التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0657-4
الصفحات: ٦٠٢

أى : استقم على ما أنت عليه من إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ وحده واثبت على ذلك ، ولا تكونن من الذين أشركوا مع الله آلهة أخرى.

ثم أضاف ـ سبحانه ـ إلى ذلك تأكيدا آخر فقال : (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ).

أى : ولا تدع من دون الله في أى وقت من الأوقات (ما لا يَنْفَعُكَ) إذا دعوته لدفع مكروه أو جلب محبوب (وَلا يَضُرُّكَ) إذا تركته وأهملته.

(فَإِنْ فَعَلْتَ) شيئا مما نهيناك عنه (فَإِنَّكَ إِذاً) تكون (مِنَ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بإيرادها مورد المهالك ، لإشراكها مع الله ـ تعالى ـ آلهة أخرى.

ثم بين ـ سبحانه ـ أنه وحده هو الضار والنافع فقال : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ، وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

«المس» : أعم من اللمس في الاستعمال ، يقال : مسه السوء والكبر والعذاب والتعب ، أى : أصابه ذلك ونزل به.

والضر : اسم للألم والحزن وما يفضى إليهما أو إلى أحدهما ، كما أن النفع اسم للذة والسرور وما يفضى إليهما أو إلى أحدهما.

والخير : اسم لكل ما كان فيه منفعة أو مصلحة حاضرة أو مستقبلة.

والمعنى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) كمرض وتعب وحزن ، فلا كاشف له ، أى : لهذا الضر (إِلَّا هُوَ) ـ سبحانه ـ.

(وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ) كمنحة وغنى وقوة (فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) أى : فلا يستطيع أحد أن يرد هذا الخير عنك.

وعبر ـ سبحانه ـ بالفضل مكان الخير للإرشاد إلى تفضله على عباده بأكثر مما يستحقون من خيرات.

وقوله (يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أى : يصيب بذلك الفضل والخير (مَنْ يَشاءُ) إصابته (مِنْ عِبادِهِ).

(وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أى : وهو الكثير المغفرة والرحمة لمن تاب إليه ، وتوكل عليه ، وأخلص له العبادة.

وفي معنى هذه الآية جاء قوله ـ تعالى ـ : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها ،

١٤١

وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١).

وقال ابن كثير : «وروى ابن عساكر عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«اطلبوا الخير دهركم كله ، وتعرضوا لنفحات ربكم ، فإن لله نفحات من رحمته ، يصيب بها من يشاء من عباده ، واسألوه أن يستر عوراتكم ، ويؤمن روعاتكم» (٢).

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بنداء آخر ـ أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يوجهه للناس فقال : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ...)

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ مخاطبا جميع الناس ، سواء منهم من سمع نداءك أم من سيبلغه هذا النداء من بعدك قل لهم جميعا : (قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُ) المتمثل في كتاب الله وفي سنتي (مِنْ رَبِّكُمْ) وليس من أحد سواه.

(فَمَنِ اهْتَدى) إلى هذا الحق ، وعمل بمقتضاه (فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) أى : فإنما تكون منفعة هدايته لنفسه لا لغيره.

(وَمَنْ ضَلَ) عن هذا الحق وأعرض عنه (فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أى : فإنما يكون وبال ضلاله على نفسه.

(وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) أى بحفيظ يحفظ أموركم ، وإنما أنا بشير ونذير والله وحده هو الذي يتولى محاسبتكم على أعمالكم.

ثم أمره ـ سبحانه ـ باتباع ما أوحاه إليه فقال : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ ، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ).

أى : (وَاتَّبِعْ) ـ أيها الرسول الكريم ـ في جميع شئونك (ما يُوحى إِلَيْكَ) من ربك من تشريعات حكيمة ، وآداب قويمة ..

(وَاصْبِرْ) على مشاق الدعوة وتكاليفها ..

(حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) بينك وبين قومك ، (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ). لأنه هو العليم بالظواهر والبواطن ، وهو الذي لا معقب لحكمه.

وبعد : فهذه هي سورة يونس ـ عليه‌السلام ـ رأينا ونحن نفسرها كيف أقامت الأدلة على وحدانية الله ـ عزوجل ـ وعلى كمال قدرته ، وشمول علمه ، ونفاذ إرادته ، وسعة رحمته ، وسمو عزته ..

__________________

(١) سورة فاطر الآية ٢.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٣٤.

١٤٢

وكيف أنها أقامت الأدلة ـ أيضا ـ على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يبلغه عن ربه ، وعلى أن هذا القرآن من عنده ـ سبحانه.

وكيف أنها ساقت الأدلة على أن يوم القيامة حق ، وعلى أحوال الناس فيه ، مما يرقق القلوب القاسية ، ويبعث في النفوس الخشية وحسن الاستعداد لهذا اليوم الهائل الشديد ، وكيف أنها ساقت جانبا من أحوال بعض الأنبياء مع أممهم ، وقررت سنة من سنن الله التي لا تتخلف ، وهي نجاة رسل الله والمؤمنين بهم ، وجعل الرجس على الذين لا يعقلون.

وكيف أنها بينت أحوال الناس في السراء والضراء ... بيانا صادقا قويا مؤثرا ، من شأنه أن يحملهم على التحلي بالأخلاق الكريمة والتخلي عن الأخلاق الذميمة.

نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا ، وأنس نفوسنا.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين.

المدينة المنورة السبت ٧ من المحرم سنة ١٤٠١

الموافق ١٥ / ١١ / ١٩٨٠ م

١٤٣
١٤٤

تفسير

سورة هود عليه‌السلام

١٤٥
١٤٦

تعريف بسورة هود ـ عليه‌السلام ـ

١ ـ سورة هود ـ عليه‌السلام ـ هي السورة الحادية عشرة في ترتيب المصحف فقد سبقتها في هذا الترتيب سورة الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، والتوبة ، ويونس.

أما ترتيبها في النزول ، فهي السورة الثانية والخمسون ، وكان نزولها بعد سورة يونس.

٢ ـ وعدد آياتها : ثلاث وعشرون ومائة آية.

٣ ـ وقد سماها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسورة هود ، فقد روى الترمذي عن ابن عباس قال : قال أبو بكر : يا رسول الله قد شبت! قال : «شيبتني» «هود» و «الواقعة» ، و «المرسلات» و «عم يتساءلون» و «إذا الشمس كورت».

وفي رواية : شيبتني هود وأخواتها.

قال القرطبي بعد أن ساق بعض الأحاديث في فضل هذه السورة. ففي تلاوة هذه السور ما يكشف لقلوب العارفين سلطانه وبطشه فتذهل منه النفوس. وتشيب منه الرءوس» (١).

٤ ـ متى نزلت سورة هود؟

جمهور العلماء على أن سورة هود جميعها مكية ، وقيل هي مكية إلا ثلاث آيات منها : وهي قوله ـ تعالى ـ (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ ، وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ...) الآية ١٢.

وقوله ـ تعالى ـ (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) الآية ١٧.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) الآية ١١٤.

والذي نرجحه أن السورة كلها مكية ، وسنرى عند تفسيرنا لهذه الآيات التي قيل بأنها مدنية ، ما يشهد لصحة ما ذهبنا إليه.

كذلك نرجح أن هذه السورة الكريمة ، كان نزولها في الفترة التي أعقبت حادث الإسراء والمعراج ، وذلك لأن نزولها ـ كما سبق أن أشرنا ـ كان بعد سورة يونس ، وسورة يونس كان نزولها بعد سورة الإسراء ، التي افتتحت بالحديث عنه.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٩ ص ٢ طبعة دار الكاتب العربي بالقاهرة.

١٤٧

وهذه الفترة التي كانت قبيل حادث الإسراء والمعراج والتي أعقبته ، تعتبر من أشق الفترات وأحرجها وأصعبها في تاريخ الدعوة الإسلامية.

ففي هذه الفترة مات أبو طالب عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمدافع عنه ، وماتت كذلك السيدة خديجة ـ رضى الله عنها ـ التي كانت نعم المواسى له عما يصيبه من أذى ... ففقد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بموتهما نصيرين عزيزين ، كانت لهما مكانتهما العظيمة في نفسه ، وتعرض صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الفترة لألوان من الأذى والاضطهاد فاقت كل ما سبقها وبلغت الحرب المعلنة من المشركين عليه وعلى دعوته ، أقسى وأقصى مداها ..

قال ابن إسحاق خلال حديثه عن هذه الفترة : ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد ، فتتابعت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المصائب بهلك خديجة ـ وكانت له وزير صدق على الإسلام يشكو إليها ـ ويهلك عمه أبى طالب ـ وكان له عضدا وحرزا في أمره ، ومنعة وناصرا على قومه ، وذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين.

فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأذى ، ما لم تكن تطمع فيه في حياة أبى طالب ، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش ، فنثر على رأسه ترابا.

ثم قال ابن إسحاق : فحدثني هشام بن عروة ، عن أبيه عروة بن الزبير قال لما نثر ذلك السفيه على رأس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك التراب دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيته ، والتراب على رأسه ، فقامت إليه إحدى بناته ، فجعلت تغسل عنه التراب ، وهي تبكى ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لها : «لا تبكى يا بنية ، فإن الله مانع أباك» ..

قال : ويقول بين ذلك : «ما نالت منى قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب» (١).

وسنرى عند استعراضنا للسورة الكريمة ، أنها صورت هذه الفترة أكمل تصوير.

٥ ـ مناسبتها لسورة يونس ـ عليه‌السلام ـ :

قال الآلوسى ـ رحمه‌الله ـ : ووجه اتصالها بسورة يونس ، أنه ذكر في سورة يونس قصة نوح ـ عليه‌السلام ـ مختصرة جدا ومجملة ، فشرحت في هذه السورة وبسطت فيها ما لم تبسط في غيرها من السور .. ثم إن مطلعها شديد الارتباط بمطلع تلك ، فإن قوله ـ تعالى ـ هنا (الر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ...) نظير قوله ـ سبحانه ـ هناك (الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ ...) بل بين مطلع هذه وختام تلك شدة ارتباط ـ أيضا ـ ، حيث ختمت بنفي الشرك ، واتباع الوحى ، وافتتحت هذه ببيان الوحى والتحذير من الشرك (٢).

__________________

(١) السيرة النبوية لابن هشام ج ٢ ص ١٤٥.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١٧٨ الطبعة المنيرية.

١٤٨

٦ ـ عرض إجمالى للسورة الكريمة :

عند ما نطالع سورة هود بتدبر وتأمل ، نراها في الربع الأول (١) منها ـ قد افتتحت بالتنويه بشأن القرآن الكريم. وبدعوة الناس إلى إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ وحده ، وإلى التوجه إليه بالاستغفار والتوبة الصادقة ، حتى ينالوا السعادة في دنياهم وآخرتهم.

قال ـ تعالى ـ : (الر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ. وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ. إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

ثم وضحت السورة جانبا من مسالك الكافرين ، تلك المسالك التي تدل على جهالاتهم بعلم الله التام ، وبقدرته النافذة ، وفصلت مظاهر هذه القدرة ، وشمول هذا العلم ..

قال ـ تعالى ـ : (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ، أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ ، يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

ثم بينت أحوال الإنسان في حالة منحه النعمة ، وفي حالة سلبها عنه ، وساقت للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الآيات ما يسليه عما أصابه من كفار مكة ، وتحدتهم أن يأتوا بعشر سور من مثل القرآن الكريم ، وأنذرتهم بسوء عاقبة المعرضين عن دعوة الله ، الصادين عن سبيله ، الكافرين بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب ، وبشرت المؤمنين بحسن العاقبة ، وضربت المثل المناسب لكل من فريقى الكافرين والمؤمنين.

استمع إلى السورة الكريمة وهي تصور كل ذلك بأسلوبها البليغ المؤثر فتقول :

(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ ، لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ. إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ...).

إلى أن تقول بعد حديث مفصل عن الكافرين وسوء عاقبتهم : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ ، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ).

فإذا ما وصلنا إلى الربع (٢) الثاني من سورة هود ، وجدناها تسوق لنا بأسلوب مفصل ،

__________________

(١) الآيات من ١ ـ ٢٤.

(٢) الآيات من ٢٥ ـ ٤٠.

١٤٩

قصة نوح ـ عليه‌السلام ـ مع قومه ، فتحكى أمره لهم بعبادة الله وحده ، كما تحكى الرد القبيح الذي رد به عليه زعماؤهم ، وكيف أنه ـ عليه‌السلام ـ لم يقابل سفاهتهم بمثلها ، بل خاطبهم بلفظ «يا قوم» الدال على أنه واحد منهم ، يسره ما يسرهم ، ويؤلمه ما يؤلمهم ، ومع هذا فقد لجوا في طغيانهم وقالوا له ـ كما حكى القرآن عنهم ـ (يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا ، فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ...).

فكان رده عليهم (إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ...).

وقد أتاهم الله ـ تعالى ـ بالعذاب الذي استعجلوه فأغرقهم بالطوفان الذي غشيهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، والذي قطع دابرهم.

ثم نراها بعد ذلك في الربع (١) الثالث ، تقص علينا مشهدا مؤثرا ، مشهد نوح ـ عليه‌السلام ـ وهو ينادى ابنه الذي استحب الكفر على الإيمان فيقول له بشفقة وحرص : (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ).

ولكن الابن العاق لا يستمع إلى نصيحة أبيه العطوف بل يقول له : (سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ).

ويجيبه الأب بحزن وحسم (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ ، وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ).

ويتضرع الأب الحزين إلى ربه فيقول : (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ).

ويأتيه الجواب من الله ـ تعالى ـ : (يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ، فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ، إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ).

ويلجأ نوح ـ عليه‌السلام ـ إلى خالقه ، مستعيذا به من غضبه فيقول : (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ، وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ).

فيقبل الله ـ تعالى ـ ضراعته فيقول : (يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ ، وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ ، وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ).

ثم يختم الله ـ تعالى ـ قصة نوح ، بتسلية النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، وبما يدل على أن هذا القرآن من عند الله ، فيقول : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ ، إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ).

__________________

(١) الآيات من ٤١ ـ ٦٠.

١٥٠

ثم تسوق السورة بعد ذلك قصة هود ـ عليه‌السلام ـ مع قومه ، فتحكى دعوته لهم إلى عبادة الله ـ تعالى ـ ، ومصارحته إياهم بأنه لا يريد منهم أجرا على دعوته ؛ وإرشادهم إلى ما يزيدهم غنى على غناهم ؛ وقوة على قوتهم ، ولكنهم قابلوا تلك النصائح الغالية بالتكذيب والسفاهة ، فقالوا له ـ كما حكت السورة عنهم ـ (يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ ، وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ ، وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ ....).

فيرد عليهم هود بقوله : (إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ ، وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها ...).

ثم كانت النتيجة بعد هذه المحاورات والمجادلات أن نجى الله هودا ، والذين آمنوا معه ، أما الكافرون بدعوته ، فقد نزل بهم العذاب الغليظ ، الذي تركهم صرعى ، كأنهم أعجاز نخل خاوية ...

وفي الربع (١) الرابع منها تسوق لنا السورة الكريمة ، ما دار بين صالح وقومه ، حيث أمرهم بعبادة الله ، وذكرهم بنعمه عليهم ، وحذرهم من الاعتداء على الناقة التي هي لهم آية .. ولكنهم استخفوا بتذكيره وبتحذيره فكانت النتيجة إهلاكهم ...

قال ـ تعالى ـ (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا ، وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ. وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ. كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها ، أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ).

ثم قصت علينا السورة الكريمة ، ما فعله إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ عند ما جاءه رسل الله بالبشرى ، وكيف أنهم قالوا له عند ما أنكرهم وأوجس منهم خيفة : (لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ ...).

ثم وضحت حال لوط ـ عليه‌السلام ـ عند ما جاءه هؤلاء الرسل ؛ وحكت ما دار بينه وبين قومه الذين جاءوه يهرعون إليه عند ما رأوا الرسل ، فقال لهم : (يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ، فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ، أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ....).

فيقولون له في صفاقة وانحراف عن الفطرة السليمة : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ ، وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ).

وأسقط في يد لوط ـ عليه‌السلام ـ ، وأحس بضعفه أمام هؤلاء المنحرفين المندفعين إلى

__________________

(١) الآيات من ٦٢ ـ ٨٣.

١٥١

ارتكاب الفاحشة ، اندفاع المجنون إلى حتفه ، فقال بأسى وحزن : (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ).

وهنا كشف له الرسل عن طبيعتهم ، وأخبروه بمهمتهم ؛ وطلبوا منه أن يغادر هو ومن آمن معه مكان إقامتهم ، فإن العذاب نازل بهؤلاء المجرمين بعد وقت قصير.

(قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ ، لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ ، إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ ، إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ، أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ. فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ، مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ).

ثم تتابع السورة الكريمة في الربع الخامس (١) ، حديثها عن جانب من قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم ، فتحدثنا عن قصة شعيب ـ عليه‌السلام ـ مع قومه ، وكيف أنه قال لهم مقالة كل رسول لقومه (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ).

ثم نهاهم بأسلوب رصين حكيم ، عن ارتكاب الفواحش التي كانت منتشرة فيهم ، وهي إنقاص الكيل والميزان ، وبخس الناس أشياءهم ...

ولكنهم ـ كعادة السفهاء الطغاة ـ قابلوا نصائحه بالتهكم والاستخفاف والوعيد ... فكانت النتيجة أن حل بهم عذاب الله الذي أهلكهم ، كما أهلك أمثالهم.

قال ـ تعالى ـ (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا ، وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ. كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها ، أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ).

ثم تسوق السورة بعد ذلك بإيجاز ، جانبا من قصة موسى مع فرعون وملئه ، الذين اتبعوا أمر فرعون ، وما أمر فرعون برشيد.

ثم تعقب على كل تلك القصص السابقة ، بتعقيب يدل على أن هذا القرآن من عند الله ، وأنه ـ سبحانه ـ لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ... قال ـ تعالى ـ : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ. وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ، فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ، وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ...).

أما في الربع السادس (٢) والأخير منها ، فنراها تبين بأسلوب قوى منذر ، أن الناس سيأتون

__________________

(١) الآيات من ٨٤ ـ ١٠٧.

(٢) الآيات ص ١٠٨ إلى آخر السورة.

١٥٢

يوم القيامة ، منهم الشقي ومنهم السعيد ، وأنه ـ سبحانه ـ سيوفى كل فريق منهم جزاءه غير منقوص.

ثم ترشد إلى ما يوصل إلى السعادة ، فتدعو إلى الاستقامة على أمر الله ، وإلى عدم الركون إلى الظالمين ، وإلى إقامة الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ، وإلى الصبر الجميل.

قال ـ تعالى ـ : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا ، إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ. وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ. وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).

ثم ختمت السورة الكريمة ببيان أن من أهم مقاصد ذكر قصص الأنبياء في القرآن الكريم ، تثبيت فؤاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقوية قلبه ، وتسليته عما أصابه ، وتبشيره بأن العاقبة له ولأتباعه.

قال ـ تعالى ـ : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ ، وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ. وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ، فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ، وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

٧ ـ أهم الموضوعات التي عنيت السورة الكريمة بالحديث عنها :

من استعراضنا لسورة هود ، ومن معرفة الفترة التي نزلت فيها ، نستطيع أن نقول : إن السورة الكريمة قد عنيت بالحديث عن موضوعات متنوعة من أهمها ما يأتى :

(ا) ترغيب الناس في طاعة الله ، وتحذيرهم من معصيته ، وهذا المعنى نراه في كثير من آيات سورة هود ، ومن ذلك :

قوله ـ تعالى ـ : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ...).

وقوله ـ تعالى ـ حكاية عن هود ـ عليه‌السلام ـ : (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً ، وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ...).

وقوله ـ تعالى ـ حكاية عن شعيب ـ عليه‌السلام ـ : (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ...).

(ب) تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من قومه ، ومن مظاهر هذه التسلية ، أن

١٥٣

السورة الكريمة قد اشتملت في معظم آياتها على قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم. فقد ذكرت نواحي متنوعة من قصة نوح مع قومه ، ومن قصة هود مع قومه ، ومن قصة صالح مع قومه ، ومن قصة شعيب مع قومه ، ومن قصة لوط مع قومه ...

وقد تحدثت خلال كل قصة عن المسالك الخبيثة ، والمجادلات الباطلة ، التي اتبعها الطغاة مع أنبيائهم الذين جاءوا لسعادتهم وهدايتهم.

كما ختمت كل قصة من هذه القصص ، ببيان حسن عاقبة المؤمنين ، وسوء عاقبة المكذبين ..

وفي ذلك ما فيه من التسلية للرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما لحقه من أذى ، وما أصابه من اضطهاد ، وما تعرض له من اعتداء عليه وعلى أصحابه.

وكأن ما ورد في هذه السورة من قصص طويل متنوع ، يقول للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن ما أصابك من قومك يا محمد ، قد أصاب الأنبياء السابقين من أقوامهم ، فاصبر كما صبروا ، فإنه ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسول من قبلك.

(ج) إقامة الأدلة على أن هذا القرآن من عند الله ، وليس من كلام البشر ..

فقد تحداهم هنا أن يأتوا بعشر سور من مثله فعجزوا ، ثم تحداهم في موطن آخر أن يأتوا بسورة من مثله فما استطاعوا ، وساق لهم ـ على لسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكثير من أخبار الأولين ، ومن قصص الأنبياء مع أقوامهم مع أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن معاصرا لهؤلاء السابقين ، ولم يكن قارئا لأخبارهم فدل ذلك على أن هذا القرآن من عند الله ، وعلى أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادق فيما يبلغه عن ربه.

قال ـ تعالى ـ : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ، قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

وقال ـ تعالى ـ : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ ، إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ).

(د) بيان سنة من سنن الله التي لا تتخلف ، وهي أنه ـ سبحانه ـ لا يظلم الناس شيئا ؛ ولكن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم ؛ بإعراضهم عن الحق ، واتباعهم للهوى ، واستحقاقهم للعقوبة التي هي جزاء عادل لكل ظالم.

١٥٤

وهذا البيان نراه في مواضع متعددة من السورة ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ في ختام الحديث عن قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ. وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ، فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ ، لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ. وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ، ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ ، وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ. وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ. يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ....).

وبعد : فهذه تعريفات عن سورة هود ، رأينا أن نذكرها قبل البدء في تفسيرها ، وأرجو أن يكون في ذكرها ما يعطى القارئ صورة واضحة عن هذه السورة الكريمة.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

محمد سيد طنطاوى

١٥٥

التفسير

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)(٥)

سورة هود ـ عليه‌السلام ـ من السور التي افتتحت ببعض حروف التهجي ، وقد سبق أن تكلمنا بشيء من التفصيل عند تفسيرنا لسور : البقرة ، وآل عمران ، والأعراف ، ويونس ، عن آراء العلماء في المراد بهذه الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور.

ورجحنا أن هذه الحروف المقطعة ، قد وردت في افتتاح بعض سور القرآن ، على سبيل الإيقاظ والتنبيه للذين تحداهم القرآن.

فكأن الله ـ تعالى ـ يقول لأولئك المعارضين في أن القرآن من عند الله ـ تعالى ـ : هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون به كلامكم ، ومنظوما من حروف هي من جنس الحروف الهجائية التي تنظمون منها حروفكم ، فإن كنتم في شك من كونه منزلا من عند

١٥٦

الله فهاتوا مثله ، وادعوا من شئتم من الخلق لكي يعاونكم في ذلك ، أو هاتوا عشر سور من مثله ، أو هاتوا سورة واحدة.

فلما عجزوا ـ وهم أهل الفصاحة والبيان ـ ثبت أن غيرهم أعجز ، وأن هذا القرآن من عند الله ، (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).

وقوله : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) من الإحكام ـ بكسر الهمزة ـ وهذه المادة تستعمل في اللغة لمعان متعددة ، ترجع إلى شيء واحد هو المنع. يقال : أحكم الأمر. أى : أتقنه ومنعه من الفساد. أى : منع نفسه ومنع الناس عما لا يليق : ويقال أحكم الفرس ، إذا جعل له حكمة تمنعه من الجموح والاضطراب.

وقوله : (ثُمَّ فُصِّلَتْ) من التفصيل ، بمعنى التوضيح والشرح للحقائق والمسائل المراد بيانها ، بحيث لا يبقى فيها اشتباه أو لبس.

والمعنى : هذا الكتاب الذي أنزلناه إليك يا محمد ، هو كتاب عظيم الشأن ، جليل القدر ، فقد أحكم الله آياته إحكاما بديعا ، وأتقنها إتقانا معجزا ، بحيث لا يتطرق إليها خلل أو فساد. ثم فصل ـ سبحانه ـ هذه الآيات تفصيلا حكيما ، بأن أنزلها نجوما ، وجعلها سورا سورا ، مشتملة على ما يسعد الناس في دنياهم وآخرتهم ، من شئون العقائد ، والعبادات ، والمعاملات ، والآداب ، والأحكام.

قال صاحب الكشاف ما ملخصه : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) أى : نظمت نظما رصينا محكما ، بحيث لا يقع فيه نقض ولا خلل ، كالبناء المحكم المرصف .. وقيل : منعت من الفساد ، من قولهم : أحكمت الدابة ، إذا وضعت عليها الحكمة لتمنعها من الجماح ، قال جرير :

أبنى حنيفة أحكموا سفهاءكم

إنى أخاف عليكمو أن أغضبا

(ثُمَّ فُصِّلَتْ) كما تفصل القلائد بالفرائد ، ومن دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص ، أو جعلت فصولا سورة سورة ، وآية آية ، أو فرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة» (١).

و (ثُمَ) في قوله ـ سبحانه ـ «ثم فصلت» للتراخي في الرتبة كما هو شأنها في عطف الجمل ، لما في التفصيل من الاهتمام لدى النفوس ، لأن العقول ترتاح إلى التفصيل بعد الإجمال ، والتوضيح بعد الإيجاز.

وجملة (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) صفة أخرى للكتاب ، وصف بها ، لإظهار شرفه من

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٥٨.

١٥٧

حيث مصدره ، بعد أن وصف بإحكام آياته وتفصيلها الدالين على علو مرتبته من حيث الذات أى : هذا الكتاب الذي أتقنت آياته إتقانا بديعا ، وفصلت تفصيلا رصينا ، ليس هو من عند أحد من الخلق ، وإنما هو من عند الخالق الحكيم في كل أقواله وأفعاله ، الخبير بظواهر الأمور وبواطنها.

قال الشوكانى : وفي قوله (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) لف ونشر ، لأن المعنى : أحكمها حكيم ، وفصلها خبير ، عالم بمواقع الأمور (١).

وقوله : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) جملة تعليلية ، أى : أنه ـ سبحانه ـ فعل ما فعل من إحكام الكتاب وتفصيله وتنزيله من لدن حكيم خبير ، لكي تخلصوا له العبادة والطاعة ، وتتركوا عبادة غيره ؛ لأن من أنزل هذا الكتاب المعجز ، من حقه أن يفرد بالخضوع والاستعانة.

وقوله : (إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) بيان لوظيفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والضمير المجرور في «منه» يعود على الله ـ تعالى ـ.

أى : عليكم ـ أيها الناس ـ أن تخلصوا لله ـ تعالى ـ العبادة والطاعة ، فإنه ـ سبحانه ـ قد أرسلنى إليكم لكي أنذر الذين فسقوا عن أمره بسوء العاقبة ، وأبشر الذين استجابوا لدعوته بحسن المثوبة.

وقدم ـ سبحانه ـ الإنذار على التبشير ؛ لأن الخطاب موجه إلى الكافرين ، الذين أشركوا مع الله آلهة أخرى.

قال بعضهم : «والجمع بين النذارة والبشارة ، لمقابلة ما تضمنته الجملة الأولى من طلب ترك عبادة غير الله. بطريق النهى ، وطلب عبادة الله بطريق الاستثناء ، فالنذارة ترجع إلى الجزء الأول ، والبشارة ترجع إلى الجزء الثاني» (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما يترتب على طاعته من خيرات فقال : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ..).

والاستغفار طلب المغفرة والرحمة من الله ـ تعالى ـ.

والتوبة : الإقلاع عن كل ما نهى الله ، مع التصميم على عدم العودة إلى ذلك في المستقبل.

__________________

(١) تفسير فتح القدير ج ٢ ص ٤٨٠.

(٢) تفسير التحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر بن عاشور ج ١١ ص ٣١٥.

١٥٨

ويمتعكم : من الإمتاع ، وأصل الإمتاع الإطالة ، ومنه : أمتعنا الله بك أى : أطال لنا بقاءك.

والآية الكريمة معطوفة على قوله ـ سبحانه ـ قبل ذلك : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ..).

والمعنى : وعليكم ـ أيها الناس ـ بعد أن نبذتم كل عبادة لغير الله ، أن تديموا طلب مغفرته ورحمته ، وأن تتوبوا إليه توبة نصوحا ، فإنكم إن فعلتم ذلك (يُمَتِّعْكُمْ) الله ـ تعالى ـ (مَتاعاً حَسَناً) بأن يبدل خوفكم أمنا ، وفقركم غنى ، وشقاءكم سعادة.

قوله : (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أى : إلى نهاية حياتكم التي قدرها الله لكم في هذه الدنيا.

وقوله : (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) أى : ويعط كل صاحب عمل صالح جزاء عمله.

فالمراد بالفضل الأول : العمل الصالح. والمراد بالفضل الثاني الثواب الجزيل من الله ـ تعالى ـ.

فالجملة الكريمة ، وعد كريم عن الله ـ تعالى ـ لكل من آمن وعمل صالحا.

وجملة (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) معطوفة على استغفروا. و (ثُمَ) هنا على بابها من التراخي ، لأن الإنسان يستغفر أولا ربه من الذنوب ، ثم يتوب إليه التوبة الصادقة النصوح التي لا رجعة معها إلى ارتكاب الذنوب مرة أخرى.

ووصف المتاع بالحسن ، ليدل على أنه عطاء ليس مشوبا بالمكدرات والمنغصات التي تقلق الإنسان في دنياه ، وإنما هو عطاء يجعل المؤمن يتمتع بنعم الله التي أسبغها عليه ، مع المداومة على شكره ـ سبحانه ـ على هذه النعم.

قال ـ تعالى ـ (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

ثم حذر ـ سبحانه ـ من الإعراض عن طاعته فقال : (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ).

أى : ذكرهم أيها الرسول الكريم بأن في إخلاصهم العبادة لله ، وفي طاعتهم له ، سعادتهم الدنيوية والأخروية ، وفي إعراضهم عن ذلك شقاؤهم وحلول العذاب بهم.

أى : إن تتولوا ـ أيها الناس ـ عن الحق الذي جئتكم به ، فإنى أخاف عليكم عذاب يوم القيامة ، الذي هو عذاب كبير هوله ، عظيم وقعه ، كما أخاف عليكم عذاب الدنيا.

فتنكير (يَوْمٍ) للتهويل والتعميم ، حتى يشمل عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، حيث

١٥٩

إنهم كانوا ينكرون البعث والحساب ، فتخويفهم بالعذابين أزجر لنفوسهم القاسية ، وقلوبهم العاتية.

وفي وصفه بالكبر ، زيادة ـ أيضا ـ في تهويله وشدته ، حتى يثوبوا إلى رشدهم ، ويقلعوا عن غيهم وعنادهم.

وقوله ـ سبحانه ـ (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تحذير آخر لهم ، إثر التحذير من الإعراض عما جاءهم به نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والمرجع : مصدر ميمى بمعنى الرجوع الذي لا انفكاك لهم منه ، ولا محيد لهم عنه.

أى : إلى الله ـ تعالى ـ وحده رجوعكم مهما طالت حياتكم ، ليحاسبكم على أعمالكم ، ويجازيكم عليها بما تستحقونه من جزاء ، وهو ـ سبحانه ـ على كل شيء قدير ، لا يعجزه أمر ، ولا يحول بينه وبين نفاذ إرادته حائل.

وما دام الأمر كذلك ، فأخلصوا لله العبادة ، واستغفروه ثم توبوا إليه لتظفروا بالسعادة العاجلة والآجلة.

ثم حكى ـ سبحانه ـ جانبا من جهالات المنحرفين عن الحق ، ومن أوهامهم الباطلة ، فقال ـ تعالى ـ :

(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ، أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

وقوله : (يَثْنُونَ) من الثنى بمعنى الطى والستر. يقال : ثنيت الثوب إذا طويته على ما فيه من الأشياء المستورة.

وثنى الصدور : إمالتها وطأطأتها وحنيها بحيث تكون القامة غير مستقيمة. والاستخفاء : محاولة الاختفاء عن الأعين ، ومنه قوله ـ تعالى ـ (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ ..) (١).

وقوله : (يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ ..) أى : يتدثرون ويتغطون بها ، مبالغة في الاستخفاء عن الأعين. فالسين والتاء فيه للتأكيد ، كما في قوله ـ تعالى ـ (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ ...) أى : جعلوها كالغشاء عليهم.

وقد ذكر بعض المفسرين في سبب نزول هذه الآية روايات منها : أنه كان الرجل من الكفار

__________________

(١) سورة النساء الآية ١٠٨.

١٦٠