التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0657-4
الصفحات: ٦٠٢

وقال مجاهد وعكرمة : إنه الحيض ، ومنه قول الشاعر :

إنى لآتى العرس عند طهورها

وأهجرها يوما إذا تك ضاحكا

وقد أنكر بعض اللغويين أن يكون في كلام العرب ضحكت بمعنى حاضت (١).

أى : وفي أعقاب قول الملائكة لإبراهيم لا تخف ... كانت امرأته قائمة لقضاء بعض حاجاتها ، فلما سمعت ذلك «ضحكت» سرورا وفرحا لزوال خوفه (فَبَشَّرْناها) عقب ذلك بمولودها (بِإِسْحاقَ) كما بشرناها بأن إسحاق سيكون من نسله (يَعْقُوبَ) ، فهي بشارة مضاعفة. إذ أنها تحمل في طياتها أنها ستعيش حتى ترى ابن ابنها ...

ولا شك أن المرأة عند ما تكون قد بلغت سن اليأس. ولم يكن لها ولد ، ثم تأتيها مثل هذه البشارة يهتز كيانها ، ويزداد عجبها ، ولذا قالت على سبيل الدهشة والاستغراب : (يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ).

وكلمة (يا وَيْلَتى) تستعمل في التحسر والتألم والتفجع عند نزول مكروه.

والمراد بها هنا : التعجب لا الدعاء على نفسها بالويل والهلاك ، وهي كلمة كثيرة الدوران على أفواه النساء إذا طرأ عليهن ما يدهشن له ، ويتعجبن منه.

أى : قالت بدهشة وعجب عند ما سمعت بشارة الملائكة لها بالولد وبولد الولد : يا للعجب أألد وأنا امرأة عجوز ، قد بلغت سن اليأس من الحمل منذ زمن طويل ، (وَهذا بَعْلِي) أى : زوجي إبراهيم «شيخا» كبيرا متقدما في السن.

قال الجمل : وهاتان الجملتان ـ (وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) ـ في محل النصب على الحال من الضمير المستتر في (أَأَلِدُ) ، وشيخا حال من بعلى ، والعامل فيه اسم الإشارة لما فيه من معنى الفعل» (٢).

وقوله ـ كما حكى القرآن عنها ـ (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) أى : إن هذا الذي بشرتموني به من حصول الولد لي في تلك السن المتقدمة (لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) في مجرى العادة عند النساء وقد رد عليها الملائكة بقولهم : (قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ)؟!!

أى : أتستبعدين على قدرة الله ـ تعالى ـ أن يرزقك الولد وأنت وزوجك في هذه السن المتقدمة؟ لا إنه لا ينبغي لك أن تستبعدى ذلك ، لأن قدرة الله لا يعجزها شيء. فالاستفهام هنا المراد به إنكار تعجبها واستبعادها البشارة ، وإزالة أثر ذلك من نفسها إزالة تامة.

__________________

(١) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٢ ص ٥١٠.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٤١١.

٢٤١

وقوله : (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) حكاية لما قالته الملائكة لها ، زيادة في سرورها وفي إدخال الطمأنينة على قلبها.

أى رحمة الله الواسعة ، وبركاته وخيراته النامية عليكم أهل البيت الكريم وهو بيت إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ.

قال صاحب الكشاف : وإنما أنكرت عليها الملائكة تعجبها ، لأنها كانت في بيت الآيات ، ومهبط المعجزات ، والأمور الخارقة للعادات ، فكان عليها أن تتوقر ، ولا يزدهيها ما يزدهى سائر النساء الناشئات في غير بيت النبوة وأن تسبح الله وتمجده ، مكان التعجب.

وإلى ذلك أشارت الملائكة في قولهم (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ). أرادوا أن هذه وأمثالها مما يكرمكم به رب العزة ، ويخصكم بالإنعام به يا أهل بيت النبوة ، فليس بمكان عجب. والكلام مستأنف علل به إنكار التعجب. كأنه قيل : «إياك والتعجب ، فإن أمثال هذه الرحمة والبركة متكاثرة من الله عليكم» (١).

وقوله ـ سبحانه ـ (إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) تذييل بديع قصد به وجوب مداومتها على حمد الله وتمجيده على أن وهبها الولد بعد أن بلغت سن اليأس من الحمل.

أى إنه ـ سبحانه ـ (حَمِيدٌ) أى : مستحق للحمد لكثرة نعمه على عباده (مَجِيدٌ) أى : كريم واسع الإحسان ، فليس بعيدا منه أن يعطى الولد للآباء بعد الكبر.

قال صاحب المنار ما ملخصه : وأصل المجد في اللغة أن تقع الإبل في أرض واسعة المرعى ، كثيرة الخصب ، يقال : مجدت الإبل تمجد من باب نصر ـ مجدا ومجادة ، وأمجدها الراعي.

والمجد في البيوت والأنساب ما يعده الرجل من سعة كرم آبائه وكثرة نوالهم.

ووصف الله كتابه بالمجيد ، كما وصف نفسه بذلك ، لسعة هداية كتابه ، وسعة كرمه وفضله على عباده ...» (٢).

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما كان من إبراهيم بعد أن سكن خوفه ، واطمأن إلى ضيوفه فقال : (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ) أى : الخوف والفزع ، بسبب اطمئنانه إلى ضيوفه ، وعلمه أنهم ليسوا من البشر.

(وَجاءَتْهُ الْبُشْرى) منهم بالولد ، واتصال النسل ، فازداد سرورا بهم.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٨١.

(٢) تفسير المنار ج ١٢ ص ١٣٠.

٢٤٢

بعد كل ذلك ، أخذ إبراهيم (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) أى : يجادل رسلنا ويحاورهم في شأن قوم لوط ، وفي كيفية عقابهم ، بعد أن أخبروه بأنهم ذاهبون لإهلاكهم.

وأضاف ـ سبحانه ـ المجادلة إلى نفسه مع أنها كانت مع الملائكة ، لأن نزولهم لإهلاك قوم لوط إنما كان بأمره ـ تعالى ـ ، فمجادلة إبراهيم لهم هي مجادلة في تنفيذ أمره ـ تعالى ـ.

وقال ـ سبحانه ـ (يُجادِلُنا) مع أنها كانت في الماضي ، لتصوير هذه الحالة في الذهن تصويرا حاضرا ، حتى تزداد منه العبرة والعظة.

وهذه المجادلة التي كانت بين إبراهيم وبين الملائكة الذين أرسلوا لإهلاك قوم لوط ، قد حكاها ـ سبحانه ـ في سورة العنكبوت في قوله : (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) أى القرية التي يسكنها قوم لوط (إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ. قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً ، قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) الآيتان ٣١ ـ ٣٢.

وهذا التفسير للمجادلة التي دارت بين إبراهيم والملائكة في عقاب قوم لوط هو الصحيح لأن خير تفسير للقرآن هو ما كان بالقرآن.

وما ورد من أقوال تخالف ذلك فلا يلتفت إليها ، لعدم استنادها إلى النقل الصحيح.

وقوله ـ سبحانه ـ (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) بيان للدواعي التي حملت إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ على مجادلة الملائكة في شأن إهلاك قوم لوط.

والحليم : هو الصبور على الأذى ، الصفوح عن الجناية ، المقابل لها بالإحسان.

والأواه : هو الذي يكثر التأوه من خشية الله.

قال الآلوسى : وأصل التأوه قوله : آه ونحوه مما يقوله المتوجع الحزين. وهو عند جماعة كناية عن كمال الرأفة ورقة القلب. وأخرج ابن جرير وابن أبى حاتم وغيرهما عن عبد الله بن شداد قال رجل : يا رسول الله ما الأواه؟ قال : «الخاشع المتضرع الكثير الدعاء» (١).

والمنيب : السريع الرجوع إلى الله ـ تعالى ـ بالتوبة والاستغفار.

أى أن إبراهيم لصبور على الأذى ، صفوح عن الجناية ، كثير التضرع إلى الله ، سريع الرجوع إليه في كل ما يحبه ويرضاه.

ولكن حلم إبراهيم وإنابته ... لم يرد قضاء الله العادل في شأن قوم لوط ولذا قالت الملائكة

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٣٥.

٢٤٣

له ـ كما حكى القرآن عنهم ـ : (يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا ، إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ، وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ).

أى : قالت الملائكة لإبراهيم : (يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) الجدال في أمر قوم لوط ، وفي طلب إمهال عقوبتهم (إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) بإهلاكهم (وَإِنَّهُمْ) بسبب إصرارهم على ارتكاب الفواحش (آتِيهِمْ) من ربهم (عَذابٌ) شديد (غَيْرُ مَرْدُودٍ) عنهم لا بسبب الجدال ولا بأى سبب سواه ، فإن قضاء الله لا يرد عن القوم المجرمين. هذا ، وقد ذكر الشيخ القاسمى بعض الفوائد والأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآيات فقال : قال بعض المفسرين : لهذه الآيات ثمرات وفوائد.

منها : أن حصول الولد المخصص بالفضل نعمة ، وأن هلاك العاصي نعمة ـ أيضا ـ لأن البشرى قد فسرت بولادة إسحاق لقوله (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ) وفسرت بهلاك قوم لوط ، لقوله : (قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ).

ومنها : استحباب نزول المبشر ـ بالكسر ـ على المبشر ـ بالفتح ـ لأن الملائكة أرسلهم الله ـ تعالى ـ لذلك.

ومنها : أنه يستحب للمبشر أن يتلقى البشارة بالشكر لله ـ تعالى ـ على ما بشر به. فقد حكى عن الأصم أنه قال : جاءوه في أرض يعمل فيها ، فلما فرغ غرز مسحاته ، وصلى ركعتين.

ومنها : أن السلام مشروع ، وأنه ينبغي أن يكون الرد أفضل لقول إبراهيم (سَلامٌ) بالرفع وهو أدل على الثبات والدوام.

ومنها : مشروعية الضيافة ، والمبادرة إليها ، واستحباب مبادرة الضيف بالأكل منها.

ومنها : استحباب خدمة الضيف ولو للمرأة ، لقول مجاهد : وامرأته قائمة ؛ أى في خدمة أضياف إبراهيم ... وخدمة الضيفان من مكارم الأخلاق.

ومنها : جواز مراجعة الأجانب في القول ، وأن صوتها ليس بعورة.

ومنها : أن امرأة الرجل من أهل بيته ، فيكون أزواجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل بيته (١) :

ومنها : ـ كما يقول الإمام ابن كثير ـ استدل على أن الذبيح هو إسماعيل لا إسحاق ، وأنه يمتنع أن يكون هو إسحاق ، لأنه وقعت البشارة به ، وأنه سيولد له يعقوب ، فكيف يؤمر

__________________

(١) تفسير القاسمى ج ٩ ص ٣٤٦٧.

٢٤٤

إبراهيم بذبحه وهو طفل صغير ، ولم يولد له بعد يعقوب الموعود بوجوده ، ووعد الله حق لا خلف فيه ، فيمتنع أن يؤمر بذبح إسحاق والحالة هذه ، فتعين أن يكون الذبيح إسماعيل ، وهذا من أحسن الاستدلال وأصحه : (١) ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عما دار بين لوط وبين الملائكة وبينه وبين قومه من حوار وجدال فقال ـ تعالى ـ :

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ)(٨٣)

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٦٦.

٢٤٥

ـ تلك هي قصة لوط مع الرسل الذين جاءوا لإهلاك قومه ومع قومه المجرمين ، كما حكتها سورة هود.

ـ وقد وردت هذه القصة في سور أخرى وبأساليب متنوعة ، ومنها سورة الأعراف ، والحجر ، والشعراء ، والنمل ، والعنكبوت ، والصافات ، والذاريات ، والقمر ..

قال الإمام ابن كثير : ولوط هو ابن هاران بن آزر ، فهو ابن أخى إبراهيم ، وكان قد آمن مع عمه إبراهيم وهاجر معه إلى أرض الشام ، فبعثه الله إلى أهل بلدة سدوم وما حولها يدعوهم إلى وحدانية الله ـ تعالى ـ ، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عما كانوا يرتكبونه من المآثم والمحارم والفواحش التي اخترعوها دون أن يسبقهم بها أحد من بنى آدم ولا من غيرهم ، وهو إتيان الذكور دون الإناث ، وهذا شيء لم يكن أحد من بنى آدم يعهده ولا يألفه ولا يخطر بباله ، حتى صنع ذلك أهل سدوم ـ وهم قرية بوادي الأردن عليهم لعائن الله» (١).

ـ وقد بدأ ـ سبحانه ـ القصة هنا بتصوير ما اعترى لوطا ـ عليه‌السلام ـ من ضيق وغم عند ما جاءته الرسل فقال : (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ ...).

ـ أى : وحين جاء الملائكة إلى لوط ـ عليه‌السلام ـ بعد مفارقتهم لإبراهيم ، ساءه وأحزنه مجيئهم ، لأنه كان لا يعرفهم ، ويعرف أن قومه قوم سوء ، فخشي أن يعتدى قومه عليهم ، بعادتهم الشنيعة ، وهو عاجز عن الدفاع عنهم ...

قال ابن كثير ما ملخصه : «يخبر الله ـ تعالى ـ عن قدوم رسله من الملائكة إلى لوط ـ عليه‌السلام ـ بعد مفارقتهم لإبراهيم ... فأتوا لوطا ـ عليه‌السلام ـ وهو على ما قيل في أرض له. وقيل في منزله ، ووردوا عليه وهم في أجمل صورة تكون ، على هيئة شبان حسان الوجوه ، ابتلاء من الله ، وله الحكمة والحجة البالغة ، فساءه شأنهم ...» (٢).

ـ وقوله : (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) تصوير بديع لنفاد حيلته ، واغتمام نفسه وعجزه عن وجود حيلة للخروج من المكروه الذي حل بهم.

قال القرطبي : والذرع مصدر ذرع. وأصله : أن يذرع البعير بيديه في سيره ذرعا على قدر سعة خطوه فإذا حمل عليه أكثر من طاقته ضاق عن ذلك وضعف ومد عنقه. فضيق الذرع عبارة عن ضيق الوسع. وقيل هو من ذرعه القيء أى غلبه.

أى : ضاق عن حبسه المكروه في نفسه.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٣٠.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٦٦.

٢٤٦

وإنما ضاق ذرعه بهم لما رأى من جمالهم ، وما يعلمه من فسوق قومه ...» (١).

ـ و (ذَرْعاً) تمييز محول عن الفاعل. أى : ضاق بأمرهم ذرعه.

(وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) : أى وقال لوط ـ عليه‌السلام ـ في ضجر وألم : هذا اليوم الذي جاءني فيه هؤلاء الضيوف ، يوم «عصيب» أى : شديد هوله وكربه.

وأصل العصب : الشد والضغط ، فكأن هذا اليوم لشدة وقعه على نفسه قد عصب به الشر والبلاء ، أى : شد به.

قال صاحب تفسير التحرير والتنوير : ومن بديع ترتيب هذه الجمل أنها جاءت على ترتيب حصولها في الوجود ، فإن أول ما يسبق إلى نفس الكاره للأمر أن يساء به ويتطلب المخلص منه ، فإذا علم أنه لا مخلص له منه ضاق به ذرعا. ثم يصدر تعبيرا عن المعاني يريح به نفسه» (٢).

ـ ثم بين ـ سبحانه ـ ما كان من قوم لوط ـ عليه‌السلام ـ عند ما علموا بوجود هؤلاء الضيوف عنده فقال : (وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ. وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ...).

ـ ويهرعون ـ بضم الياء وفتح الراء على صيغة المبنى للمفعول ـ أى : يدفع بعضهم بعضا بشدة ، كأن سائقا يسوقهم إلى المكان الذي فيه لوط وضيوفه.

يقال : هرع الرجل وأهرع ـ بالبناء للمفعول فيهما ـ إذا أعجل وأسرع لدافع يدفعه إلى ذلك.

قال الآلوسى : والعامة على قراءته مبنيا للمفعول ، وقرأ جماعة يهرعون ـ بفتح الياء مع البناء للفاعل ـ من هرع ـ بفتح الهاء والراء ـ وأصله من الهرع وهو الدم الشديد السيلان ، كأن بعضه يدفع بعضا (٣).

أى : وبعد أن علم قوم لوط بوجود هؤلاء الضيوف عند نبيهم ، جاءوا إليه مسرعين يسوق بعضهم بعضا إلى بيته من شدة الفرح ، ومن قبل هذا المجيء ، كان هؤلاء القوم الفجرة ، يرتكبون السيئات الكثيرة ، التي من أقبحها إتيانهم الرجال شهوة من دون النساء.

وقد طوى القرآن الكريم ذكر الغرض الذي جاءوا من أجله ، وأشار إليه بقوله : (وَمِنْ

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٩ ص ٧٤.

(٢) تفسير التحرير والتنوير للشيخ ابن عاشور ج ١٢ ص ١٣٥.

(٣) تفسير الآلوسى ج ١٢ ص ٩٥.

٢٤٧

قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) للإشعار بأن تلك الفاحشة صارت عادة من العادات المتأصلة في نفوسهم الشاذة ، فلا يسعون إلا من أجل قضائها.

ثم حكى القرآن بعد ذلك ما بادرهم به نبيهم بعد أن رأى هياجهم وتدافعهم نحو داره فقال : (قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) ...

والمراد ببناته هنا : زوجاتهم ونساؤهم اللائي يصلحن للزواج ، وأضافهن إلى نفسه ؛ لأن كل نبي أب لأمته من حيث الشفقة وحسن التربية والتوجيه.

قال ابن كثير : قوله ـ تعالى ـ (قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ...) يرشدهم إلى نسائهم ، فإن النبي للأمة بمنزلة الوالد ، فأرشدهم إلى ما هو أنفع لهم ، كما قال لهم في آية أخرى : (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ. وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) ...

قال مجاهد : لم يكن بناته ، ولكن كن من أمته ، وكل نبي أبو أمته ...

وقال سعيد بن جبير : يعنى نساؤهم ، هن بناته وهو أب لهم ... (١).

ومنهم من يرى أن المراد ببناته هنا : بناته من صلبه ، وأنه عرض عليهم الزواج بهن ...

ويضعف هذا الرأى أن لوطا ـ عليه‌السلام ـ كان له بنتان أو ثلاثة ـ كما جاء في بعض الروايات ـ وعدد المتدافعين من قومه إلى بيته كان كثيرا ، فكيف تكفيهم بنتان أو ثلاثة للزواج ...؟

ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب ، وقد رجحه الإمام الرازي بأن قال ما ملخصه : «وهذا القول عندي هو المختار ، ويدل عليه وجوه. منها : أنه قال (هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) وبناته اللاتي من صلبه لا تكفى للجمع العظيم ، أما نساء أمته ففيهن كفاية للكل ..

ومنها : أنه صحت الرواية أنه كان له بنتان وهما : زنتا وزعورا ، وإطلاق لفظ البنات على البنتين لا يجوز ، لما ثبت أن أقل الجمع ثلاثة ...» (٢).

والمعنى : أن لوطا ـ عليه‌السلام ـ عند ما رأى تدافعهم نحو بيته لارتكاب الفاحشة التي ما سبقهم بها من أحد من العالمين ، قال لهم : برجاء ورفق (يا قَوْمِ) هؤلاء نساؤكم اللائي بمنزلة بناتي ارجعوا إليهن فاقضوا شهوتكم معهن فهن أطهر لكم نفسيا وحسيا من التلوث

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٦٨.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٨ ص ٣٢.

٢٤٨

برجس اللواط ، وأفعل التفضيل هنا وهو (أَطْهَرُ) ليس على بابه ، بل هو للمبالغة في الطهر.

قال القرطبي : وليس ألف أطهر للتفضيل ، حتى يتوهم أن في نكاح الرجال طهارة ، بل هو كقولك الله أكبر ـ أى كبير ـ ... ولم يكابر الله ـ تعالى ـ أحد حتى يكون الله ـ تعالى ـ أكبر منه ...» (١).

ثم أضاف إلى هذا الإرشاد لهم إرشادا آخر فقال : (فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ...).

قال الجمل : ولفظ الضيف في الأصل مصدر ، ثم أطلق على الطارق ليلا إلى المضيف ، ولذا يقع على المفرد والمذكر وضديهما بلفظ واحد ، وقد يثنى فيقال : ضيفان ، ويجمع فيقال : «أضياف وضيوف ...» (٢).

وتخزون : من الخزي وهو الإهانة والمذلة. يقال : خزي الرجل يخزى خزيا ... إذا وقع في بلية فذل بذلك.

أى : بعد أن أرشدهم إلى نسائهم ، أمرهم بتقوى الله ومراقبته ، فقال لهم : فاتقوا الله. ولا تجعلوني مخزيا مفضوحا أمام ضيوفى بسبب اعتدائكم عليهم ، فإن الاعتداء على الضيف كأنه اعتداء على المضيف.

ويبدو أن لوطا ـ عليه‌السلام ـ قد قال هذه الجملة ليلمس بها نخوتهم إن كان قد بقي فيهم بقية من نخوة ، ولكنه لما رأى إصرارهم على فجورهم وبخهم بقوله :

(أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) يهدى إلى الرشد والفضيلة. وينهى عن الباطل والرذيلة. فيقف إلى جانبي ، ويصرفكم عن ضيوفى؟

ولكن هذا النصح الحكيم من لوط لهم لم يحرك قلوبهم الميتة الآسنة. ولا فطرتهم الشاذة المنكوسة. بل ردوا عليه بقولهم :

(قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ).

أى : قال قوم لوط له بسفاهة ووقاحة : لقد علمت يا لوط علما لا شك معه ، أننا لا رغبة لنا في النساء ، لا عن طريق الزواج ولا عن أى طريق آخر ، فالمراد بالحق هنا : الرغبة والشهوة.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٩ ص ٨٦.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٤١٣.

٢٤٩

قال الشوكانى : قوله (ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ) أى : ما لنا فيهن من شهوة ولا حاجة ، لأن من احتاج إلى شيء فكأنه حصل له فيه نوع حق ، ومعنى ما نسبوه إليه من العلم أنه قد علم منهم المكالبة على إتيان الذكور وشدة الشهوة إليهم ، فهم من هذه الحيثية كأنهم لا حاجة لهم إلى النساء. ويمكن أن يريدوا : أنه لا حق لنا في نكاحهن ...» (١).

وقولهم : (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) إشارة خبيثة منهم إلى العمل الخبيث الذي ألفوه ، وهو إتيان الذكور دون النساء أى : وإنك لتعلم علما يقينيا الشيء الذي نريده فلما ذا ترجعنا؟! وقولهم هذا الذي حكته الآية الكريمة عنهم ، يدل دلالة واضحة على أنهم قد بلغوا النهاية في الخبث والوقاحة وتبلد الشعور ..

لذا رد عليهم لوط ـ عليه‌السلام ـ رد اليائس من ارعوائهم عن غيهم ، المتمنى لوجود قوة إلى جانبه تردعهم وتكف فجورهم ... (قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ).

والقوة : ما يتقوى به الإنسان على غيره.

وآوى : أى ألجأ وأنضوى تقول : أويت إلى فلان فأنا آوى إليه أويّا أى : انضممت إليه.

والركن في الأصل : القطعة من البيت أو الجبل ، والمراد به هنا الشخص القوى الذي يلجأ إليه غيره لينتصر به ...

ولو شرطية وجوابها محذوف ، والتقدير : قال لوط ـ عليه‌السلام ـ بعد أن رأى من قومه الاستمرار في غيهم ، ولم يقدر على دفعهم ـ على سبيل التفجع والتحسر : لو أن معى قوة أدفعكم بها لبطشت بكم.

ويجوز أن تكون لو للتمني فلا تحتاج إلى جواب أى : ليت معى قوة أستطيع بمناصرتها لي دفع شركم.

وقوله (أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) معطوف على ما قبله ، أو ليتني أستطيع أن أجد شخصا قويا من ذوى المنعة والسلطان أحتمى به منكم ومن تهديدكم لي ...

قالوا : وإنما قال لوط ـ عليه‌السلام ـ ذلك ؛ لأنه كان غريبا عنهم ، ولم يكن له نسب أو عشيرة فيهم.

وهنا ـ وبعد أن بلغ الضيق بلوط ما بلغ ـ كشف له الملائكة عن حقيقتهم ، وبشروه بما يدخل الطمأنينة على قلبه (قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) أى : إنا رسل

__________________

(١) تفسير فتح القدير ج ٢ ص ٥١٤.

٢٥٠

ربك أرسلنا إليك لنخبرك بهلاكهم ، فاطمئن فإنهم لن يصلوا إليك بسوء في نفسك أو فينا.

روى أن الملائكة لما رأوا ما لقيه لوط ـ عليه‌السلام ـ من الهم والكرب بسببهم قالوا له : يا لوط إن ركنك لشديد ... ثم ضربهم جبريل بجناحه فطمس أعينهم ، فارتدوا على أدبارهم يقولون النجاء ، وإليه الإشارة بقوله ـ تعالى ـ في سورة القمر : (وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ ، فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ).

وقوله : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) أى : فاخرج من هذه القرية مصحوبا بالمؤمنين من أهلك في جزء من الليل يكفى لابتعادك عن هؤلاء المجرمين.

قال القرطبي : قرئ «فاسر وفأسر بوصل الهمزة وقطعها لغتان فصيحتان. قال ـ تعالى ـ (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) وقال (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ ...) وقيل «فأسر» بالقطع تقال لمن سار من أول الليل .. وسرى لمن سار في آخره ، ولا يقال في النهار إلا سار ...» (١).

وقوله : (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ ...) معطوف على ما قبله وهو قوله : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ ...).

أى : فأسر بأهلك في جزء من الليل ، ولا يلتفت منكم أحد إلى ما وراءه ، اتقاء لرؤية العذاب ، (إِلَّا امْرَأَتَكَ) يا لوط فاتركها ولا تأخذها معك لأنها كافرة خائنة ، ولأنها سيصيبها العذاب الذي سينزل بهؤلاء المجرمين. فيهلكها معهم.

قال الإمام الرازي ما ملخصه : قوله (إِلَّا امْرَأَتَكَ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو (إِلَّا امْرَأَتَكَ) بالرفع ، وقرأ الباقون بالنصب.

قال الواحدي : من نصب فقد جعلها مستثناة من الأهل ، على معنى : فأسر بأهلك إلا امرأتك أى فلا تأخذها معك ...

وأما الذين رفعوا فالتقدير : ولا يلتفت منكم أحد لكن امرأتك تلتفت فيصيبها ما أصابهم.

روى عن قتادة أنه قال : إنها كانت مع لوط حين خرج من القرية ، فلما سمعت العذاب التفتت وقالت وا قوماه فأصابها حجر فأهلكها» (٢).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٩ ص ٧٩.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٨ ص ٣٦.

٢٥١

وقوله ـ سبحانه ـ (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) بشارة أخرى للوط ـ عليه‌السلام ـ الذي تمنى النصرة على قومه.

أى : إن موعد هلاك هؤلاء المجرمين يبتدئ من طلوع الفجر وينتهى مع طلوع الشمس ، أليس الصبح بقريب من هذا الوقت الذي نحدثك فيه؟

قال ـ تعالى ـ في سورة الحجر : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) أى : وهم داخلون في وقت الشروق. فكان ابتداء العذاب عند طلوع الصبح وانتهاؤه وقت الشروق.

والجملة الكريمة (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ...) كالتعليل للأمر بالإسراء بأهله بسرعة ، أو جواب عما جاش بصدره من استعجاله العذاب لهؤلاء المجرمين.

والاستفهام في قوله ـ سبحانه ـ (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) للتقرير أى : بلى إنه لقريب.

قال الآلوسى : روى أنه ـ عليه‌السلام ـ سأل الملائكة عن موعد هلاك قومه فقالوا له ؛ موعدهم الصبح. فقال : أريد أسرع من ذلك. فقالوا له ؛ أليس الصبح بقريب. ولعله إنما جعل ميقات هلاكهم الصبح لأنه وقت الدعة والراحة فيكون حلول العذاب حينئذ أفظع ، ولأنه أنسب بكون ذلك عبرة للناظرين (١).

ثم حكى ـ سبحانه ـ في نهاية القصة ما حل بهؤلاء المجرمين من عذاب فقال : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ).

أى : «فلما أمرنا» بإهلاك هؤلاء القوم المفسدين (جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) أى : جعلنا أعلى بيوتهم أسفلها ، بأن قلبناها عليهم ، وهي عقوبة مناسبة لجريمتهم حيث قلبوا فطرتهم ، فأتوا الذكران من العالمين ؛ وتركوا ما خلق لهم ربهم من أزواجهم ...

وقوله : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ) زيادة في عقوبتهم ولعنهم.

أى : جعلنا أعلى قراهم أسفلها ، وأمطرنا عليها حجارة (مِنْ سِجِّيلٍ) أى : من حجر وطين مختلط ، قد تجحر وتصلب (مَنْضُودٍ) أى : متتابع في النزول بدون انقطاع موضوع بعض على بعض ، من النضد وهو وضع الأشياء بعضها إلى بعض.

(مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ) أى : معلمة بعلامات من عند ربك لا يعلمها إلا هو ، ومعدة إعدادا خاصا لإهلاك هؤلاء القوم.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٢ ص ١٠١.

٢٥٢

(وَما هِيَ) أى تلك القرى المهلكة (مِنَ الظَّالِمِينَ) وهم مشركو مكة (بِبَعِيدٍ) أى : ببعيدة عنهم ، بل هي قريبة منهم ، ويمرون عليها في أسفارهم إلى الشام.

قال ـ تعالى ـ (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ، وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١).

أى : وإنكم يا أهل مكة لتمرون على هؤلاء القوم المهلكين من قوم لوط في وقت الصباح أى النهار ، وتمرون عليهم بالليل أفلا تعقلون ذلك فتعتبروا وتتعظوا؟؟

ويجوز أن يكون الضمير في قوله (وَما هِيَ) يعود إلى الحجارة التي أهلك الله بها هؤلاء القوم.

أى : وما هي تلك الحجارة الموصوفة بما ذكر من الظالمين ببعيد ، بل هي حاضرة مهيئة بقدرة الله ـ تعالى ـ لإهلاك الظالمين بها.

والمراد بالظالمين ما يشمل قوم لوط ، ويشمل كل من عصى الله وتجاوز حدوده ، ولم يتبع ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وهكذا كانت نهاية قوم لوط ، فقد انطوت صفحتهم كما انطوت من قبلهم صفحات قوم نوح وهود وصالح ـ عليهم الصلاة والسلام ـ هذا ومن العبر والأحكام التي نأخذها من هذه الآيات الكريمة ، أنه لا بأس على المسلم من أن يستعين بغيره لنصرة الحق الذي يدعو إليه ، ولخذلان الباطل الذي ينهى عنه.

فلوط ـ عليه‌السلام ـ عند ما رأى من قومه الإصرار على غوايتهم ومفاسدهم تمنى لو كانت معه قوة تزجرهم وتردعهم وتمنعهم عن فسادهم.

وقد علق الإمام ابن حزم على ما جاء في الحديث الشريف بشأن لوط ـ عليه‌السلام ـ فقال ما ملخصه :

وظن بعض الفرق أن ما جاء في الحديث الصحيح من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «رحم الله لوطا لقد كان يأوى إلى ركن شديد» إنما هو من باب الإنكار على لوط ـ عليه‌السلام ـ في قوله (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ).

والحق أنه لا تخالف بين القولين ، بل كلاهما حق ، لأن لوطا ـ عليه‌السلام ـ إنما أراد منعة عاجلة يمنع بها قومه مما هم عليه من الفواحش. من قرابة أو عشيرة أو أتباع مؤمنين ، وما جهل قط لوط ـ عليه‌السلام ـ أنه يأوى من ربه ـ تعالى ـ إلى أمنع قوة ، وأشد ركن.

__________________

(١) سورة الصافات الآيتان ١٣٧ ـ ١٣٨.

٢٥٣

ولا جناح على لوط ـ عليه‌السلام ـ في طلب قوة من الناس ـ فقد قال الله ـ تعالى ـ (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ).

وقد طلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأنصار نصرته حتى يبلغ كلام ربه ، فكيف ينكر على لوط أمرا هو فعله؟!!

تالله ما أنكر ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما أخبر أن لوطا كان يأوى إلى ركن شديد ، يعنى من نصر الله له بالملائكة ، ولم يكن لوط علم بأنهم ملائكة ... (١).

ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك فقصت علينا ما كان بين شعيب ـ عليه‌السلام ـ وقومه وكيف أنه دعاهم إلى عبادة الله ـ تعالى ـ وحده بأسلوب بليغ حكيم ، ولكنهم لم يستجيبوا له ، فكانت عاقبتهم الهلاك كالذين من قبلهم قال ـ تعالى ـ :

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ

__________________

(١) تفسير القاسمى ج ٩ ص ٣٤٧٢.

٢٥٤

كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ(٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ(٩٣) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ)(٩٥)

تلك هي قصة شعيب ـ عليه‌السلام ـ كما حكتها هذه السورة الكريمة ، وقد وردت هذه القصة في سور أخرى منها : سورتي الأعراف والشعراء ..

٢٥٥

ومدين اسم للقبيلة التي تنتسب إلى مدين بن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ.

وكانوا يسكنون في المنطقة التي تسمى (معان) وتقع بين حدود الحجاز والشام.

وأهل مدين يسمون أيضا بأصحاب الأيكة.

والأيكة : منطقة مليئة بالشجر كانت مجاورة لقرية (معان) ، وكان يسكنها بعض الناس فأرسل الله شعيبا إليهم جميعا.

وشعيب هو ابن ميكيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم ، فهو أخوهم في النسب.

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا ذكر شعيب قال : (ذلك خطيب الأنبياء) لحسن مراجعته لقومه ، وقوة حجته.

وكان قومه يعبدون الأصنام. ويطففون في الكيل والميزان ... فدعاهم إلى عبادة الله وحده ، ونهاهم عن الخيانة وسوء الأخلاق.

ويرى بعض العلماء : أن شعيبا أرسل إلى أمتين : أهل مدين الذين أهلكوا بالصيحة ؛ وأصحاب الأيكة الذين أخذهم الله بعذاب يوم الظلة ، وأن الله ـ تعالى ـ لم يبعث نبيا مرتين سوى شعيب ـ عليه‌السلام ـ.

ولكن المحققين من العلماء اختاروا أنهما أمة واحدة ، فأهل مدين هم أصحاب الأيكة ، أخذتهم الرجفة والصيحة وعذاب يوم الظلة ـ أى السحابة ـ وأن كل عذاب كان كالمقدمة للآخر.

هذا ، وقوله ـ سبحانه ـ (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً ...) معطوف على ما سبقه من قصة صالح ـ عليه‌السلام ـ عطف القصة على القصة.

أى : وكما أرسلنا صالحا ـ عليه‌السلام ـ إلى ثمود ، فقد أرسلنا إلى أهل مدين أخاهم شعيبا ـ عليه‌السلام ـ فقال لهم مقالة كل نبي لقومه : يا قوم اعبدوا الله وحده ، فإنكم لا إله لكم على الحقيقة سواه ، فهو الذي خلقكم ، وهو الذي رزقكم ، وهو الذي إليه مرجعكم ...

ثم بعد أن أمرهم بإخلاص العبادة لله ، نهاهم عن التطفيف في الكيل والميزان فقال : (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ).

والمكيال والميزان : اسمان للآلة التي يكال بها ويوزن.

ونقص الكيل والميزان يكون من وجهين : أحدهما أن يكون الاستنقاص من جهتهم إذا باعوا لغيرهم.

٢٥٦

وثانيهما : أن يكون الاستنقاص من جهة غيرهم إذا اشتروا منه ، بأن يأخذوا منه أكثر من حقهم.

فكأنه ـ عليه‌السلام ـ يقول لهم : لا تنقصوا المكيال والميزان لا عند الأخذ ولا عند الإعطاء ، فلا تعطوا غيركم أقل من حقه إذا بعتم ، ولا تأخذوا منه أكثر من حقكم إذا اشتريتم.

وإلى هذين الأمرين أشار قوله ـ تعالى ـ (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ، الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ...).

ثم بين لهم الأسباب التي دعته إلى أمرهم ونهيهم فقال : (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ).

والخير : كلمة جامعة لكل ما يرضى الإنسان ويغنيه ويسره.

ومحيط : أى شامل بحيث لا يستطيع أحد الإفلات منه. كما يحيط الظرف بالمظروف ...

أى : أخلصوا لله عبادتكم ، والتزموا العدل في معاملاتكم ، فإنى أراكم تملكون الوفير من المال ، وتعيشون في رغد من العيش ، وفي بسطة من الرزق ، ومن كان كذلك فمن الواجب عليه أن يقابل هذه النعم بالشكر لواهبها وهو الله ـ تعالى ـ وأن يستعملها استعمالا يرضيه ، وأن يعطى كل ذي حق حقه.

وإنى ـ أيضا ـ أخاف عليكم إذا ما تماديتم في مخالفة ما آمركم به وما أنهاكم عنه ، عذاب يوم أهواله وآلامه شاملة لكل ظالم ، بحيث لا يستطيع أن يهرب منها ...

قال الشوكانى : وصف ـ سبحانه ـ اليوم بالإحاطة ، والمراد العذاب لأن العذاب واقع في اليوم ، ومعنى إحاطة عذاب اليوم بهم ، أنهم لا يشذ منهم أحد عنه ، ولا يجدون منه ملجأ ولا مهربا» (١).

فأنت ترى أن شعيبا ـ عليه‌السلام ـ بعد أن أمرهم بما يصلح عقيدتهم ونهاهم عما يفسد معاملاتهم وأخلاقهم ... ذكرهم بما هم فيه من نعمة وغنى قطعا لعذرهم حتى لا يقولوا له نحن في حاجة إلى تطفيف المكيال والميزان لفقرنا ، ثم أخبرهم بأنه ما حمله على هذا النصح لهم إلا خوفه عليهم.

ثم واصل شعيب ـ عليه‌السلام ـ نصحه لقومه ، فأمرهم بالوفاء بعد أن نهاهم عن

__________________

(١) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٢ ص ٥١٨.

٢٥٧

النقص على سبيل التأكيد ، وزيادة الترغيب في دعوته فقال : (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) ...

أى : ويا قوم أوفوا عند معاملاتكم أدوات كيلكم وأدوات وزنكم ، ملتزمين في كل أحوالكم العدل والقسط.

(وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ ...) أى : ولا تنقصوهم شيئا من حقوقهم. يقال : بخس فلان فلانا حقه إذا ظلمه وانتقصه. وهو يشمل النقص والعيب في كل شيء ..

والجملة الكريمة تعميم بعد تخصيص ، لكي تشمل غير المكيل والموزون كالمزروع والمعدود ، والجيد والرديء ...

قال الجمل ما ملخصه : وقد كرر ـ سبحانه ـ نهيهم عن النقص والبخس وأمرهم بالوفاء ... لأن القوم لما كانوا مصرين على ذلك العمل القبيح ، وهو تطفيف الكيل والميزان ومنع الناس حقوقهم ، احتيج في المنع منه إلى المبالغة في التأكيد ، ولا شك أن التكرير يفيد شدة الاهتمام والعناية بالمأمور به والمنهي عنه ، فلهذا كرر ذلك ليقوى الزجر والمنع من ذلك الفعل ...» (١).

وقوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) تحذير لهم من البطر والغرور واستعمال نعم الله في غير ما خلقت له.

قال ابن جرير : «وأصل العثى شدة الإفساد ، بل هو أشد الإفساد. يقال عثى فلان في الأرض يعنى ـ كرضى يرضى ـ إذا تجاوز الحد في الإفساد ...» (٢).

أى : ولا تسعوا في أرض الله بالفساد ، وتقابلوا نعمه بالمعاصي ، فتسلب عنكم ثم أرشدهم إلى أن ما عند الله خير وأبقى مما يجمعونه عن الطريق الحرام فقال : (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ).

ولفظ (بَقِيَّتُ) اسم مصدر من الفعل : بقي ، ضد : فنى. وإضافتها إلى الله ـ تعالى ـ إضافة تشريف وتيمن.

أى : ما يبقيه الله لكم من رزق حلال ، ومن حال صالح ، ومن ذكر حسن ، ومن أمن وبركة في حياتكم ... بسبب التزامكم بالقسط في معاملاتكم ، هو خير لكم من المال الكثير الذي تجمعونه عن طريق بخس الناس أشياءهم.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٤١٦.

(٢) تفسير ابن جرير ج ١ ص ٣٠٨.

٢٥٨

وجملة «إن كنتم مؤمنين» معترضة لبيان أن هذه الخيرية لا تتم إلا مع الإيمان.

أى : ما يبقيه الله لكم من الحلال ... هو خير لكم ، إن كنتم مصدقين بما أرسلت به إليكم ، أما إذا لم تكونوا كذلك فلن تكون بقية الله خيرا لكم ، لأنها لا تكون إلا للمؤمنين ، فاستجيبوا لنصيحتى لتسعدوا في دنياكم وآخرتكم.

وجملة «وما أنا عليكم بحفيظ» تحذير لهم من مخالفته بعد أن أدى ما عليه من بلاغ.

أى : وما أنا عليكم بحفيظ أحفظ لكم أعمالكم وأحاسبكم عليها ، وأجازيكم بها الجزاء الذي تستحقونه. وإنما أنا ناصح ومبلغ ما أمرنى ربي بتبليغه ، وهو وحده ـ سبحانه ـ الذي سيتولى مجازاتكم.

وإلى هنا نجد شعيبا ـ عليه‌السلام ـ قد أرشد قومه إلى ما يصلحهم في عقائدهم ، وفي معاملاتهم ، وفي صلاتهم بعضهم ببعض ، وفي سلوكهم الشخصي ، بأسلوب حكيم جامع لكل ما يسعد ويهدى للتي هي أقوم ..

فماذا كان رد قومه عليه؟

لقد كان ردهم عليه ـ كما حكاه القرآن الكريم ـ طافحا بالاستهزاء به ، والسخرية منه ، فقد قالوا له : (يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا ، أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا ، إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ).

أى : قال قوم شعيب له ـ على سبيل التهكم والاستهزاء ـ : يا شعيب أصلاتك ـ التي تزعم أن ربك كلفك بها والتي أنت تكثر منها ـ تأمرك أن نترك عبادة الأصنام التي وجدنا عليها آباءنا؟ والاستفهام للإنكار والتعجب من شأنه ...

وأسندوا الأمر إلى الصلاة من بين سائر العبادات التي كان يفعلها ، لأنه ـ عليه‌السلام ـ كان كثير الصلاة ، وكانوا إذا رأوه يصلى سخروا منه.

وجملة «أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء» إنكار منهم لترك ما تعودوه من نقص الكيل والميزان بعد إنكارهم لترك عبادة الأصنام.

أى : أصلاتك تأمرك أن نترك عبادة الأصنام ، وتأمرك أن نترك ما تعودنا فعله في أموالنا من التطفيف في الكيل والميزان ...

إن كانت صلاتك تأمرك بذلك ، فهي في نظرنا صلاة باطلة ، لا وزن لها عندنا ، بل نحن نراها لونا من ألوان جنونك وهذيانك ..

وجملة «إنك لأنت الحليم الرشيد» زيادة منهم في السخرية منه ـ عليه‌السلام ـ وفي

٢٥٩

التهكم عليه ، فكأنهم ـ قبحهم الله ـ يقولون له : كيف تأمرنا بترك عبادة الأصنام ، وبترك النقص في الكيل والميزان ، مع علمك اليقيني بأن هذين الأمرين قد بنينا عليهما حياتنا ، ومع زعمك لنا بأنك أنت الحليم الذي يتأنى ويتروى في أحكامه ، الرشيد الذي يرشد غيره إلى ما ينفعه؟

إن هذين الوصفين لا يليقان بك ، مادمت تأمرنا بذلك ، وإنما اللائق بك أضدادهما ، أى الجهالة والسفه والعجلة في الأحكام.

قال صاحب الكشاف : وأرادوا بقولهم : (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) نسبته إلى غاية السفه والغي ، فعكسوا ليتهكموا به ، كما يتهكم بالشحيح الذي لا يبض حجره ، فيقال له : لو أبصرك حاتم لسجد لك. وقيل معناه : إنك للمتواصف بالحلم والرشد في قومك. يعنون أن ما تأمر به لا يطابق حالك وما اشتهرت به ...» (١).

هكذا رد قوم شعيب عليه ، وهو رد يحمل السخرية في كل مقطع من مقاطعه ، ولكنها سخرية الشخص الذي انطمست بصيرته ، وقبحت سريرته!!

ومع كل هذه السفاهة ؛ ترى شعيبا ـ عليه‌السلام ـ وهو خطيب الأنبياء ـ يتغاضى عن سفاهاتهم ، لأنه يحس بقصورهم وجهلهم ، كما يحس بقوة الحق الذي أتاهم به من عند ربه ، فيرد عليهم بقوله : (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ...) والبينة : ما يتبين به الحق من الباطل ، ويتميز به الهدى من الضلال.

أى : قال شعيب لقومه بأسلوب مهذب حكيم : يا قوم أخبرونى إن كنت على حجة واضحة ، وبصيرة مستنيرة منحني إياها ربي ومالك أمرى.

(وَرَزَقَنِي مِنْهُ) ـ سبحانه ـ ، (رِزْقاً حَسَناً) يتمثل في النبوة التي كرمني بها ، وفي المال الحلال الذي بين يدي ، وفي الحياة الطيبة التي أحياها.

وجواب الشرط محذوف والتقدير : أخبرونى إن كنت كذلك ، هل يليق بي بعد ذلك أن أخالف أمره مسايرة لأهوائكم؟ كلا إنه لا يليق بي ذلك ، وإنما اللائق بي أن أبلغ جميع ما أمرنى بتبليغه دون خوف أو تقصير.

ثم يكشف لهم عن أخلاقه وسلوكه معهم فيقول : (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ ...).

أى : ما أريد بأمرى لكم بعبادة الله وحده ، وبنهيى إياكم عن التطفيف والبخس ، مجرد

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٨٧.

٢٦٠