التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0657-4
الصفحات: ٦٠٢

تجاوز لأمتى عما حدثت به أنفسها ، ما لم تتكلم به ، أو تعمل به» (١).

وقد أجمع العلماء على أن همّ امرأة العزيز بيوسف كان هما بمعصية ، وكان مقرونا بالعزم والجزم والقصد ، بدليل المراودة وتغليق الأبواب ، وقولها «هيت لك».

كما أجمعوا على أن يوسف ـ عليه‌السلام ـ لم يأت بفاحشة ، وأن همه كان مجرد خاطرة قلب بمقتضى الطبيعة البشرية : من غير جزم وعزم ...

وهذا اللون من الهم لا يدخل تحت التكليف ، ولا يخل بمقام النبوّة ، كالصائم يرى الماء البارد في اليوم الشديد الحرارة ، فتميل نفسه إليه ، ولكن دينه يمنعه من الشرب منه ، فلا يؤاخذ بهذا الميل.

والمراد ببرهان ربه هو : ما غرسه الله ـ تعالى ـ في قلبه من العلم المصحوب بالعمل ، بأن هذا الفعل الذي دعته إليه امرأة العزيز قبيح ، ولا يليق به.

أو هو ـ كما يقول ابن جرير ـ رؤيته من آيات الله ما زجره عما كان همّ به ..

والمعنى : ولقد همت به ، أى : ولقد قصدت امرأة العزيز مواقعة يوسف ـ عليه‌السلام ـ قصدا جازما ، بعد أن أغرته بشتى الوسائل فلم يستجب لها ...

(وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) أى : ومال إلى مطاوعتها بمقتضى طبيعته البشرية وبمقتضى توفر كل الدواعي لهذا الميل ...

ولكن مشاهدته للأدلة على شناعة المعصية ، وخوفه لمقام ربه ، وعون الله ـ تعالى ـ له على مقاومة شهوته ... كل ذلك حال بينه وبين تنفيذ هذا الميل ، وصرفه عنه صرفا كليا ، وجعله يفر هاربا طالبا النجاة مما تريده منه تلك المرأة.

هذا هو الرأى الذي نختاره في تفسير هذه الآية الكريمة ، وقد استخلصناه من أقوال المفسرين القدامى والمحدثين.

فمن المفسرين القدامى الذين ذكروا هذا الرأى صاحب الكشاف ، فقد قال ما ملخصه.

وقوله ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) معناه : ولقد همت بمخالطته ؛ «وهم بها» أى : وهم بمخالطتها «لولا أن رأى برهان ربه» جوابه محذوف تقديره ؛ لولا أن رأى برهان ربه لخالطها ، فحذف لأن قوله وهم بها يدل عليه ، كقولك : هممت بقتله لولا أنى خفت الله معناه : لو لا أنى خفت الله لقتلته.

__________________

(١) تفسير القاسمى ج ٩ ص ٣٥٢٨.

٣٤١

فإن قلت : كيف جاز على نبي الله أن يكون منه هم بالمعصية؟.

قلت : المراد أن نفسه مالت إلى المخالطة ، ونازعت إليها عن شهوة الشباب ، ميلا يشبه الهم به ، وكما تقتضيه تلك الحال التي تكاد تذهب بالعقول والعزائم ، وهو يكسر ما به ، ويرده بالنظر في برهان الله المأخوذ على المكلفين بوجوب اجتناب المحارم ، ولو لم يكن ذلك الميل الشديد المسمى هما لشدته ، لما كان صاحبه ممدوحا عند الله بالامتناع ، لأن استعظام الصبر على الابتلاء ، على حسب عظم الابتلاء وشدته ، ولو كان همه كهمها عن عزيمة لما مدحه بأنه من عباده المخلصين» (١).

ومن المفسرين المحدثين الذين ذكروا هذا الرأى الإمام الآلوسى ، فقد قال ما ملخصه :

قوله : «ولقد همت به» أى : بمخالطته ... والمعنى : أنها قصدت المخالطة وعزمت عليها عزما جازما ، لا يلويها عنها صارف بعد ما باشرت مباديها ...

والتأكيد ـ باللام وقد ـ لدفع ما يتوهم من احتمال إقلاعها عما كانت عليه.

(وَهَمَّ بِها) أى : مال إلى مخالطتها بمقتضى الطبيعة البشرية ... ومثل ذلك لا يكاد يدخل تحت التكليف ، وليس المراد أنه قصدها قصدا اختياريا ، لأن ذلك أمر مذموم تنادى الآيات بعدم اتصافه به ، وإنما عبر عنه بالهم لمجرد وقوعه في صحبة همها في الذكر على سبيل المشاكلة لا لشبهه به ... «لولا أن رأى برهان ربه» أى محبته الباهرة الدالة على كمال قبح الزنا ، وسوء سبيله.

والمراد برؤيته له : كمال إيقانه به ، ومشاهدته له مشاهدة وصلت إلى مرتبة عين اليقين ...» (٢).

ومن المفسرين من يرى أن المراد بهمها به : الهم بضربه نتيجة عصيانه لأمرها.

وأن المراد بهمه بها : الدفاع عن نفسه برد الاعتداء ، ولكنه آثر الهرب.

وقد قرر هذا الرأى ودافع عنه وأنكر سواه صاحب المنار ، فقد قال ما ملخصه :

«ولقد همت به» أى : وتالله لقد همت المرأة بالبطش به لعصيانه لأمرها ، وهي في نظرها سيدته وهو عبدها ، وقد أذلت نفسها له بدعوته الصريحة إلى نفسها ، بعد الاحتيال عليه بمراودته عن نفسه ... فخرجت بذلك عن طبع أنوثتها في التمنع ... مما جعلها تحاول البطش به

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣١١.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٢ ص ١٩١.

٣٤٢

بعد أن أذل كرامتها ، وهو انتقام معهود من مثلها ، وممن دونها في كل زمان ومكان ...

وكاد يرد صيالها ويدفعه بمثله ، وهو قوله ـ تعالى ـ (وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) ولكنه رأى من برهان ربه في سريرة نفسه ، ما هو مصداق قوله ـ تعالى ـ (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) وهو إما النبوة ... وإما معجزتها ... وإما مقدمتها من مقام الصديقية العليا ، وهي مراقبته لله ـ تعالى ـ ورؤيته ربه متجليا له ، ناظرا إليه» (١).

وما ذهب إليه صاحب المنار من تفسير الهم منها بالبطش بيوسف ، وتفسير الهم منه برد الاعتداء الذي وقع عليه منها ... أقول : ما ذهب إليه صاحب المنار من تفسير الهم بذلك ، لا أرى دليلا عليه من الآية ، لا عن طريق الإشارة ، ولا عن طريق العبارة ...

ولعل صاحب المنار ـ رحمه‌الله ـ أراد بهذا التفسير أن يبعد يوسف ـ عليه‌السلام ـ عن أن يكون قد هم بها هم ميل بمقتضى الطبيعة البشرية ، ونحن لا نرى مقتضيا لهذا الإبعاد ، لأن خطور المناهي في الأذهان ، لا مؤاخذة عليه ، ما دامت لم يصاحبها عزم أو قصد ـ كما سبق أن أشرنا إلى ذلك من قبل.

هذا وهناك أقوال أخرى لبعض المفسرين في معنى الآية الكريمة ، رأينا أن نضرب عنها صفحا ؛ لأنه لا دليل عليها لا من العقل ولا من النقل ولا من اللغة ... وإنما هي من الأوهام الإسرائيلية التي تتنافى كل التنافي مع أخلاق عباد الله المخلصين ، الذين على رأسهم يوسف ـ عليه‌السلام.

قوله ـ سبحانه ـ (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) بيان لمظهر من مظاهر رحمة الله ـ تعالى ـ به ، ورعايته له.

والكاف : نعت لمصدر محذوف والإشارة بذلك إلى الإراءة المدلول عليها بقوله «لولا أن رأى برهان ربه» أو إلى التثبيت المفهوم من ذلك.

والصرف : نقل الشيء من مكان إلى مكان والمراد به هنا : الحفظ من الوقوع فيما نهى الله عنه ، أى : أريناه مثل هذه الإراءة أو ثبتناه تثبيتا مثل هذا التثبيت لنعصمه ونحفظه ونصونه عن الوقوع في السوء ـ أى في المنكر والفجور والمكروه ـ والفحشاء ـ أى كل ما فحش وقبح من الأفعال كالزنا ونحوه.

«إنه من عبادنا المخلصين» ـ بفتح اللام ـ أى : إنه من عبادنا الذين أخلصناهم لطاعتنا وعصمناهم من كل ما يغضبنا.

__________________

(١) تفسير المنار ج ١٢ ص ٣٧٨.

٣٤٣

وقرأ ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو «المخلصين» ـ بكسر اللام ـ أى : إنه من عبادنا الذين أخلصوا دينهم لنا.

والجملة الكريمة على القراءتين تعليل لحكمة صرفه ـ عليه‌السلام ـ عن السوء والفحشاء.

وقوله ـ سبحانه ـ (وَاسْتَبَقَا الْبابَ ...) متصل بقوله ـ سبحانه ـ قبل ذلك (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ...) وقوله (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ ...) اعتراض جيء به بين المتعاطفين تقريرا لنزاهته.

وقوله (وَاسْتَبَقَا ..) من الاستباق وهو افتعال من السبق بمعنى أن كل واحد منهما يحاول أن يكون هو السابق إلى الباب.

ووجه تسابقهما : أن يوسف ـ عليه‌السلام ـ أسرع بالفرار من أمامها إلى الباب هروبا من الفاحشة التي طلبتها منه. وهي أسرعت خلفه لتمنعه من الوصول إلى الباب ومن الخروج منه.

وأفرد ـ سبحانه ـ الباب هنا ، وجمعه فيما تقدم ، لأن المراد به هنا الباب الخارجي ، الذي يخلص منه يوسف إلى خارج الدار ، وهو منصوب هنا على نزع الخافض أى : واستبقا إلى الباب.

وجملة «وقدت قميصه من دبر» حالية ، والقد : القطع والشق ، وأكثر استعماله في الشق والقطع الذي يكون طولا ، وهو المراد هنا ، لأن الغالب أنها جذبته من الخلف وهو يجرى أمامها فانخرق القميص إلى أسفله.

وقوله : (وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ) أى : وصادفا ووجدا زوجها عند الباب الذي تسابقا للوصول إليه.

قالوا : والتعبير عن الزوج بالسيد ، كان عادة من عادات القوم في ذلك الوقت ، فعبر عنه القرآن بذلك حكاية لدقائق ما كان متبعا في التاريخ القديم.

وقال ـ سبحانه ـ (وَأَلْفَيا سَيِّدَها) لأن ملك العزيز ليوسف ـ عليه‌السلام ـ لم يكن ملكا صحيحا ، فيوسف ليس رقيقا يباع ويشترى ، وإنما هو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ، وبيع السيارة له ، إنما كان على سبيل التخلص منه بعد أن التقطوه من الجب.

وقوله ـ سبحانه ـ (قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) حكاية لما قالته لزوجها عند ما فوجئت به عند الباب وهي تسرع وراء يوسف.

أى قالت تلك المرأة لزوجها عند ما فوجئت به لدى الباب : ليس من جزاء لمن أراد

٣٤٤

بأهلك ـ تعنى نفسها ـ سوءا ، أى ما يسوؤك ويؤلمك ، إلا أن يسجن ، عقوبة له ، أو أن يعذب عذابا أليما عن طريق الضرب او الجلد ، لتجاوزه الحدود ، واعتدائه على أهلك.

وهذه الجملة الكريمة التي حكاها القرآن الكريم عنها ، تدل على أن تلك المرأة كانت في نهاية المكر والدهاء والتحكم في إرادة زوجها ...

ورحم الله الآلوسى فقد علق على قولها هذا الذي حكاه القرآن عنها بقوله ما ملخصه : «ولقد آتت ـ تلك المرأة ـ في هذه الحالة التي يدهش فيها الفطن اللوذعي ـ حيث شاهدها زوجها على تلك الحالة المريبة ـ بحيلة جمعت فيها غرضيها ، وهما تبرئة ساحتها مما يلوح من ظاهر حالها ، واستنزال يوسف عن رأيه في استعصائه عليها ، وعدم طاعته لها ، بإلقاء الرعب في قلبه ...

ولم تصرح بالاسم ، بل أتت بلفظ عام «من أراد بأهلك سوءا ..» تهويلا للأمر ، ومبالغة في التخويف ، كأن ذلك قانون مطرد في حق كل من أراد بأهله سوءا.

وذكرت نفسها بعنوان أهلية العزيز ، إعظاما للخطب ...

ثم إن حبها الشديد ليوسف ـ عليه‌السلام ـ حملها على أن تبدأ بذكر السجن ، وتؤخر ذكر العذاب لأن المحب لا يسعى في إيلام المحبوب ، لا سيما أن قولها : «إلا أن يسجن ...» قد يكون المراد منه السجن لمدة يوم أو يومين ...» (١).

والحق أن هذه الجملة التي حكاها القرآن عنها ، تدل على اكتمال قدرتها على المكر والدهاء ـ كما سبق أن أشرنا ـ ومن مظاهر ذلك ، محاولتها إيهام زوجها بأن يوسف قد اعتدى عليها بما يسوؤها ويسوؤه ، ولكن بدون تصريح بهذا العدوان ـ شأن العاشق مع معشوقه ـ حتى لا يسعى زوجها في التخلص منه ببيعه ـ مثلا ـ.

وفي الوقت نفسه إفهام يوسف عن طريق مباشر ، بأن أمره بيدها لا بيد زوجها ، وأنها هي الآمرة الناهية ، فعليه أن يخضع لما تريده منه ، وإلا فالسجن أو العذاب الأليم هو مصيره المحتوم.

وهنا نجد يوسف ـ عليه‌السلام ـ لا يجد مفرا من الرد على هذا الاتهام الباطل ، فيقول ـ كما حكى القرآن عنه ـ : (قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ...).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٢ ص ١٩٥.

٣٤٥

أى : قال يوسف مدافعا عن نفسه : إنى ما أردت بها سوءا كما تزعم وإنما هي التي بالغت في ترغيبى وإغرائى بارتكاب ما لا يليق معها ..

ثم قال ـ تعالى ـ : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ* وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ).

وهذا الشاهد ذهب بعضهم إلى أنه كان ابن خال لها ، وقيل ابن عم لها ...

قال صاحب المنار : «ولكن الرواية عن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك ، أنه كان صبيا في المهد ، ويؤيدها ما رواه أحمد وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تكلم في المهد أربعة وهم : صغار ابن ماشطة ابنة فرعون. وشاهد يوسف وصاحب جريج وعيسى ابن مريم».

وروى ابن جرير عن أبى هريرة قال : «عيسى بن مريم وصاحب يوسف وصاحب جريج تكلموا في المهد» وهذا موقوف ، والمرفوع ضعيف ، وقد اختاره ابن جرير ، وحكاه ابن كثير بدون تأييد ولا تضعيف ...» (١).

وعلى أية حال فالذي يهمنا أن الله ـ تعالى ـ قد سخر في تلك اللحظة الحرجة ، من يدلى بشهادته لتثبت براءة يوسف أمام العزيز.

وألقى الله ـ تعالى ـ هذه الشهادة على لسان من هو من أهلها ، لتكون أوجب للحجة عليها ، وأوثق لبراءة يوسف ، وأنفى للتهمة عنه.

وقد قال هذا الشاهد في شهادته ـ كما حكى القرآن عنه ـ (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ) أى : من أمام «فصدقت» في أنه أراد بها سوءا ، لأن ذلك يدل على أنها دافعته من الأمام وهو يريد الاعتداء عليها. «وهو من الكاذبين» في قوله «هي راودتني عن نفسي».

(وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) أى من خلف (فَكَذَبَتْ) في دعواها على أنه أراد بها سوءا ، لأن ذلك يدل على أنه حاول الهرب منها ، فتعقبته حتى الباب ، وأمسكت به من الخلف (وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعواه أنها راودته عن نفسه.

وسمى القرآن الكريم ذلك الحكم بينهما شهادة ، لأن قوله هذا يساعد على الوصول إلى الحق في قضية التبس فيها الأمر على العزيز.

وقدم الشاهد في شهادته الغرض الأول وهو ـ إن كان قميصه قد من قبل ـ لأنه إن صح

__________________

(١) تفسير المنار ج ١٢ ص ٢٨٧.

٣٤٦

يقتضى صدقها ، وقد يكون هو حريصا على ذلك بمقتضى قرابته لها ، إلا أن الله ـ تعالى ـ أظهر ما هو الحق ، تكريما ليوسف ـ عليه‌السلام ـ أو يكون قد قدم ذلك باعتبارها سيدة ، ويوسف فتى ، فمن باب اللياقة أن يذكر الفرض الأول رحمة بها.

وزيادة جملة «وهو من الكاذبين» بعد «فصدقت» وزيادة جملة «وهو من الصادقين» بعد «فكذبت» تأكيد لزيادة تقرير الحق كما هو الشأن في إصدار الأحكام.

وقوله ـ سبحانه ـ (فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ...) بيان لما قاله زوجها بعد أن انكشفت له الحقيقة انكشافا تاما.

أى : فلما رأى العزيز قميص يوسف قد قطع من الخلف. وجه كلامه إلى زوجته معاتبا إياها بقوله : إن محاولتك اتهام يوسف بما هو برىء منه ، هو نوع من «كيدكن» ومكركن وحيلكن «إن كيدكن عظيم» في بابه ، لأن كثيرا من الرجال لا يفطنون إلى مراميه.

وهكذا واجه ذلك الرجل خيانة زوجه له بهذا الأسلوب الناعم الهادئ ، بأن نسب كيدها ومكرها لا إليها وحدها بل الجنس كله «إنه من كيدكن».

ثم وجه كلامه إلى يوسف فقال له «يوسف أعرض عن هذا» أى : يا يوسف أعرض عن هذا الأمر الذي دار بينك وبينها فاكتمه. ولا تتحدث به خوفا من الفضيحة ، وحفاظا على كرامتي وكرامتها.

وقوله : (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) خطاب منه لزوجته التي ثبتت عليها الجريمة ثبوتا تاما.

أى : واستغفري الله من ذنبك الذي وقع منك ، بإساءتك فعل السوء مع يوسف ، ثم اتهامك له بما هو برىء منه.

وجملة : «إنك كنت من الخاطئين» تعليل لطلب الاستغفار. أى توبي إلى الله مما حدث منك ، لأن ما حدث منك مع يوسف جعلك من جملة القوم المتعمدين لارتكاب الذنوب ، وجعلها من جملة الخاطئين للتخفيف عليها في المؤاخذة.

وهكذا نجد هذا الرجل ـ صاحب المنصب الكبير ـ يعالج الجريمة التي تثور لها الدماء في العروق ، وتستلزم حسما وحزما في الأحكام ، بهذا الأسلوب الهادئ البارد ، شأن المترفين في كل زمان ومكان ، الذين يهمهم ظواهر الأمور دون حقائقها وأشكالها دون جواهرها ، فهو يلوم امرأته لوما خفيفا يشبه المدح ، ثم يطلب من يوسف كتمان الأمر ، ثم يطلب منها التوبة من ذنوبها المتعمدة .. ثم تستمر الأمور بعد ذلك على ما هي عليه من بقاء يوسف معها في

٣٤٧

بيتها ، بعد أن كان منها معه ما يستلزم عدم اجتماعهما.

هذا ومن العبر والعظات والأحكام التي نأخذها من هذه الآيات الكريمة :

١ ـ أن اختلاط الرجال بالنساء. كثيرا ما يؤدى إلى الوقوع في الفاحشة وذلك لأن ميل الرجل إلى المرأة وميل المرأة إلى الرجل أمر طبيعي ، وما بالذات لا يتغير.

ووجود يوسف ـ عليه‌السلام ـ مع امرأة العزيز تحت سقف واحد في سن كانت هي فيه مكتملة الأنوثة ، وكان هو فيها فتى شابا جميلا ... أدى إلى فتنتها به ، وإلى أن تقول له في نهاية الأمر بعد إغراءات شتى له منها : «هيت لك».

ولا شك أن من الأسباب الأساسية التي جعلتها تقول هذا القول العجيب وجودهما لفترة طويلة تحت سقف واحد.

لذا حرم الإسلام تحريما قاطعا الخلوة بالأجنبية ، سدا لباب الوقوع في الفتن ، ومنعا من تهيئة الوسائل للوقوع في الفاحشة.

ومن الأحاديث التي وردت في ذلك ما رواه الشيخان عن عقبة بن عامر ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إياكم والدخول على النساء ، فقال رجل من الأنصار ، أفرأيت الحمو يا رسول الله؟ قال : الحمو الموت (١)». والحمو هو قريب الزوج كأخيه وابن عمه.

وسئلت امرأة انحرفت عن طريق العفاف ، لما ذا كان منك ذلك فقالت : قرب الوساد ، وطول السواد (٢).

أى : حملني على ذلك قربى ممن أحبه وكثرة محادثتى له!

٢ ـ أن هم الإنسان بالفعل ، ثم رجوعه عنه قبل الدخول في مرحلة التصميم والتنفيذ ، لا مؤاخذة فيه.

قال القرطبي ما ملخصه : «الهم الذي هم به يوسف ، من نوع ما يخطر في النفس ، ولا يثبت في الصدر ، وهو الذي رفع الله فيه المؤاخذة عن الخلق ، إذ لا قدرة للمكلف على دفعه.

وفي صحيح مسلم عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قالت الملائكة يا ربنا ذلك عبدك يريد أن يعمل سيئة ـ وهو أبصر به ـ فقال : ارقبوه فإن

__________________

(١) من كتاب (رياض الصالحين) ص ٦٢١ باب تحريم الخلوة بالأجنبية.

(٢) الوساد معروف وهو ما يتوسد به الإنسان عند نومه ـ والسواد ـ بكسر السين مصدر ساوده إذا أسر إليه بالحديث. قالوا : وهذه الكلمة كانت لابنة الخص ، اعتذرت بها عن نفسها بعد أن فتنت فقيل لها لما ذا هذا السلوك وأنت سيدة قومك؟ فقالت هذه الكلمة التي ذهبت مثلا ... راجع تفسير المنار ج ١٢ ص ٢٧٨.

٣٤٨

عملها فاكتبوها له بمثلها وإن تركها فاكتبوها له حسنة إنما تركها من أجلى».

وفي الصحيح : «إن الله تجاوز لأمتى عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به (١)».

٣ ـ أن من الواجب على المؤمن إذا ما دعى إلى معصية أن يستعيذ بالله من ذلك ، وأن يذكّر الداعي له بضررها ، وبسوء عاقبة المرتكب لها ... كما قال يوسف ـ عليه‌السلام ـ (مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ).

٤ ـ أن يوسف ـ عليه‌السلام ـ قد خرج من هذه المحنة مشهودا له بالبراءة ونقاء العرض ، من الله ـ تعالى ـ ومن خلقه الذين سخرهم لهذه الشهادة.

قال الإمام الرازي ما ملخصه : واعلم أن الذين لهم تعلق بهذه الواقعة ، يوسف ـ عليه‌السلام ـ وتلك المرأة وزوجها ، ورب العالمين .. والكل شهد ببراءة يوسف عن المعصية ، أما يوسف ـ عليه‌السلام ـ فقد قال «هي راودتني عن نفسي» وقال : «رب السجن أحب إلى مما يدعونني إليه» ..

وأما امرأة العزيز فقد قالت : «أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين».

وأما زوجها فقد قال : «إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم ..».

أما شهادة رب العالمين ببراءته ففي قوله ـ تعالى ـ : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ).

فقد شهد الله ـ تعالى ـ على طهارته في هذه الآية أربع مرات ، أولها : لنصرف عنه السوء» وثانيها «الفحشاء» وثالثها «إنه من عبادنا» ورابعها «المخلصين» (٢).

٥ ـ أن موقف العزيز من امرأته كان موقفا ضعيفا متراخيا ... وهذا الموقف هو الذي جعل تلك المرأة المتحكمة في زمام زوجها ، تقول بعد ذلك بكل تبجح وتكشف واستهتار : «ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ، ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن ، وليكونا من الصاغرين».

٦ ـ أن القرآن الكريم صور تلك المحنة في حياة يوسف وامرأة العزيز ، تصويرا واقعيا صادقا ، ولكن بأسلوب حكيم ، بعيد عما يخدش الحياء أو يجرح الشعور قال بعض العلماء : «والذي خطر لي أن قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) هو نهاية موقف طويل من الإغراء ، بعد ما أبى يوسف في أول الأمر

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٩ ص ١٦٨.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٨ ص ١١٦.

٣٤٩

واستعصم ، وهو تصوير واقعي صادق لحالة النفس البشرية الصالحة في المقاومة والضعف ، ثم الاعتصام بالله في النهاية والنجاة ، ولكن السياق القرآنى لم يفصل في تلك المشاعر البشرية المتداخلة المتعارضة المتغالبة ، لأنه المنهج القرآنى لا يريد أن يجعل من هذه اللحظة معرضا يستغرق أكثر من مساحته المناسبة في محيط القصة وفي محيط الحياة البشرية المكتملة كذلك فذكر طرفي الموقف بين الاعتصام في أوله والاعتصام في نهايته ، مع الإلمام بلحظة الضعف بينهما ، ليكتمل الصدق والواقعية والجو النظيف جميعا ..» (١).

ثم حكت السورة الكريمة بعد ذلك ما قالته بعض النساء ، بعد أن شاع خبر امرأة العزيز مع فتاها ، وما فعلته معهن من أفعال تدل على شدة مكرها ودهائها ، وما قاله يوسف ـ عليه‌السلام ـ بعد ان سمع ما سمع من تهديدهن وإغرائهن .. قال ـ تعالى ـ :

(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٣٤)

__________________

(١) من تفسير «في ظلال القرآن» للأستاذ سيد قطب ج ١٢ ص ١٩٨١ طبعة دار الشروق.

٣٥٠

قوله ـ سبحانه ـ (وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ ..) حكاية لما تناقلته الألسنة عن امرأة العزيز ، فقد جرت العادة بين النساء ، أن يتحدثن عن أمثال هذه الأمور في مجالسهن ، ولا يكتمنها خصوصا إذا كانت صاحبة الحادثة من نساء الطبقة المرموقة .. كامرأة العزيز.

والنسوة : اسم جمع لا واحد له من لفظه ، ومفردة من حيث المعنى : امرأة.

والمراد بالمدينة : مدينة مصر التي كان يعيش فيها العزيز وزوجته والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لنسوة.

أى : وقال نسوة من نساء مدينة مصر ـ على سبيل النقد والتشهير والتعجب ـ إن امرأة العزيز ، صاحبة المكانة العالية ، والمنزلة الرفيعة ، بلغ بها الحال في انقيادها لهواها ، وفي خروجها عن طريق العفة .. أنها تراود فتاها عن نفسه ، أى : تطلب منه مواقعتها ، وتتخذ لبلوغ غرضها شتى الوسائل والحيل.

ولم يبين لنا القرآن الكريم عدد هؤلاء النسوة ولا صفاتهم ، لأنه لا يتعلق بذلك غرض نافع ، ولأن الذي يهدف إليه القرآن الكريم هو بيان أن ما حدث بين يوسف وامرأة العزيز ، قد شاع أمره بين عدد من النساء في مدينة كبيرة كمصر وفي وصفها بأنها «امرأة العزيز» زيادة في التشهير بها. فقد جرت العادة بين الناس ، بأن ما يتعلق بأصحاب المناصب الرفيعة من أحداث ، يكون أكثر انتشارا بينهم ، وأشد في النقد والتجريح.

والتعبير بالمضارع في قوله ـ سبحانه ـ (تُراوِدُ) يشعر بأنها كانت مستمرة على ذلك ، دون أن يمنعها منه افتضاح أمرها ، وقول زوجها لها «واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين».

والمراد بفتاها يوسف ـ عليه‌السلام ـ ووصفنه بذلك لأنه كان في خدمتها ، والمبالغة في رميها بسوء السلوك ، حيث بلغ بها الحال في احتقار نفسها ، أن تكون مراودة لشخص هو خادم لها ..

وجملة «قد شغفها حبا» بيان لحالها معه ، وهي في محل نصب حال من فاعل تراود أو من مفعوله والمقصود بها تكرير لومها ، وتأكيد انقيادها لشهواتها.

وشغف مأخوذ من الشغاف ـ بكسر الشين ـ وهو غلاف القلب ، أو سويداؤه أو حجابه ، يقال : شغف الهوى قلب فلان شغفا ، أى بلغ شغافه.

والمراد أن حبها إياه قد شق شغاف قلبها. وتمكن منه تمكنا لا مزيد عليه و «حبا» تمييز

٣٥١

محول عن الفاعل ، والأصل : شغفها حبها إياه.

وجملة (إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) مقررة لمضمون ما قبلها من لوم امرأة العزيز ، وتحقير سلوكها ، والمراد بالضلال : مخالفة طريق الصواب.

أى : إنا لنرى هذه المرأة بعين بصيرتنا ، وصادق علمنا. في خطأ عظيم واضح بحيث لا يخفى على أحد من العقلاء ، لأنها ـ وهي المرأة المرموقة وزوجة الرجل الكبير ـ تراود خادمها عن نفسه.

والتعبير «بإنا لنراها ...» للإشعار بأن حكمهن عليها بالضلال ليس عن جهل ، وإنما هو عن علم وروية ، مع التلويح بأنهن يتنزهن عن مثل هذا الضلال المبين الصادر عنها.

قال صاحب المنار : «وهن ما قلن هذا إنكارا للمنكر ، وكرها للرذيلة ، ولا حبا في المعروف ، ونصرا للفضيلة. وإنما قلنه مكرا وحيلة ، ليصل إليها قولهن فيحملها على دعوتهن ، وإراءتهن بأعين أبصارهن ، ما يبطل ما يدعين رؤيته بأعين بصائرهن ، فيعذرنها فيما عذلنها عليه فهو مكر لا رأى» (١).

وهنا تحكى السورة الكريمة كيف قابلت تلك المرأة الداهية الجريئة ، مكر بنات جنسها وطبقتها بمكر أشد من مكرهن بها فقال ـ تعالى ـ :

(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَ) أى : باغتيابهن لها. وسوء مقالتهن فيها ، وسمى ذلك مكرا لشبهه به في الإخفاء والخداع.

أو قصدن بما قلنه ـ كما سبق أن أشرنا ـ إثارتها ، لكي تطلعهن على فتاها الذي راودته عن نفسه ، ليعرفن السر في هذه المراودة ، وعلى هذا يكون المكر على حقيقته. ومثل هذا المكر ليس غريبا على النساء في مثل هذه الأحوال.

وقوله : (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ ..) إلخ بيان لما فعلته معهن.

أى : أرسلت إلى النسوة اللائي وصفنها بأنها في ضلال مبين ، ودعتهن إلى الحضور إليها في دارها لتناول الطعام.

(وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) أى : وهيأت لهن في مجلس طعامها ، ما يتكئن عليه من الوسائد والنمارق وما يشبه ذلك.

فالمتكأ : اسم مفعول من الاتكاء ، وهو الميل إلى أحد الجانبين في الجلوس كما جرت بذلك

__________________

(١) تفسير المنار ج ١٢ ص ٢٩١.

٣٥٢

عادة المترفين عند تناول الطعام ، وعند ما يريدون إطالة المكث مع انتصاب قليل في النصف الأعلى من الجسم والاستراحة بعد الأكل.

أخرج ابن شيبة عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نهى أن يأكل الرجل بشماله ، وأن يأكل متكئا (١).

(وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) أى : وأعطت كل واحدة من هؤلاء النسوة سكينا ليقطعن به ما يأكلن من لحم وفاكهة.

ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أن الحضارة المادية في مصر في ذلك الوقت كانت قد بلغت شأوا بعيدا ، وأن الترف في القصور كان عظيما ، فإن استعمال السكاكين في الأكل قبل هذه الآلاف من السنين له قيمته في تصوير الترف والحضارة المادية» (٢).

وهنا نجد المرأة الجريئة الماكرة ، تقول ليوسف ـ عليه‌السلام ـ كما حكى القرآن عنها : «اخرج عليهن» أى ابرز لهن ، وادخل عليهن ، وهن على تلك الحالة من الأكل والاتكاء وتقطيع ما يحتاج إلى تقطيع الطعام ..

وهي ترمى من وراء خروجه عليهن إلى اطلاعهن عليه حتى يعذرنها في حبها له وقد كان لهذه المفاجأة من يوسف لهن وهن مشغولات بما يقطعنه ويأكلنه ، أثرها الشديد في نفوسهن ، وهذا ما حكاه القرآن الكريم في قوله : (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ).

والجملة الكريمة معطوفة على كلام محذوف دل عليه السياق ، والتقدير : قالت امرأة العزيز ليوسف اخرج عليهن ، فخرج عليهن وهن على تلك الحالة فلما رأينه أكبرنه ، أى : أعظمنه ، ودهشن لهيئته ، وجمال طلعته وحسن شمائله.

(وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) أى : جرحن أيديهن وخدشنها بالسكاكين التي في أيديهن دون أن يشعرن بذلك ، لشدة دهشتهن المفاجئة بهيئة يوسف ..

(وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً) وحاش فعل ماض ، واللام في «لله» للتعليل ، والمراد بهذه الجملة الكريمة التعبير عن عجيب صنع الله في خلقه أى : وقلن عند ما فوجئن بخروج يوسف عليهن : ننزه الله ـ تعالى ـ تنزيها كبيرا عن صفات العجز ، ونتعجب تعجبا شديدا من قدرته ـ سبحانه ـ على خلق هذا الجمال البديع ، وما هذا الذي نراه أمامنا بشرا كسائر

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٢ ص ٢٠٤.

(٢) تفسير «في ظلال القرآن» ج ١٢ ص ١٩٨٤.

٣٥٣

البشر ، لتفوقه في الحسن عنهم ، وإنما هو ملك كريم من الملائكة المقربين تمثل في هذه الصورة البديعة التي تخلب الألباب.

ووصفوه بذلك بناء على ما ركز في الطباع من تشبيه ما هو مفرط في الجمال والعفة بالملك وتشبيه ما هو شديد القبح والسوء بالشيطان.

وهنا شعرت امرأة العزيز بانتصارها على بنات جنسها ، اللائي عذلنها في حبها ليوسف ، فقالت لهن على سبيل التفاخر والتشفي ، وبدون استحياء أو تلميح : (قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ).

والفاء هنا فصيحة ، والخطاب للنسوة اللائي قطعن أيديهن دهشا من جمال يوسف ، والإشارة إليه ـ عليه‌السلام ـ.

أى : قالت لهن على سبيل التشفي والتباهي والاعتذار عما صدر منها معه : إن كان الأمر كما قلتن ، فذلك هو الملك الكريم الذي لمتنني في حبى له ، وقلتن ما قلتن في شأنى لافتتاني به ، فالآن بعد رؤيتكن له ، وتقطيع أيديكم ذهولا لطلعته ، قد علمتن أنى معذورة فيما حدث منى معه ...

ثم جاهرت أمامهن بأنها أغرته بمواقعتها فلم يستجب فقالت :

(وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ..). أى : والله لقد حاولت معه بشتى المغريات أن يطوع نفسه لي ، فأبى وامتنع امتناعا بليغا ، وتحفظ تحفظا شديدا.

والتعبير بقوله «فاستعصم» للمبالغة في عصمته لنفسه من الزلل ، فالسين والتاء للمبالغة ، وهو من العصمة بمعنى المنع. يقال : عصمه الطعام أى : منعه من الجوع. وعصم القربة أى : شدها بالعصام ليمنع نزول الماء منها.

وفي الآية ـ كما يقول الآلوسى ـ دليل على أنه ـ عليه‌السلام ـ لم يصدر منه ما سوّد به القصّاص وجوه الطروس (١) ـ أى الأوراق.

ثم قالت أمامهن بعد ذلك في تبجح واستهتار وتهديد : (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ).

أى : والله لقد راودته عن نفسه فاستعصم ، والله لئن لم يفعل ما آمره به ، ـ وأنا سيدته الآمرة الناهية لا غيرى ـ ليسجنن عقوبة له ، وليكونا من الصاغرين ، أى : من الأذلاء

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٢ ص ٢٠٩.

٣٥٤

المهانين المقهورين ، من الصغار. يقال : صغر فلان ـ كفرح ـ يصغر صغارا ، إذا ذل وهان.

قالوا : وأكدت السجن بالنون الثقيلة وبالقسم لتحققه في نظرها ، وأكدت الصغار بالنون الخفيفة لأنه غير متحقق فيه ، ولأنه من توابع السجن ولوازمه.

وفي هذا التهديد ما فيه من الدلالة على ثقتها من سلطانها على زوجها ، وأنه لا يستطيع أن يعصى لها أمرا ، مع أنه عزيز مصر ..

ويترامى على مسامع يوسف ـ عليه‌السلام ـ هذا التهديد السافر ... فيلجأ إلى ربه مستجيرا به. ومحتميا بحماه ويقول : «رب السجن أحب إلى مما يدعونني إليه ..».

أى : قال يوسف ـ عليه‌السلام ـ متضرعا إلى ربه ـ تعالى ـ يا رب السجن الذي هددتنى به تلك المرأة ومن معها ، أحب إلى ، وآثر عندي مما يدعونني إليه من ارتكاب الفواحش.

وقال أحب إلى مما يدعونني إليه ، ولم يقل مما تدعوني إليه امرأة العزيز ، لأنهن جميعا كن مشتركات في دعوته إلى الفاحشة سواء بطريق مباشر أو غير مباشر ، بعد أن شاهدن هيئته وحسنه ، وبعد أن سمعن ما قالته في شأنه ربة الدار ..

قال الآلوسى : «وإسناد الدعوة إليهن ، لأنهن خوفنه من مخالفتها ، وزين له مطاوعتها.

فقد روى أنهن قلن له أطع مولاتك ، واقض حاجتها ، لتأمن عقوبتها .. وروى أن كل واحدة منهن طلبت الخلوة به لنصيحته ، فلما خلت به دعته إلى نفسها ...

وقوله : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) واعتراف منه ـ عليه‌السلام ـ بضعفه البشرى الذي لا قدرة له على الصمود أمام الإغراء ، إذا لم يكن معه عون الله ـ تعالى ـ وعنايته ورعايته.

و (أَصْبُ) من الصبوة وهي الميل إلى الهوى ، يقال : صبا فلان يصبو صبوا وصبوة ، إذا مال إلى شهوات نفسه واتبع طريق الشر ، ومنه ريح الصبا ، وهي التي تميل إليها النفوس لطيب نسيمها واعتدال هوائها.

والمعنى : وإلا تدفع عنى يا إلهى كيد هؤلاء النسوة ، ومحاولاتهن إيقاعى في حبائلهن ، أمل إليهن. وأطاوعهن على ما يردنه منى ، وأكن بذلك من الجاهلين السفهاء الذين يخضعون لأهوائهم وشهواتهم ، فيقعون في القبائح والمنكرات.

وقوله ـ سبحانه ـ (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) بيان

٣٥٥

لتقبل الله ـ تعالى ـ لدعائه بفضله ورحمته.

أى : فاستجاب الله ـ تعالى ـ ليوسف دعاءه وضراعته ، فدفع عنه بلطفه وقدرته كيد هؤلاء النسوة ومكرهن ، بأن أدخل اليأس في نفوسهن من الطمع في استجابته لهن ، وبأن زاده ثباتا على ثباته ، وقوة على قوته ، فلم ينخدع بمكرهن ، ولم تلن له قناة أمام ترغيبهن أو ترهيبهن.

«إنه» سبحانه «هو السميع» لدعاء الداعين ، والمجيب لضراعة المخلصين «العليم» بأحوال القلوب ، وبما تنطوى عليه من خير أو شر.

وقال ـ سبحانه ـ (فَاسْتَجابَ) بفاء التعقيب للإشارة إلى أنه ـ سبحانه ـ بفضله وكرمه ، قد أجاب دعاء عبده يوسف ـ عليه‌السلام ـ بدون تأخير أو إبطاء.

قال الإمام ابن كثير : وقوله ـ سبحانه ـ (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ...)

وذلك لأن يوسف ـ عليه‌السلام ـ عصمه الله عصمة عظيمة ، وحماه فامتنع منها أشد الامتناع ، واختار السجن على ذلك ، وهذا في غاية مقامات الكمال ، أنه مع شبابه وجماله وكماله ، تدعوه سيدته ، وهي امرأة عزيز مصر ، وهي مع هذا في غاية الجمال والمال والرياسة ، فيمتنع من ذلك ويختار السجن خوفا من الله ، ورجاء في ثوابه.

ولهذا ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سبعة يظلمهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجل قلبه معلق بالمساجد ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه ، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إنى أخاف الله» (١).

ثم ساقت لنا السورة الكريمة بعد ذلك قصة دخول يوسف ـ عليه‌السلام ـ السجن ، مع ثبوت براءته ، مما نسب إليه ، وكيف أنه وهو في السجن لم ينس الدعوة إلى عبادة الله ـ تعالى ـ وحده ، وترك عبادة ما سواه ، وكيف أنه أقام الأدلة على صحة ما يدعو إليه ، وفسر لصاحبيه في السجن رؤياهما تفسيرا صادقا صحيحا ..

استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى كل ذلك بأسلوبه البليغ المؤثر فيقول :

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٣١٣. طبعة دار الشعب.

٣٥٦

(ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١) وَقالَ لِلَّذِي

٣٥٧

ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ)(٤٢)

وقوله ـ سبحانه ـ (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) بيان لما فعله العزيز وحاشيته مع يوسف ـ عليه‌السلام ـ بعد أن ثبتت براءته.

وبدا هنا من البداء ـ بالفتح ـ وهو ـ كما يقول الإمام الرازي ـ عبارة عن تغير الرأى عما كان عليه في السابق.

والضمير في «لهم» يعود إلى العزيز وأهل مشورته.

والمراد بالآيات : الحجج والبراهين الدالة على براءة يوسف ونزاهته ، كانشقاق قميصه من دبر ، وقول امرأة العزيز ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ، وشهادة الشاهد بأن يوسف هو الصادق وهي الكاذبة ... والحين : الزمن غير المحدد بمدة معينة.

والمعنى : ثم ظهر للعزيز وحاشيته ، من بعد ما رأوا وعاينوا البراهين المتعددة الدالة على صدق يوسف ـ عليه‌السلام ـ وطهارة عرضه ... بدا لهم بعد كل ذلك أن يغيروا رأيهم في شأنه ، وأن يسجنوه في المكان المعد لذلك ، إلى مدة غير معلومة من الزمان.

واللام في قوله «ليسجننه» جواب لقسم محذوف على تقدير القول أى : ظهر لهم من بعد ما رأوا الآيات قائلين ، والله ليسجننه حتى حين.

ولا شك أن الأمر بسجن يوسف ـ عليه‌السلام ـ كان بتأثير من امرأة العزيز ، تنفيذا لتهديدها بعد أن صمم يوسف ـ عليه‌السلام ـ على عصيانها فيما تدعوه إليه ، فقد سبق أن حكى القرآن عنها قولها (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) (١).

ولا شك ـ أيضا ـ أن هذا القرار بسجن يوسف يدل على أن امرأة العزيز كانت مالكة لقياد زوجها صاحب المنصب الكبير ، فهي تقوده حيث تريد كما يقود الرجل دابته.

ولقد عبر عن هذا المعنى صاحب الكشاف فقال ما ملخصه : قوله (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ ...)

__________________

(١) راجع تفسير الفخر الرازي ج ١٨ ص ١٣٣.

٣٥٨

وهي الشواهد على براءته ، وما كان ذلك إلا باستنزال المرأة لزوجها ، وفتلها منه في الذروة والغارب ، وكان مطواعا لها ، وجملا ذلولا زمامه في يدها ، حتى أنساه ذلك ما عاين من الآيات ، وعمل برأيها في سجنه ، لإلحاق الصغار به كما أوعدته ، وذلك لما أيست من طاعته لها ، وطمعت في أن يذلله السجن ويسخره لها (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ جانبا من أحواله بعد أن دخل السجن فقال : (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ ...).

والفتيان : تثنية فتى ، وهو من جاوز الحلم ودخل في سن الشباب.

قالوا : وهذان الفتيان كان أحدهما : خبازا للملك وصاحب طعامه وكان الثاني : ساقيا للملك ، وصاحب شرابه.

وقد أدخلهما الملك السجن غضبا عليهما ، لأنهما اتهما بخيانته.

والجملة الكريمة عطف على كلام محذوف يفهم من السياق ، والتقدير بعد أن بدا للعزيز وحاشيته سجن يوسف. نفذا ما بدا لهم فسجنوه ، ودخل معه في السجن فتيان من خدم الملك «قال أحدهما» وهو ساقى الملك ليوسف ـ عليه‌السلام ـ :

«إنى أرانى أعصر خمرا» أى : إنى رأيت فيما يرى النائم. أنى أعصر عنبا ليصير خمرا. سماه بما يؤول إليه.

«وقال الآخر إنى أرانى أحمل فوق رأسى خبزا تأكل الطير منه» أى : وقال الثاني وهو خباز الملك ، إنى رأيت في المنام أنى أحمل فوق رأسى سلالا بها خبز ، وهذا الخبز تأكل الطير منه وهو فوق رأسى.

والضمير المجرور في قوله : (نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) يعود إلى المرئي في المنام أى : أخبرنا بتفسير ما رأيناه في منامنا ، إذ نراك ونعتقدك من القوم الذين يحسنون تأويل الرؤى ، كما أننا نتوسم فيك الخير والصلاح ، لإحسانك إلى غيرك ، من السجناء الذين أنت واحد منهم.

وقبل أن يبدأ يوسف ـ عليه‌السلام ـ في تأويل رؤياهما ، أخذ يمهد لذلك بأن يعرفهما

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣١٩. وقوله (وفتلها منه في الذروة والغارب) مثل يضرب لمن يتلطف في خداع غيره ، حتى يتمكن من إخضاعه له ، ومن انقياده لأمره والذروة ـ بالكسر والضم ـ أعلى الشيء والمراد به هنا أعلى سنام البعير ، والغارب المكان الذي العنق والسنام منه ، والمراد أن صاحب الجمل يخفى الخطام ويأخذ في التحايل على الجمل حتى يتمكن منه فيضع فيه الخطام ويقوده به.

٣٥٩

بنفسه ، وبعقيدته ، ويدعوهما إلى عبادة الله وحده ويقيم لهما الأدلة على ذلك ...

وهذا شأن المصلحين العقلاء المخلصين لعقيدتهم الغيورين على نشرها بين الناس ، إنهم يسوقون لغيرهم من الكلام الحكيم ما يجعل هذا الغير يثق بهم ، ويقبل عليهم ، ويستجيب لهم ..

وهذا ما كان من يوسف ـ عليه‌السلام ـ فقد بدأ في رده عليهما بقوله : (قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ..).

أى : قال يوسف لرفيقيه في السجن اللذين سألاه أن يفسر لهما رؤياهما : «لا يأتيكما» أيها الرفيقان «طعام ترزقانه» في سجنكما ، في حال من الأحوال ، إلا وأخبرتكما بماهيته وكيفيته وسائر أحواله قبل أن يصل إليكما.

وإنما قال لهما ذلك ليبرهن على صدقه فيما يقول ، فيستجيبا لدعوته لهما إلى وحدانية الله بعد ذلك.

وقوله «ذلكما مما علمني ربي» نفى لما قد يتبادر إلى ذهنهما من أن علمه مأخوذ عن الكهانة أو التنجيم أو غير ذلك مما لا يقره الدين.

أى : ذلك التفسير الصحيح للرؤيا ، والأخبار عن المغيبات ، كإخباركما عن أحوال طعامكما قبل أن يصل إليكما ..

ذلك كله إنما هو العلم الذي علمني إياه ربي وخالقي ومالك أمرى ، وليس عن طريق الكهانة أو التنجيم كما يفعل غيرى.

وقوله : «مما علمني ربي» فيه إشعار بأن ما أخبرهما به من مغيبات هو جزء من علوم كثيرة علمها إياه ربه ـ عزوجل ـ فضلا منه ـ سبحانه ـ وكرما.

ثم أضاف إلى ذلك قوله : «إنى تركت ملة قوم» أى دين قوم «لا يؤمنون بالله» أى لا يدينون بالعبودية لله ـ تعالى ـ وحده الذي خلقهم ورزقهم ، وإنما يدينون بالعبودية لآلهة أخرى لا تنفع ولا تضر.

«وهم بالآخرة» وما فيها من ثواب وعقاب «هم كافرون» جاحدون لما يجب الإيمان به.

وفي هذه الجملة الكريمة تعريض بما كان عليه العزيز وقومه ، من إشراك وكفر ، ولم يواجه الفتيان بأنهما على دين قومهما ، وإنما ساق كلامه على سبيل العموم ، لكي يزيد في استمالتهما إليه ، وإقبالهما عليه ..

٣٦٠