التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0657-4
الصفحات: ٦٠٢

ربي وخالقي ، لا إله مستحق للعبادة سواه ، عليه لا على أحد سواه توكلت في جميع أمورى ، وإليه لا إلى غيره مرجعي وتوبتي وإنابتى.

فهذه الجملة الكريمة اشتملت على أبلغ رد على أولئك المشركين الذين أنكروا أن يكون الإله ـ جل وعلا ـ رحمانا ، وأنه ـ سبحانه ـ هو المستحق للعبادة.

ثم أشار ـ سبحانه ـ إلى عظمة هذا القرآن الذي أوحاه إلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ ، أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ ، أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى ...).

والمراد بالقرآن هنا : معناه اللغوي ، أى الكلام المقروء.

وجواب لو محذوف لدلالة المقام عليه.

والمعنى : ولو أن كتابا مقروءا من الكتب السماوية ، (سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) أى : تحركت من أماكنها ، (أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) أى شققت وصارت قطعا ، (أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) بأن يعودوا إلى الحياة بعد قراءته عليهم.

ولو أن كتابا مقروءا كان من وظيفته أن يفعل ذلك لكان هذا القرآن ، لكونه الغاية القصوى في الهداية والتذكير ، والنهاية العظمى في الترغيب والترهيب.

وعلى هذا المعنى يكون الغرض من الآية الكريمة بيان عظم شأن القرآن الكريم ، وإبطال رأى الكافرين الذين طلبوا من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية كونية سواه.

ويصح أن يكون المعنى : ولو أن كتابا مقروءا من الكتب السماوية نزل عليك يا محمد فسيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ، لما آمن هؤلاء المعاندون.

قال ـ تعالى ـ : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ...) (١).

وعلى هذا المعنى يكون المقصود من الآية الكريمة ، بيان غلوهم في العناد والطغيان ، وتماديهم في الكفر والضلال ، وأن سبب عدم إيمانهم ليس مرده إلى عدم ظهور الدلائل الدالة على صدقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما سببه الحسد والعناد والمكابرة.

ووجه تخصيص هذه الأشياء الثلاثة من بين الخوارق التي طلبوها منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما ذكره الإمام ابن كثير من أن المشركين قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد ، لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها ، أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح ، أو أحييت

__________________

(١) سورة الأنعام الآية ١١١.

٤٨١

لنا الموتى كما كان عيسى يحيى الموتى لقومه ، فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية (١).

وقوله ـ سبحانه ـ (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) إضراب عن مطالبهم المتعنتة إلى بيان أن الأمور كلها بيد الله ، وأن قدرته ـ سبحانه ـ لا يعجزها شيء.

أى : إن الله ـ تعالى ـ لا يعجزه أن يأتى بالمقترحات التي اقترحوها ، ولكن إرادته ـ سبحانه ـ لم تتعلق بما اقترحوه ، لعلمه ـ سبحانه ـ بعتوهم ونفورهم عن الحق مهما أوتوا من آيات.

وقوله ـ سبحانه : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) تيئيس للمؤمنين من استجابة أولئك الجاحدين للحق ، إلا أن يشاء الله لهم الهداية ، والاستفهام للإنكار. وأصل اليأس : قطع الطمع في الشيء والقنوط من حصوله.

وللعلماء في تفسير هذه الجملة الكريمة اتجاهان :

أحدهما يرى أصحابه أن الفعل ييأس على معناه الحقيقي وهو قطع الطمع في الشيء ، وعليه يكون المعنى : أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان كفار قريش ، ويعلموا أن الله ـ تعالى ـ لو يشاء هداية الناس جميعا لاهتدوا ، ولكنه لم يشأ ذلك ، ليتميز الخبيث من الطيب.

وعلى هذا الاتجاه سار الإمام ابن كثير فقد قال ـ رحمه‌الله ـ : وقوله ـ تعالى : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) أى : من إيمان جميع الخلق ويعلموا أو يتبينوا (أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) فإنه ليس هناك حجة ولا معجزة أبلغ ولا أنجع في النفوس والعقول من هذا القرآن ، الذي لو أنزله الله على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله.

وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من نبي إلا وقد أوتى ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلى ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة (٢).

ويؤيد هذا الاتجاه ما ذكره السيوطي في تفسيره من أن بعض الصحابة قالوا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا رسول الله ، اطلب لهم ـ أى للمشركين ـ ما اقترحوه عسى أن يؤمنوا.

أما الاتجاه الثاني فيرى أصحابه أن الفعل ييأس بمعنى يعلم ، وعليه يكون المعنى : أفلم يعلم المؤمنون أنه ـ سبحانه ـ لو شاء هداية الناس جميعا لآمنوا.

وهذا الاتجاه صدر به الآلوسى تفسيره فقال ما ملخصه :

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٣٨٢.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٣٨٥.

٤٨٢

ومعنى قوله ـ سبحانه ـ : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) أفلم يعلموا. وهي كما قال القاسم بن معن لغة هوازن. وقال الكلبي هي لغة حي من النخع ، وأنشدوا على ذلك قول سحيم بن وئيل الرباحي :

أقول لهم بالشعب إذ يأسروننى

ألم تيأسوا أنى ابن فارس زهدم

وقول رباح بن عدى :

ألم ييأس الأقوام أنى أنا ابنه

وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا

والظاهر أن استعمال اليأس في ذلك حقيقة.

وقيل مجاز لأنه متضمن للعلم فان الآيس عن الشيء عالم بأنه لا يكون ...

والفاء للعطف على مقدر. أى : أغفلوا عن كون الأمر جميعه لله ـ تعالى ـ فلم يعلموا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ... (١).

ثم حذر ـ سبحانه ـ الكافرين من التمادي في كفرهم ، وبشر المؤمنين بحسن العاقبة فقال ـ تعالى ـ : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ).

والقارعة : من القرع ، وهو ضرب الشيء بشيء آخر بقوة وجمعها قوارع.

والمراد بها : الرزية والمصيبة والكارثة.

أى : ولا يزال الذين كفروا من أهل مكة وغيرهم تصيبهم بسبب ما صنعوه من الكفر والضلال «قارعة» أى مصيبة تفجؤهم وتزعجهم أو تحل تلك المصيبة في مكان قريب من دارهم ، فيتطاير شرها إليهم ، حتى يأتى وعد الله بهلاكهم وهزيمتهم ونصر المؤمنين عليهم ، إن الله ـ تعالى ـ لا يخلف الميعاد ، أى : موعوده لرسله ولعباده المؤمنين.

وأبهم ـ سبحانه ـ ما يصيب الكافرين من قوارع ، لتهويله وبيان شدته.

والتعبير بقوله (وَلا يَزالُ) يشير إلى أن ما أصابهم من قوارع كان موجودا قبل نزول هذه الآية ، واستمرت إصابته لهم بعد نزولها ، لأن الفعل (لا يَزالُ) يدل على الإخبار باستمرار شيء واقع.

ولعل هذه الآية الكريمة كان نزولها في خلال سنى الجدب التي حلت بقريش والتي أشار

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٣ ص ١٤١.

٤٨٣

إليها القرآن بقوله : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ* يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ ...) (١).

وعبر ـ سبحانه ـ عما أصابهم من بلاء بالقارعة ، للمبالغة في شدته وقوته. حتى إنه ليقرع قلوبهم فجأة فيبهتهم ويزعجهم ، ولذلك سميت القيامة بالقارعة ، لأنها تقرع القلوب بأهوالها.

وقال ـ سبحانه ـ : (أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) لبيان أنهم بين أمرين أحلاهما مرّ لأن القارعة إما أن تصيبهم بما يكرهونه ويتألمون له ، وإما أن تنزل قريبا منهم فتفزعهم ، وتقلق أمنهم ، وهم مستمرون على ذلك حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا.

ولقد قضى الله ـ تعالى ـ أمره ، بهزيمتهم في بدر وفي غيرها. وأتم نصره على المؤمنين بفتح مكة. وبدخول الناس في دين الله أفواجا.

ثم أخذت السورة الكريمة بعد ذلك في تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي إقامة الأدلة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وعلى بطلان الشرك ، وفي بيان ما أعده للكافرين من عقاب ، وما أعده للمتقين من ثواب فقال تعالى :

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٣٤)

__________________

(١) سورة الدخان الآية ١٠ ، ١١.

٤٨٤

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ)(٣٥)

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ ...) تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من حزن بسبب تعنت المشركين معه. ومطالبتهم له بالمطالب السخيفة التي لا صلة لها بدعوته ، كطلبهم منه تسيير الجبال وتقطيع الأرض ، وتكليم الموتى.

والاستهزاء : المبالغة في السخرية والتهكم من المستهزأ به. والإملاء : الإمهال والترك لمدة من الزمان.

والتنكير في قوله (بِرُسُلٍ) للتكثير ، فقد استهزأ قوم نوح به ، وكانوا كلما مروا عليه وهو يصنع السفينة سخروا منه.

واستهزأ قوم شعيب به وقالوا له : (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (١).

واستهزأ قوم هود به وقالوا له : (إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ .....) (٢) واستهزأ فرعون بموسى فقال : (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ) (٣).

والمعنى : ولقد استهزأ الطغاة والجاحدون برسل كثيرين من قبلك ـ أيها الرسول الكريم ـ (فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أى : فأمهلتهم وتركتهم مدة من الزمان في أمن ودعة.

(ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) أخذ عزيز مقتدر (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) فانظر كيف كان عقابي إياهم ، لقد كان عقابا رادعا دمرهم تدميرا.

فالاستفهام للتعجيب مما حل بهم ، والتهويل من شدته وفظاعته وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) (٤).

قال ابن كثير : وفي الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «وإن الله ليملى للظالم حتى

__________________

(١) سورة الشعراء الآية ١٨٧.

(٢) سورة الأعراف الآية ٦٦.

(٣) سورة الزخرف الآية ٥٢.

(٤) سورة الحج الآية ٤٨.

٤٨٥

إذا أخذه لم يفلته ، ثم قرأ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (١).

ثم أقام ـ سبحانه ـ الأدلة الساطعة على وحدانيته وعلى وجوب إخلاص العبادة له ـ تعالى ـ فقال : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ...).

والمراد بالقيام هنا : الحفظ والهيمنة على جميع شئون الخلق والاستفهام للإنكار ، والخبر محذوف والتقدير : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ) أى : رقيب ومهيمن (عَلى كُلِّ نَفْسٍ) كائنة ما كانت ، عالم بما تعمله من خير أو شر فمجازيها به كمن ليس كذلك؟

وحذف الخبر هنا وهو قولنا ـ كمن ليس كذلك ـ لدلالة السياق عليه ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) أى : كمن قسا قلبه.

وحسن حذف الخبر هنا لأنه مقابل للمبتدأ الذي هو من ولأن قوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) يدل عليه.

والمقصود من الآية الكريمة إنكار المماثلة بين الخالق العظيم ، العليم بأحوال النفوس ... وبين تلك الأصنام التي أشركوها مع الله ـ تعالى ـ في العبادة والتي هي لا تسمع ولا تبصر ، ولا تملك لنفسها ـ فضلا عن غيرها ـ نفعا ولا ضرا.

وجملة (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) حالية ، والتقدير :

أفمن هذه صفاته ، وهو الله ـ تعالى ـ كمن ليس كذلك ، والحال أن هؤلاء الأغبياء قد جعلوا له شركاء في العبادة وغيرها.

فالمقصود من هذه الجملة الكريمة ، زيادة توبيخهم ، وتسفيه أفكارهم وعقولهم.

وقوله ـ سبحانه ـ (قُلْ سَمُّوهُمْ) تبكيت لهم إثر تبكيت.

أى : قل لهم ـ أيها الرسول الكريم ـ سموهم شركاء إن شئتم ، فإن هذه التسمية لا وجود لها في الحقيقة والواقع ، ولا تخرجهم عن كونهم لا يملكون لأنفسهم ـ فضلا عن غيرهم ـ نفعا ولا ضرا ، لأن الله ـ تعالى ـ واحد لا شريك له.

وهذه التسمية إنما هي من عند أنفسكم ما أنزل الله بها من سلطان ، كما قال تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) (٢).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٣٨٣.

(٢) سورة النجم الآية ٢٣.

٤٨٦

فالأمر في قوله (سَمُّوهُمْ) مستعمل في الإباحة المصحوبة بالتهديد ، للإشارة إلى عدم الاكتراث بهم وبآلهتهم التي سموها شركاء. وهذا كما يقول العاقل للأحمق الذي لا يحسن الكلام : قل ما شئت فإن كلامك لا وزن له ، ولا خير فيه.

قال الإمام الرازي عند تفسيره لهذه الآية : «واعلم أنه ـ تعالى ـ لما قرر هذه الحجة ـ وهي أن القائم على كل نفس ليس كمن لا يملك شيئا ـ زاد في الحجاج فقال : (قُلْ سَمُّوهُمْ) وإنما يقال ذلك في الأمر المستحقر الذي بلغ في الحقارة إلى أن لا يذكر ولا يوضع له اسم فعند ذلك يقال : سمه إن شئت.

يعنى : إنه أخس من أن يسمى ويذكر ، ولكنك إن شئت أن تضع له اسما فافعل.

فكأنه ـ تعالى ـ قال : سموهم بالآلهة ، والمعنى : سواء أسميتموهم بهذا الاسم أم لم تسموهم به ، فإنها في الحقارة بحيث لا تستحق أن يلتفت العاقل إليها» (١) ...

والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ ، أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) للإنكار والتوبيخ.

أى : قل أيها الرسول لهؤلاء الذين جعلوا لله شركاء وسموهم بهذا الاسم : قل لهم على سبيل الإنكار والتوبيخ : أتخبرون الله بشركاء لا وجود لهم في الأرض ، لأنهم لو كان لهم وجود لعلمهم ، لأنه ـ سبحانه ـ لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

أم أنكم سميتموهم شركاء بظاهر من القول أى : بظن من القول لا حقيقة له في الواقع ونفس الأمر.

قال الآلوسى ما ملخصه : وقوله (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ) أى : بل أتخبرون الله ـ تعالى ـ (بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ) أى بشركاء مستحقين للعبادة لا يعلمهم ـ سبحانه ـ والمراد : نفيها بنفي لازمها على طريق الكناية ، لأنه ـ سبحانه ـ إذا كان لا يعلمها ـ وهو الذي لا يعزب عن علمه شيء ـ فهي لا حقيقة لها أصلا.

وتخصيص الأرض بالذكر ، لأن المشركين زعموا أنه ـ سبحانه ـ له شركاء فيها.

وقوله (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) أى : بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير معنى متحقق في نفس الأمر ، كتسمية الزنجي كافورا.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٩ ص ٥٦.

٤٨٧

وروى عن الضحاك وقتادة ، أن الظاهر من القول : الباطل منه ، كما في قول القائل :

أعيرتنا ألبانها ولحومها

وذلك عار يا ابن ربطة ظاهر

أى : باطل زائد ... (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) إضراب عن حجاجهم ، وإهمال لشأنهم ، و «زين» من التزيين وهو تصيير الشيء زينا أى : حسنا.

والمكر : صرف الغير عما يريده بحيلة. والمراد به هنا : كفرهم ومسالكهم الخبيثة ضد الإسلام والمسلمين.

والمعنى : دع عنك أيها الرسول الكريم ـ مجادلتهم ، لأنه لا فائدة من ورائها ، فإن هؤلاء الكافرين قد زين لهم الشيطان ورؤساؤهم في الفكر مكرهم وكيدهم للإسلام وأتباعه ، وصدوهم عن السبيل الحق ، وعن الصراط المستقيم ، ومن يضلله الله ـ تعالى ـ بأن يخلق فيه الضلال لسوء استعداده ، فما له من هاد يهديه ويرشده إلى ما فيه نجاته.

هذا ، وقد اشتملت هذه الآية على ألوان من الحجج الساطعة التي تثبت وجوب إخلاص العبادة لله ، وتبطل الشركة والشركاء أشار إليها بعض المفسرين فقال :

قال الطيبي : في هذه الآية الكريمة احتجاج بليغ مبنى على فنون من علم البيان :

أولها : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) كمن ليس كذلك ، احتجاج عليهم وتوبيخ لهم على القياس الفاسد لفقد الجهة الجامعة لهما.

ثانيها : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) من وضع المظهر موضع المضمر ، للتنبيه على أنهم جعلوا شركاء لمن هو فرد واحد لا يشاركه أحد في أسمائه.

ثالثها : (قُلْ سَمُّوهُمْ) أى عينوا أسماءهم فقولوا فلان وفلان ، فهو إنكار لوجودها على وجه برهاني ...

رابعها : (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ) احتجاج من باب نفى الشيء أعنى العلم بنفي لازمه وهو المعلوم وهو كناية.

خامسها : (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) احتجاج من باب الاستدراج لبعثهم على التفكر.

أى : أتقولون بأفواهكم من غير روية ، وأنتم ألباء ، فتفكروا فيه لتقفوا على بطلانه.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٣ ص ١٠٤.

٤٨٨

سادسها : التدرج في كل من الإضرابات على ألطف وجه ، وحيث كانت الآية مشتملة على هذه الأساليب البديعة مع اختصارها ، كان الاحتجاج المذكور مناديا على نفسه بالإعجاز وأنه ليس كلام البشر» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ سوء مصير هؤلاء الكافرين فقال : (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أى : لهم عذاب شديد في الحياة الدنيا ، ينزله الله ـ تعالى ـ بهم تارة عن طريق القوارع والمصائب التي يرسلها عليهم ، وتارة عن طريق الهزائم التي يوقعها بهم المؤمنون ، هذا في الدنيا (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ) من عذاب الدنيا لشدته ودوامه (وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ) ـ تعالى ـ ومن عذاب الآخرة (مِنْ واقٍ) أى : من حائل يحول بينهم وبين عذابه ـ سبحانه ـ.

ثم أعقب ذلك ببيان حسن عاقبة المؤمنين فقال : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها ....).

والمراد بالمثل هنا : الصفة العجيبة. أى : صفة الجنة التي وعد الله إياها من اتقاه وصان نفسه عن كل ما لا يرضيه ، أنها تجرى من تحت أشجارها ومساكنها الأنهار ، وأنها أكلها دائم ، أى : ما يؤكل فيها لا انقطاع لأنواعه «وظلها» كذلك دائم.

قال بعضهم : وجملة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) خبر عن «مثل» باعتبار أنها من أحوال المضاف إليه ، فهي من أحوال المضاف لشدة الملابسة بين المتضايفين ، كما يقال : صفة زيد أسمر. وجملة «أكلها دائم» خبر ثان (٢).

واسم الإشارة في قوله : «تلك عقبى الذين اتقوا» يعود على الجنة التي أعدها الله ـ تعالى ـ للمتقين.

أى : تلك الجنة المنعوتة بما ذكر هي مآل المتقين الذين استقاموا على الطريق الحق ، وهي منتهى أمرهم.

أما مآل الكافرين ومنتهى أمرهم فهي النار ، وبئس القرار.

هذا ، وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ، جملة من الأحاديث في صفة الجنة فقال : وفي الصحيحين من حديث ابن عباس في صلاة الكسوف ، وفيه : قالوا يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا ، ثم رأيناك تكعكعت ـ أى توقفت وأحجمت؟ فقال :

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥٠٧.

(٢) تفسير التحرير والتنوير ج ١٣ ص ١٥٥ الشيخ محمد الطاهر بن عاشور.

٤٨٩

«إنى رأيت الجنة ـ أو أريت الجنة ـ فتناولت منها عنقودا ، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا».

وروى الطبراني عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الرجل إذا نزع ثمرة من الجنة عادت مكانها أخرى». (١)

وبذلك ترى الآيات الكريمة قد ساقت من التوجيهات ما فيه التسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من قومه ، وما فيه أوضح الدلائل والبراهين وأبلغها عن وحدانية الله ـ تعالى ـ ووجوب إفراده بالعبادة ، وما فيه البشارة للمؤمنين ، والتهديد للكافرين.

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة ، ببيان موقف أهل الكتاب من القرآن الكريم ، وبأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعلن منهجه بصراحة وثبات ، دون التفات إلى أهواء معارضيه ، وبالرد على الشبهات التي أثارها أعداؤه حوله وحول دعوته ، وبتهديد هؤلاء الأعداء وبسوء العاقبة إذا ما استمروا في طغيانهم فقال ـ تعالى ـ :

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٣٨٦.

٤٩٠

الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ)(٤٣)

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) ثناء منه ـ سبحانه ـ على الذين عرفوا الحق من أهل الكتاب فاتبعوه.

والمراد بالكتاب هنا : التوراة والإنجيل.

والمعنى : والذين أعطيناهم التوراة والإنجيل ، فآمنوا بما فيهما من بشارات تتعلق بك ـ أيها الرسول الكريم ـ ، ثم آمنوا بك عند إرسالك رحمة للعالمين.

هؤلاء الذين تلك صفاتهم ، يفرحون بما أنزل إليك من قرآن ، لأن ما فيه من هدايات وبراهين على صدقك ، يزيدهم إيمانا على إيمانهم ، ويقينا على يقينهم.

وقيل : المراد بالكتاب القرآن الكريم ، وبالموصول أتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المسلمين.

فيكون المعنى : والذين آتيناهم الكتاب ـ وهو القرآن ـ فآمنوا بك وصدقوك يفرحون بكل ما ينزل عليك منه ، لأنه يزيدهم هداية على هدايتهم.

ويبدو لنا أن الرأى الأول أرجح ، لأن الآية الكريمة سيقت بعد الحديث عن عاقبة الذين اتقوا وهم المؤمنون الصادقون ، وعاقبة الكافرين. ولأن فرح المؤمنين بنزول القرآن أمر مسلم به فلا يحتاج إلى الحديث عنه.

ومن المفسرين الذين اقتصروا في تفسيرهم للآية على الرأى الأول الإمام ابن كثير فقد قال : يقول الله ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) وهم قائمون بمقتضاه (يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أى : من القرآن ، لما في كتبهم من الشواهد على صدقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والبشارة

٤٩١

به ، كما قال تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ، وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١).

وقوله : (وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) بيان لمن بقي على كفره من أهل الكتاب وغيرهم. والأحزاب : جمع حزب ويطلق على مجموعة من الناس اجتمعوا من أجل غاية معينة أى : ومن أحزاب الكفر والضلال من ينكر بعض ما أنزل إليك لأنه يخالف أهواءهم وأطماعهم وشهواتهم ... ولم يذكر القرآن هذا البعض الذي ينكرونه ، إهمالا لشأنهم ، ولأنه لا يتعلق بذكره غرض.

وقوله ـ سبحانه ـ : (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ ، إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ) أمر منه ـ تعالى ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يصدع بما يأمره دون تردد أو وجل.

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لكل من خالفك فيما تدعو إليه «إنما أمرت أن أعبد الله» وحده «ولا أشرك به» بوجه من الوجوه إليه وحده «أدعو» الناس لكي يخلصوا له العبادة والطاعة «وإليه مآب» أى وإليه وحده إيابى ومرجعي لا إلى أحد غيره.

فالآية تضمنت المدح لمن عرف الحق ففرح بوجوده. والذم لمن أنكره جحودا وعنادا ، والأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالسير في طريقه بدون خشية من أحد.

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك بعض الفضائل التي امتاز بها القرآن الكريم فقال ـ تعالى ـ : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا ...).

والكاف للتشبيه ، واسم الإشارة يعود إلى الإنزال المأخوذ من (أَنْزَلْناهُ) وضمير الغائب في أنزلناه يعود الى (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) في قوله في الآية السابقة (يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ...)

وقوله (حُكْماً عَرَبِيًّا) حالان من ضمير الغائب.

والمعنى : ومثل ذلك الإنزال البديع الجامع لألوان الهداية والإعجاز ، أنزلنا عليك القرآن يا محمد (حُكْماً) أى : حاكما بين الناس (عَرَبِيًّا) أى : بلسان عربي مبين هو لسانك ولسان قومك.

ومنهم من يرى أن اسم الإشارة يعود إلى الكتب السماوية السابقة ، فيكون المعنى : وكما أنزلنا الكتب السماوية على بعض رسلنا بلغاتهم وبلغات أقوامهم أنزلنا عليك القرآن حاكما بين الناس بلغتك وبلغة قومك ، وهي اللغة العربية ليسهل عليهم فهمه وحفظه.

وعلى كلا القولين فأنت ترى أن هذه الجملة الكريمة قد اشتملت على فضيلتين للقرآن

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٣٧٧.

٤٩٢

الكريم : فضيلة من جهة معانيه ومقاصده وهداياته وحكمه وأحكامه وتشريعاته ، وهو المعبر عنها بكونه «حكما».

وفضيلة من جهة ألفاظه ومفرداته وتراكيبه ، وهي المعبر عنها بكونه «عربيا».

أى : نزل بلغة العرب التي هي أفصح اللغات وأغناها وأجملها.

ثم في كونه «عربيا» امتنان على العرب المخاطبين به ابتداء ، حيث إنه نزل بلغتهم ، فكان من الواجب عليهم أن يقابلوه بالفرح والتسليم لأوامره ونواهيه ، فهو الكتاب الذي فيه شرفهم وعزهم ، قال ـ تعالى ـ : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) أى : فيه بقاء شرفكم (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١).

وقال ـ تعالى ـ : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) (٢).

وفي ذلك تعريض بغباء مشركي العرب ، حيث لم يشكروا الله ـ تعالى ـ على هذه النعمة ، بل قابلوا من أنزل عليه هذا القرآن بالعناد والعصيان.

ثم ساق ـ سبحانه ـ تحذيرا للأمة كلها في شخص نبيها صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اتباع أهواء كل كافر أو فاسق : فقال ـ تعالى ـ : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ، ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ).

واللام في قوله (وَلَئِنِ) موطئة للقسم لتأكيد ما تضمنته من عقاب شديد لمتبع أهواء الكافرين.

والأهواء : جمع هوى ، والمراد بها آراؤهم المنحرفة عن الحق ، ومطالبهم المتعنتة ، والمراد بما جاءه من العلم : ما بلغه وعلمه من الدين عن طريق الوحى الصادق.

والولي : الناصر والمعين والقريب والحليف. والواقي : المدافع عن غيره.

والمعنى : «ولئن اتبعت» ـ يا محمد ـ على سبيل الفرض والتقدير أهواء هؤلاء الكافرين فيما يطلبونه منك ، «من بعد ما جاءك من العلم» اليقيني بأن الإسلام هو الدين الحق ، «مالك من الله» أى من عقباه «من ولى» يلي أمرك وينصرك «ولا واق» يقيك من حسابه. وسيق هذا التحذير في صورة الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم للتأكيد من مضمونه.

فكأنه ـ سبحانه يقول : لو اتبع أهواءهم ـ على سبيل الفرض ـ أكرم الناس عندي لعاقبته ، وأحق بهذا العقاب من كان دونه في الفضل والمنزلة ، وشبيه بهذه الآية قوله

__________________

(١) سورة الأنبياء الآية ١٠.

(٢) سورة الزخرف الآية ٤٤.

٤٩٣

ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن اعتراض المشركين على بشرية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس إلا من قبيل التعنت والجحود ، لأن الرسل جميعا كانوا من البشر ، فقال ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً ...).

أى : «ولقد أرسلنا رسلا» كثيرين «من قبلك» يا محمد «وجعلنا لهم» أى لهؤلاء الرسل «أزواجا» يسكنون إليهن «وذرية» أى : وأولادا تقرّ بهم أعينهم.

قال الشوكانى : «وفي هذا رد على من كان ينكر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوجه بالنساء.

أى : هذا شأن رسل الله المرسلين قبل هذا الرسول فما بالكم تنكرون عليه ما كانوا عليه» (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ...) رد على ما طلبوه منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من معجزات.

أى : وما صح وما استقام لرسول من الرسل أن يأتى لمن أرسل إليهم بمعجزة كائنة ما كانت إلا بإذن الله وإرادته المبنية على الحكم والمصالح التي عليها يدور أمر الكائنات.

وقوله ـ سبحانه ـ (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) تهديد للمشركين الذين كانوا يتعجلون حصول المقترحات التي طلبوها منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أى : لكل وقت من الأوقات «كتاب» أى : حكم معين يكتب على الناس حسبما تقتضيه مشيئته ـ سبحانه ـ.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك مظهرا من مظاهر شمول قدرته ، وسعة علمه ، وعظيم حكمته فقال : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ).

وقوله : (يَمْحُوا) من المحو وهو إذهاب أثر الشيء بعد وجوده.

وقوله : (وَيُثْبِتُ) من الإثبات وهو جعل الشيء ثابتا قارا في مكان ما.

وأم الكتاب : أصل الكتاب والمراد بأم الكتاب : اللوح المحفوظ ، أو علمه ـ سبحانه ـ المحيط بكل شيء.

قال الفخر الرازي : «والعرب تسمى كل ما يجرى مجرى الأصل للشيء أمّا له ومنه أمّ

__________________

(١) سورة الزمر الآية ٦٥.

(٢) تفسير الشوكانى ج ٣ ص ٨٨.

٤٩٤

الرأس للدماغ ، وأم القرى لمكة ، وكل مدينة فهي أم لما حولها من القرى فكذلك أم الكتاب هو الذي يكون أصلا لجميع الكتب» (١).

والمعنى : يمحو الله ـ تعالى ـ ما يشاء محوه ، ويثبت ما يريد إثباته من الخير أو الشر ومن السعادة أو الشقاوة ، ومن الصحة أو المرض ، ومن الغنى أو الفقر ، ومن غير ذلك مما يتعلق بأحوال خلقه.

وعنده ـ سبحانه ـ الأصل الجامع لكل ما يتعلق بأحوال هذا الكون.

قال ـ تعالى ـ : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ...) (٢).

وقال ـ تعالى ـ : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٣).

وللمفسرين في معنى هذه الآية كلام طويل ، لخصه الإمام الشوكانى تلخيصا حسنا فقال :

قوله ـ سبحانه ـ : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) أى يمحو من ذلك الكتاب ويثبت ما يشاء منه ، وظاهر النظم القرآنى العموم في كل شيء مما في الكتاب ، فيمحو ما يشاء محوه من شقاوة أو سعادة أو رزق أو عمر ... ويبدل هذا بهذا ، ويجعل هذا مكان هذا. لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس وقتادة وغيرهم.

وقيل الآية خاصة بالسعادة والشقاوة. وقيل يمحو ما يشاء من ديوان الحفظة ، وهو ما ليس فيه ثواب ولا عقاب ، ويثبت ما فيه الثواب والعقاب.

وقيل «يمحو ما يشاء من الشرائع فينسخه ، ويثبت ما لا يشاء فلا ينسخه ... والأول أولى كما تفيده «ما» في قوله «ما يشاء» من العموم مع تقدم ذكر الكتاب في قوله «لكل أجل كتاب» ومع قوله «وعنده أم الكتاب» أى أصله وهو اللوح المحفوظ.

فالمراد من الآية أنه يمحو ما يشاء مما في اللوح المحفوظ فيكون كالعدم ، ويثبت ما يشاء مما فيه فيجري فيه قضاؤه وقدره على حسب ما تقتضيه مشيئته.

وهذا لا ينافي ما ثبت عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قوله «جفّ القلم» ، وذلك لأن المحو والإثبات هو من جملة ما قضاه ـ سبحانه ـ.

وقيل : إن أم الكتاب هو علم الله ـ تعالى ـ : بما خلق وبما هو خالق (٤).

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٩ ص ٦٦.

(٢) سورة الحديد الآية ٢٢.

(٣) سورة الحج الآية ٧٠.

(٤) تفسير الشوكانى ج ٣ ص ٨٨.

٤٩٥

وقوله ـ سبحانه ـ (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ، فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) حض له صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المضي في دعوته بدون تسويف أو تأجيل.

و «ما» في قوله «وإما نرينك» مزيدة لتأكيد معنى الشرط ، والأصل : وإن نرك ، والإراءة هنا بصرية ، والكاف مفعول أول ، وبعض الذي نعدهم : مفعول ثان ، وجواب الشرط ، محذوف.

والمعنى : وإما نرينك ـ يا محمد ـ بعض الذي توعدنا به أعداءك من العذاب الدنيوي ، فذاك شفاء لصدرك وصدور أتباعك.

وقوله «أو نتوفينك» شرط آخر لعطفه على الشرط السابق ، وجوابه ـ أيضا ـ محذوف والتقدير : أو نتوفينك قبل ذلك فلا تهتم ، واترك الأمر لنا.

وقوله : (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) تعليل لهذا الجواب المحذوف ، أى : سواء أرأيت عذابهم أم لم تره ، فإنما عليك فقط تبليغ ما أمرناك بتبليغه للناس.

(وَعَلَيْنَا) وحدنا (الْحِسابُ) أى : محاسبتهم ومجازاتهم على أعمالهم السيئة.

وقوله ـ سبحانه ـ : (بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) للإشارة إلى أن ما يصيبهم من عذاب دنيوى هو بعض العذاب المعد لهم ، أما البعض الآخر وهو عذاب الآخرة فهو أشد وأبقى.

ولقد صدق الله ـ تعالى ـ وعده لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأراه قبل أن يفارق هذه الدنيا ، جانبا من العذاب الذي أنزله بأعدائه ، فسلط على مشركي مكة الجدب والقحط الذي جعلهم يأكلون العظام والميتة والجلود.

كما سلط عليهم المؤمنين فهزموهم في غزوة بدر وفي غزوة الفتح وفي غيرهما. ثم وبخ ـ سبحانه ـ المشركين لعدم تفكرهم وتدبرهم واتعاظهم بآثار من قبلهم ، فقال ـ تعالى ـ : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها ...).

والهمزة للاستفهام الإنكارى ، والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام.

والخطاب لمشركي مكة ومن كان على شاكلتهم في الكفر والضلال.

والمراد بالأرض هنا : أرض الكفرة والظالمين.

والأطراف جمع طرف وهو جانب الشيء.

والمعنى : أعمى هؤلاء الكافرون عن التفكير والاعتبار ، ولم يروا كيف أن قدرة الله القاهرة ، قد أتت على الأمم القوية الغنية ـ حين كفرت بنعمه ـ سبحانه ـ ، فصيرت قوتها ضعفا وغناها فقرا ، وعزها ذلا ، وأمنها خوفا ... وحصرتها في رقعة ضيقة من الأرض ، بعد أن

٤٩٦

كانت تملك الأراضي الفسيحة ، والأماكن المترامية الأطراف.

فالآية الكريمة بشارة للمؤمنين ، وإنذار للكافرين.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) (١).

قال الآلوسى ما ملخصه : «وروى عن ابن عباس أن المراد بانتقاص الأرض : موت أشرافها وكبرائها وذهاب العلماء منها. وعليه يكون المراد بالأرض جنسها وبالأطراف الأشراف والعلماء ، وشاهده قول الفرزدق :

واسأل بنا وبكم ، إذا وردت منى

أطراف كل قبيلة ، من يتبع؟

يريد أشراف كل قبيلة.

وتقرير الآية عليه : أو لم يروا أنا نحدث في الدنيا من الاختلافات خرابا بعد عمارة ، وموتا بعد حياة ، وذلا بعد عز ... فما الذي يؤمنهم أن يقلب الله ـ تعالى ـ الأمر عليهم فيجعلهم أذلة بعد أن كانوا أعزة ...

ثم قال : وهو كما ترى :

والأول ـ وهو أن يكون المراد بالأرض : أرض الكفر ، وبالأطراف الجوانب ـ أوفق بالمقام ، ولا يخفى ما في التعبير بالإتيان المؤذن بعظيم الاستيلاء من الفخامة ، وجملة «ننقصها» في موضع الحال من فاعل نأتى ...» (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) بيان لعلو شأن حكمه ـ تعالى ـ ونفاذ أمره.

والمعقب : هو الذي يتعقب فعل غيره أو قوله فيبطله أو يصححه.

أى : والله ـ تعالى ـ يحكم ما يشاء أن يحكم به في خلقه ، لا راد لحكمه ، ولا دافع لقضائه ، ولا يتعقب أحد ما حكم به بتغيير أو تبديل ، وقد حكم ـ سبحانه ـ بعزة الإسلام ، وعلو شأنه وشأن أتباعه على سائر الأمم والأديان ...

وقوله (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أى : وهو ـ سبحانه ـ سريع المحاسبة والمجازاة ، لأنه لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه غيره من الإحصاء والعد ، إذ هو ـ سبحانه ـ محيط بكل شيء ، فلا تستبطئ. عقابهم ـ أيها الرسول الكريم ـ فإن ما وعدناك به واقع لا محالة.

__________________

(١) سورة الأنبياء الآية ٤٤.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٣ ص ١٥٥.

٤٩٧

ثم زاد ـ سبحانه ـ في تسلية رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي تثبيت فؤاده فقال : (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً ...).

والمكر : صرف الغير عما يريده بحيلة ، أو إيصال المكروه للممكور به خفية ، والمراد بمكر الذين من قبلهم : إضمارهم السوء لرسلهم.

والمراد بمكر الله ـ تعالى ـ هنا : علمه ـ سبحانه ـ بما بيتوه ، وإحباطه لمكرهم ، وإنجاؤه لرسله ـ عليهم الصلاة والسلام ـ.

أى : وقد مكر الكفار الذين سبقوا قومك ـ يا محمد ـ برسلهم وحاولوا إيقاع المكروه بهم ، ولكن ربك ـ سبحانه ـ نصر رسله لأنه ـ عزوجل ـ له المكر جميعا ، ولا اعتداد بمكر غيره لأنه معلوم له.

وقال الجمل ما ملخصه : «وقوله (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) تعليل لمحذوف تقديره فلا عبرة بمكرهم ، ولا تأثير له ، فحذف هذا اكتفاء بدلالة القصر المستفاد من تعليله بقوله (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) أى : لا تأثير لمكرهم أصلا لأنه معلوم لله ـ تعالى ـ وتحت قدرته ...

وأثبت لهم المكر باعتبار الكسب ، ونفاه عنهم باعتبار الخلق. (١) وجملة «يعلم ما تكسب كل نفس» بمنزلة التعليل لجملة «فلله المكر جميعا».

أى : هو ـ سبحانه ـ له المكر جميعا ، لأنه لا تخفى عليه خافية من أحوال كل نفس ، وسيجازيها بما تستحقه من خير أو شر.

وقوله : (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) تهديد للكافرين بالحق الذي جاءهم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أى : وسيعلم الكافرون عند ما ينزل بهم العذاب ، لمن تكون العاقبة الحميدة أهي لهم ـ كما يزعمون ـ أم للمؤمنين؟ لا شك أنها للمؤمنين.

فالجملة الكريمة تحذير للكافرين من التمادي في كفرهم ، وتبشير للمؤمنين بأن العاقبة لهم.

وفي قراءة سبعية «وسيعلم الكافر». فيكون المراد به جنس الكافر.

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بالشهادة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه صادق في رسالته فقال : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً).

أى : لست مرسلا من عند الله ـ تعالى ـ ، وقد حكى ـ سبحانه ـ قولهم الباطل هذا

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٥١٢.

٤٩٨

بصيغة الفعل المضارع ، للإشارة إلى تكرار هذا القول منهم ، ولاستحضار أحوالهم العجيبة الدالة على إصرارهم على العناد والجحود.

وقوله (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) أمر من الله ـ تعالى ـ لرسوله بأن يرد عليهم بما يخرس ألسنتهم.

والباء الداخلة على اسم الجلالة الذي هو فاعل (كَفى) في المعنى ، مزيدة للتأكيد ، وقوله (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) معطوف على اسم الجلالة ، والمراد بالموصول وبالكتاب الجنس.

والمعنى : قل لهم ـ أيها الرسول الكريم ـ تكفى شهادة الله بيني وبينكم ، فهو يعلم صدق دعوتي ، ويعلم كذبكم ، ويعلم ذلك ـ أيضا ـ كل من كان على علم بالكتب السماوية السابقة فإنها قد بشرت برسالتي ، وجاءت أوصافى فيها ...

وممن شهد لي بالنبوة ورقة بن نوفل ، فأنتم تعلمون أنه قال لي عند ما أخبرته بما حدث لي في غار حراء : «هذا هو الناموس ـ أى الوحى ـ الذي أنزله الله على موسى» ...

وقيل المراد بمن عنده علم الكتاب : المسلمون. وبالكتاب : القرآن ، والأول أرجح لشموله لكل من كان عنده علم بالكتب السماوية السابقة ، إذ هذا الشمول أكثر دلالة على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يبلغه عن ربه.

وبعد : فهذه هي سورة الرعد. وهذا تفسير وسيط لآياتها ...

نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ونافعا لعباده.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

المدينة المنورة : ٢٣ من المحرم سنة ١٤٠٢ ه‍

الموافق ١٩ من نوفمبر سنة ١٩٨١ م

الدكتور محمد سيد طنطاوى

٤٩٩
٥٠٠