التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0657-4
الصفحات: ٦٠٢

تفسير

سورة إبراهيم

٥٠١
٥٠٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدّمة

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ومن والاه.

وبعد : فهذا تفسير وسيط لسورة ابراهيم ـ عليه‌السلام ـ ، توخيت فيه أن يكون تفسيرا تحليليا ، خاليا من الآراء السقيمة ، والأقوال الضعيفة. والله أسأل أن يجعله خالصا لوجهه ، نافعا لعباده.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

المؤلف

د. محمد سيد طنطاوى

٥٠٣
٥٠٤

تعريف بسورة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ

١ ـ سورة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ هي السورة الرابعة عشرة في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول ، فقد كان بعد سورة نوح ـ عليه‌السلام ـ.

وقد ذكر السيوطي قبلها سبعين سورة من السور المكية (١).

٢ ـ وعدد آياتها ثنتان وخمسون آية في المصحف الكوفي ، وإحدى وخمسون في البصري ، وأربع وخمسون في المدني ، وخمس وخمسون في الشامي.

٣ ـ وسميت بهذا الاسم ، لاشتمالها على الدعوات الطيبات التي تضرع بها إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ إلى ربه ، ولا يعرف لها اسم آخر سوى هذا الاسم.

٤ ـ وجمهور العلماء على أنها مكية ، وليس فيها آية أو آيات غير مكية.

وقال الآلوسى : «أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير أنها نزلت بمكة.

والظاهر أنهما أرادا أنها كلها كذلك ، وهو الذي عليه الجمهور.

وأخرج النحاس في ناسخه عن الحبر أنها مكية إلا آيتين منها فإنهما نزلتا بالمدينة وهما قوله ـ تعالى ـ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ* جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) فإنهما نزلتا في قتلى بدر من المشركين .. (٢).

وسنرى عند تفسيرنا لهاتين الآيتين ، أنه لم يقم دليل يعتمد عليه على أنهما مدنيتان. وأن السورة كلها مكية كما قال جمهور العلماء.

٥ ـ هذا ، وبمطالعتنا لهذه السورة الكريمة بتدبر وتأمل نراها في مطلعها تحدثنا عن وظيفة القرآن الكريم ، وعن جانب من مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ ، وعن سوء عاقبة الكافرين ، وعن الحكمة في إرسال كل رسول بلسان قومه قال ـ تعالى ـ : (الر. كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ* اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) ...

__________________

(١) راجع الإتقان في علوم القرآن ج ١ ص ٢٧ ، تحقيق محمد أبى الفضل إبراهيم.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٣ ص ١٦١ طبعة منير الدمشقي.

٥٠٥

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ، فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

ثم نراها بعد ذلك تحدثنا عن طرف من رسالة موسى ـ عليه‌السلام ـ مع قومه ، وعن أخبار بعض الأنبياء مع أقوامهم ، وعن نماذج من المحاورات التي دارت بين الرسل وبين من أرسلوا إليهم.

قال ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ...).

ثم تضرب السورة الكريمة بعد ذلك مثلا لأعمال الكافرين ، وتصور أحوالهم عند ما يخرجون من قبورهم يوم القيامة ، وتحكى ما يقوله الشيطان لهم في ذلك اليوم ... فتقول :

(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) ...

(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) ...

(وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ).

ثم تسوق السورة مثلا آخر لكلمتى الإيمان والكفر فتقول : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) ...

ثم يحكى ألوانا متعددة من الأدلة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وعلمه وقدرته ونعمه على عباده فتقول : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ ...).

ثم تسوق بعد ذلك تلك الدعوات الصالحات الجامعات لأنواع الخير ، التي تضرع بها إبراهيم إلى ربه فتقول :

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ...).

(رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ* رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ).

ثم يختم ـ سبحانه ـ هذه السورة الكريمة بآيات فيها ما فيها من أنواع العذاب الذي أعده للظالمين ، وفيها ما فيها من ألوان التحذير من السير في طريق الكافرين والجاحدين فيقول :

(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ، إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ

٥٠٦

مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ ...).

(هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ ، وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ).

٦ ـ ومن هذا العرض الإجمالى للسورة الكريمة ، نراها قد اهتمت بأمور من أبرزها ما يلى :

(أ) تذكير الناس بنعم خالقهم عليهم ، وتحريضهم على شكر هذه النعم وتحذيرهم من جحودها وكفرها ...

ومن الآيات التي وردت في هذه السورة في هذا المعنى قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ).

وقوله ـ تعالى ـ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ* جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ).

(ب) تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما لقيه من مشركي قريش ، تارة عن طريق ما لقيه الأنبياء السابقون من أقوامهم ، وتارة عن طريق بيان أن العاقبة للمتقين.

ومن الآيات التي وردت في هذا المعنى قوله ـ تعالى ـ : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ ، جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ، فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ...).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ، فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ...).

(ج) اشتمال السورة الكريمة على أساليب متعددة للترغيب في الإيمان ، وللتحذير من الكفر ، تارة عن طريق ضرب الأمثال ، وتارة عن طريق بيان حسن عاقبة المؤمنين ، وسوء عاقبة المكذبين ، وتارة عن طريق حكاية ما يقوله الشيطان لأتباعه يوم القيامة ، وما يقوله الضعفاء للذين استكبروا وما يقوله الظالمون يوم يرون العذاب ...

ومن الآيات التي وردت في هذا المعنى قوله ـ تعالى ـ : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ، أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ. تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها ، وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).

وقوله ـ تعالى ـ : (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ).

٥٠٧

وقوله ـ تعالى ـ : (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ...).

هذه بعض الموضوعات التي اهتمت السورة بإبرازها وبتركيز الحديث عنها ، وهناك موضوعات أخرى عنيت السورة بتفصيل الحديث عنها ، ويراها المتدبر لآياتها ...

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

٥٠٨

التفسير

قال الله تعالى :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٤)

سورة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ من السور القرآنية التي افتتحت بحرف من الحروف المقطعة وهو قوله ـ تعالى ـ : (الر).

وقد سبق أن ذكرنا آراء العلماء في هذه الحروف عند تفسيرنا لسور : آل عمران ، والأعراف ، ويونس ، وهود ، ويوسف ، والرعد.

وقلنا ما خلاصته : لعل أقرب الأقوال إلى الصواب ، أن هذه الحروف المقطعة ، قد وردت في افتتاح بعض سور القرآن ، على سبيل الإيقاظ والتنبيه للذين تحداهم القرآن.

٥٠٩

فكأن الله ـ تعالى ـ يقول لأولئك المعاندين والمعارضين في أن القرآن من عند الله. هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون منه كلامكم ، ومنظوما من حروف هي من جنس الحروف الهجائية التي تنظمون منها حروفكم ، فإن كنتم في شك من كونه منزلا من عند الله فهاتوا مثله ، وادعوا من شئتم من الخلق لكي يعاونكم في ذلك ، فإن لم تستطيعوا فهاتوا عشر سور من مثله ، فإن عجزتم فهاتوا سورة واحدة من مثله.

قال ـ تعالى ـ : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ، وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١).

وقوله (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) تنويه بشأن القرآن الكريم ، وبيان للغرض السامي الذي أنزله الله ـ تعالى ـ من أجله.

والظلمات : جمع ظلمة ، والمراد بها : الكفر والضلال ، والمراد بالنور : الإيمان والهداية.

والباء في (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) للسببية ، والجار والمجرور متعلق بقوله (لِتُخْرِجَ).

والصراط : الجادة والطريق ، من سرط الشيء إذا ابتلعه ، وسمى الطريق بذلك ، لأنه يبتلع المارين فيه ، وأبدلت سينه صادا على لغة قريش.

والمعنى : هذا كتاب جليل الشأن ، عظيم القدر ، أنزلناه إليك يا محمد ، لكي تخرج الناس من ظلمات الكفر والجهالة والضلال ، إلى نور الإيمان والعلم والهداية ، وهذا الإخراج إنما هو بإذن ربهم ومشيئته وإرادته وأمره.

وقوله (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) بدل من قوله (إِلَى النُّورِ).

أى لتخرج الناس من ظلمات الكفر والضلال إلى طريق الله (الْعَزِيزِ) أى : الذي يغلب ولا يغلب (الْحَمِيدِ) أى : المحمود بكل لسان.

وأسند ـ سبحانه ـ الإخراج إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم باعتباره المبلغ لهذا الكتاب المشتمل على الهداية التي تنقل الناس من الكفر إلى الإيمان ، ومن الجهالة إلى الهداية وشبه الكفر بالظلمات ـ كما يقول الإمام الرازي ـ ، لأنه نهاية ما يتحير الرجل فيه عن طريق الهداية ، وشبه الإيمان بالنور ، لأنه نهاية ما ينجلي به طريق هدايته» (٢).

وفي جمع «الظلمات» وإفراد «النور» إشارة إلى أن للكفر طرقا كثيرة ، وأما الإيمان

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٣.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٩ ص ٧٢.

٥١٠

فطريق واحد.

وقوله ـ سبحانه ـ : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) احتراس لبيان أن نقل الناس من حال إلى حال إنما هو بإرادة ـ الله ـ تعالى ـ ومشيئته ، وأن الرسول ما هو إلا مبلغ فقط ، أما الهداية فمن الله وحده.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض مظاهر قدرته فقال : (اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ...).

أى : الله ـ تعالى ـ وحده هو الذي له ما في السموات وما في الأرض ملكا وملكا وخلقا لا يشاركه في ذلك مشارك ، ولا ينازعه منازع.

ولفظ الجلالة قرأه الجمهور بالجر على أنه بدل أو عطف بيان من العزيز الحميد.

وقرأه نافع وابن عامر بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أى : هو الله الذي له ما في السموات وما في الأرض.

وجملة «وويل للكافرين من عذاب شديد» تهديد ووعيد لمن كفر بالحق وأعرض عنه.

ولفظ «ويل» مصدر لا يعرف له فعل من لفظه مثل «ويح» وجاء مرفوعا للدلالة على الثبات والدوام ، ومعناه الهلاك أو الفضيحة أو الحسرة ، أى : الله ـ تعالى ـ هو الذي له ما في السموات وما في الأرض ، وويل للكافرين بما أنزلناه إليك ـ أيها الرسول الكريم ـ من عذاب شديد سينزل بهم ، فيجعلهم يستغيثون دون أن يجدوا من يغيثهم.

ثم وصف ـ سبحانه ـ هؤلاء الكافرين بجملة من الصفات الذميمة ، التي أردتهم وأهلكتهم فقال ـ تعالى ـ : (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، وَيَبْغُونَها عِوَجاً ...).

ويستحبون : بمعنى يحبون ، فالسين والتاء للتأكيد ، أى : يختارون ويؤثرون ولذا عداه بعلى. أى : يختارون شهوات الحياة الدنيا. ويؤثرون لذائذها ومتعها على الدار الآخرة وما فيها من نعيم وخيرات ...

«ويصدون» من الصد ، وهو صرف الغير عن الشيء ومنعه منه يقال : صد فلان فلانا عن فعل الشيء ، إذا منعه من فعله.

وسبيل الله : طريقه الموصلة إليه وهو ملة الإسلام.

ويبغون من البغاء ـ بضم الباء ـ بمعنى الطلب. يقال : بغيت لفلان كذا ، إذا طلبته له ، وبغيت الشيء أبغيه بغاء وبغى وبغية إذا طلبته.

٥١١

والعوج ـ بكسر العين وفتحها ـ مصدر عوج ـ كتعب. إلا أن بعضهم يرى أن مكسور العين يكون فيما ليس بمرئى كالآراء والأقوال والعقائد ، وأن مفتوحها يكون في المرئيات كالأجساد والمحسوسات.

أى : أن هؤلاء الكافرين يؤثرون شهوات الدنيا على الآخرة ونعيمها ، ولا يكتفون بذلك بل يضعون العراقيل في طريق دعوة الحق حتى يبتعد الناس عنها ، ويطلبون لها العوج والميل تبعا لزيغ نفوسهم ، مع أنها أقوم طريق ، وأعدل سبيل. والضمير المنصوب في قوله «يبغونها» يعود إلى سبيل الله. أى يبغون لها العوج ، فحذف الجار وأوصل الفعل إلى الضمير ، كما في قوله (وَإِذا كالُوهُمْ ...) أى : كالوا لهم.

وقوله (عِوَجاً) مفعول به ليبغون.

وبعضهم جعل الضمير المنصوب في «يبغونها» ، وهو الهاء هو المفعول ، وجعل «عوجا» حال من سبيل الله أى : ويريدونها أن تكون في حال اعوجاج واضطراب. وقوله : (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) بيان الحكم العادل الذي أصدره ـ سبحانه ـ عليهم.

أى : أولئك الموصوفون بما ذكر في ضلال بعيد عن الحق.

والإشارة بأولئك الدالة على البعد ، للتنبيه على أنهم أحرياء بما وصفوا به بسبب تلبسهم بأقبح الخصال ، وأبشع الرذائل.

وعبر بفي الظرفية للدلالة على تمكن الضلال منهم ، وأنه محيط بهم كما يحيط الظرف بالمظروف.

قال الآلوسى : وفي الآية من المبالغة في ضلالهم ما لا يخفى ، حيث أسند فيها الى المصدر ما هو لصاحبه مجازا كجد جده ...

ويجوز أن يقال : إنه أسند فيها ما للشخص إلى سبب اتصافه بما وصف به ، بناء على أن البعد في الحقيقة صفة له باعتبار بعد مكانه عن مقصده ، وسبب بعده ضلاله ، لأنه لو لم يضل لم يبعد عنه ، فيكون كقولك : قتل فلانا عصيانه ، والإسناد مجازى وفيه المبالغة المذكورة أيضا. (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ منة أخرى من مننه على عباده فقال : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ...).

قال الإمام الرازي ما ملخصه : «اعلم أنه ـ تعالى ـ لما ذكر في أول السورة (كِتابٌ

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٣ ص ١٦٥.

٥١٢

أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ...) كان هذا إنعاما على الرسول ، من حيث إنه فوض إليه هذا المنصب العظيم ، وإنعاما على الخلق من حيث إنه أرسل إليهم من خلصهم من ظلمات الكفر ...

ثم ذكر في هذه الآية ما يجرى مجرى تكميل النعمة والإحسان في الوجهين :

أما بالنسبة إلى الرسول ، فلأن بعثته كانت إلى الناس عامة ...

وأما بالنسبة لعامة الخلق ، فلأنه ـ سبحانه ـ ما بعث رسولا إلى قوم إلا بلسانهم ...» (١) والباء في قوله «بلسان» للملابسة ، والمراد باللسان : اللغة التي يتخاطب بها الرسول مع قومه ...

والمعنى : وما أرسلنا من قبلك ـ أيها الرسول الكريم ـ رسولا من الرسل إلى قوم من الأقوام ، إلا وكانت لغته كلغتهم ، لكي يتيسر لهم أن يفهموا عند ما يريد أن يبلغهم إياه من الأوامر والنواهي ...

قال ابن كثير : «هذا من لطفه ـ تعالى ـ بخلقه : أنه يرسل إليهم رسلا منهم بلغتهم ليفهموا عنهم ما يريدون ، وما أرسلوا به إليهم كما قال الإمام أحمد.

حدثنا وكيع ، عن عمر بن أبى ذر قال : قال مجاهد : عن أبى ذر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم يبعث الله ـ عزوجل ـ نبيا إلا بلغة قومه» (٢).

وقال صاحب الكشاف : «فإن قلت : لم يبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى العرب وحدهم ، وإنما بعث الى الناس جميعا ، وهم على ألسنة مختلفة. فإن لم تكن للعرب حجة ، فلغيرهم الحجة. وإن لم تكن لغيرهم حجة ، فلو نزل بالعجمية لم تكن للعرب حجة ـ أيضا ـ قلت : لا يخلو إما أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها ، فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفى التطويل ، فبقى أن ينزل بلسان واحد. فكان أول الألسنة لسان قوم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنهم أقرب إليه.

فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر ، قامت التراجم ببيانه وتفهيمه ، كما ترى الحال وتشاهدها من نيابة التراجم في كل أمة من أمم العجم ، مع ما في ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة ، والأجيال المتفاوتة على كتاب واحد ، واجتهادهم في تعلم لفظه وتعلم معانيه ، وما يتشعب من ذلك من جلائل الفوائد ، ولأنه أبعد من التحريف والتبديل ، وأسلم من

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٩ ص ٧٩.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ١٩٧.

٥١٣

التنازع والاختلاف ...» (١) وقال الشوكانى : ما ملخصه : «وقد قيل في هذه الآية إشكال ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسل إلى الناس جميعا ، ولغاتهم متباينة ...

وأجيب : بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن كان مرسلا إلى الثقلين ، لكن لما كان قومه العرب ، وكانوا أخص به وأقرب إليه ، كان إرساله بلسانهم أولى من إرساله بلسان غيرهم ، وهم يبينونه لمن كان على غير لسانهم.

ولو نزل القرآن بجميع لغات من أرسل إليهم ، وبينه الرسول لكل قوم بلسانهم ، لكان ذلك مظنة للاختلاف ، وفتحا لباب التنازع ، لأن كل أمة قد تدعى من المعاني في لسانها مالا يعرفه غيرها.

وربما كان ذلك ـ أيضا ـ مفضيا إلى التحريف والتصحيف ، بسبب الدعاوى الباطلة التي يقع فيها المتعصبون» (٢).

وجملة «فيضل الله من يشاء ويهدى من يشاء» مستأنفة.

أى : فيضل الله من يشاء إضلاله ، أى يخلق فيه الضلال لوجود أسبابه المؤدية إليه فيه. ويهدى من يشاء هدايته ، لا راد لمشيئته ، ولا معقب لحكمه.

«وهو» سبحانه «العزيز» الذي لا يغلبه غالب «الحكيم» في كل أفعاله وتصرفاته.

قال صاحب تفسير التحرير والتنوير : وتفريع قوله «فيضل الله من يشاء ... إلخ» على مجموع جملة «وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم» ، ولذلك جاء فعل «يضل» مرفوعا غير منصوب ، إذ ليس عطفا على فعل «ليبين» لأن الإضلال لا يكون معلولا للتبيين ولكنه مفرع على الإرسال المعلل بالتبيين.

والمعنى : أن الإرسال بلسان قومه لعلة التبيين. وقد يحصل أثر التبيين بمعرفة الاهتداء ، وقد لا يحصل أثره بسبب ضلال المبين لهم» (٣).

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد بينت وظيفة القرآن الكريم ، ووظيفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما توعدت الكافرين بسوء المصير إذا ما استمروا في كفرهم وغيهم ، كما وضحت بعض مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ ولطفه بعباده ، وفضله عليهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك ، أن رسالة موسى ـ عليه‌السلام ـ كانت أيضا لإخراج

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٦٦.

(٢) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٣ ص ١٤.

(٣) تفسير التحرير والتنوير ج ١٣ ص ١٨٨ للشيخ الفاضل بن عاشور.

٥١٤

قومه من الظلمات إلى النور ، ولتذكيرهم بنعم خالقهم عليهم ، وبغناه عنهم ، فقال تعالى :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ)(٨)

قال الإمام الرازي : «اعلم أنه ـ تعالى ـ لما بين أنه أرسل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور وذكر كمال إنعامه عليه وعلى قومه في ذلك الإرسال وفي تلك البعثة ، أتبع ذلك بشرح بعثة سائر الأنبياء إلى أقوامهم ، وكيفية معاملة أقوامهم معهم. تصبيرا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أذى قومه ، وبدأ ـ سبحانه ـ بقصة موسى فقال : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ...) (١).

وموسى ـ عليه‌السلام ـ هو ابن عمران ، بن يصهر ، بن ماهيث ... وينتهى نسبه إلى لاوى بن يعقوب عليه‌السلام.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٩ ص ٨٣.

٥١٥

وكانت ولادة موسى ـ عليه‌السلام ـ في حوالى القرن الرابع عشر قبل الميلاد.

والمراد بالآيات في قوله : (بِآياتِنا) الآيات التسع التي أيده الله تعالى بها قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ...) (١).

وهي : العصا ، واليد ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والجدب ـ أى في بواديهم ، والنقص من الثمرات ـ أى في مزارعهم.

قال ـ تعالى ـ : (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ* وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) (٢).

وقال ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ) (٣).

وقال ـ تعالى ـ : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ ، آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) (٤).

ومنهم من يرى أنه يصح أن يراد بالآيات هنا آيات التوراة التي أعطاها الله ـ تعالى ـ لموسى ـ عليه‌السلام ـ.

قال الآلوسى ما ملخصه : «قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) أى : ملتبسا بها. وهي كما أخرج ابن جرير وغيره ، عن مجاهد وعطاء وعبيد بن عمير ، الآيات التسع التي أجراها الله على يده ـ عليه‌السلام ـ وقيل : يجوز أن يراد بها آيات التوراة» (٥).

ويبدو لنا أنه لا مانع من حمل الآيات هنا على ما يشمل الآيات التسع ، وآيات التوراة ، فالكل كان لتأييد موسى ـ عليه‌السلام ـ في دعوته.

و «أن» في قوله (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ) تفسيرية بمعنى أى : لأن في الإرسال معنى القول دون حروفه.

والمراد بقومه : من أرسل لهدايتهم وإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، وهم : بنو إسرائيل وفرعون وأتباعه.

وقيل : المراد بقومه : بنو إسرائيل خاصة ، ولا نرى وجها لهذا التخصيص ، لأن رسالة

__________________

(١) سورة الإسراء الآية ١٠١.

(٢) سورة الأعراف الآيتان ١٠٧ ، ١٠٨.

(٣) سورة الأعراف الآية ١٣٠.

(٤) سورة الأعراف الآية ١٣٣.

(٥) تفسير الآلوسى ج ١٢ ص ١٦٨.

٥١٦

موسى ـ عليه‌السلام ـ كانت لهم ولفرعون وقومه.

والمعنى : وكما أرسلناك يا محمد لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ، أرسلنا من قبلك أخاك موسى إلى قومه لكي يخرجهم ـ أيضا ـ من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. فالغاية التي من أجلها أرسلت ـ أيها الرسول الكريم ـ هي الغاية التي من أجلها أرسل كل نبي قبلك ، وهي دعوة الناس إلى إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ وخص ـ سبحانه ـ موسى بالذكر من بين سائر الرسل. لأن أمته أكثر الأمم المتقدمة على هذه الأمة الاسلامية.

وأكد ـ سبحانه ـ الإخبار عن إرسال موسى بلام القسم وحرف التحقيق قد ، لتنزيل المنكرين لرسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منزلة من ينكر رسالة موسى ـ عليه‌السلام ـ وقوله ـ تعالى ـ : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) معطوف على قوله (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ).

والتذكير : إزالة نسيان الشيء ، وعدى بالباء لتضمينه معنى الإنذار والوعظ : أى ذكرهم تذكير عظة بأيام الله.

ومن المفسرين من يرى أن المراد بأيام الله : نعمه وآلاؤه.

قال ابن كثير : قوله : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) أى : بأياديه ونعمه عليهم ، في إخراجه إياهم من أسر فرعون وقهره وظلمه وغشمه ، وإنجائه إياهم من عدوهم ، وفلقه لهم البحر ، وتظليله إياهم بالغمام ، وإنزاله عليهم المن والسلوى» (١).

ومنهم من يرى أن المراد بها ، نقمه وبأساؤه.

قال صاحب الكشاف : قوله : «وذكرهم بأيام الله» أى : وأنذرهم بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم ، كما وقع على قوم نوح وعاد وثمود ، ومنه أيام العرب لحروبها وملاحمها ، كيوم ذي قار ، ويوم الفجار ، وهو الظاهر» (٢).

ومنهم من يرى أن المراد بها ما يشمل أيام النعمة ، وأيام النقمة.

قال الإمام الرازي ما ملخصه : «أما قوله «وذكرهم بأيام الله» فاعلم أنه ـ تعالى ـ أمر موسى في هذا المقام بشيئين ، أحدهما : أن يخرجهم من الظلمات إلى النور. والثاني : أن يذكرهم بأيام الله.

ويعبر عن الأيام بالوقائع العظيمة التي وقعت فيها ... (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٣ ص ١٦٨.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٦٧.

٥١٧

فالمعنى : عظهم بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد ، فالترغيب والوعد ، أن يذكرهم بنعم الله عليهم وعلى من قبلهم ممن آمن بالرسل ... والترهيب والوعيد. أن يذكرهم بأس الله وعذابه وانتقامه ، ممن كذب الرسل من الأمم السالفة ...

ثم قال : واعلم أن أيام الله في حق موسى ـ عليه‌السلام ـ منها ما كان أيام المحنة والبلاء ، وهي الأيام التي كانت بنو إسرائيل فيها تحت قهر فرعون ، ومنها ما كان أيام الراحة والنعماء مثل إنزال المن والسلوى عليهم ...» (١).

وقال الآلوسى : «قوله : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) أى : بنعمائه وبلائه ، كما روى عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ واختاره الطبري ، لأنه الأنسب بالمقام والأوفق بما سيأتى من الكلام» (٢).

وما ذهب إليه الإمامان الرازي والآلوسي ، هو الذي تسكن إليه النفس ، لأن الأيام كلها وإن كانت لله ، إلا أن المراد بها هنا أيام معينة ، وهي التي برزت فيها السراء أو الضراء بروزا ظاهرا ، كانت له آثاره على الناس الذين عاشوا في تلك الأيام.

وبنو إسرائيل ـ على سبيل المثال ـ مرت عليهم في تاريخهم الطويل ، أيام غمروا فيها بالنعم ، وأيام أصيبوا فيها بالنقم.

فالمعنى : ذكر يا موسى قومك بنعم الله لمن آمن وشكر ، وبنقمه على من جحد وكفر ، لعل هذا التذكير يجعلهم يثوبون إلى رشدهم ، ويتبعونك فيما تدعوهم إليه.

واسم الإشارة في قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) يعود على التذكير بأيام الله.

والصبار : الكثير الصبر على البلاء ، والصبر حبس النفس على ما يقتضيه الشرع فعلا أو تركا. يقال : صبره عن كذا يصبره إذا حبسه.

والشكور : الكثير الشكر لله ـ تعالى ـ على نعمه ، والشكر : عرفان الإحسان ونشره والتحدث به ، وأصله من شكرت الناقة ـ كفرح ـ إذا امتلأ ضرعها باللبن ، ومنه أشكر الضرع إذا امتلأ باللبن.

أى : إن في ذلك التذكير بنعم الله ونقمه ، لآيات واضحات ، ودلائل بينات على وحدانية

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٩ ص ٨٤.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٣ ص ١٦٨.

٥١٨

الله ـ تعالى ـ وقدرته وعلمه ، وحكمته ، لكل إنسان كثير الصبر على البلاء ، وكثير الشكر على النعماء.

وتخصيص الآيات بالصبار والشكور لأنهما هما المنتفعان بها وبما تدل عليه من دلائل على وحدانية الله وقدرته ، لا لأنها خافية على غيرهما ، فإن الدلائل على ذلك واضحة لجميع الناس.

وجمع ـ سبحانه ـ بينهما ، للإشارة إلى أن المؤمن الصادق لا يخلو حاله عن هذين الأمرين ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن أمر المؤمن كله عجب ، لا يقضى الله له قضاء إلا كان خيرا له ، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له. وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له» (١).

وقدم ـ سبحانه ـ صفة الصبر على صفة الشكر ، لما أن الصبر مفتاح الفرج المقتضى للشكر ، أو لأن الصبر من قبيل الترك ، والتخلية مقدمة على التحلية.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك أن موسى ـ عليه‌السلام ـ قد امتثل أمر ربه فقال : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ ، إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ ، وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ ، وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ ...)

و «إذ» ظرف لما مضى من الزمان ، وهو متعلق بمحذوف تقديره اذكر.

والمراد بقوله : (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) : تنبهوا بعقولكم وقلوبكم لتلك المنن التي امتن الله بها عليكم ، وقوموا بحقوقها ، وأكثروا من الحديث عنها بألسنتكم. فإن التحدث بنعم الله فيه إغراء بشكرها.

«آل فرعون» حاشيته وخاصته من قومه. وفرعون : لقب لملك مصر في ذلك الوقت ، كما يقال لملك الروم قيصر ...

ويسومونكم من السوم وهو مطلق الذهاب أو الذهاب في ابتغاء الشيء ، يقال : سامت الإبل فهي سائمة. أى : ذهبت في المرعى ، وسام السلعة : إذا طلبها وابتغاها.

وسامه خسفا ، إذا أذله واحتقره وكلفه فوق طاقته.

و (سُوءَ الْعَذابِ) أشده. والسوء ـ بالضم ـ كل ما يدخل الحزن والغم على نفس الإنسان. وهو في الأصل مصدر ، ويؤنث بالألف فيقال السوأى.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٩٨.

٥١٩

وقوله (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) من الاستحياء بمعنى الاستبقاء ، يقال : استحيا فلان فلانا أى : استبقاه وأصله طلب له الحياة والبقاء.

والمعنى : واذكر ـ أيها الرسول الكريم ـ أو أيها المخاطب وقت أن قال موسى ـ عليه‌السلام ـ لقومه على سبيل الإرشاد والتوجيه إلى الخير : يا قوم (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) أى : داوموا على شكر الله ، فقد أسبغ عليكم نعما كثيرة من أبرزها أنه ـ سبحانه ـ أنجاكم من آل فرعون الذين كانوا يصبون عليكم أشد العذاب وأفظعه ، وكانوا يذبحون أبناءكم الصغار ، ويستبقون نساءكم ...

وجعل ـ سبحانه ـ النجاة هنا من آل فرعون ولم تجعل منه ، مع أنه الآمر بتعذيب بنى إسرائيل للتنبيه على أن حاشيته وبطانته كانت عونا في إذاقتهم سوء العذاب.

وجعلت الآية الكريمة استحياء النساء عقوبة لبنى إسرائيل ، لأن هذا الإبقاء عليهن كان المقصود منه الاعتداء عليهن ، واستعمالهن في الخدمة بالاسترقاق ، فبقاؤهن بعد فقد الذكور بقاء ذليل ، وعذاب أليم ، تأباه النفوس الكريمة.

قال الآلوسى : قوله : (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) أى : ويبقونهن في الحياة مع الذل. ولذلك عد من جملة البلاء ، أو لأن إبقاءهن دون البنين رزية في ذاته كما قيل :

ومن أعظم الرزء فيما أرى

بقاء البنات وموت البنينا (١)

وقد رجح كثير من المفسرين أن المراد بالأبناء هنا : الأطفال الصغار ، لأن اللفظ من حيث وضعه يفيد ذلك ، ولأن قتل جميع الرجال لا يفيدهم حيث إن فرعون وآله ، كانوا يستعملونهم في الأعمال الشاقة والحقيرة ، ولأنه لو كان المقصود بالذبح الرجال ، لما قامت أم موسى بإلقائه في البحر وهو طفل صغير لتنجيه من الذبح.

وقال ـ سبحانه ـ هنا (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) لأن المقصود هنا تعداد المحن التي حلت ببني إسرائيل ، فكان المراد بجملة (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) نوعا منه ، وكان المراد بجملة (وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) نوعا آخر منه ، لذا وجب العطف ، لأن الجملة الثانية ليست مفسرة للأولى ، وإنما هي تمثل نوعا آخر من العذاب الذي حل ببني إسرائيل.

بخلاف قوله ـ تعالى ـ في سورة البقرة (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ)

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٣ ص ١٧٠.

٥٢٠