التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0657-4
الصفحات: ٦٠٢

فإن قيل : فإن ذلك يعارضه ما جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأحاديث الصحيحة من نهيه عن طلب الإمارة ...

فالجواب : أولا : أن يوسف ـ عليه‌السلام ـ إنما طلب الولاية لأنه علم أنه لا أحد يقوم مقامه في العدل والإصلاح وتوصيل الفقراء إلى حقوقهم ، فرأى أن ذلك فرض متعين عليه ، فإنه لم يكن هناك غيره ...

الثاني : أنه لم يقل اجعلنى على خزائن الأرض لأنى حسيب كريم ، وإن كان كذلك ، ولم يقل إنى جميل مليح ... وإنما قال (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) فسألها بالحفظ والعلم لا بالنسب والجمال.

الثالث : إنما قال ذلك عند من لا يعرفه فأراد تعريف نفسه ، وصار ذلك مستثنى من قوله ـ تعالى ـ (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ...) (١).

والخلاصة أن يوسف ـ عليه‌السلام ـ إنما قال ما قال للملك ، وطلب ما طلب منه ، لأنه علم أن هذا المنصب لا يصلح له أحد سواه في ذلك الوقت وفي تلك الظروف ، فهو يريد من ورائه خدمة الأمة لأجر منفعة شخصية لنفسه ...

وما قاله إنما هو من باب التحدث بنعمة الله ـ تعالى ـ الذي أعطاه هذه الصفات الكريمة ، والمناقب العالية ، وليس من باب تزكية النفس المحظورة.

هذا ، وقوله ـ سبحانه ـ (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ...) بيان لسنة الله ـ تعالى ـ في خلقه ، من كونه ـ سبحانه ـ لا يضيع أجر الصابرين المحسنين أى : ومثل هذا التمكين العظيم. مكنا ليوسف في أرض مصر ، بعد أن مكث في سجنها بضع سنين ، لا لذنب اقترفه ، وإنما لاستعصامه بأمر الله.

وقوله (يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) تفصيل للتمكين الذي منحه الله ـ تعالى ـ ليوسف في أرض مصر ، والتبوأ اتخاذ المكان للنزول به. يقال : بوأ فلان فلانا منزلا. أى مكنه منه وأنزله به أى : ومثل هذا التمكين العظيم ، مكنا ليوسف في أرض مصر ، حيث هيأنا له أن ينتقل في أماكنها ومنازلها حيث يشاء له التنقل ، دون أن يمنعه مانع من الحلول في أى مكان فيها.

فالجملة الكريمة كناية عن قدرته على التصرف والتنقل في جميع أرض مصر ، كما يتصرف ويتنقل الرجل في منزله الخاص.

وقوله : (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ ...) بيان لكمال قدرته ونفاذ إرادته ـ سبحانه ـ

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ٩ ص ٢١٦.

٣٨١

أى : نصيب برحمتنا وفضلنا وعطائنا من نشاء عطاءه من عبادنا بمقتضى حكمتنا ومشيئتنا.

(وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) الذين يتقنون أداء ما كلفهم الله بأدائه ، بل نوفيهم أجورهم على إحسانهم في الدنيا قبل الآخرة إذا شئنا ذلك.

(وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) وأبقى (لِلَّذِينَ آمَنُوا) بالله ـ تعالى ـ إيمانا حقا (وَكانُوا يَتَّقُونَ) خالقهم ـ عزوجل ـ في كل ما يأتون وما يذرون ، بأن يصونوا أنفسهم عن كل ما يغضبه.

وهكذا كافأ الله ـ تعالى ـ يوسف على صبره وتقواه وإحسانه ، بما يستحقه من خير وسعادة في الدنيا والآخرة.

ثم تطوى السورة بعد ذلك أحداثا نكل معرفتها إلى فهم القارئ وفطنته ، فهي لم تحدثنا ـ مثلا ـ عن الطريقة التي اتبعها يوسف في إدارته لخزائن أرض مصر ، اكتفاء بقوله (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) للدلالة على كفايته وأمانته.

كذلك لم تحدثنا عن أحوال الناس في السنوات السبع العجاف ، وفي السنوات الخضر لأن هذا مقرر ومعروف في دنيا الناس.

كذلك لم تحدثنا عن صلة الملك وحاشيته بيوسف ، بعد أن صار أمينا على خزائن الأرض ، بل أفسحت المجال كله للحديث عن يوسف ، إنزالا للناس منازلهم ، إذ هو صاحب التفسير الصحيح لرؤيا الملك ، وصاحب الأفكار الحكيمة التي أنقذت الأمة من فقر سبع سنوات شداد ، وصاحب الدعوة إلى وحدانية الله ـ تعالى ـ وإخلاص العبادة له ، بين قوم يشركون مع الله في العبادة آلهة أخرى.

لم تحدثنا السورة الكريمة عن كل ذلك ، في أعقاب حديثها عن تمكين الله ـ تعالى ـ ليوسف في الأرض ، وإنما انتقلت بنا بعد ذلك مباشرة إلى الحديث عن لقاء يوسف بإخوته ، وعما دار بينه وبينهم من محاورات ، وعن إكرامه لهم ...

قال تعالى :

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ

٣٨٢

أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(٦٢)

قال الفخر الرازي ـ رحمه‌الله ـ اعلم أنه لما عم القحط في البلاد ، ووصل أيضا إلى البلدة التي كان يسكنها يعقوب ـ عليه‌السلام ـ وصعب الزمان عليهم فقال لبنيه : إن بمصر صالحا يمير الناس ـ أى يعطيهم الطعام وما هم في حاجة إليه في معاشهم ـ فاذهبوا إليه بدراهمكم ، وخذوا منه الطعام ، فخرجوا إليه وهم عشرة وبقي «بنيامين» مع أبيه ، ودخلوا على يوسف ـ عليه‌السلام ـ وصارت هذه الواقعة كالسبب في اجتماع يوسف مع إخوته ، وظهور صدق ما أخبره الله ـ تعالى ـ عنه في قوله ليوسف حال ما ألقوه في الجب (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١).

وقد جاءوا إليه جميعا ـ ما عدا «بنيامين» وهو الشقيق الأصغر ليوسف ليحصلوا منه على أكبر كمية من الطعام على حسب عددهم ، وليكون عندهم القدرة على صد العدوان إذا ما تعرض لهم قطاع الطرق الذين يكثرون في أوقات الجدب والجوع.

وعبر عن معرفة يوسف لهم بالجملة الفعلية ، وعن جهلهم له بالجملة الاسمية للإشعار بأن معرفته لهم حصلت بمجرد رؤيته لهم ، أما هم فعدم معرفتهم له كان أمرا ثابتا متمكنا منهم.

قال صاحب الكشاف : «لم يعرفوه لطول العهد ، ومفارقته إياهم في سن الحداثة ولاعتقادهم أنه قد هلك ، ولذهابه عن أوهامهم لقلة فكرهم فيه ، واهتمامهم بشأنه ، ولبعد حاله التي بلغها من الملك والسلطان عن حاله التي فارقوه عليها طريحا في البئر ، حتى لو تخيلوا أنه هو لكذبوا أنفسهم وظنونهم ، ولأن الملك مما يبدل الزي ، ويلبس صاحبه من التهيب والاستعظام ما ينكر له المعروف ...» (٢).

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٨ ص ١٦٥.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٢٩.

٣٨٣

ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أن المجاعة التي حدثت في السبع السنين الشداد شملت مصر وما جاورها من البلاد ـ كما سبق أن أشرنا ـ.

كما يؤخذ منها أن مصر كانت محط أنظار المعسرين من مختلف البلاد بفضل حسن تدبير يوسف ـ عليه‌السلام ـ وأخذه الأمور بالعدالة والرحمة وسهره على مصالح الناس ، ومراقبته لشئون بيع الطعام ، وعدم الاعتماد على غيره حتى إن إخوته قد دخلوا عليه وحده ، دون غيره من المسئولين في مصر.

وقوله ـ سبحانه ـ (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ ...) بيان لما فعله يوسف معهم بعد أن عرفهم دون أن يعرفوه.

وأصل الجهاز ـ بفتح الجيم وكسرها قليل ـ : ما يحتاج إليه المسافر من زاد ومتاع ، يقال : جهزت المسافر ، أى هيأت له جهازه الذي يحتاج إليه في سفره ، ومنه جهاز العروس وهو ما تزف به إلى زوجها ، وجهاز الميت وهو ما يحتاج إليه في دفنه ...

والمراد : أن يوسف بعد أن دخل عليه إخوته وعرفهم ، أكرم وفادتهم. وعاملهم معاملة طيبة جعلتهم يأنسون إليه ، وهيأ لهم ما هم في حاجة إليه من الطعام وغيره ، ثم استدرجهم بعد ذلك في الكلام حتى عرف منهم على وجه التفصيل أحوالهم.

وذلك لأن قوله لهم (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) يستلزم أن حديثا متنوعا نشأ بينه وبينهم ، عرف منه يوسف ، أن لهم أخا من أبيهم لم يحضر معهم وإلا فلو كان هذا الطلب منه لهم بعد معرفته لهم مباشرة ، لشعروا بأنه يعرفهم وهو لا يريد ذلك.

ومن هنا قال المفسرون : إن قوله (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) يقتضى كلاما دار بينه وبينهم نشأ عنه هذا الطلب ، ومما قالوه في توضيح هذا الكلام : ما روى من أنهم بعد أن دخلوا عليه قال لهم : من أنتم وما شأنكم؟ فقالوا : نحن قوم من أهل الشام ، جئنا نمتار ، ولنا أب شيخ صديق نبي من الأنبياء اسمه يعقوب ، فقال لهم : كم عددكم قالوا عشرة ، وقد كنا اثنى عشر ، فذهب أخ لنا إلى البرية فهلك ، وكان أحبنا إلى أبينا ، وقد سكن بعده إلى أخ له أصغر منه ، هو باق لديه يتسلى به ، فقال لهم حينئذ ؛ ائتوني بأخ لكم من أبيكم» (١).

ويروى أنه قال لهم ذلك بعد أن طلبوا منه شيئا زائدا عن عددهم ، لأن لهم أخا لم يحضر معهم ، فأعطاهم ما طلبوه ، واشترط عليهم إحضار أخيهم هذا معهم ، ليتأكد من صدقهم» (٢).

__________________

(١) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٢ ص ٣٧.

(٢) راجع تفسير القرطبي ج ٩ ص ٢٣١.

٣٨٤

والمعنى : وبعد أن أعطى يوسف إخوته ما هم في حاجة إليه ، وعرف منهم أن لهم أخا من أبيهم قد تركوه في منازلهم ولم يحضر معهم ، قال لهم : أنا أريدكم في الزيارة القادمة لي ، أن تحضروه معكم لأراه ...

وقوله «من أبيكم» حال من قوله «أخ لكم» أى : أخ لكم حالة كونه من أبيكم ، وليس شقيقا لكم ، فإن هذا هو الذي أريده ولا أريد غيره.

وهذا من باب المبالغة في عدم الكشف لهم عن نفسه ، حتى لكأنه لا معرفة له بهم ولا به إلا من ذكرهم إياه له.

وقوله : (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) تحريض لهم على الإتيان به ، وترغيب لهم في ذلك حتى ينشطوا في إحضاره معهم.

أى : ألا ترون أنى أكرمت وفادتكم ، وأعطيتكم فوق ما تريدون من الطعام ، وأنزلتكم ببلدى منزلا كريما ... وما دام أمرى معكم كذلك ، فلا بد من أن تأتونى معكم بأخيكم من أبيكم في المرة القادمة ، لكي أزيد في إكرامكم وعطائكم.

والمراد بإيفاء الكيل : إتمامه بدون تطفيف أو تنقيص.

وعبر بصيغة الاستقبال «ألا ترون ...» مع كونه قد قال هذا القول بعد تجهيزه لهم. للدلالة على أن إيفاءه هذا عادة مستمرة له معهم كلما أتوه.

وجملة (وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) حالية ، والمنزل : المضيف لغيره. أى : والحال أنى خير المضيفين لمن نزل في ضيافتي ، وقد شاهدتم ذلك بأنفسكم.

ثم أتبع هذا الترغيب بالترهيب فقال : (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ).

أى : لقد رأيتم منى كل خير في لقائكم معى هذا ، وقد طلبت منكم أن تصحبوا معكم أخاكم من أبيكم في لقائكم القادم معى ، فإن لم تأتونى به معكم عند عودتكم إلى ، فإنى لن أبيعكم شيئا مما تريدونه من الأطعمة وغيرها ، وفضلا عن ذلك فإنى أحذركم من أن تقربوا بلادي فضلا عن دخولها.

هذا التحذير منه ـ عليه‌السلام ـ لهم ، يشعر بأن إخوته قد ذكروا له بأنهم سيعودون إليه مرة أخرى ، لأن ما معهم من طعام لا يكفيهم إلا لوقت محدود من الزمان.

وقوله ـ سبحانه ـ : (قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) حكاية لما رد به إخوة يوسف عليه.

٣٨٥

أى قال إخوة يوسف له بعد أن أكد لهم وجوب إحضار أخيهم لأبيهم معهم : (سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) أى : سنطلب حضوره معنا من أبيه برفق ولين ومخادعة ومحايلة «وإنا لفاعلون» هذه المراودة باجتهاد لا كلل ولا ملل معه وفاء لحقك علينا.

وقولهم هذا يدل دلالة واضحة على أنهم كانوا يشعرون بأن إحضار أخيهم لأبيهم معهم ـ وهو «بنيامين» الشقيق الأصغر ليوسف ـ ، ليس أمرا سهلا أو ميسورا ، وإنما يحتاج إلى جهد كبير مع أبيهم حتى يقنعوه بإرساله معهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما فعله يوسف مع إخوته وهم على وشك الرحيل فقال : (وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ ، لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

والفتيان : جمع فتى والمراد بهم هنا من يقومون بخدمته ومساعدته في عمله.

والبضاعة في الأصل : القطعة الوفيرة من الأموال التي تقتنى للتجارة ، مأخوذة من البضع بمعنى القطع.

والمراد بها هنا : أثمان الطعام الذي أعطاه لهم يوسف ـ عليه‌السلام ـ.

والرحال : جمع رحل ، وهو ما يوضع على البعير من متاع الراكب.

والمعنى : وقال يوسف ـ عليه‌السلام ـ لفتيانه الذين يقومون بتلبية مطالبه : أعيدوا إلى رحال هؤلاء القوم ـ وهم إخوته ـ الأثمان التي دفعوها لنا في مقابل ما أخذوه منا من طعام ، وافعلوا ذلك دون أن يشعروا بكم ، لعل هؤلاء القوم عند ما يعودون إلى بلادهم ، ويفتحون أمتعتهم ، فيجدون فيها الأثمان التي دفعوها لنا في مقابل ما أخذوه من طعام وغيره.

لعلهم حينئذ يرجعون إلينا مرة أخرى ، ليدفعوها لنا في مقابل ما أخذوه.

وكأن يوسف ـ عليه‌السلام ـ أراد بفعله هذا حملهم على الرجوع إليه ومعهم «بنيامين» لأن من شأن النفوس الكبيرة أن تقابل الإحسان بالإحسان وأن تأنف من أخذ المبيع دون أن تدفع لصاحبه ثمنه.

وقوله (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ) تعليل لأمره فتيانه بجعل البضاعة في رحال إخوته. إذ أن معرفتهم بأن بضاعتهم قد ردت إليهم لا يتم إلا بعد انقلابهم ـ أى رجوعهم ـ إلى أهلهم ، وبعد تفريغها عندهم.

وقوله «لعلهم يرجعون» جواب للأمر. أى : اجعلوها كذلك ، لعلهم بعد اكتشافهم أنهم ما دفعوا لنا ثمن ما أخذوه ، يرجعون إلينا ليدفعوا لنا حقنا.

وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد حدثتنا عما دار بين يوسف وإخوته بعد أن دخلوا عليه

٣٨٦

فعرفهم وهم له منكرون ، وبعد أن طلب منهم بقوة أن يعودوا إليه ومعهم أخوهم لأبيهم ... فماذا كان بعد ذلك؟

لقد حكت لنا السورة الكريمة ما دار بين إخوة يوسف وبين أبيهم من محاورات طلبوا خلالها منه أن يأذن لهم في اصطحاب «بنيامين» معهم في رحلتهم القادمة إلى مصر ، كما حكت ما رد به أبوهم عليهم. قال ـ تعالى ـ :

(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ

٣٨٧

لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(٦٨)

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ ...) حكاية لما قاله إخوة يوسف لأبيهم فور التقائهم به.

والمراد بالكيل : الطعام المكيل الذي هم في حاجة إليه.

والمراد بمنعه : الحيلولة بينهم وبينه في المستقبل ، لأن رجوعهم بالطعام قرينة على ذلك.

والآية الكريمة معطوفة على كلام محذوف ، يدرك من السياق والتقدير : ترك إخوة يوسف مصر ، وعادوا إلى بلادهم ، بعد أن وعدوه بتنفيذ ما طلبه منهم ، فلما وصلوا إلى بلادهم ، ودخلوا على أبيهم قالوا له بدون تمهل.

(يا أَبانا) لقد حكم عزيز مصر بعدم بيع أى طعام لنا بعد هذه المرة إذا لم نأخذ معنا أخانا «بنيامين» ليراه عند عودتنا إليه ؛ فقد قال لنا مهددا عند مغادرتنا له : (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ).

وأنت تعلم أننا لا بد من عودتنا إليه ، لجلب احتياجاتنا من الطعام وغيره ، فنرجوك أن توافقنا على اصطحاب «بنيامين» معنا «وإنا له لحافظون» حفظا تاما من أن يصيبه مكروه.

والآية الكريمة واضحة الدلالة على أن قولهم هذا لأبيهم ، كان بمجرد رجوعهم إليه ، وكان قبل أن يفتحوا متاعهم ليعرفوا ما بداخله ...

وكأنهم فعلوا ذلك ليشعروه بأن إرسال بنيامين معهم عند سفرهم إلى مصر ، أمر على أكبر جانب من الأهمية ، وأن عدم إرساله سيترتب عليه منع الطعام عنهم.

وقرأ حمزة والكسائي «فأرسل معنا أخانا يكتل» ـ بالياء ـ أى : فأرسله معنا ليأخذ نصيبه من الطعام المكال ، لأن عزيز مصر لا يعطى طعاما لمن كان غائبا.

وعلى كلا القراءتين فالفعل مجزوم في جواب الطلب.

وقالوا له (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) بالجملة الاسمية ، لتأكيد حفظهم له : وأن ذلك أمر ثابت عندهم ثبوتا لا مناص منه.

ولكن يبدو أن قولهم هذا قد حرك كوامن الأحزان والآلام في نفس يعقوب ، فهم الذين سبق أن قالوا له في شأن يوسف ـ أيضا ـ (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).

٣٨٨

لذا نجده يرد عليهم في استنكار وألم بقوله : (قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ ...).

أى : قال يعقوب لأولاده بعد أن طلبوا منه بإلحاح إرسال أخيهم معهم ، وبعد أن تعهدوا بحفظه : أتريدون أن أأتمنكم على ابني «بنيامين» ، كما ائتمنتكم على شقيقه يوسف من قبل هذا الوقت ، فكانت النتيجة التي تعرفونها جمعا ، وهي فراق يوسف لي فراقا لا يعلم مداه إلا الله ـ تعالى ـ؟!! لا ، إننى لا أثق بوعودكم بعد الذي حدث منكم معى في شأن يوسف. فالاستفهام في قوله «هل آمنكم ...» للإنكار والنفي.

وقوله (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) تفريع على استنكاره لطلبهم إرسال «بنيامين» معهم ، وتصريح منه لهم بأن حفظ الله ـ تعالى ـ خير من حفظهم.

أى : إننى لا أثق بوعودكم لي بعد الذي حدث منكم بالنسبة ليوسف ، وإنما أثق بحفظ الله ورعايته «فالله» ـ تعالى ـ «خير حافظا» لمن يشاء حفظه ، فمن حفظه سلم ، ومن لم يحفظه لم يسلم ، كما لم يسلم أخوه يوسف من قبل حين ائتمنتكم عليه «وهو» ـ سبحانه ـ (أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) لخلقه ، فأرجو أن يشملني برحمته ، ولا يفجعنى في «بنيامين» ، كما فجعت في شقيقه يوسف من قبل.

ويبدو أن الأبناء قد اقتنعوا برد أبيهم عليهم ، واشتموا من هذا الرد إمكان إرساله معهم ، لذا لم يراجعوه مرة أخرى.

قال الآلوسى ما ملخصه : «وهذا ـ أى رد يعقوب عليهم ـ ميل منه ـ عليه‌السلام ـ إلى الإذن والإرسال لما رأى فيه من المصلحة ، وفيه أيضا من التوكل على الله ـ تعالى ـ ما لا يخفى ، ولذا روى أن الله ـ تعالى ـ قال : «وعزتي وجلالي لأردهما عليك إذ توكلت على ...» وقرأ أكثر السبعة فالله خير حفظا ... وقرأ حمزة والكسائي وحفص (حافِظاً ...) وعلى القراءتين فهو منصوب على أنه تمييز ...» (١).

ثم اتجه الأبناء بعد هذه المحاورة مع أبيهم إلى أمتعتهم ليفتحوها ويخرجوا ما بها من زاد حضروا به من مصر ، فكانت المفاجأة التي حكاها القرآن في قوله :

(وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ ...).

أى : وحين فتحوا أوعيتهم التي بداخلها الطعام الذي اشتروه من عزيز مصر. فوجئوا بوجود أثمان هذا الطعام قد رد إليهم معه ، ولم يأخذها عزيز مصر ، بل دسها داخل أوعيتهم

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٣ ص ١١.

٣٨٩

دون أن يشعروا ، فدهشوا وقالوا لأبيهم متعجبين :

(يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) أى : يا أبانا ماذا نطلب من الإحسان والكرم أكثر من هذا الذي فعله معنا عزيز مصر؟ لقد أعطانا الطعام الذي نريده ، ثم رد إلينا ثمنه الذي دفعناه له دون أن يخبرنا بذلك.

فما في قوله (ما نَبْغِي) استفهامية ، والاستفهام للتعجب من كرم عزيز مصر ، وهي مفعول نبغى ، ونبغى من البغاء ـ بضم الباء ـ وهو الطلب.

والمراد ببضاعتهم : الثمن الذي دفعوه للعزيز في مقابل ما أخذوه منه من زاد.

وجملة (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) مستأنفة لتوضيح ما دل عليه الاستفهام من التعجب ، بسبب ما فعله معهم عزيز مصر من مروءة وسخاء.

فكأنهم قالوا لأبيهم : كيف لا نعجب وندهش ، وهذه بضاعتنا ردت إلينا من حيث لا ندري ومعها الأحمال التي اشتريناها من عزيز مصر لم ينقص منها شيء؟

وقوله (وَنَمِيرُ أَهْلَنا) معطوف على مقدر يفهم من الكلام ، أى : «هذه بضاعتنا ردت إلينا» فننتفع بها في معاشنا ، ونمير أهلنا ، أى : نجلب لهم الميرة ـ بكسر الميم وسكون الياء ـ وهي الزاد الذي يؤتى به من مكان إلى آخر.

(وَنَحْفَظُ أَخانا) عند سفره معنا من أى مكروه.

(وَنَزْدادُ) بوجوده معنا عند الدخول على عزيز مصر.

(كَيْلَ بَعِيرٍ) أى : ويعطينا العزيز حمل بعير من الزاد ، زيادة على هذه المرة نظرا لوجود أخينا معنا.

ولعل قولهم هذا كان سببه أن يوسف ـ عليه‌السلام ـ كان يعطى من الطعام على عدد الرءوس ، حتى يستطيع أن يوفر القوت للجميع في تلك السنوات الشداد.

واسم الإشارة في قوله ـ سبحانه ـ (ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) يعود إلى الزاد الذي أحضروه من مصر أى : ذلك الطعام الذي أعطانا إياه عزيز مصر طعام يسير ، لا يكفينا إلا لمدة قليلة من الزمان ، ويجب أن نعود إلى مصر لنأتى بطعام آخر.

وفي هذه الجمل المتعددة التي حكاها القرآن عنهم ، تحريض واضح منهم لأبيهم على أن يسمح لهم باصطحاب «بنيامين» معهم في رحلتهم القادمة إلى مصر.

٣٩٠

ومن مظاهر هذا التحريض : مدحهم لعزيز مصر الذي رد لهم أثمان مشترياتهم ، وحاجتهم الملحة إلى استجلاب طعام جديد ، وتعهدهم بحفظ أخيهم وازدياد الأطعمة بسبب وجوده معهم.

ولكن يعقوب ـ عليه‌السلام ـ مع كل هذا التحريض والإلحاح ، لم يستجب لهم إلا على كره منه ، واشترط لهذه الاستجابة ما حكاه القرآن في قوله :

(قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ).

والموثق : العهد الموثق باليمين ، وجمعه مواثيق.

أى : قال يعقوب ـ عليه‌السلام ـ لهم : والله لن أرسل معكم «بنيامين» إلى مصر ، حتى تحلفوا لي بالله ، بأن تقولوا : والله لنأتينك به عند عودتنا ، ولن نتخلى عن ذلك ، «إلا أن يحاط بنا» أى : إلا أن نهلك جميعا ، أو أن نغلب عليه بما هو فوق طاقتنا.

يقولون : أحيط بفلان إذا هلك أو قارب الهلاك ، وأصله من إحاطة العدو بالشخص ، واستعمل في الهلاك ، لأن من أحاط به العدو يهلك غالبا.

وسمى الحلف بالله ـ تعالى ـ موثقا ، لأنه مما تؤكد به العهود وتقوى وقد أذن الله ـ تعالى ـ بذلك عند وجود ما يقتضى الحلف به ـ سبحانه ـ.

وقوله : «لتأتننى به» جواب لقسم محذوف والاستثناء في قوله «إلا أن يحاط بكم» مفرغ من أعم الأحوال ، والتقدير : لن أرسله معكم حتى تحلفوا بالله وتقولوا : والله لنأتينك به معنا عند عودتنا ، في جميع الأحوال والظروف إلا في حال هلاككم أو في حال عجزكم التام عن مدافعة أمر حال بينكم وبين الإتيان به معكم.

وقوله (فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ) أى : فلما أعطى الأبناء أباهم العهد الموثق باليمين بأن أقسموا له بأن يأتوا بأخيهم معهم عند عودتهم من مصر.

«قال» لهم على سبيل التأكيد والحض على وجوب الوفاء : الله ـ تعالى ـ على ما نقول أنا وأنتم وكيل ، أى : مطلع ورقيب ، وسيجازى الأوفياء خيرا ، وسيجازى الناقضين لعهودهم بما يستحقون من عقاب.

قال ابن كثير : «وإنما فعل ذلك ، لأنه لم يجد بدا من بعثهم لأجل الميرة التي لا غنى لهم عنها فبعثه معهم».

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما وصى به يعقوب أبناءه عند سفرهم فقال (وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ...).

٣٩١

أى : وقال يعقوب ـ الأب العطوف ـ لأبنائه وهو يودعهم : يا بنى إذا وصلتم إلى مصر ، فلا تدخلوا كلكم من باب واحد ، وأنتم أحد عشر رجلا بل ادخلوا من أبوابها المتفرقة ، بحيث يدخل كل اثنين أو ثلاثة من باب.

قالوا : وكانت أبواب مصر في ذلك الوقت أربعة أبواب.

وقد ذكر المفسرون أسبابا متعددة لوصية يعقوب هذه لأبنائه ، وأحسن هذه الأسباب ما ذكره الآلوسى في قوله : نهاهم عن الدخول من باب واحد ، حذرا من إصابة العين أى من الحسد ، فإنهم كانوا ذوى جمال وشارة حسنة ... فكانوا مظنة لأن يعانوا ـ أى لأن يحسدوا ـ إذا ما دخلوا كوكبة واحدة ...

ثم قال : والعين حق ، كما صح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصح أيضا بزيادة «ولو كان شيء يسبق القدر سبقته العين» ...

وقد ورد أيضا : «إن العين لتدخل الرجل القبر ، والجمل القدر» (١).

وقيل : إن السبب في وصية يعقوب لأبنائه بهذه الوصية ، خوفه عليهم من أن يسترعى عددهم حراس مدينة مصر إذا ما دخلوا من باب واحد ، فيترامى في أذهانهم أنهم جواسيس أو ما شابه ذلك ، فربما سجنوهم ، أو حالوا بينهم وبين الوصول إلى يوسف ـ عليه‌السلام ـ ...

وقوله (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) اعتراف منه ـ عليه‌السلام ـ بأن دخولهم من الأبواب المتفرقة ، لن يحول بينهم وبين ما قدره ـ تعالى ـ وأراده لهم ، وإنما هو أمرهم بذلك من باب الأخذ بالأسباب المشروعة.

أى : وإنى بقولي هذا لكم ، لا أدفع عنكم شيئا قدره الله عليكم ، ولو كان هذا الشيء قليلا.

(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أى : ما الحكم في كل شيء إلا لله ـ تعالى ـ وحده لا ينازعه في ذلك منازع. ولا يدافعه مدافع.

«وعليه» وحده «توكلت» في كل أمورى.

«وعليه» وحده «فليتوكل المتوكلون» أى المريدون للتوكل الحق ، والاعتماد الصدق الذي لا يتعارض مع الأخذ بالأسباب التي شرعها الله وأمر بها.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ـ بتصرف وتلخيص ـ ج ١٣ ص ١٥.

٣٩٢

إذ أن كلا من التوكل والأخذ بالأسباب مطلوب من العبد ، إلا أن العاقل عند ما يأخذ في الأسباب يجزم بأن الحكم لله وحده في كل الأمور ، وأن الأسباب ما هي إلا أمور عادية ، يوجد الله ـ تعالى ـ معها ما يريد إيجاده ، ويمنع ما يريد منعه ، فهو الفعال لما يريد. ويعقوب ـ عليه‌السلام ـ عند ما أوصى أبناءه بهذه الوصية ، أراد بها تعليمهم الاعتماد على توفيق الله ولطفه ، مع الأخذ بالأسباب المعتادة الظاهرة تأدبا مع الله ـ تعالى ـ واضع الأسباب ومشرعها ...

ثم بين ـ سبحانه ـ أن الأبناء قد امتثلوا أمر أبيهم لهم فقال : (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ، ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها).

والمراد بالحاجة هنا : نصيحته لأبنائه بأن يدخلوا من أبواب متفرقة ، خوفا عليهم من الحسد. ومعنى «قضاها» أظهرها ولم يستطع كتمانها يقال : قضى فلان حاجة لنفسه إذا أظهر ما أضمره فيها.

أى : وحين دخل أبناء يعقوب من الأبواب المتفرقة التي أمرهم أبوهم بالدخول منها. «ما كان» هذا الدخول «يغنى عنهم» أى يدفع عنهم من قدر «الله من شيء» قدره عليهم ، ولكن الذي حمل يعقوب على أمرهم بذلك ، حاجة أى رغبة خطرت في نفسه «قضاها» أى : أظهرها ووصاهم بها ولم يستطع إخفاءها لشدة حبه لهم مع اعتقاده بأن كل شيء بقضاء الله وقدره.

وقوله ـ سبحانه ـ (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ) ثناء من الله ـ تعالى ـ على يعقوب بالعلم وحسن التدبير.

أى : وإن يعقوب ـ عليه‌السلام ـ لذو علم عظيم ، للشيء الذي علمناه إياه عن طريق وحينا ، فهو لا ينسى منه شيئا إلا ما شاء الله.

وقوله (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أى : لا يعلمون ما يعلمه يعقوب ـ عليه‌السلام ـ من أن الأخذ بالأسباب لا يتنافى مع التوكل على الله ـ تعالى ـ أو : ولكن أكثر الناس لا يعلمون ما أعطاه الله ـ تعالى ـ لأنبيائه وأصفيائه من العلم والمعرفة وحسن التأني للأمور.

وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد فصلت الحديث عما دار بين إخوة يوسف وبين أبيهم في شأن سفر أخيهم معهم .. فماذا كان بعد ذلك؟

لقد كان بعد ذلك أن سافر إخوة يوسف إلى مصر ، ومعهم «بنيامين» الشقيق الأصغر ليوسف ، والتقوا هناك بيوسف ، وتكشف هذا اللقاء عن أحداث مثيرة ، زاخرة بالانفعالات

٣٩٣

والمفاجآت والمحاورات ... التي حكاها القرآن في قوله ـ تعالى ـ :

(وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦) قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨)

٣٩٤

قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ)(٨٢)

وقوله ـ سبحانه ـ (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ ...) شروع في بيان ما دار بين يوسف ـ عليه‌السلام ـ وبين شقيقه «بنيامين» بعد أن حضر مع إخوته.

وقوله (آوى) من الإيواء بمعنى الضم. يقال : آوى فلان فلانا إذا ضمه إلى نفسه ، ويقال : تأوت الطير وتآوت ، إذا تضامت وتجمعت.

وقوله (فَلا تَبْتَئِسْ) : افتعال من البؤس وهو الشدة والضر. يقال بئس ـ كسمع ـ فلان بؤسا وبئوسا ، إذا اشتد حزنه وهمه.

والمعنى : وحين دخل إخوة يوسف عليه ، ما كان منه إلا أن ضم إليه شقيقه وقال له مطمئنا ومواسيا : إنى أنا أخوك الشقيق. فلا تحزن بسبب ما فعله إخوتنا معنا من الحسد والأذى ، فإن الله ـ تعالى ـ قد عوض صبرنا خيرا ، وأعطانا الكثير من خيره وإحسانه.

قال الإمام ابن كثير : يخبر الله ـ تعالى ـ عن إخوة يوسف لما قدموا على يوسف ومعهم أخوه «بنيامين» وأدخلهم دار كرامته ومنزل ضيافته وأفاض عليهم الصلة والإحسان ، واختلى بأخيه فأطلعه على شأنه وما جرى له وقال : «لا تبتئس» أى : لا تأسف على ما صنعوا

٣٩٥

بي ، وأمره بكتمان هذا عنهم ، وأن لا يطلعهم على ما أطلعه عليه من أنه أخوه وتواطأ معه أنه سيحتال على أن يبقيه عنده معززا مكرما معظما (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما فعله يوسف ـ عليه‌السلام ـ مع إخوته ، لكي يبقى أخاه معه فلا يسافر معهم عند رحيلهم فقال : (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ...) والجهاز كما سبق أن بينا : ما يحتاج إليه المسافر من زاد ومتاع ..

والسقاية : إناء كان الملك يشرب فيه ، وعادة ما يكون من معدن نفيس ولقد كان يوسف ـ عليه‌السلام ـ يكتال به في ذلك الوقت نظرا لقلة الطعام وندرته.

وهذه السقاية هي التي أطلق عليها القرآن بعد ذلك لفظ الصواع أى :

وحين أعطى يوسف إخوته ما هم في حاجة إليه من زاد وطعام ، أو عز إلى بعض فتيانه أن يدسوا الصواع في متاع أخيه «بنيامين» دون أن يشعر بهم أحد ...

وقوله (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) بيان لما قاله بعض أعوان يوسف لإخوته عند ما تهيئوا للسفر ، وأوشكوا على الرحيل.

والمراد بالمؤذن هنا : المنادى بصوت مرتفع ليعلم الناس ما يريد إعلامهم به. والمراد بالعير هنا : أصحابها. والأصل فيها أنها اسم للإبل التي تحمل الطعام وقيل العير تطلق في الأصل على قافلة الحمير ، ثم تجوز فيها فأطلقت على كل قافلة تحمل الزاد وألوان التجارة.

أى : ثم نادى مناد على إخوة يوسف ـ عليه‌السلام ـ وهم يتجهزون للسفر ، أو وهم منطلقون إلى بلادهم بقوله : يا أصحاب هذه القافلة توقفوا حتى يفصل في شأنكم فأنتم متهمون بالسرقة.

قال الآلوسى ما ملخصه : «والذي يظهر أن ما فعله يوسف ، من جعله السقاية في رحل أخيه. ومن اتهامه لإخوته بالسرقة .. إنما كان بوحي من الله ـ تعالى ـ لما علم ـ سبحانه ـ في ذلك من الصلاح ، ولما أراد من امتحانهم بذلك. ويؤيده قوله ـ تعالى ـ : (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما قاله إخوة يوسف بعد أن سمعوا المؤذن يستوقفهم ويتهمهم بالسرقة فقال ـ تعالى ـ (قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٤٨٥.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٣ ص ٢.

٣٩٦

وتفقدون : من الفقد ، وهو غيبة الشيء عن الحس بحيث لا يعرف مكانه.

أى : قال إخوة يوسف بدهشة وفزع لمن ناداهم وأخبرهم بأنهم سارقون ، قالوا لهم : ماذا تفقدون ـ أيها الناس ـ من أشياء حتى اتهمتمونا بأننا سارقون؟!!!

وهنا رد عليهم المؤذن ومن معه من حراس : (قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ) أى : صاعه الذي يشرب فيه ، ويكتال به للممتارين.

(وَلِمَنْ جاءَ بِهِ) أى بهذا الصاع ، أو دل على سارقه.

(حِمْلُ بَعِيرٍ) من الطعام زيادة على حقه كمكافأة له.

(وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) أى : وأنا بهذا الحمل كفيل بأن أدفعه لمن جاءنا بصواع الملك.

ويبدو أن القائل لهذا القول هو المؤذن السابق ، ولعله قد قال ذلك بتوجيه من يوسف ـ عليه‌السلام ـ.

وهنا نجد إخوة يوسف يردون عليهم ردا يدل على استنكارهم لهذه التهمة وعلى تأكدهم من براءتهم فيقولون : (قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ).

أى : قال إخوة يوسف للمنادى ومن معه الذين اتهموهم بالسرقة : تالله يا قوم ، لقد علمتم من حالنا وسلوكنا وأخلاقنا ، أننا ما جئنا إلى بلادكم ، لكي نفسد فيها أو نرتكب ما لا يليق ، وما كنا في يوم من الأيام ونحن في أرضكم لنرتكب هذه الجريمة ، لأنها تضرنا ولا تنفعنا ، حيث إننا في حاجة إلى التردد على بلادكم لجلب الطعام ، والسرقة تحول بيننا وبين ذلك ، لأنكم بسببها ستمنعوننا من دخول أرضكم ، وهذه خسارة عظيمة بالنسبة لنا.

وهنا يرد عليهم المنادى وأعوانه بقولهم : (قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ).

أى : قال المنادى وأعوانه لإخوة يوسف الذين نفوا عن أنفسهم تهمة السرقة نفيا تاما.

إذا فما جزاء وعقاب هذا السارق لصواع الملك في شريعتكم ، إن وجدنا هذا الصواع في حوزتكم ، وكنتم كاذبين في دعواكم أنكم ما كنتم سارقين.

فرد عليهم إخوة يوسف ببيان حكم هذا السارق في شريعتهم بقولهم : (قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ ، كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ).

والمراد بالجزاء : العقاب الذي يعاقب به السارق في شريعتهم ، والضمير في قوله «جزاؤه» يعود إلى السارق.

أى : قال إخوة يوسف : جزاء هذا السارق الذي يوجد صواع الملك في رحله ومتاعه أن يسترق لمدة سنة ، هذا هو جزاؤه في شريعتنا.

٣٩٧

قال الشوكانى ما ملخصه : وقوله «جزاؤه» مبتدأ ، وقوله «من وجد في رحله» خبر المبتدأ.

والتقدير : جزاء السرقة للصواع أخذ من وجد في رحله ـ أى استرقاقه لمدة سنة ـ ، وتكون جملة «فهو جزاؤه» لتأكيد الجملة الأولى وتقريرها. قال الزجاج وقوله «فهو جزاؤه» زيادة في البيان. أى : جزاؤه أخذ السارق فهو جزاؤه لا غير» (١).

وقالوا «جزاؤه من وجد في رحله» ولم يقولوا جزاء السارق أو جزاء سرقته ، للإشارة إلى كمال نزاهتهم ، وبراءة ساحتهم من السرقة ، حتى لكأن ألسنتهم لا تطاوعهم بأن ينطقوا بها في هذا المقام.

وقوله : (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) مؤكد لما قبله ، أى مثل هذا الجزاء العادل ، وهو الاسترقاق لمدة سنة ، نجازي الظالمين الذين يعتدون على أموال غيرهم.

وقوله ـ سبحانه ـ (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) معطوف على كلام محذوف يفهم من المقام.

والتقدير : وبعد هذه المحاورة التي دارت بين إخوة يوسف وبين الذين اتهموهم بالسرقة أخبر الإخوة بتفتيش أمتعتهم للبحث عن الصواع بداخلها.

«فبدأ» المؤذن بتفتيش أوعيتهم ، قبل أن يفتش وعاء «بنيامين» فلم يجد شيئا بداخل أوعيتهم.

فلما وصل إلى وعاء «بنيامين» وقام بتفتيشه وجد السقاية بداخله ، فاستخرجها منه على مشهد منهم جميعا.

ويبدو أن هذا الحوار من أوله كان بمشهد ومرأى من يوسف ـ عليه‌السلام ـ وكان أيضا بتدبير وتوجيه منه للمؤذن ومن معه ، فهو الذي أمر المؤذن بأن ينادى «أيتها العير إنكم لسارقون» ، وهو الذي أشار عليه بأن يسألهم عن حكم السارق في شريعتهم ، وهو الذي أمره بأن يبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل أن يفتش وعاء شقيقه «بنيامين» دفعا للتهمة ، ونفيا للشبهة ...

روى أنه لما بلغت النوبة إلى وعاء «بنيامين» لتفتيشه قال يوسف ـ عليه‌السلام ـ : ما أظن هذا أخذ شيئا؟ فقالوا : والله لا تتركه حتى تنظر في رحله ، فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا» (٢).

__________________

(١) تفسير فتح القدير للإمام الشوكانى ج ٣ ص ٤٣.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٣ ص ٢٨.

٣٩٨

ويطوى القرآن ما اعترى إخوة يوسف من دهشة وخزي ، بعد أن وجدت السقاية في رحل «بنيامين» وبعد أن أقسموا بالله على براءتهم من تهمة السرقة ... يطوى القرآن كل ذلك ، ليترك للعقول أن تتصوره ...

ثم يعقب على ما حدث ببيان الحكمة التي من أجلها ألهم الله ـ تعالى ـ يوسف أن يفعل ما فعل من دس السقاية في رحل أخيه ، ومن سؤال إخوته عن جزاء السارق في شريعتهم فيقول (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ، ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ...).

و «كدنا» من الكيد وأصله الاحتيال والمكر ، وهو صرف غيرك عما يريده بحيلة ، وهو مذموم إن تحرى به الفاعل الشر والقبيح ، ومحمود إن تحرى به الفاعل الخير والجميل.

والمراد به هنا : النوع المحمود ، واللام في «ليوسف» للتعليل.

والمراد بدين الملك : شريعته التي يسير عليها في الحكم بين الناس.

والمعنى : مثل هذا التدبير الحكيم دبرنا من أجل يوسف ما يوصله إلى غرضه ومقصده ، وهو احتجاز أخيه بنيامين معه ، بأن ألهمناه بأن يضع السقاية في رحل أخيه ، وبأن يسأل إخوته عن حكم السارق في شريعتهم .. وما كان يوسف ليستطيع أن يحتجز أخاه معه ، لو نفذ شريعة ملك مصر ، لأن شريعته لا تجيز استرقاق السارق سنة كما هو الحال في شريعة يعقوب ، وإنما تعاقب السارق بضربه وتغريمه قيمة ما سرقه.

وما كان يوسف ليفعل كل ذلك التدبير الحكيم في حال من الأحوال ، إلا في حال مشيئة الله ومعونته وإذنه بذلك ، فهو ـ سبحانه ـ الذي ألهمه أن يدس السقاية في رحل أخيه ، وهو ـ سبحانه ـ الذي ألهمه أن يسأل إخوته عن عقوبة السارق في شريعتهم حتى يطبقها على من يوجد صواع الملك في رحله منهم.

والجملة الكريمة بيان لمظهر من مظاهر فضل الله ـ تعالى ـ على يوسف حيث ألهمه ما يوصله إلى مقصوده بأحكم أسلوب.

قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : «كذلك كدنا ليوسف» أى : مثل ذلك الكيد العجيب وهو إرشاد الإخوة إلى الإفتاء المذكور ... دبرنا وصنفنا من أجل يوسف ما يحصل به غرضه ...

وقوله «ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك» أى في حكمه وقضائه والكلام استئناف وتعليل لذلك الكيد ، كأنه قيل : لما ذا فعل؟ فقيل : لأنه لم يكن ليأخذ أخاه جزاء وجود الصواع عنده في دين الملك في أمر السارق إلا بذلك الكيد ، لأن جزاء السارق في دينه أن يضاعف

٣٩٩

عليه الغرم ... دون أن يسترق كما هو الحال في شريعة يعقوب.

وقوله «إلا أن يشاء الله» أى : لم يكن يوسف ليتمكن من أخذ أخيه في حال من الأحوال ، إلا في حال مشيئته ـ تعالى ـ التي هي عبارة عن ذلك الكيد المذكور ...» (١).

قالوا : وفي الآية دليل على جواز التوصل إلى الأغراض الصحيحة بما صورته صورة الحيلة والمكيدة إذا لم يخالف ذلك شرعا ثابتا» (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) استئناف لبيان قدرة الله ـ تعالى ـ وسعة رحمته وعطائه.

أى : نرفع من نشاء رفعه من عبادنا إلى درجات عالية من العلوم والمعارف والعطايا والمواهب ... كما رفعنا درجات يوسف ـ عليه‌السلام ـ.

(وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ) من أولئك المرفوعين «عليم» يزيد عنهم في علمهم وفي مكانتهم عند الله ـ تعالى ـ فهو ـ سبحانه ـ العليم بأحوال عباده ، وبمنازلهم عنده ، وبأعلاهم درجة ومكانة.

وقال ـ سبحانه ـ «نرفع» بصيغة الاستقبال وللأشعار بأن ذلك سنة من سننه الإلهية التي لا تتخلف ولا تتبدل ، وأن عطاءه ـ سبحانه ـ لا يناله إلا الذين تشملهم إرادته ومشيئته كما تقتضيه حكمته.

وجاءت كلمة «درجات» بالتنكير ، للإشارة إلى عظمها وكثرتها.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قاله إخوة يوسف في أعقاب ثبوت تهمة السرقة على أخيه «بنيامين» فقال ـ تعالى ـ (قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ...).

أى : قال إخوة يوسف ـ عليه‌السلام ـ بعد هذا الموقف المحرج لهم. إن يسرق بنيامين هذا الصواع الخاص بالملك فقد سرق أخ له من قبل ـ وهو يوسف ـ ما يشبه ذلك.

وقولهم هذا يدل على أن صنيعهم بيوسف وأخيه ما زال متمكنا من نفوسهم.

وقد ذكر المفسرون هنا روايات متعددة في مرادهم بقولهم هذا ، ومن بين هذه الروايات ما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في الآية : سرق يوسف ـ عليه‌السلام ـ صنما لجده وكان هذا الصنم من ذهب وفضة ، فكسره وألقاه على الطريق ، فعير إخوته بذلك» (٣).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٣ ص ٢٩.

(٢) تفسير فتح القدير ج ٣ ص ٤٣.

(٣) تفسير الآلوسى ج ١٣ ص ٣٢.

٤٠٠