ٩٩ ـ ١٠٠.

(٢) سورة السجدة آية ١٢.

(٣) سورة النحل آية ٣٨.

٥٧٥

«وتبين لكم» عن طريق المشاهدة وتواتر الأخبار.

«كيف فعلنا بهم» من الإهلاك والتدمير بسبب كفرهم وفسوقهم.

«وضربنا لكم الأمثال» بما فعلوه وبما فعلناه بهم ، عن طريق كتابنا ، وعلى لسان رسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وكان من الواجب عليكم بعد كل ذلك أن تعتبروا وتتعظوا وتثوبوا إلى رشدكم ، وتدخلوا في الإسلام ، ولكنكم كنتم قوما فاسقين ، سائرين على نهج هؤلاء المهلكين في الكفر والفجور ، فاليوم ذوقوا العذاب بسبب جحودكم للحق في الدنيا.

قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : «أى : قد رأيتم وبلغكم ما أحللنا بالأمم المكذبة قبلكم ، ومع هذا لم يكن لكم فيهم معتبر ، ولم يكن فيما أوقعنا بهم مزدجر لكم.

قال ـ تعالى ـ (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ) (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك لونا آخر من ألوان عراقتهم في الكفر والجحود فقال : (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ).

والمكر : تبييت فعل السوء بالغير وإضماره ، مع إظهار ما يخالف ذلك. وانتصب «مكرهم» الأول على أنه مفعول مطلق لمكروا ، لبيان النوع ، والإضافة فيه من إضافة المصدر لفاعله.

أى : أن هؤلاء الظالمين جاءتهم العبر فلم يعتبروا ، بل أضافوا إلى ذلك أنهم مكروا بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم لإبطال الحق ، وإحقاق الباطل ، والذي كان من مظاهره محاولتهم قتل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) أى : وفي علم الله ـ تعالى ـ الذي لا يغيب عنه شيء مكرهم ، وسيجازيهم عليه بما يستحقونه من عذاب مهين.

وقوله ـ تعالى ـ (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) قرأ الجمهور «لتزول» ـ بكسر اللام على أنها لام الجحود والفعل منصوب بعدها. بأن مضمرة وجوبا ، و «إن» في قوله (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ) نافية بمعنى ما.

والمعنى : ولقد مكر هؤلاء الكافرون مكرهم الشديد الذي اشتهروا به ، وفي علم الله ـ تعالى ـ مكرهم ، وما كان مكرهم ـ مهما عظم واشتد ـ لتنتقل منه الجبال من أماكنها ، لأنه

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٤٣٤.

٥٧٦

لم يتجاوز مكر أمثالهم ممن دمرناهم تدميرا.

وعلى هذه القراءة يكون المقصود بهذه الجملة الكريمة ، الاستخفاف بهم وبمكرهم ، وبيان أن ما يضمرونه من سوء ليس خافيا على الله ـ تعالى ـ ولن يزلزل المؤمنين في عقيدتهم ، لأن إيمانهم كالجبال الرواسي في ثباته ورسوخه.

وقرأ «الكسائي» «لتزول» ـ بفتح اللام على أنها لام الابتداء ، ورفع الفعل بعدها ـ و «إن» مخففة من الثقيلة.

فيكون المعنى : وقد مكروا مكرهم ، وعند الله مكرهم ، وإن مكرهم من الشدة بحيث تزول منه الجبال وتنقلع من أماكنها ، لو كان لها أن تزول أو تنقلع.

وعلى هذه القراءة يكون المراد بهذه الجملة الكريمة التعظيم والتهويل من شأن مكرهم ، وأنه أمر شنيع أو شديد في بابه ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً* لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا* تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ ، وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ. وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا ..) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ..) تفريع على ما تقدم من قوله ـ تعالى ـ (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ..) وتأكيد لتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولتثبيت يقينه.

وقوله «مخلف» اسم فاعل من الإخلاف ، بمعنى عدم الوفاء بالوعد وهو مفعول ثان لتحسب والمراد بالوعد هنا : ما وعد الله ـ تعالى ـ به أنبياءه ورسله من نصره إياهم ، ومن جعل العاقبة لهم.

قال ـ تعالى ـ (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا. وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) (٢).

وقال ـ تعالى ـ (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٣).

والمعنى : لقد وعدناك ـ أيها الرسول الكريم ـ بعذاب الظالمين ، وأخبرناك بجانب من العذاب الذي يحل بهم يوم القيامة ، وما دام الأمر كذلك فاثبت على الحق أنت وأتباعك ، وثق بأن الله ـ تعالى ـ لن يخلف ما وعدك به من نصر على أعدائك.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : هلا قيل : مخلف رسله وعده ، ولم قدم المفعول الثاني

__________________

(١) سورة مريم الآيات ٨٨ ـ ٩٠.

(٢) سورة غافر الآية ٥١.

(٣) سورة المجادلة الآية ٢١.

٥٧٧

لمخلف ـ وهو : وعده ـ على المفعول الأول ـ وهو رسله ـ؟

قلت : قدم الوعد ليعلم أنه ـ سبحانه ـ لا يخلف الوعد أصلا ، كقوله ـ تعالى ـ (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ).

ثم قال «رسله» ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحدا ، وليس من شأنه إخلاف المواعيد ، فكيف يخلفه مع رسله الذين هم خيرته وصفوته من خلقه ..» (١).

ويرى صاحب الانتصاف أن تقدم المفعول الثاني هنا ، إنما هو للإيذان بالعناية به ، لأن الآية في سياق الإنذار والتهديد للظالمين بما توعدهم الله ـ تعالى ـ به على ألسنة رسله ، فكان المهم في هذه الحال تقديم ذكر الوعيد على غيره (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ) تعليل للنهى عن الحسبان المذكور.

والعزيز : الغالب على كل شيء.

أى : إن الله ـ تعالى ـ غالب على كل شيء ، وذو انتقام شديد من أعدائه لأنهم تحت قدرته ، ومادام الأمر كذلك فإخلاف الوعد منتف في حقه ـ تعالى ـ.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك بعض العلامات التي تدل على قرب قيام الساعة فقال ـ تعالى ـ : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ).

والظرف «يوم» متعلق بمحذوف تقديره اذكر.

وقوله «تبدل» من التبديل بمعنى التغيير ، وهذا التغيير والتبديل لهما قد يكون في ذواتهما كما في قوله ـ تعالى ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ ..) (٣).

وقد يكون في صفاتهما كقولك «بدلت الحلقة خاتما» وقد يكون فيهما معا وقد ذكر الإمام ابن كثير جملة من الأحاديث عند تفسيره لهذه الآية الكريمة فقال : «وقال الإمام أحمد ، حدثنا محمد بن عدى ، عن داود ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة أنها قالت : أنا أول الناس سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هذه الآية (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ ...) قالت : قلت : أين الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال : على الصراط.

وفي رواية أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لها : «لقد سألتنى عن شيء ما سألنى عنه أحد من أمتى ،

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٨٤.

(٢) حاشية الانتصاف على الكشاف ج ٢ ص ٣٨٤.

(٣) سورة النساء الآية ٥٦.

٥٧٨

ذاك أن الناس ـ يومئذ يكونون ـ على جسر جهنم» (١).

والمعنى : اذكر ـ أيها العاقل ـ لتتعظ وتعتبر يوم يتغير هذا العالم المعهود بعالم آخر جديد ، يأتى به الله ـ تعالى ـ على حسب إرادته ومشيئته ويوم يخرج الخلائق جميعا من قبورهم ليستوفوا جزاءهم ، وليجازوا على أعمالهم. من الله ـ تعالى ـ الواحد الأحد ، الذي قهر كل شيء وغلبه ، ودانت له الرقاب ، وخضعت له الألباب.

وختمت الآية الكريمة بهذين الوصفين لله ـ تعالى ـ للرد على المشركين الذين جعلوا مع الله آلهة أخرى يشركونها معه في العبادة ، ويتوهمون أن هذه الآلهة سوف تدافع عنهم يوم القيامة.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما يحل بالمجرمين يوم القيامة من عذاب عنيف مهين يناسب إجرامهم وكفرهم فقال : (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ ، سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ).

وقوله «مقرنين» جمع مقرن ، وهو من جمع مع غيره في قرن ووثاق واحد يربطان به.

والأصفاد : جمع صفد ـ بفتح الفاء ـ وهو القيد الذي يوضع في الرجل ، أو الغل ـ بضم الغين ـ الذي تضم به اليد والرجل إلى العنق.

والسرابيل : جمع سربال وهو القميص.

والقطران : مادة حارة نتنة شديدة الاشتعال تصلى بها جلود الإبل الجربى ، ليزول الجرب منها. أى : وترى ـ أيها العاقل ـ المجرمين في هذا اليوم العسير عليهم «مقرنين في الأصفاد» أى : قد قرن بعضهم مع بعض ، وضم كل قرين إلى من يشبهه في الكفر وفي الفسوق وفي العصيان ، وقد قيدوا جميعا بالأصفاد والقيود والأغلال.

قال ـ تعالى ـ (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ ..) (٢).

أى : وأمثالهم من العصاة ، فعابد الصنم يكون مع عابد الصنم ، وشارب الخمر مع شارب الخمر. ويصح أن يكون اقترانهم مع الشياطين كما قال ـ تعالى ـ (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) (٣).

هذا عن مشهد المجرمين وهم مقرنون في الأصفاد ، وهو مشهد مهين مذل ولكنه ليس كافيا

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٤٣٧.

(٢) سورة الصافات الآية ٢٢.

(٣) سورة مريم الآية ٦٨.

٥٧٩

في عقابهم ، بل يضاف إليه أن ملابسهم من قطران ، ليجتمع لهم لذعته ، وقبح لونه ، ونتن ريحه ، وسرعة اشتعاله ، وفوق كل ذلك فإن وجوههم تعلوها وتحيط بها النار التي تستعر بأجسادهم المسربلة بالقطران.

وخص ـ سبحانه الوجوه بغشيان النار لها ، لكونها أعز موضع في البدن وأشرفه.

وقوله ـ سبحانه ـ (لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ ...) متعلق بمحذوف ، والتقدير : فعل ما فعل ـ سبحانه ـ من إثابة المؤمنين ، ومعاقبة المجرمين ، ليجازى كل نفس بما تستحقه من خير أو شر ، دون أن يظلم ربك أحدا.

وقوله (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أى : إنه ـ سبحانه ـ سريع المحاسبة لعباده ، لأنه لا يشغله شأن عن شأن ، بل جميع الخلق بالنسبة لقدرته كالنفس الواحدة.

قال ـ تعالى ـ (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ ..) (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بقوله ـ تعالى ـ (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ ، وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ).

واسم الإشارة «هذا» يعود إلى ما أنزله الله ـ تعالى ـ من قرآن في هذه السورة وفي غيرها. و «بلاغ» مصدر بمعنى التبليغ.

والإنذار : التخويف من سوء عاقبة ارتكاب الشرور والآثام.

والألباب : جمع لب وهو الخالص من كل شيء ، والمراد بها العقول.

أى : هذا القرآن الكريم الذي أنزلناه عليك يا محمد ، فيه التبليغ الكافي لهداية الناس ، وفيه ما يخوفهم من سوء عاقبة الكفر والفسوق والعصيان ، وفيه ما يجعلهم يعلمون عن طريق توجيهاته وهداياته ودلائله ، أن الله ـ تعالى ـ واحد لا شريك له ، وفيه ما يجعل أصحاب العقول السليمة يتعظون ويعتبرون ، فيترتب على ذلك سعادتهم في الدنيا والآخرة.

وخص ـ سبحانه ـ بالتذكر أولى الألباب ، لأنهم هم الذين ينتفعون بهداية القرآن الكريم ، أما غيرهم فهم كالأنعام بل هم أضل.

وقد رتب ـ سبحانه ـ في هذه الآية الكريمة ، وسائل الدعوة إلى الحق ترتيبا عقليا حكيما ، فبدأ بالصفة العامة وهي التبليغ ، ثم ثنى بما يعقب ذلك من إنذار وتخويف ، ثم ثلث بما ينشأ عنهما من العلم بوحدانية الله ـ تعالى ـ ، ثم ختم بالثناء على أصحاب العقول السليمة

__________________

(١) سورة لقمان الآية ٢٨.

٥٨٠