التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0657-4
الصفحات: ٦٠٢

وهذا شأن الدعاة العقلاء ، يلتزمون في دعوتهم إلى الله الحكمة والموعظة الحسنة ، بدون إحراج أو تنفير.

ولما كان تركه لملة هؤلاء القوم ، يقتضى دخوله في ملة قوم آخرين ، تراه يصرح بالملة التي اتبعها فيقول : (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي) الكرام المؤمنين بوحدانية الله وبالآخرة وما فيها من حساب وجزاء.

(إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ). وسماهم آباء جميعا ، لأن الأجداد آباء ، وقدم الجد الأعلى ثم الجد الأقرب ثم الأب ، لكون ابراهيم هو أصل تلك الملة التي اتبعها ، ثم تلقاها عنه إسحاق ، ثم تلقاها عن إسحاق يعقوب ـ عليهم‌السلام ـ.

وفي هذه الجملة الكريمة ، بيان منه ـ عليه‌السلام ـ لرفيقيه في السجن ، بأنه من سلسلة كريمة ، كلها أنبياء ، فحصل له بذلك الشرف الذي ليس بعده شرف ، وقوله (ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) تنزه عن الشرك بأبلغ وجه.

أى : ما صح وما استقام لنا أن نشرك بالله ـ تعالى ـ أى شيء من الإشراك ، فنحن أهل بيت النبوة الذين عصمهم الله ـ تعالى ـ عن ذلك.

و «من» في قوله «من شيء» لتأكيد النفي وتعميمه. أى : ما كان لنا أهل هذا البيت الكريم أن نشرك بالله شيئا من الإشراك ، قليلا ذلك الشيء أو حقيرا.

وقوله (ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ ...) اعتراف منه ـ عليه‌السلام ـ برعاية الله ـ تعالى ـ له ولآبائه.

واسم الإشارة. يعود إلى الإيمان بالله ـ تعالى ـ المدلول عليه بنفي الشرك.

أى : ذلك الإخلاص لله ـ تعالى ـ في العبادة ، كائن من فضله ـ سبحانه ـ علينا معاشر هذا البيت ، وعلى غيرنا من الناس ، الذين هداهم إلى الإيمان الحق.

وقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) إنصاف للقلة الشاكرة لله ـ تعالى ـ.

أى : ولكن أكثر الناس لا يشكرون الله ـ تعالى ـ على نعمه الجزيلة وآلائه التي لا تحصى.

وبعد أن عرف يوسف صاحبيه في السجن بنفسه وبملته وبآبائه. شرع يقيم لهم الأدلة على صحة عقيدته ، وعلى فساد عقيدتهما فقال ـ كما حكى القرآن عنه : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ).

أى : يا صاحبي ورفيقي في السجن أخبرانى بربكما ، أعبادة عدد من الأرباب المتفرقة في

٣٦١

ذواتها وصفاتها «خير» لكما «أم» عبادة الله ـ تعالى ـ «الواحد» في ذاته وصفاته «القهار» لكل من غالبه أو نازعه؟

وكرر نداءهما بالصحبة ليتحبب إليهما بهذه الصفة التي فيها إيناس للقلوب ، وليسترعى انتباههما إلى ما يقوله لهما.

قال صاحب المنار ما ملخصه : «وقوله : أأرباب متفرقون خير ...» هذا استفهام تقرير بعد تخيير ، ومقدمة لأظهر برهان على التوحيد ، وكان المصريون المخاطبون به ، يعبدون كغيرهم من الأمم أربابا متفرقين في ذواتهم وفي صفاتهم وفي الأعمال التي يسندونها إليهم بزعمهم ، فهو يقول لصاحبيه أأرباب متفرقون ، أى عديدون هذا شأنهم في التفرق والانقسام «خير» لكما ولغيركما «أم الله الواحد القهار ..» (١).

ولا شك أن الجواب الذي لا يختلف فيه عاقلان ، أن عبادة الله ـ تعالى ـ الواحد القهار ، هي العبادة الصحيحة التي توافق الفطرة السليمة والعقول القويمة.

ثم انتقل يوسف ـ عليه‌السلام ـ إلى تفنيد العقائد الباطلة والأوهام الكاذبة فقال : «ما تعبدون من دونه» أى من دون الله ـ تعالى ـ المستحق للعبادة.

(إِلَّا أَسْماءً) أى ألفاظا فارغة لا قيمة لها.

(سَمَّيْتُمُوها) آلهة بزعمكم «أنتم وآباؤكم» أما هي فليس لها من هذا الاسم المزعوم ظل من الحقيقة ، لأنها مخلوقة وليست خالقة ، ومرزوقة وليست رازقة ، وزائلة وليست باقية ، وما كان كذلك لا يستحق أن يكون إلها.

ومفعول (سَمَّيْتُمُوها) الثاني محذوف. والتقدير سميتموها آلهة.

وقوله «وآباؤكم» لقطع عذرهم ، حتى لا يقولوا : إنا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ، فكأنه ـ تعالى ـ يقول لهم : إن آباءكم كانوا أشد منكم جهلا وضلالا ، فلا يصح لكم أن تقتدوا بهم.

والمراد بالسلطان في قوله ـ تعالى ـ (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) الحجة والبرهان.

أى : ما أنزل الله ـ تعالى ـ بتسميتها أربابا ـ كما سميتموها بزعمكم ـ من برهان أو دليل يشعر بتسميتها بذلك ، وإنما أنتم الذين خلعتم عليها هذه الأسماء.

وقوله : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) إبطال لجميع التصرفات المزعومة لآلهتهم ..

__________________

(١) تفسير المنار ج ١٧ ص ٣٠٧.

٣٦٢

أى : ما الحكم في شأن العقائد والعبادات والمعاملات وفي صحتها أو عدم صحتها إلا لله ـ تعالى ـ وحده ، لأنه الخالق لكل شيء ، والعليم بكل شيء.

وقوله (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) انتقال من الأدلة الدالة على وحدانيته ـ سبحانه ـ إلى الأمر بإخلاص العبادة له وحده.

أى : أمر ـ سبحانه ـ عباده أن لا يجعلوا عبادتهم إلا له وحده ، لأنه هو خالقهم ورازقهم ، وهو يحييهم ويميتهم.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

أى : ذلك الذي أمرناكم به من وجوب إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ وحده ، هو الدين القيم.

أى : الحق المستقيم الثابت ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك حق العلم ، لاستيلاء الشهوات والمطامع على نفوسهم.

وبعد أن عرف يوسف صاحبيه في السجن بنفسه ، وأقام لهما الأدلة على أن عبادة الله ـ تعالى ـ وحده هي الدين الحق ودعاهما إلى الدخول فيه ..

بعد كل ذلك شرع في تفسير رؤياهما ليزيدهما ثقة في قوله ، فقال : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما) وهو ساقى الملك ، فيخرج من السجن بريئا ويسقى «ربه» أى : سيده الملك «خمرا».

(وَأَمَّا الْآخَرُ) وهو خباز الملك وصاحب طعامه «فيصلب» أى : فيقتل ثم يصلب «فتأكل الطير من رأسه» بعد موته.

ولم يعين يوسف ـ عليه‌السلام ـ من هو الذي يسقى ربه خمرا ، ومن هو الذي يصلب ، وإنما اكتفى بقوله «أما أحدكما ... وأما الآخر» تلطفا معهما ، وتحرجا من مواجهة صاحب المصير السيئ بمصيره ، وإن كان في تعبيره ما يشير الى مصير كل منهما بطريق غير مباشر.

ثم أكد لهما الأمر واثقا من صدق العلم الذي علمه الله إياه ، فقال : (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ).

والاستفتاء : مصدر استفتى إذا طلب الفتوى من غيره في أمر خفى عليه فهمه أى : تم التفسير الصحيح لرؤييكما اللتين سألتمانى عن تأويلهما.

٣٦٣

ثم ختم يوسف ـ عليه‌السلام ـ حديثه مع صاحبيه في السجن ، بأن أوصى الذي ينجو منهما بوصية حكاها القرآن في قوله : (وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا ، اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ، فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ، فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ).

أى : «وقال» يوسف ـ عليه‌السلام ـ للفتى الذي اعتقد أنه سينجو منهما وهو ساقى الملك ، أيها الساقي بعد أن تخرج من السجن وتعود إلى عملك عند سيدك الملك ، اذكر حقيقة حالي عنده ، وأنى سجين مظلوم.

ولكن الساقي بعد أن عاد إلى عمله عند الملك ، لم ينفذ الوصية ، لأن الشيطان أنساه ما قاله له يوسف ، فكانت النتيجة أن لبث يوسف ـ عليه‌السلام ـ في السجن مظلوما بضع سنين.

والبضع ـ بالكسر ـ من ثلاث إلى تسع ، وهو مأخوذ من البضع ـ بالفتح ـ بمعنى القطع والشق. يقال : بضعت الشيء أى : قطعته.

وقد اختلفوا في المدة التي قضاها يوسف في السجن على أقوال من أشهرها أنه لبث فيه سبع سنين.

وعلى هذا التفسير يكون الضمير في «فأنساه» يعود إلى ساقى الملك ، ويكون المراد بربه أى : سيده ملك مصر.

وهناك من يرى أن الضمير في قوله «فأنساه» يعود إلى يوسف ـ عليه‌السلام ـ وأن المراد بالرب هنا : الخالق ـ عزوجل ـ ، وعليه يكون المعنى.

وقال يوسف ـ عليه‌السلام ـ للفتى الذي اعتقد نجاته وهو ساقى الملك : اذكر مظلمتي عند سيدك الملك عند ما تعود إليه. واذكر له إحسانى لتفسير الرؤى ...

وقوله (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) أى : فأنسى الشيطان يوسف أن يذكر حاجته لله وحده ، ولا يذكرها للساقى ليبلغها إلى الملك.

فكانت النتيجة أن لبث يوسف في السجن بضع سنين بسبب هذا الاعتماد على المخلوق.

والذي يبدو لنا أن التفسير الأول أقرب إلى الصواب ، لأنه هو الظاهر من معنى الآية الكريمة ، ولأن قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ...) يدل دلالة واضحة على أن الضمير في قوله «فأنساه» يعود إلى ساقى الملك ، وأن المراد بربه أى سيده.

وقد علق الإمام الرازي على هذه الآية تعليقا يشعر بترجيحه للرأى الثاني فقال ما

٣٦٤

ملخصه : «واعلم أن الاستعانة بالناس في دفع الظلم جائزة في الشريعة ، إلا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين ، فهذا وإن كان جائزا لعامة الخلق ، إلا أن الأولى بالصديقين أن يقطعوا نظرهم عن الأسباب بالكلية ، وألا يشتغلوا إلا بمسبب الأسباب ..

ثم قال : والذي جربته من أول عمرى إلى آخره أن الإنسان كلما عول في أمر من الأمور على غير الله ، صار ذلك سببا إلى البلاء وإلى المحنة ... وإذا عول العبد على الله ولم يرجع إلى أحد من الخلق حصل ذلك المطلوب على أحسن الوجوه ، فهذه التجربة قد استمرت لي من أول عمرى إلى هذا الوقت الذي بلغت فيه السابعة والخمسين من عمرى.

ثم قال : واعلم أن الحق هو قول من قال إن الضمير في قوله : «فأنساه الشيطان ذكر ربه» راجع إلى يوسف .. والمعنى : أن الشيطان أنسى يوسف أن يذكر ربه وخالقه ..» (١).

ونحن مع احترامنا لرأى الفخر الرازي ، إلا أننا ما زلنا نرى أن عودة الضمير في قوله «فأنساه» إلى الساقي الذي ظن يوسف أنه هو الناجي من العقوبة ، أولى لما سبق أن ذكرناه.

قال ابن كثير : وقوله (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ...)

أى : «قال يوسف اذكر قصتي عند ربك وهو الملك ، فنسي ذلك الموصى أن يذكر مولاه بذلك ، وكان نسيانه من جملة مكايد الشيطان .. هذا هو الصواب أن الضمير في قوله : «فأنساه» .. عائد على الناجي كما قال مجاهد ومحمد بن إسحاق وغير واحد ...» (٢).

وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد قصت علينا بأسلوبها المشوق الحكيم جانبا من حياة يوسف ـ عليه‌السلام ـ في السجن فماذا كان بعد ذلك؟

لقد كان بعد ذلك أن أراد الله ـ تعالى ـ فتح باب الفرج ليوسف ـ عليه‌السلام ـ ، وكان من أسباب ذلك أن رأى الملك في منامه رؤيا أفزعته ، ولم يستطع أحد تأويلها تأويلا صحيحا سوى يوسف ـ عليه‌السلام ـ استمع إلى القرآن وهو يقص ذلك فيقول :

(وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ

__________________

(١) تفسير الرازي ج ١٨ ص ١٤٤.

(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٣١٦ طبعة دار الشعب وراجع تفسير المنار ج ٢ ، ص ٣١٣.

٣٦٥

يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ)(٤٩)

فقوله ـ سبحانه ـ : (وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ) شروع في حكاية الرؤيا التي رآها ملك مصر في ذلك الوقت ...

قال ابن كثير : «هذه الرؤيا من ملك مصر ، مما قدر الله ـ تعالى ـ أنها كانت سببا لخروج يوسف ـ عليه‌السلام ـ من السجن معززا مكرما ، وذلك أن الملك رأى هذه الرؤيا ، فهالته وتعجب من أمرها ، وما يكون تفسيرها فجمع الكهنة وكبراء دولته وأمراءها ، وقص عليهم ما رأى ، وسألهم عن تأويلها ، فلم يعرفوا ذلك ...» (١).

وقوله «عجاف» جمع عجفاء والعجف ـ بفتح العين والجيم ـ ذهاب السمن ، يقال : هذا رجل أعجف وامرأة عجفاء ، إذا ظهر ضعفهما وهزالهما ..

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢١٧.

٣٦٦

أى : وقال ملك مصر في ذلك الوقت لكبار رجال مملكته : إنى رأيت فيما يرى النائم «سبع بقرات» قد امتلأن شحما ولحما (يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ) أى : يأكل هذه البقرات السبع السمان ، سبع بقرات أخرى عجاف أى : مهازيل ضعاف.

ورأيت ـ أيضا ـ فيما يرى النائم «سبع سنبلات خضر» قد امتلأت حبا ، ورأيت إلى جانبها سبع سنبلات «أخر يابسات» قد ذهبت نضارتها وخضرتها ، ومع هذا فقد التوت اليابسات على الخضر حتى غلبتها.

(يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) أى : الأشراف والعلماء من قومي «أفتونى في رؤياي» أى : فسروا لي رؤياي هذه وبينوا لي ما تدل عليه.

(إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) أى : إن كنتم تعرفون تفسيرها وتأويلها معرفة سليمة ، وتعلمون تعبيرها علما مستمرا.

و «تعبرون» من العبر ، وهو اجتياز الطريق أو النهر من جهة إلى أخرى وسمى المفسر للرؤيا عابرا ، لأنه يتأمل فيها وينتقل من كل طرف فيها إلى الطرف الآخر ، كما ينتقل عابر النهر أو الطريق من جهة إلى أخرى.

قال بعض العلماء : والتعريف في «الملك» للعهد ، أى ملك مصر ، وسماه القرآن هنا ملكا ولم يسمه فرعون ، لأن هذا الملك لم يكن من الفراعنة ملوك مصر المصريين ، وإنما كان ملكا لمصر أيام أن حكمها «الهكسوس» وهم العمالقة الذين ملكوا مصر من ١٩٠٠ قبل الميلاد إلى سنة ١٥٢٥ ق. م.

فالتعبير عنه بالملك هنا ، دون التعبير عنه بفرعون مع أنه عبر عن ملك مصر في زمن موسى بفرعون ، يعتبر من دقائق إعجاز القرآن العلمي .. (١).

وقال «إنى أرى» بصيغة المضارع مع أنه قد رأى بالفعل ، استحضارا لصورة الرؤيا حتى لكأنها ماثلة أمامه.

وقال «وأخر يابسات» بدون إعادة لفظ سبع كما في البقرات ، للاكتفاء بدلالة المقابل في البقرات عليه.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : هل في الآية دليل على أن السنبلات اليابسة كانت سبعا كالخضر؟

__________________

(١) تفسير التحرير والتنوير ج ١٢ ص ٢٨٠ للشيخ محمد الطاهر بن عاشور.

٣٦٧

قلت : الكلام مبنى على انصبابه إلى هذا العدد في البقرات السمان والعجاف والسنابل الخضر ، فوجب أن يتناول معنى الأخر السبع ، ويكون قوله «وأخر يابسات» بمعنى : وسبعا أخر يابسات» (١).

وفي نداء الملك لقومه قوله (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي ...) تشريف لهم ، وحض على استعمال عقولهم وعلومهم في تفسير هذه الرؤيا التي أزعجته.

واللام في قوله «للرؤيا» لتقوية الفعل «تعبرون» حيث تأخر عن معموله.

ويبدو أن القوم في ذلك الزمان ، كان بعضهم يشتغل بتفسير الرؤى ، وكان لهذا التفسير مكانته الهامة فيهم ...

فقد مرت بنا رؤيا يوسف ، ورؤيا رفيقيه في السجن ، ثم جاءت رؤيا الملك هنا ، وهذا يشعر بأن انفراد يوسف ـ عليه‌السلام ـ بتأويل رؤيا الملك ، في زمن كثر فيه البارعون في تأويل الرؤى ، كان بمثابة معجزة أو ما يشبه المعجزة من الله ـ تعالى ـ ليوسف ـ عليه‌السلام ـ حتى تزداد مكانته عند الملك وحاشيته.

وقوله ـ سبحانه ـ (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) حكاية لما رد به الكهان والأشراف على ما طلبه الملك منهم.

والأضغاث : جمع ضغث ـ بكسر الضاد ـ وهو ما جمع في حزمة واحدة من مختلف النيات وأعواد الشجر ، فصار خليطا غير متجانس.

والأحلام : جمع حلم وحلم ـ بإسكان اللام وضمها تبعا للحاء ـ وهو ما يراه النائم في منامه ، وتطلق كثيرا على ما ليس بحسن ، ففي الحديث الصحيح : «الرؤيا من الله والحلم من الشيطان» (٢).

أى : قال الملأ للملك : ما رأيته أيها الملك في نومك ما هو إلا تخاليط أحلام ومنامات باطلة ، فلا تهتم بها.

فهم قد شبهوا ما رآه بالأضغاث في اختلاطها ، وعدم التجانس بين أطرافها.

ثم أضافوا إلى ذلك قولهم : «وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين».

أى : إننا لسنا من أهل العلم بتفسير تخاليط الأحلام ، وإنما نحن من أهل العلم بتفسير المنامات المعقولة المفهومة.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٢٣.

(٢) صحيح البخاري ـ كتاب التعبير ج ٩ ص ١٧.

٣٦٨

وقولهم هذا إنما هو اعتذار عن جهلهم ، بمعرفة تفسير رؤيا الملك ، ويبدو أن الملك كان يتوقع منهم هذا الجهل ، كما يشعر به قوله ـ تعالى ـ (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) فقد أتى بإن المفيدة للشك.

قال صاحب الكشاف : «فإن قلت : ما هو إلا حلم واحد فلما ذا قالوا أضغاث أحلام فجمعوا!؟.

قلت : هو كما تقول فلان يركب الخيل ، ويلبس عمائم الخز ، لمن لا يركب إلا فرسا واحدا وماله إلا عمامة فردة ، تزيدا في الوصف ، فهؤلاء أيضا تزيدوا في وصف الحلم بالبطلان فجعلوه أضغاث أحلام ويجوز أن يكون قد قص عليهم مع هذه الرؤيا سواها» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما حدث بعد أن عجز الملأ من قوم الملك عن تأويل رؤياه فقال : (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما) أى : وقال أحد الرجلين اللذين كانا مع يوسف في السجن ثم خرج منه بريئا وهو ساقى الملك.

(وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) : وتذكر بعد حين طويل من الزمان كيف فسر له يوسف رؤياه تفسيرا صادقا أيام أن كان معه في السجن.

وأصل «ادكر» اذتكر بوزن افتعل ، مأخوذ من الذكر ـ بتشديد الذال وضمها ـ قلبت تاء الافتعال دالا لثقلها ولتقارب مخرجيهما ، ثم قلبت الذال دالا ليتأتى إدغامها في الدال ، لأنها أخف من الذال.

والأمة : الجماعة التي تؤم وتقصد لأمر ما ، والمراد بها هنا : المدة المتطاولة من الزمان وكان هذا الساقي قد نسى ما أوصاه به يوسف من قوله «اذكرني عند ربك» فلما قال الملك ما قاله بشأن رؤياه ، تذكر هذا الساقي حال يوسف.

قالوا : وكان ذلك بعد سنتين من خروجه من السجن.

وقوله (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) أى : قال الساقي للملك وحاشيته : أنا أخبركم بتأويله : بتفسير رؤيا الملك التي خفى تفسيرها على الملأ من قومه. فأرسلون ، أى : فابعثونى إلى من عنده العلم الصحيح الصادق بتفسيرها.

ولم يذكر لهم اسم المرسل إليه ، وهو يوسف ـ عليه‌السلام ـ لأنه أراد أن يفاجئهم بخبره بعد حصول تأويله للرؤيا ، فيكون ذلك أوقع في قلوبهم ، وأسمى لشأن يوسف ـ عليه‌السلام ـ.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٢٤.

٣٦٩

وقال (فَأَرْسِلُونِ) ليشعرهم أن هذا التأويل ليس من عند نفسه ، وإنما هو من عند من يرسلونه إليه وهو يوسف ـ عليه‌السلام.

وقوله (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا ...) من بديع الإيجاز بالحذف في القرآن الكريم ، لأن المحذوف لا يتعلق بذكره غرض.

والتقدير : قال لهم أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون إلى من عنده العلم بذلك ، فأرسلوه فجاء إلى يوسف في السجن فقال له : يا يوسف يا أيها الصديق.

والصديق : هو الإنسان الذي صار الصدق دأبه وشيمته في كل أحواله ، ووصفه بذلك لأنه جرب منه الصدق التام أيام أن كان معه في السجن.

وقوله «أفتنا» أى فسر لنا تلك الرؤيا التي رآها الملك ، والتي عجز الناس عن تفسيرها ، وهي أن الملك رأى في منامه «سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف ، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات».

وقوله «لعلى أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون» تعليل لطلب الفتوى ، وبيان لأهمّيّتها بالنسبة له وليوسف ـ عليه‌السلام.

أى : فسر لنا هذه الرؤيا «لعلى أرجع إلى الناس» وهم الملك وأهل الحل والعقد في مملكته ، «لعلهم يعلمون» تأويلها ، فينتفعون به ، وترتفع منزلتك عندهم.

وهنا تجد يوسف ـ عليه‌السلام ـ لا يكتفى بتأويل الرؤيا تأويلا مجردا بل يؤولها تأويلا صادقا صحيحا ، ومعه النصح والإرشاد إلى ما يجب عمله في مثل هذه الأحوال ، فقال : ـ كما حكى القرآن عنه ـ : (قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً ...).

وتزرعون هاهنا : خبر في معنى الأمر ، بدليل قوله بعد ذلك «فذروه» ...

وعبر عن الأمر بالمضارع مبالغة في التعبير عن استجابتهم لنصيحته ، فكأنهم قد امتثلوا أمره ، وهو يخبر عن هذا الامتثال.

و (دَأَباً) مصدر دأب على الشيء إذا استمر عليه ولازمه يقال : دأب فلان على فعل هذا الشيء يدأب دأبا ودأبا إذا داوم عليه ، وهو حال من ضمير «تزرعون» أى قال يوسف للساقى : فارجع إلى قومك فقل لهم إن يوسف يأمركم أن تزرعوا أرضكم سبع سنين زراعة مستمرة على حسب عادتكم.

(فَما حَصَدْتُمْ) من زرعكم في كل سنة ، فذروه في سنبله ، أى : فاتركوا الحب في سنبله ولا تخرجوه منها حتى لا يتعرض للتلف بسبب السوس أو ما يشبهه : إلا قليلا مما تأكلون ،

٣٧٠

أى : اتركوا الحب في سنبله فلا تخرجوه منها ، إلا شيئا قليلا منه فأخرجوه من السنابل لحاجتكم إليه في مأكلكم.

وفي هذه الجملة إرشاد لهم إلى أن من الواجب عليهم أن يقتصدوا في مأكولاتهم إلى أقصى حد ممكن لأن المصلحة تقتضي ذلك.

قال القرطبي : هذه الآية أصل في القول بالمصالح الشرعية التي هي حفظ الأديان والنفوس والعقول والأنساب والأموال ، فكل ما تضمن تحصيل شيء من هذه الأمور فهو مصلحة ، وكل ما يفوت شيئا منها فهو مفسدة ودفعه مصلحة ولا خلاف ، فإن مقصود الشرائع إرشاد الناس إلى مصالحهم الدنيوية ليحصل لهم التمكن من معرفة الله ـ تعالى ـ وعبادته الموصلتين إلى السعادة الأخروية ، ومراعاة ذلك فضل من الله ـ عزوجل ـ ورحمة رحم بها عباده ...» (١).

وقوله (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أى : من بعد تلك السنين السبع المذكورات التي تزرعونها على عادتكم المستمرة في الزراعة.

(سَبْعٌ شِدادٌ) أى : سبع سنين صعاب على الناس ، لما فيهن من الجدب والقحط ، يأكلن ما قدمتم لهن ، أى : يأكل أهل تلك السنين الشداد ، كل ما ادخروه في السنوات السبع المتقدمة من حبوب في سنابلها.

وأسند الأكل إلى السنين على سبيل المجاز العقلي ، من إسناد الشيء إلى زمانه.

وقوله (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ) أى : أن تلك السنين المجدبة ستأكلون فيها ما ادخرتموه في السنوات السابقة ، إلا شيئا قليلا منه يبقى محرزا ، لتنتفعوا به في زراعتكم لأرضكم.

فقوله (تُحْصِنُونَ) من الإحصان بمعنى الإحراز والادخار ، يقال أحصن فلان الشيء ، إذا جعله في الحصن ، وهو الموضع الحصين الذي لا يوصل إليه إلا بصعوبة.

وحاصل تفسير يوسف ـ عليه‌السلام ـ لتلك الرؤيا : أنه فسر البقرات السمان والسنبلات الخضر ، بالسنين السبع المخصبة. وفسر البقرات العجاف والسنبلات اليابسات بالسنين السبع المجدبة التي تأتى في أعقاب السنين المخصبة وفسر ابتلاع البقرات العجاف للبقرات السمان ، بأكلهم ما جمع في السنين المخصبة ، في السنين المجدبة.

ولقد كان هذا التأويل لرؤيا الملك تأويلا صحيحا صادقا من يوسف ـ عليه‌السلام ـ بسببه أنقذ الله ـ تعالى ـ مصر من مجاعة سبع سنين.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٩ ص ٢٠٣.

٣٧١

وقوله (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) تبشير لهم بأن الخير سيأتيهم ، بعد تلك السنوات الشداد ، فقد جرت سنة الله ـ تعالى ـ أن يعقب العسر باليسر.

ولفظ (يُغاثُ) من الغوث بمعنى إزالة الهم والكرب عن طريق الأمطار التي يسوقها الله ـ تعالى ـ لهم بعد تلك السنوات الشداد التي قل فيها المطر.

يقال : غاث الله ـ تعالى ـ البلاد غيثا ، إذا ساق لها المطر بعد أن يئسوا من نزوله ، ويعصرون من العصر وهو الضغط على ما من شأنه أن يعصر ، لإخراج ما فيه من مائع سواء كان هذا المائع زيتا أم ماء أم غيرهما.

أى : ثم يأتى من بعد تلك السنين السبع الشداد ، عام فيه تزول الهموم والكروب ونقص الأموال عن الناس ، بسبب إرسال الله ـ تعالى ـ المطر عليهم ، فتخضر الأرض وتنبت من كل زوج بهيج ، وفيه يعصرون من ثمار مزروعاتهم ما من شأنه أن يعصر كالزيتون وما يشبهه.

وهذا كناية عن بدء حلول الرخاء بهم ، بعد تلك السنوات الشداد ، وما قاله يوسف ـ عليه‌السلام ـ عن هذا العام الذي يأتى في أعقاب السنوات السبع الشداد ، لا مقابل له في رؤيا الملك ، بل هو خارج عنها ، وذلك لزيادة التبشير للملك والناس ، ولإفهامهم أن هذا العلم إنما بوحي من الله ـ تعالى ـ الذي يجب أن يخلص له الجميع العبادة والطاعة.

وإلى هنا نرى أن يوسف ـ عليه‌السلام ـ قد فسر رؤيا الملك تفسيرا سليما حكيما ، من نتائجه الخير للملك وقومه ...

فماذا فعل الملك مع يوسف ـ عليه‌السلام ـ بعد ذلك؟

لقد قص علينا القرآن الكريم ما طلبه الملك من حاشيته وما رد به يوسف ـ عليه‌السلام ـ على رسول الملك ، وما قالته النسوة وامرأة العزيز في شأن يوسف وما طلبه ـ عليه‌السلام ـ من الملك ، استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى كل ذلك بأسلوبه الخاص فيقول :

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ

٣٧٢

ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ)(٥٧)

فقوله ـ سبحانه ـ (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ...) حكاية لما طلبه الملك في ذلك الوقت من معاونيه في شأن يوسف ـ عليه‌السلام ـ ، وفي الكلام حذف يفهم من المقام ، والتقدير :

وقال الملك بعد أن سمع من ساقيه ما قاله يوسف في تفسير الرؤيا أحضروا لي يوسف هذا لأراه وأسمع منه ، وأستفيد من علمه.

وهذا يدل ـ كما يقول الإمام الرازي ـ على فضيلة العلم ، فإنه ـ سبحانه ـ جعل ما علمه ليوسف سببا لخلاصه من المحنة الدنيوية ، فكيف لا يكون العلم سببا للخلاص من المحن الأخروية؟ (١).

وقوله ـ سبحانه ـ (فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٨ ص ١٥١.

٣٧٣

قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ، إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) بيان لما قاله يوسف ـ عليه‌السلام ـ لرسول الملك ...

أى : فلما جاء رسول الملك إلى يوسف ليخبره بأن الملك يريد لقاءه ، قال له يوسف بأناة وإباء : ارجع إلى ربك ، أى إلى سيدك الملك «فاسأله» قبل خروجي من السجن وذهابي إليه «ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن» أى : ما حالهن ، وما حقيقة أمرهن معى ، لأن الكشف عن حقيقة أمرهن معى يهمني أن يكون واضحا في الأذهان والعقول ، حتى يعرف الجميع أننى برئ ، وأننى نقى العرض طاهر الذيل.

والمراد بالسؤال في قوله «ارجع إلى ربك فاسأله» الحث والتحريض على معرفة حقيقة أمر النسوة اللائي قطعن أيديهن ...

ولم يكشف له يوسف عن حقيقة أمرهن معه لزيادة تهييجه على البحث والتقصي إذ من شأن الإنسان ـ خصوصا إذا كان ـ حاكما ـ أن يأنف من أن يسأل عن شيء مهم ، ثم لا يهتم بالإجابة عنه.

وقد آثر يوسف ـ عليه‌السلام ـ أن يكون هذا السؤال وهو في السجن لتظهر الحقيقة خالصة ناصعة ، دون تدخل منه في شأنها.

وجعل السؤال عن النسوة اللائي قطعن أيديهن دون امرأة العزيز ، وفاء لحق زوجها ، واحترازا من مكرها ، ولأنهن كن شواهد على إقرارها بأنها قد راودته عن نفسه ، فقد قالت أمامهن بكل تبجح وتكشف (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ).

واكتفى بالسؤال عن تقطيع أيديهن ، دون التعرض لكيدهن له ، سترا لهن ، وتنزها منه ـ عليه‌السلام ـ عن ذكرهن بما يسوؤهن.

ولذا فقد اكتفى بالإشارة الإجمالية إلى كيدهن ، وفوض أمرهن إلى الله ـ تعالى ـ فقال : (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ).

أى إن ربي وحده هو العليم بمكرهن بي ، وكيدهن لي ، وهو ـ سبحانه ـ هو الذي يتولى حسابهن على ذلك.

ولا شك في أن امتناع يوسف ـ عليه‌السلام ـ عن الذهاب إلى الملك إلا بعد التحقيق في قضيته ، يدل دلالة واضحة على صبره ، وسمو نفسه ، وعلو همته ...

ولقد أجاد صاحب الكشاف في تعليله لامتناع يوسف عن الخروج من السجن للقاء الملك إلا بعد أن تثبت براءته فقال :

٣٧٤

«إنما تأنى وتثبت يوسف في إجابة الملك ، وقدم سؤال النسوة ، ليظهر براءة ساحته عما قذف به وسجن فيه ، لئلا يتسلق به الحاسدون إلى تقبيح أمره عنده. ويجعلوه سلما إلى حط منزلته لديه ، ولئلا يقولوا : ما خلد في السجن إلا لأمر عظيم ، وجرم كبير ، حق به أن يسجن ويعذب ، ويستكف شره.

وفيه دليل على أن الاجتهاد في نفى التهم ، واجب وجوب اتقاء الوقوف في مواقفها» (١).

وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية بعض الأحاديث في فضل يوسف ـ عليه‌السلام ـ فقال ما ملخصه :

وقد وردت السنة بمدحه على ذلك ـ أى على امتناعه من الخروج من السجن حتى يتحقق الملك ورعيته من براءة ساحته ونزاهة عرضه ـ ففي الصحيحين عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نحن أحق بالشك من إبراهيم ، إذ قال : رب أرنى كيف تحيى الموتى؟ قال : أو لم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ، ويرحم الله لوطا ، لقد كان يأوى إلى ركن شديد ، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي».

وروى الإمام أحمد عن أبى هريرة في قوله ـ تعالى ـ (فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ...) أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو كنت أنا لأسرعت الإجابة ، وما ابتغيت العذر».

وروى عبد الرزاق عن عكرمة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه ؛ والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ، ولو كنت مكانه ما أجبتهم حتى أشترط أن يخرجونى.

ولقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له ، حين أتاه الرسول ، ولو كنت مكانه لبادرتهم إلى الباب ، ولكنه أراد أن يكون له العذر» (٢).

هذا ، وقوله ـ سبحانه ـ (قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) حكاية لما فعله الملك بعد أن بلغه الرسول بما طلبه يوسف منه.

وفي الكلام حذف يفهم من السياق ، والتقدير : وبعد أن رجع رسول الملك إليه وأخبره بما قاله يوسف ، استجاب الملك لما طلبه يوسف منه ، فأخضر النسوة وقال لهن : ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٢٥.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣١٧ ، وما ورد في هذه الأحاديث إنما هو من باب التواضع من سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلا فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقوى الرسل عزما ، وأرفعهم مقاما ، وأشدهم صبرا.

٣٧٥

والخطب : مصدر خطب يخطب ، ويطلق ـ غالبا ـ على الأمر المهم الذي يجعل الناس يتحدثون فيه كثيرا ، وجمعه خطوب.

والمعنى : بعد أن جمع الملك النسوة قال لهن : ما الأمر الهام الذي حملكن في الماضي على أن تراودن يوسف عن نفسه؟ وهل وجدتن فيه ميلا إلى الاستجابة لكنّ ..؟

قال صاحب الظلال ما ملخصه : «والخطب الأمر الجلل ... فكأن الملك كان قد استقصى فعلم أمرهن قبل أن يواجههن ، وهو المعتاد في مثل هذه الأحوال ، ليكون الملك على بينة من الأمر وظروفه قبل الخوض فيه ، فهو يواجههن مقررا الاتهام ، ومشيرا إلى أمر لهن جلل ..

ومن هذا نعلم شيئا بما دار في حفل الاستقبال في بيت الوزير ، وما قالته النسوة ليوسف ، وما لمحن به وأشرن إليه ، من الإغراء الذي بلغ حد المراودة.

ومن هذا نتخيل صورة لهذه الأوساط ونسائها حتى في ذلك العهد الموغل في التاريخ ، فالجاهلية هي الجاهلية دائما ، وأنه حيثما كان الترف ، وكانت القصور والحاشية ، كان التحلل والتميع والفجور الناعم الذي يرتدى ثياب الأرستقراطية» (١).

وأمام هذه المواجهة التي واجههن بها الملك ، لم يملكن الإنكار ، بل قلن بلسان واحد : (حاشَ لِلَّهِ) أى : معاذ الله.

(ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) قط ، وإنما الذي علمناه منه هو الاستعصام عن كل سوء.

وهنا (قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ) ويبدو أنها كانت حاضرة ، معهن عند الملك.

(الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ) أى : الآن ظهر الحق وانكشف انكشافا تاما بعد أن كان خافيا والفعل حصحص أصله حص ، كما قيل ، كبكب في كب ، وهو مأخوذ من الحص بمعنى الاستئصال والإزالة ، تقول : فلان حص شعره إذا استأصله وأزاله فظهر ما كان خافيا من تحته ...

ثم أضافت إلى ذلك قولها «أنا راودته عن نفسه» أى : أنا التي طلبت منه ما طلبت «وإنه لمن الصادقين» في قوله «هي راودتني عن نفسي».

وهكذا يشاء الله ـ تعالى ـ أن تثبت براءة يوسف على رءوس الأشهاد ، بتلك الطريقة التي يراها الملك ، وتنطق بها امرأة العزيز ، والنسوة اللائي قطعن أيديهن.

قال صاحب الكشاف : «ولا مزيد على شهادتهن له بالبراءة والنزاهة ، واعترافهن على

__________________

(١) في ظلال القرآن ج ١٢ ص ١٩٥٥.

٣٧٦

أنفسهن بأنه لم يتعلق بشيء مما قذفنه به لأنهن خصومه ، وإذا اعترف الخصم بأن صاحبه على الحق وهو على الباطل لم يبق لأحد مقال» (١) ـ إذ الفضل ما شهدت به الأعداء ـ.

ثم واصلت امرأة العزيز حديثها فقالت : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ).

أى : ذلك الذي قلته واعترفت به على نفسي من أنى راودته عن نفسه ، إنما قلته ليعلم يوسف أنى لم أخنه في غيبته ، ولم أقل فيه شيئا يسوؤه بعد أن فارقنى ، ولبث بعيدا عنى في السجن بضع سنين ، وإنما أنا أقرر أمام الملك وحاشيته بأنه من الصادقين ...

وإنما قررت ذلك لأن الله ـ تعالى ـ لا يهدى كيد الخائنين ، أى : لا ينفذ كيدهم ولا يسدده ، بل يفضحه ويزهقه ولو بعد حين من الزمان.

لذا فأنا التزمت الأمانة في الحديث عنه ، وابتعدت عن الخيانة ، لأن الله ـ تعالى ـ لا يرضاها ولا يقبلها.

فأنت ترى أن هذه المرأة التي شهدت على نفسها شهادة لا تبالي بما يترتب عليها بشأنها ، قد عللت شهادتها هذه بعلتين :

إحداهما : كراهتها أن تخونه في غيبته بعد أن فقد الدفاع عن نفسه وهو في السجن ..

وثانيتهما : علمها بأن الله ـ تعالى ـ لا يهدى كيد الخائنين ولا يسدده ، وإنما يبطله ويزهقه ..

ثم أضافت إلى كل ذلك قولها : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ، إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي ، إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ).

أى : ومع أنى أعترف بأنه من الصادقين ، وأعترف بأنى لم أخنه بالغيب ، إلا أنى مع كل ذلك لا أبرئ نفسي ولا أنزهها عن الميل إلى الهوى ، وعن محاولة وصفه بما هو برىء منه ، فأنا التي قلت لزوجي في حالة دهشتى وانفعالى الشديد ، (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وما حملني على هذا القول إلا هواى وشهواتى ، ونفسي ؛ إن النفس البشرية لكثيرة الأمر لصاحبها بالسوء إلا نفسا رحمها الله وعصمها من الزلل والانحراف ، كنفس يوسف ـ عليه‌السلام ـ وجملة (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) تعليل لما قبلها ، أى : إن ربي كثير الغفران وكثير الرحمة ، لمن يشاء أن يغفر له ويرحمه من عباده.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٢٦.

٣٧٧

والذي يتأمل هذا الكلام الذي حكاه القرآن عن امرأة العزيز ، يراه زاخرا بالصراحة التي ليس بعدها صراحة ، وبالمشاعر والانفعالات الدالة على احترامها ليوسف الذي خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ، رغم الإغراءات المصحوبة بالترغيب والترهيب ، ويبدو لنا ـ والله أعلم ـ أن هذا الكلام ما قالته امرأة العزيز ، إلا بعد أن استقرت عقيدة الإيمان التي آمن بها يوسف في قلبها ، وبعد أن رأت فيه إنسانا يختلف في استعصامه بالله وفي سمو نفسه ، عن غيره من الناس الذين رأتهم.

هذا ، ويرى كثير من المفسرين أن كلام امرأة العزيز قد انتهى عند قوله ـ تعالى ـ (وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) وأن قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ...) إلى قوله ـ تعالى ـ (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) هو من كلام يوسف ـ عليه‌السلام ـ ، فيكون المعنى :

وذلك ليعلم «أى العزيز» أنى لم أخنه ، في أهله (بِالْغَيْبِ) أى في غيبته (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) من النساء والرجال ، بل يبطل هذا الكيد ويفضحه.

(وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) أى : ولا أنزهها عن السوء ، وهذا من باب التواضع منه ـ عليه‌السلام ـ (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) أى : إن هذا الجنس من الأنفس البشرية ، شأنه الأمر بالسوء والميل إلى الشهوات.

(إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) من النفوس فعصمها عن أن تكون أمارة بالسوء.

(إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن شاء أن يغفر له ويرحمه من خلقه.

والذي نراه أن الرأى الأول الذي سرنا عليه هو الجدير بالقبول ، لأنه هو المناسب لسياق الآيات من غير تكلف ، ولأنه لا يؤدى إلى تفكك الكلام وانقطاع بعضه عن بعض ، بخلاف الرأى الثاني الذي يرى أصحابه أن كلام امرأة العزيز قد انتهى عند قوله ـ تعالى ـ «وإنه لمن الصادقين» فإنه يؤدى إلى تفكك الكلام ، وعدم ارتباط بعضه ببعض ، فضلا عن أن وقائع التاريخ لا تؤيده ، لأن يوسف ـ عليه‌السلام ـ كان في السجن عند ما أحضر الملك النسوة وقال لهن : «ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه ...». وعند ما قالت امرأة العزيز أمام الملك وأمامهن : «الآن حصحص الحق ..» إلى قوله ـ تعالى ـ (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ).

ومن المفسرين الذين أيدوا الرأى الأول الإمام ابن كثير فقد قال ما ملخصه : «ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب ...» تقول : إنما اعترفت بهذا على نفسي ، بأنى راودت هذا الشاب

٣٧٨

فامتنع ، (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي ...) تقول المرأة : ولست أبرئ نفسي ، فإن النفس تتحدث وتتمنى ، ولهذا راودته لأنها أمارة بالسوء.

(إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) أى : من عصمه الله ـ تعالى ـ ...

ثم قال : «وهذا القول هو الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام. لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك ، ولم يكن يوسف ـ عليه‌السلام ـ عندهم ، بل بعد ذلك أحضره الملك» (١).

وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد حدثتنا عن القسم الأول من حياة يوسف ـ عليه‌السلام ـ القسم الذي تعرض خلاله لألوان من المحن والآلام ، بعضها من إخوته ، وبعضها من امرأة العزيز ، وبعضها من السجن ومرارته ...

ثم بدأت بعد ذلك في الحديث عن الجانب الثاني من حياته عليه‌السلام.

وهو جانب الرخاء والعز والتمكين في حياته ، فقال ـ تعالى ـ : (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ...).

وفي الكلام إيجاز بالحذف ، والتقدير : وبعد أن انكشفت للملك براءة يوسف ـ عليه‌السلام ـ انكشافا تاما ، بسبب ما سمعه عنه من النسوة ومن امرأة العزيز ، وبعد أن سمع تفسيره للرؤيا وأعجب به ، كما أعجب بسمو نفسه وإبائه ...

بعد كل ذلك قال الملك لخاصته : ائتوني بيوسف هذا ، ليكون خالصا لنفسي ، وخاصا بي في تصريف أمورى ، وكتمان أسرارى ، وتسيير دفة الحكم في مملكتي.

والسين والتاء في قوله «أستخلصه» للمبالغة في الخلوص له ، فهما للطلب كما في استجاب ، والاستخلاص طلب خلوص الشيء من شوائب الشركة.

فكأن الملك قد شبه يوسف ـ عليه‌السلام ـ بالشيء النفيس النادر ، الذي يجب أن يستأثر به الملك دون أن يشاركه فيه أحد سواه.

والفاء في قوله «فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين» معطوفة على محذوف يفهم من السياق.

والضمير المنصوب في «كلّمه» يعود على الملك ـ على الراجح ـ.

والمراد باليوم : الزمان الذي حدث فيه التخاطب بين الملك ويوسف.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٣٢٠.

٣٧٩

و (مَكِينٌ) صفة مشبهة من الفعل مكن ـ بضم الكاف ـ ، بمعنى صاحب مكانة ومرتبة عظيمة ، يقال : مكن فلان مكانة إذا ارتفعت منزلته ، ويقال : مكنت فلانا من هذا الشيء إذا جعلت له عليه سلطانا وقدرة.

(أَمِينٌ) بزنة فعيل بمعنى مفعول ، أى : مأمون على ما نكلفك به ، ومحل ثقتنا.

والمعنى : وقال الملك لجنده ائتوني بيوسف هذا أستخلصه لنفسي فأتوه به إلى مجلسه.

فازداد حب الملك له وتقديره إياه وقال له : إنك منذ اليوم عندنا صاحب الكلمة النافذة ، والمنزلة الرفيعة ، التي تجعلنا نأتمنك على كل شيء في هذه المملكة ، وتلك المقالة من الملك ليوسف ، هي أولى بشائر عاقبة الصبر ؛ وعزة النفس ، وطهارة القلب ، والاستعصام بحبل الله المتين ...

وهنا طلب يوسف ـ عليه‌السلام ـ من الملك بعزة وإباء أن يجعله في الوظيفة التي يحسن القيام بأعبائها (قالَ : اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) والخزائن جمع خزانة ـ بكسر الخاء وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء ، والمراد بالأرض : أرض مصر.

أى : قال يوسف ـ عليه‌السلام ـ للملك : اجعلنى ـ أيها الملك ـ المتصرف الأول في خزائن أرض مملكتك ، المشتملة على ما يحتاج إليه الناس من أموال وأطعمة ، لأنى شديد الحفظ لما فيها ، عليم بوجوه تصريفها فيما يفيد وينفع ...

فأنت ترى أن يوسف ـ عليه‌السلام ـ لم يسأل الملك شيئا لنفسه من أعراض الدنيا ، وإنما طلب منه أن يعينه في منصب يتمكن بواسطته من القيام برعاية مصالح الأمة ، وتدبير شئونها ... لأنها مقبلة على سنوات عجاف ، تحتاج إلى خبرة يوسف وأمانته وكفاءته ، وعلمه ...

قال صاحب الكشاف : «وصف يوسف نفسه بالأمانة والكفاية اللتين هما طلبة الملوك ممن يولونه ، وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله تعالى ـ وإقامة الحق ، وبسط العدل ، والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد ، ولعلمه أن أحدا غيره لا يقومه مقامه في ذلك ، فطلب التولية ابتغاء وجه الله ـ لا لحب الملك والدنيا» (١).

وقال القرطبي ما ملخصه : «ودلت الآية ـ أيضا ـ على جواز أن يطلب الإنسان عملا يكون له أهلا.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٢٨.

٣٨٠