التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0657-4
الصفحات: ٦٠٢

وقوله ـ تعالى ـ في خلال حديثه عن مريم (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ، وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ، وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (١).

إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على أن هذا القرآن من عند الله ـ تعالى ـ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن معاصرا لمن جاء القرآن بقصصهم ، ولم يطلع على كتاب فيه خبرهم ، فلم يبق لعلمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك طريق إلا طريق الوحى.

ثم ساق ـ سبحانه ـ ما يبعث التسلية والتعزية في قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ).

أى : لقد جئت ـ أيها الرسول ـ للناس بدين الفطرة ، الذي ترتاح له النفوس وتتقبله القلوب بسرور وانشراح. ولكن أكثر الناس قد استحوذ عليهم الشيطان ، فمسخ نفوسهم وقلوبهم ، فصاروا مع حرصك على إيمانهم ، ومع حرصك على دعوتهم إلى الحق على بصيرة ، لا يؤمنون بك ، ولا يستجيبون لدعوتك ، لاستيلاء المطامع والشهوات والأحقاد على نفوسهم.

وفي التعبير بقوله ـ سبحانه ـ (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ ...) إشعار بأن هناك قلة من الناس قد استجابت بدون تردد لدعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدخلت في الدين الحق ، عن طواعية واختيار.

وقوله (وَلَوْ حَرَصْتَ) جملة معترضة لبيان أنه مهما بالغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كشف الحق ، فإنهم سادرون في ضلالهم وكفرهم ، إذ الحرص طلب الشيء باجتهاد.

قال الآلوسى ما ملخصه : «سألت قريش واليهود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قصة يوسف ، فنزلت مشروحة شرحا وافيا ، فأمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكون ذلك سببا في إسلامهم ، فلما لم يفعلوا حزن صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعزاه الله ـ تعالى ـ بذلك» (٢).

وقوله (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) زيادة في تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي إعلاء شأنه.

أى أنك ـ أيها الرسول الكريم ـ ما تسألهم على هذا القرآن الذي تتلوه عليهم لهدايتهم وسعادتهم من أجر ولو كان زهيدا ضئيلا. كما يفعل غيرك من الكهان والأحبار والرهبان ...

وإنما تفعل ما تفعل ابتغاء رضا الله ـ تعالى ـ ونشر دينه.

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ٤٤.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٣ ص ٦٥.

٤٢١

وقوله (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أى : ما هذا القرآن الذي تقرؤه عليهم إلا تذكير وعظة وهداية للعالمين كافة لا يختص به قوم دون قوم ، ولا جنس دون جنس.

قالوا : وهذه الجملة كالتعليل لما قبلها ، لأن التذكير العام لكل الناس ، يتنافى مع أخذ الأجرة من البعض دون البعض ، وإنما تتأتى الأجرة ، إذا كانت الدعوة خاصة وليست عامة.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن هؤلاء المشركين تطالعهم الدلائل والبراهين الدالة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته ، ولكنهم في عمى عنها فقال : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ).

و (كَأَيِّنْ) كلمة مركبة من كاف التشبيه وأى الاستفهامية المنونة ، ثم تنوسى معنى جزئيتها وصارت كلمة واحدة بمعنى كم الخبرية المفيدة للتكثير.

والمراد بالآية هنا : العبرة والعظمة الدالة على وحدانية الله وقدرته يمر بها هؤلاء المشركون فلا يلتفتون إليها ، ولا يتفكرون فيها ، ولا يعتبرون بها ، لأن بصائرهم قد انطمست بسبب استحواذ الأهواء والشهوات والعناد عليها.

قال ابن كثير ما ملخصه : يخبر ـ تعالى ـ في هذه الآية عن غفلة أكثر الناس عن التفكير في آيات الله ودلائل توحيده ، بما خلقه ـ سبحانه ـ في السموات من كواكب زاهرات ، وسيارات وأفلاك ... وفي الأرض من حدائق وجنات ، وجبال راسيات ، وبحار زاخرات ، وحيوانات ونبات ... فسبحان الواحد الأحد ، خالق أنواع المخلوقات ، المنفرد بالدوام والبقاء والصمدية ...» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ أنهم بجانب غفلتهم وجهالتهم ، لا يؤمنون إيمانا صحيحا فقال ـ تعالى ـ (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ).

أى : وما يؤمن أكثر هؤلاء الضالين بالله في إقرارهم بوجوده ، وفي اعترافهم بأنه هو الخالق ، إلا وهم مشركون به في عقيدتهم وفي عبادتهم وفي تصرفاتهم ، فإنهم مع اعترافهم بأن خالقهم وخالق السموات والأرض هو الله لكنهم مع ذلك كانوا يتقربون إلى أصنامهم بالعبادة ويقولون (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى).

والآية تشمل كل شرك سواء أكان ظاهرا أم خفيا ، كبيرا أم صغيرا. وقد ساق ابن كثير هنا جملة من الأحاديث في هذا المعنى ، كلها تنهى عن الشرك أيا كان لونه ، منها قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٣٤١ طبعة دار الشعب.

٤٢٢

عند ما سئل أى الذنب أعظم؟ قال : «أن تجعل لله ندا وهو خلقك» ومنها قوله ؛ : «إن الرقى والتمائم والتولة شرك».

ومنها قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ، قالوا : وما الشرك الأصغر؟ قال : الرياء».

ومنها قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فيما يرويه عن ربه ـ عزوجل ـ : يقول الله ـ تعالى ـ «أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معى غيرى ، تركته وشركه» (١).

فالآية الكريمة تنهى عن كل شرك ، وتدعو إلى إخلاص العبادة والطاعة لله رب العالمين.

ثم هددهم ـ سبحانه ـ بحلول قارعة تدمرهم تدميرا فقال ـ تعالى ـ : (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ).

والغاشية ؛ كل ما يغطى الشيء ويستره ، والمراد بها : ما يغشاهم ويغمرهم من العذاب. والاستفهام للتوبيخ والتقريع.

والمعنى : أفأمن هؤلاء الضالون ، أن يأتيهم عذاب من الله ـ تعالى ـ يغشاهم ويغمرهم ويشمل كل أجزائهم. وأمنوا أن تأتيهم الساعة فجأة دون أن يسبقها ما يدل عليها ، بحيث لا يشعرون بإتيانها إلا عند قيامها.

إن كانوا قد أمنوا كل ذلك ، فهم في غمرة ساهون ، وفي الكفر والطغيان غارقون ، فإنه (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ).

ثم أمر الله ـ تعالى ـ نبيه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن يسير في طريقه الذي رسمه له ، وأن يدعو الناس إليه فقال : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي ، أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ...) والبصيرة : المعرفة التي يتميز بها الحق من الباطل.

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ للناس هذه طريقي وسبيلي واحدة مستقيمة لا عوج فيها ولا شبهة ، وهي أنى أدعو إلى إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ وحده ، ببصيرة مستنيرة ، وحجة واضحة ، وكذلك أتباعى يفعلون ذلك ... ولن نكفّ عن دعوتنا هذه مهما اعترضتنا العقبات.

واسم الإشارة (هذِهِ) مبتدأ. و (سَبِيلِي) خبر ، وجملة (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ ...) حالية ، وقد جيء بها على سبيل التفسير للطريقة التي انتهجها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعوته.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٤٣١ طبعة دار الشعب.

٤٢٣

وقوله (وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) تنزيه لله ـ تعالى ـ عن كل ما لا يليق به على أبلغ وجه.

أى : وأنزه الله ـ تعالى ـ تنزيها كاملا عن الشرك والشركاء ، وما أنا من المشركين به في عبادته أو طاعته في أى وقت من الأوقات.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليست بدعا من بين الرسالات السماوية ، وإنما قد سبقه إلى ذلك رجال يشبهونه في الدعوة إلى الله ، فقال ـ تعالى ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ...).

أى : وما أرسلنا من قبلك ـ أيها الرسول الكريم ـ لتبليغ أوامرنا ونواهينا إلى الناس ، إلا رجالا مثلك ، وهؤلاء الرجال اختصصناهم بوحينا ليبلغوه إلى من أرسلوا إليهم ، واصطفيناهم من بين أهل القرى والمدائن ، لكونهم أصفى عقولا. وأكثر حلما.

وإنما جعلنا الرسل من الرجال ولم نجعلهم من الملائكة أو من الجن أو من غيرهم ، لأن الجنس إلى جنسه أميل ، وأكثرهم تفهما وإدراكا لما يلقى عليه من أبناء جنسه.

ثم نعى ـ سبحانه ـ على هؤلاء المشركين غفلتهم وجهالتهم فقال : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...).

أى : أوصلت الجهالة والغفلة بهؤلاء المشركين ، أنهم لم يتعظوا بما أصاب الجاحدين من قبلهم من عذاب دمرهم تدميرا ، وهؤلاء الجاحدون الذين دمروا ما زالت آثار بعضهم باقية وظاهرة في الأرض. وقومك ـ يا محمد ـ يمرون عليهم في الصباح وفي المساء وهم في طريقهم إلى بلاد الشام ، كقوم صالح وقوم لوط ـ عليهما‌السلام ـ.

فالجملة توبيخ شديد لأهل مكة على عدم اعتبارهم بسوء مصير من كان على شاكلتهم في الشرك والجحود.

وقوله (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) وما فيها من نعيم دائم (خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) الله ـ تعالى ـ وصانوا أنفسهم عن كل ما لا يرضيه.

(أَفَلا تَعْقِلُونَ) أيها المشركون ما خاطبناكم به فيحملكم هذا التعقل والتدبر إلى الدخول في الإيمان ، ونبذ الكفر والطغيان.

ثم حكى ـ سبحانه ـ سنة من سننه التي لا تتخلف ولا تتبدل فقال : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا ...).

٤٢٤

وفي قوله (قَدْ كُذِبُوا) وردت قراءتان سبعيتان إحداهما بتشديد الذال والثانية بالتخفيف.

وعلى القراءتين فالغاية في قوله ـ تعالى ـ (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) غاية لكلام محذوف دل عليه السياق.

والمعنى على القراءة التي بالتشديد. لقد أرسلنا رسلنا لهداية الناس ، فأعرض الكثيرون منهم عن دعوتهم ، ووقفوا منهم موقف المنكر والمعاند والمحارب لهدايتهم ، وضاق الرسل ذرعا بموقف هؤلاء الجاحدين ، حتى إذا استيأس الرسل الكرام من إيمان هؤلاء الجاحدين ، وظنوا ـ أى الرسل ـ أن أقوامهم الجاحدين قد كذبوهم في كل ما جاءوهم به لكثرة إعراضهم عنهم ، وإيذائهم لهم ... أى : حتى إذا ما وصل الرسل إلى هذا الحد من ضيقهم بأقوامهم الجاحدين جاءهم نصرنا الذي لا يتخلف.

والمعنى على القراءة الثانية التي هي بالتخفيف : حتى إذا يئس الرسل من إيمان أقوامهم يأسا شديدا ، وظن هؤلاء الأقوام أن الرسل قد كذبوا عليهم فيما جاءوهم به ، وفيما هددوهم به من عذاب إذا ما استمروا على كفرهم ..

حتى إذا ما وصل الأمر بالرسل وبالأقوام إلى هذا الحد ، جاء نصرنا الذي لا يتخلف إلى هؤلاء الرسل ، فضلا منا وكرما ..

فالضمير في قوله (كُذِبُوا) بالتشديد يعود على الرسل ، أما على قراءة التخفيف (كُذِبُوا) فيعود إلى الأقوام الجاحدين.

ومنهم من جعل الضمير ـ أيضا ـ على قراءة (كُذِبُوا) بالتخفيف يعود على الرسل ، فيكون المعنى : حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم ، وظنوا ـ أى الرسل ـ أن نفوسهم قد كذبت عليهم في تحديد موعد انتصارهم على أعدائهم لأن البلاء قد طال. والنصر قد تأخر ... جاءهم ـ أى الرسل ـ نصرنا الذي لا يتخلف.

قال الشيخ القاسمى في بيان هذا المعنى : قال الحكيم الترمذي : ووجهه ـ أى هذا القول السابق ـ أن الرسل كانت تخاف بعد أن وعدهم الله النصر ، أن يتخلف النصر ، لا عن تهمة بوعد الله ، بل عن تهمة لنفوسهم أن تكون قد أحدثت حدثا ينقض ذلك الشرط ، فكان النصر إذا طال انتظاره واشتد البلاء عليهم ، دخلهم الظن من هذه الجهة» (١).

__________________

(١) تفسير القاسمى ج ٩ ص ٣٦١٥.

٤٢٥

وهذا يدل على شدة محاسبة الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ لنفوسهم ، وحسن صلتهم بخالقهم ـ عزوجل ـ.

وقوله ـ سبحانه ـ (فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) معطوف على ما قبله ، ومتفرع عليه.

أى : جاءهم نصرنا الذي وعدناهم به ، بأن أنزلنا العذاب على أعدائهم ، فنجا من نشاء إنجاءه وهم المؤمنون بالرسل ، ولا يرد بأسنا وعذابنا عن القوم المجرمين عند نزوله بهم.

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه السورة الكريمة بقوله (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) أى : لقد كان في قصص أولئك الأنبياء الكرام وما جرى لهم من أقوامهم ، عبرة وعظة لأصحاب العقول السليمة ، والأفكار القويمة ، بسبب ما اشتمل عليه هذا القصص من حكم وأحكام ، وآداب وهدايات.

و (ما كانَ) هذا المقصوص في كتاب الله ـ تعالى ـ (حَدِيثاً يُفْتَرى) أى يختلق.

(وَلكِنْ) كان (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب السابقة عليه ، كالتوراة والإنجيل والزبور ، فهو المهيمن على هذه الكتب ، والمؤيد لما فيها من أخبار صحيحة ، والمبين لما وقع فيها من تحريف وتغيير ، والحاكم عليها بالنسخ أو بالتقرير.

(وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) أى : وكان في هذا الكتاب ـ أيضا ـ تفصيل وتوضيح كل شيء من الشرائع المجملة التي تحتاج إلى ذلك.

(وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أى : وكان هداية تامة ، ورحمة شاملة ، لقوم يؤمنون به ، ويعملون بما فيه من أمر ونهى ، وينتفعون بما اشتمل عليه من وجوه العبر والعظات.

وبعد : فهذا تفسير لسورة يوسف ـ عليه‌السلام ـ تلك السورة الزاخرة بالحكم والأحكام ، وبالآداب والأخلاق ، وبالمحاورات والمجادلات ، وبأحوال النفوس البشرية في حبها وبغضها ، وعسرها ويسرها ، وخيرها وشرها. وعطائها ومنعها وسرها وعلانيتها ، ورضاها وغضبها ، وحزنها وسرورها ..

أسأل الله ـ تعالى ـ أن ينفعنا بهدى كتابه ، وأن يجعله شفيعا لنا يوم نلقاه وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

د. محمد سيد طنطاوى

٤٢٦

تفسير

سورة الرّعد

٤٢٧
٤٢٨

مقدّمة

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ومن والاه.

وبعد : فهذا تفسير تحليلي لسورة «الرعد» توخيت فيه أن أبرز ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة من توجيهات سامية ، وآداب عالية ، وهدايات تامة ، وأحكام حكيمة ، وتراكيب بليغة ...

والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده وشفيعا لنا يوم نلقاه ، إنه ـ سبحانه ـ أكرم مسئول ، وأعظم مأمول.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

المؤلف

الدكتور محمد سيد طنطاوى

٤٢٩
٤٣٠

تمهيد بين يدي سورة الرعد

نريد بهذا التمهيد ـ كما سبق أن ذكرنا في تفسير السورة السابقة ـ إعطاء القارئ الكريم صورة واضحة عن سورة الرعد ، قبل أن نبدأ في تفسيرها آية فآية فنقول ـ وبالله التوفيق :

١ ـ سورة الرعد هي السورة الثالثة عشرة في ترتيب المصحف ، فقد سبقتها اثنتا عشرة سورة ، هي سور : الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، والتوبة ، ويونس ، وهود ، ويوسف.

٢ ـ وسميت بهذا الاسم منذ العهد النبوي ، ولم يعرف لها اسم سوى هذا الاسم ، ولعل سبب تسميتها بذلك ، ورود ذكر الرعد فيها ، في قوله ـ تعالى ـ (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ...) (١).

٣ ـ وعدد آياتها ثلاث وأربعون آية في المصحف الكوفي ، وأربع وأربعون آية في المدني ، وخمس وأربعون في البصري ، وسبع وأربعون في الشامي (٢).

٤ ـ والذي يقرأ أقوال المفسرين في بيان زمان نزولها ، يراها أقوالا ينقصها الضبط والتحقيق.

فهناك روايات صرحت بأنها مكية ، وأخرى صرحت بأنها مدنية ، وثالثة بأنها مكية إلا آيات منها فمدنية ، ورابعة بأنها مدنية إلا آيات منها فمكية ...

قال الآلوسى : «جاء من طريق مجاهد عن ابن عباس وعلى بن أبى طلحة أنها مكية».

وروى ذلك عن سعيد بن جبير ـ أيضا ـ.

قال سعيد بن منصور في سننه ، حدثنا أبو عوانة عن أبى بشر قال : سألت ابن جبير عن قوله ـ تعالى ـ (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) هل هو عبد الله بن سلام؟ فقال : كيف وهذه السورة مكية.

__________________

(١) الآية رقم ١٣.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٣ ص ٧٦ طبعة منير الدمشقي.

٤٣١

وأخرج مجاهد عن ابن الزبير ، وابن مردويه من طريق العوفى عن ابن عباس ، ومن طريق ابن جريج وعثمان بن عطاء عنه أنها مدنية.

وأخرج أبو الشيخ عن قتادة أنها مدنية إلا قوله ـ تعالى ـ (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ ...) الآية فإنها مكية.

وروى أن من أولها إلى آخر قوله ـ تعالى ـ (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ ...).

نزل بالمدينة ، أما باقيها فنزل في مكة ... (١).

هذه بعض الروايات في زمان نزولها ، وهي ـ كما ترى ـ التعارض فيها واضح.

والذي تطمئن إليه النفس ، أن السورة الكريمة يبدو بوضوح فيها طابع القرآن المكي ، سواء أكان ذلك في موضوعاتها ، أم في أسلوبها ، أم في غير ذلك من مقاصدها وتوجيهاتها.

وأن نزولها ـ على الراجح ـ كان في الفترة التي أعقبت موت أبى طالب ، والسيدة خديجة ـ رضى الله عنها.

وهي الفترة التي لقى فيها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لقى من أذى المشركين وعنتهم ، وطغيانهم ...

والذي جعلنا نرجح أن نزولها كان في هذه الفترة ، ما اشتملت عليه السورة الكريمة ، من أدلة متنوعة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته ، ومن تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من قومه ـ كما سنرى ذلك عند تفسيرنا لآياتها ، كذلك مما جعلنا نرجح أن نزولها كان في هذه الفترة ، قول السيوطي في كتابه الإتقان : «ونزلت بمكة سورة الأعراف ، ويونس ، وهود ، ويوسف ، والرعد ...» (٢).

وقد رجحنا عند تفسيرنا لسورة يونس ، وهود ، ويوسف ـ عليهم‌السلام ـ أن هذه السور قد نزلت في تلك الفترة من حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونرجح هنا أن نزول سورة الرعد كان في تلك الفترة ـ أيضا ـ لمناسبة موضوعاتها لأحداث هذه الفترة.

٥ ـ عرض إجمالى لسورة الرعد :

(ا) لقد افتتحت السورة الكريمة بالثناء على القرآن الكريم ، وبالإشارة إلى إعجازه ، ثم ساقت ألوانا من الأدلة على قدرة الله ـ تعالى ـ ووحدانيته وعظيم حكمته ...

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٣ ص ٧٥.

(٢) الإتقان في علوم القرآن ج ١ ص ١٢ طبعة مصطفى الحلبي.

٤٣٢

(اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ، يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ..).

(ب) ثم حكت السورة بعد ذلك جانبا من أقوال المشركين في شأن البعث ، وردت عليهم بما يكبتهم فقال ـ تعالى ـ (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ ، أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ، وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ ، وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ...).

(ج) ثم بينت السورة الكريمة ما يدل على كمال علمه ـ تعالى ـ وعلى عظم سلطانه ، وعلى حكمته في قضائه وقدره فقال ـ تعالى ـ : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ. وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ* عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ ...).

(د) ثم أمر ـ سبحانه ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسأل المشركين سؤال تهكم وتوبيخ عمن خلق السموات والأرض فقال ـ تعالى ـ : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ. قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا ، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ، أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ ، أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ ، فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ، قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ).

(ه) ضربت السورة الكريمة مثلين للحق والباطل. وعقدت مقارنة بين مصير أتباع الحق ، ومصير أتباع الباطل فقال ـ تعالى ـ : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى ، إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ* الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ ..).

(و) ثم حكت السورة الكريمة بعض المطالب المتعنتة التي طلبها المشركون من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وردت عليهم بما يمحق باطلهم ، ويزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم فقال ـ تعالى ـ : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ، قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ* الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ ، أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ* الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ...).

(ز) ثم حكت السورة الكريمة لونا آخر من غلوهم في كفرهم ، ومن مقترحاتهم الفاسدة ، حيث طلبوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسير لهم بالقرآن جبال مكة ليتفسحوا في أرضها ، ويفجر لهم فيها الأنهار والعيون ليزرعوها ، ويحيى لهم الموتى ليخبروهم بصدقه ... فقال ـ تعالى ـ : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ ، أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ ، أَوْ كُلِّمَ بِهِ

٤٣٣

الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً ، أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً ...).

(ح) ثم ختمت السورة الكريمة ببيان حسن عاقبة المتقين ، وسوء عاقبة المكذبين ، وبالثناء على القرآن الكريم ، وبتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من أعدائه وبالشهادة له بالرسالة ، وبتهديد المشركين بالعذاب الأليم ، فقال ـ تعالى ـ (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها ، تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) ...

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا ، وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ* وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً ، وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً ، قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ، وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ).

٦ ـ ومن هذا العرض الإجمالى للسورة الكريمة ، نراها قد اهتمت بالحديث عن موضوعات من أبرزها ما يأتى :

(ا) إقامة الأدلة المتنوعة على كمال قدرة الله ـ تعالى ـ وعظيم حكمته. تارة عن طريق التأمل في هذا الكون وما فيه من سموات مرتفعة بغير عمد ، وأرض صالحة للاستقرار عليها ، وشمس وقمر وكواكب مسخرة لمنافع الناس ، وجبال لتثبيت الأرض ، وأنهار لسقى الزرع ...

(وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ ، صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ ، وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

وتارة عن طريق علمه المحيط بكل شيء ، فهو العليم بما تنقصه الأرحام وما تزداده في الخلقة وفي المدة وفي غير ذلك ، وهو العليم بأحوال عباده سواء أكانوا ظاهرين بالنهار أم مستخفين بالليل.

(اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ. وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ...).

وتارة عن طريق الظواهر الكونية التي يرسلها ـ سبحانه ـ لعباده خوفا وطمعا ، (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ* وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ...).

وتارة عن طريق العطاء والمنع لمن يشاء من عباده : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ...).

وتارة عن طريق المصائب والقوارع التي ينزلها ـ سبحانه ـ بالكافرين (وَلا يَزالُ الَّذِينَ

٤٣٤

كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ).

(ب) إثبات أن هذا القرآن من عند الله ـ تعالى ـ وأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادق فيما يبلغه عن ربه ، والرد على المشركين فيما طلبوه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مطالب متعنتة ، ومن الآيات التي وردت في ذلك قوله ـ تعالى ـ :

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ ، وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ).

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ، إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ).

(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ).

(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ، وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ).

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ ، قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ ، إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ).

(ج) تثبيت فؤاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسليته عما لحقه من أذى ، وذلك لأن السورة الكريمة ـ كما سبق أن أشرنا ـ مكية ، وأنها ـ على الراجح ـ قد نزلت في فترة اشتد فيها إعراض المشركين عن دعوة الحق وتكذيبهم لها ، وتطاولهم على صاحبها صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومطالبتهم له بالخوارق التي لا يؤيدها عقل سليم.

فنزلت السورة الكريمة لتثبت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتباعه ، ولتمزق أباطيل المشركين عن طريق حشود من الأدلة على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يبلغه عن ربه.

ومن الآيات التي وردت في ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ ، وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ).

وقوله ـ تعالى ـ (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ).

وقوله ـ تعالى ـ (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً ، يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ ، وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ، وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً

٤٣٥

بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) هذه بعض الموضوعات التي نرى السورة الكريمة قد اهتمت بتفصيل الحديث عنها.

وهناك موضوعات أخرى يراها كل من تأمل آياتها بفكر سليم ، وعقل قويم ، وروح صافية ...

نسأل الله ـ تعالى ـ أن يرزقنا فهم كتابه ، والعمل بما فيه من آداب وأحكام ، وهدايات ...

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

٤٣٦

التفسير

قال ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١) اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(٤)

لقد افتتحت سورة الرعد ببعض الحروف المقطعة ، وقد سبق أن تكلمنا عن آراء العلماء في هذه الحروف في سور : البقرة ، وآل عمران ، والأعراف ، ويونس ، وهود ، ويوسف.

٤٣٧

وقلنا ما ملخصه : إن أقرب الأقوال إلى الصواب ، أن هذه الحروف المقطعة ، قد وردت في افتتاح بعض السور على سبيل الإيقاظ والتنبيه إلى إعجاز القرآن.

فكأن الله ـ تعالى ـ يقول لأولئك المعارضين في أن القرآن من عند الله : هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون من كلامكم ، ومنظوما من حروف هي من جنس الحروف الهجائية التي تنظمون منها كلماتكم.

فإن كنتم في شك من كونه منزلا من عند الله فهاتوا مثله ، وادعوا من شئتم من الخلق لكي يعاونكم في ذلك ، فإن لم تستطيعوا أن تأتوا بمثله فهاتوا عشر سور من مثله ، فإن لم تستطيعوا فهاتوا سورة واحدة من مثله ..

ومع كل هذا التساهل معهم في التحدي ، فقد عجزوا وانقلبوا خاسرين ، فثبت بذلك أن هذا القرآن من عند الله ـ تعالى ـ.

و (تِلْكَ) اسم إشارة ، والمشار إليه الآيات. والمراد بها آيات القرآن الكريم ، ويدخل فيها آيات السورة التي معنا.

والمراد بالكتاب : القرآن الكريم الذي أنزله ـ سبحانه ـ على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لإخراج الناس من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام.

وقوله (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ) تنويه بشأن القرآن الكريم ، ورد على المشركين الذين زعموا أنه أساطير الأولين.

أى : تلك الآيات التي نقرؤها عليك ـ يا محمد ـ في هذه السورة هي آيات الكتاب الكريم ، وما أنزله الله ـ تعالى ـ عليك في هذا الكتاب ، هو الحق الخالص الذي لا يلتبس به باطل ، ولا يحوم حول صحته شك أو التباس.

وفي قوله ـ سبحانه ـ (مِنْ رَبِّكَ) مزيد من التلطف في الخطاب معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكأنه ـ سبحانه ـ يقول له : إن ما نزل عليك من قرآن هو من عند ربك الذي تعهدك بالرعاية والتربية حتى بلغت درجة الكمال.

واسم الموصول (الَّذِي) مبتدأ ، والجملة بعده صلة ، والحق هو الخبر ...

وقوله (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) استدراك لبيان موقف أكثر الناس من هذا القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

أى : لقد أنزلنا عليك يا محمد هذا القرآن بالحق ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون به لانطماس بصائرهم ، واستيلاء العناد على نفوسهم ...

٤٣٨

وفي هذا الاستدراك ، مدح لتلك القلة المؤمنة من الناس ، وهم أولئك الذين فتحوا قلوبهم للحق منذ أن وصل إليهم ، فآمنوا به ، واعتصموا بحبله ، ودافعوا عنه بأموالهم وأنفسهم وعلى رأس هذه القلة التي آمنت بالحق منذ أن بلغها : أبو بكر الصديق وغيره من السابقين إلى الإسلام.

ثم أقام ـ سبحانه ـ الأدلة المتنوعة عن طريق المشاهدة ـ على كمال قدرته ، وعلى وجوب إخلاص العبادة له فقال ـ تعالى ـ (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها).

والعمد : جمع عماد ، وهو ما تقام عليه القبة أو البيت.

وجملة (تَرَوْنَها) في محل نصب حال من السموات.

أى : الله ـ سبحانه ـ هو الذي رفع هذه السموات الهائلة في صنعها وفي ضخامتها ، بغير مستند يسندها ، وبغير أعمدة تعتمد عليها ، وأنتم ترون ذلك بأعينكم بجلاء ووضوح.

والمراد بقوله (رَفَعَ) أى خلقها مرتفعة منذ البداية ، وليس المراد أنه ـ سبحانه ـ رفعها بعد أن كانت منخفضة.

ولا شك أن خلق السموات على هذه الصورة من أكبر الأدلة على أن لهذا الكون خالقا قادرا حكيما ، هو المستحق للعبادة والطاعة.

وقوله ـ سبحانه ـ (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) معطوف على ما قبله ، وهو دليل آخر على قدرة الله ـ تعالى ـ عن طريق الغائب الهائل الذي تتقاصر دونه المدارك بعد أن أقام الأدلة على ذلك عن طريق الحاضر المشاهد.

الاستواء في اللغة يطلق على معان منها الاستقرار كما في قوله ـ تعالى ـ (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) أى : استقرت ، وبمعنى الاستيلاء والقهر.

وعرش الله ـ تعالى ـ مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم ـ كما يقول الراغب ـ.

وقد ذكر لفظ العرش في إحدى وعشرين آية ، كما ذكر الاستواء على العرش في سبع آيات من القرآن الكريم.

والمعنى : ثم استوى على العرش استواء يليق بذاته ـ تعالى ـ بلا كيف ولا انحصار ولا تشبيه ولا تمثيل ، لاستحالة اتصافه ـ سبحانه ـ بصفات المحدثين.

قال الإمام مالك ـ رحمه‌الله ـ : «الكيف غير معقول ، والاستواء غير مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة».

٤٣٩

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض مظاهر نعمه على عباده فقال : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى). والتسخير : التذليل والخضوع.

أى : أن من مظاهر فضله أنه ـ سبحانه ـ سخر ذلك وأخضع لقدرته الشمس والقمر ، بأن جعلهما طائعين لما أراده منهما من السير في منازل معينة ، ولأجل معين محدد لا يتجاوزانه ولا يتعديانه. بل يقفان عند نهاية المدة التي حددها ـ سبحانه ـ لوقوفهما وأفولهما.

قال ـ تعالى ـ (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ، يُفَصِّلُ الْآياتِ ، لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ). وتدبير الأمر : تصريفه على أحسن الوجوه وأحكمها وأكملها.

والآيات : جمع آية. والمراد بها هنا : ما يشمل الآيات القرآنية ، والبراهين الكونية الدالة على وحدانيته وقدرته ـ سبحانه ـ.

أى : أنه ـ سبحانه ـ يقضى ويقدر ويتصرف في أمر خلقه على أكمل الوجوه وأنه ـ سبحانه ـ ينزل آياته القرآنية واضحة مفصلة ، ويسوق الأدلة الدالة على وحدانيته وقدرته بطرق متعددة ، وبوجوه متنوعة.

وقد فعل ـ سبحانه ـ ما فعل ـ من رفعه السماء بلا عمد ، ومن تسخيره للشمس والقمر ، ومن تدبيره لأمور خلقه ، ومن تفصيله للآيات لعلكم عن طريق التأمل والتفكير فيما خلق ، توقنون بلقائه ، وتعتقدون أن من قدر على إيجاد هذه المخلوقات العظيمة ، لا يعجزه أن يعيدكم إلى الحياة بعد موتكم ، لكي يحاسبكم على أعمالكم.

وقال ـ سبحانه ـ (يُدَبِّرُ) و (يُفَصِّلُ) بصيغة المضارع. وقال قبل ذلك (رَفَعَ السَّماواتِ) و (سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) بصيغة الماضي. لأن التدبير للأمور ، والتفصيل للآيات ، يتجددان بتجدد تعلق قدرته ـ سبحانه ـ بالمقدورات.

وأما رفع السماوات ، وتسخير الشمس والقمر ، فهي أمور قد تمت واستقرت دفعة واحدة.

وبعد أن ذكر ـ سبحانه ـ بعض مظاهر قدرته في عالم السماوات ، أتبعه بذكر بعض هذه المظاهر في عالم الأرض فقال ـ تعالى ـ : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) والمد : البسسط والسعة. ومنه ظل مديد أى متسع.

__________________

(١) سورة يس الآية ٤٠.

٤٤٠