مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان - ج ١٢

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]

مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]


المحقق: الشيخ مجتبى العراقي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

ممّا تقرّر بينهم.

ولكن مع إمكان الحمل على بعض ما تقدّم ، والاختصاص بالصورة المذكورة ليست بحجّة في ذلك كلّه ، فتأمّل ، وسيجي‌ء هذا الخبر مع ما يمكن أن يقال فيه.

وسيجي‌ء مكاتبة أخرى لمحمّد بن الحسن ، صحيحة مع ما فيها ، فتأمّل.

وحسنة عبد الله بن المغيرة عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال : من ولد على الفطرة وعرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته (١).

وصحيحة عمّار بن مروان قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام أو قال : سأله بعض أصحابنا عن الرجل يشهد لأبيه أو الأب لابنه أو الأخ لأخيه ، أو الرجل لامرأته؟ فقال : لا بأس بذلك ، إذا كان خيّرا يقبل شهادته لأبيه ، والأب لابنه والأخ لأخيه (٢).

ورواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام : لا بأس بشهادة الضيف إذا كان عفيفا صائنا (٣).

ولا يضرّ ضعف سندها مع وجودها في الفقيه.

وما في رواية العلاء بن سيابة ، عن أبي عبد الله عليه السلام قلت : فالمكاري والملّاح والجمّال؟ فقال : وما بأس بهم ، تقبل شهادتهم إذا كانوا صلحاء (٤).

ولا يضرّ جهل العلاء مع كونه في الفقيه.

وحسنة عبد الرحمن بن الحجّاج ، عن أبي عبد الله عليه السّلام ، قال : قال أمير

__________________

(١) الوسائل باب ٤١ من كتاب الشهادات قطعة من حديث ٥ ج ١٨ ص ٢٩٠.

(٢) الوسائل باب ٢٦ من كتاب الشهادات ح ٢ وليس فيه (أو الرجل لامرأته) ج ١٨ ص ٢٧٠.

(٣) الوسائل باب ٢٩ من كتاب الشهادات قطعة من ح ٣ ج ١٨ ص ٢٧٤.

(٤) الوسائل باب ٣٤ من كتاب الشهادات قطعة من ح ١ ج ١٨ ص ٢٨٠.

٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

المؤمنين عليه السلام : لا بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلا (١).

وما في حسنة محمّد بن مسلم (لقاسم بن عروة) (٢) ـ مع أنّه نقل توثيقه في كتاب ابن داود عن الكشي ـ عن أبي عبد الله عليه السلام في شهادة المملوك : إذا كان عدلا فهو (فإنّه ـ ئل) جائز الشهادة إلخ (٣).

وصحيحة عبد الله بن سنان عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل شهد على شهادة رجل ، فجاء الرجل فقال : إنّي لم أشهده ، قال : تجوز شهادة أعدلهما ، وإن كانت عدالتهما واحدة لم تجز شهادته (٤).

ورواية عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : شهادة القابلة جائزة على أنّه استهلّ ، أو برز ميّتا ، إذا سئل عنها فعدلت (٥).

ولا يضرّ ضعف السند.

وصحيحة محمّد بن مسلم ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يجيز في الدين شهادة رجل واحد ويمين صاحب الدين ولم يجز في الهلال إلّا شاهدي عدل (٦).

والأخبار الكثيرة الصحيحة مثلها في الهلال (٧) وقد مرّ في كتاب الصوم.

__________________

(١) الوسائل باب ٢٣ من كتاب الشهادات ح ١ ج ١٨ ص ٢٥٣.

(٢) وسندها كما في الكافي هكذا : محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن محمّد بن خالد والحسين بن سعيد عن القاسم بن عروة عن عبد الحميد الطائي عن محمّد بن مسلم.

(٣) الوسائل باب ٢٣ من الشهادات قطعة من ح ٣.

(٤) الوسائل باب ٤٦ من كتاب الشهادات ح ١ ج ١٨ ص ٢٩٩.

(٥) الوسائل باب ٢٤ من كتاب الشهادات ح ٣٨ ج ١٨ ص ٢٦٦.

(٦) الوسائل كتاب القضاء باب ١٤ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ح ١ ج ١٨ ص ١٩٣.

(٧) راجع الوسائل كتاب الصوم باب ١١ من أبواب أحكام شهر رمضان ج ٧ ص ٢٠٧.

٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وأيضا الآية (١) والأخبار الكثيرة الدالة على اشتراطها في الطلاق (٢) وكذا الإجماع المنقول ، فتأمّل.

وأيضا لا شكّ أنّ الفسق مانع من قبول الشهادة بالعقل والنقل ، كتابا (٣) وسنّة (٤) وهي أخبار كثيرة جدا ، وإجماعا.

ولا بدّ للحكم بقبول الشهادة من العلم الشرعي برفع المانع بديهة ، وذلك لم يحصل إلّا بالعلم ، أو الظنّ الشرعي بالعدالة ، إمّا بشهادة العدلين ، أو المعاشرة المطلقة على الحال بحيث يحصل ، فلا يكفي الإسلام ، فتأمّل.

وأمّا دليل المتقدّمين كالشيخ في الخلاف ، فهو مثل قوله تعالى (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) (٥) يمكن تقييده بما تقدّم.

وبعض الروايات مثل قول أبي عبد الله عليه السّلام : خمسة أشياء يجب على الناس أن يأخذوا فيها بظاهر الحكم ، الولايات ، والتناكح ، والمواريث ، والذبائح ، والشهادات. فإذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته ولا يسأل عن باطنه (٦).

وهي مع ضعف سندها إذا نقلها يونس عن بعض رجاله عن أبي عبد الله عليه السلام لا يقول المستدلّ أيضا بظاهرها ، فإنّهم يقولون بقبول الظاهر في أكثر من خمسة أشياء ، وهو ظاهر. ولا يعارض ما ذكر من الأدلّة.

__________________

(١) (اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) ـ البقرة : ٢٨٢.

(٢) قال تعالى (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) الطلاق : ٢.

(٣) قال تعالى (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) ، الحجرات : ٦.

(٤) راجع الوسائل باب ٣٠ من كتاب الشهادات ج ١٨ ص ٢٢٩.

(٥) البقرة : ٢٨٢.

(٦) الوسائل كتاب القضاء باب ٢٢ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ذيل حديث ١ ج ١٨ ص ٢١٣.

٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ويمكن حملها على عدم التكليف بما في نفس الأمر من حقيقة الحال.

وأنّه لا يدل على عدم اعتبار العدالة وكفاية مجرّد الإسلام ، وإلّا فلا يناسب قوله (ظاهرا مأمونا) وهو ظاهر.

واستدلّ أيضا في شرح الشرائع برواية عبد الله بن المغيرة المتقدّمة (١).

وهي دليل عليهم ، لا لهم ، فافهم.

وبما في رواية أبي سلمة بن كهيل (في حديث طويل) قال : سمعت عليا عليه السلام يقول لشريح : واعلم أنّ المسلمين عدول بعضهم على بعض ، إلّا محدود (مجلود ـ ئل) في حدّ لم يتب منه ، أو معروف بشهادة زور ، أو ظنين (٢).

هذه أيضا ضعيفة.

وأيضا إنّ الفاسق مردود مطلقا ، ويفهم منها عدمه ، إلّا أن يحمل الظنين عليه ، ففيها نقص أو زيادة ، فافهم.

على أنّه لا صراحة فيها على القبول ، فيحتمل أن يكون المراد عدم الرد ، بل البحث والتفتيش.

وبصحيحة أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله عمّا يردّ من الشهود؟ قال :

الظنين ، والمتّهم ، والخصم ، قال : قلت : الفاسق والخائن؟ قال : كلّ هذا يدخل في الظنين (٣).

وقال في معناها رواية عبد الله بن سنان (٤) ، وسليمان بن خالد (٥).

وغيرها من الروايات الدالّة على ردّ الشاهد الفاسق.

__________________

(١) الوسائل باب ٤١ من كتاب الشهادات قطعة من حديث ٥.

(٢) الوسائل كتاب القضاء باب ١ من أبواب آداب القاضي ، قطعة من حديث ١.

(٣) الوسائل باب ٣٠ من كتاب الشهادات حديث ٣.

(٤) الوسائل باب ٣٠ من كتاب الشهادات حديث ١.

(٥) الوسائل باب ٣٠ من كتاب الشهادات حديث ٢.

٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ويمكن الجواب عنها بأنّ في الأولى أبا بصير ، والظاهر أنّه يحيي الواقفي لنقل شعيب عنه.

ويمكن المناقشة في سند الأخيرين أيضا ، لوجود إبراهيم ومحمّد بن عيسى عن يونس في الاولى (١) ، وبعد نقل عليّ بن إبراهيم عن عبد الله بن مسكان في الثانية.

وبأنّه مفهوم ، فلا يقبل مع تلك المنطوقات.

على أنّها تدل على عدم ردّ غير الفاسق ، وذلك مسلّم ، فإنّه لا يردّ ، بل يجب البحث والتفتيش.

والعمدة في الاستدلال صحيحة حريز ، عن أبي عبد الله عليه السلام في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنا ، فعدّل منهم اثنان ، ولم يعدّل الآخران ، فقال : إذا كانوا أربعة من المسلمين ليس يعرفون بشهادة الزور أجيزت شهادتهم جميعا ، وأقيم الحدود (الحدّ ـ ئل) على الذي شهدوا عليه ، وإنّما عليهم ان يشهدوا بما أبصروا وعلموا ، وعلى الوالي أن يجيز شهادتهم ، إلّا أن يكونوا معروفين بالفسق (٢).

ويمكن أن يناقش في السند بعدم ظهور صحّته إلى الحسن بن محبوب : فإنها منقولة في التهذيب في آخر باب البيّنات مقطوعة عن الحسن (٣). وفي أواسط الباب نقلها عن أحمد بن محمّد عن الحسن ، وأحمد مشترك ، فالطريق إليه غير ظاهر.

__________________

(١) سند الروايتين كما في الكافي باب ١٧ ما يردّ من الشهود هكذا : عليّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونس بن عبد الرحمن عن عبد الله بن سنان إلخ. ثم قال : عنه عن عبد الله بن مسكان عن سليمان بن خالد. وليس فيه (إبراهيم).

(٢) الوسائل باب ٤١ من كتاب الشهادات ح ١٨ ج ١٨ ص ٢٩٣.

(٣) تقدّم مرارا أنّ للشيخ طريقا إلى الحسن بن عليّ بن فضّال كما في مشيخة التهذيب والاستبصار.

٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

وفيه أبو أيّوب ، وهو أيضا ، مشترك ، وفي حريز أيضا شي‌ء ، وإن كان الظاهر أنّ الطريق إلى الحسن صحيح ، أحمد هو ابن محمّد بن عيسى ، الثقة ، والطريق إليه صحيح ، وكذا أبو أيوب ، هو الخزاز ، كما صرّح به في أخر الباب ، وحريز مقبول عندهم ، بل ثقة.

ويمكن حملها على التقيّة ، واختصاصها بالصورة المذكورة ، فلا يكون دليل عدم الاشتراط مطلقا ، بل دليله في الجملة.

على أنّه قد استثنى المعروف بالفسق ، فلا بدّ من العلم أو الظنّ بعدم ذلك ، وليس معلوم حصوله من دون العدالة ، فتأمّل.

وبالجملة الظاهر اشتراط العدالة ، بل يظهر من الأصول والفروع في الجملة ذلك.

إلّا أنّ الكلام في مفهومها ، وفي أنّها هل تحصل بمجرد الإسلام ، مع عدم ظهور الفسق أم بحسن الظاهر ، أم لا بدّ من المعاشرة الباطنية.

وقد عرّفت ـ في الأصول والفروع من الموافق والمخالف ـ بالملكة التي يقتدر بها على ترك الكبائر ، والإصرار على الصغائر ، والمروءات.

وقد عرفت أنّه لا بدّ من العلم الشرعي بحصولها ، ومعلوم أن ذلك لا يحصل إلّا بالمعاشرة المطلقة ، أو قول المزكّي.

ولكن ما نعرف دليل اعتبار هذه الملكة ، وينبغي عدم الدقة والمبالغة في ذلك ، والاكتفاء بما يعلم من صحيحة ابن أبي يعفور ، بل الأقلّ ، لظهور حمل بعض ما فيها على المبالغة والتأكيد ، للإجماع وغيره.

وأيضا ما نعرف دليل اعتبار المروءات المباحات في العدالة ، لعلّ لهم دليلا ما رأيناه ، فتأمّل.

وأمّا الاستدلال بكفاية الإسلام ، بناء على أنّ الأصل في المسلم العدالة

٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

كما ذهب إليه بعض العامّة ، أو أن الظاهر من حال المسلم ذلك ، إذ لا يترك الواجبات ولا يفعل المحرّمات ، ولهذا لو نسبه أحد إلى خلاف ذلك ، يفسّق ويعزّر.

فضعيف ، إذا الأصل عدمها ، وهو ظاهر. والظاهر لا يدلّ على حصولها ، وهو مع اعتبار الملكة واضح ، ومع عدمه ، لا شكّ في اعتبار أمور كثيرة وجودية فيها ، والأصل عدم ذلك كلّه.

وظهور حال المسلم لا يقتضي حصولها ، على أنّه معارض بما تراه من أكثر المسلمين ، فإنّك إذا عاشرت الناس خصوصا في السفر وبالمعاملة ، عرفت أن أكثرهم غير عدل ، ولهذا لم يوجد إلّا نادرا ، فالظاهر يعارض بالظاهر.

وحمله على عدم ترك الواجبات وفعل المحرّمات ، وعلى الصحّة والسداد ، وتعزير من ينسبه إلى الفسق للمصلحة ، وذلك لا يقتضي الجزم ولا الظنّ بالعدالة والشهادة بها ، والحكم بشهادته في القضيّة الموقوف على ظهورها عند الحاكم بحيث يحكم بها شرعا.

ولهذا يحمل على ذلك ولو حصل الظنّ بعدم فعل الواجبات وترك المحرّمات بفرد لو نسبه إليه ولو علم فسقه.

وبالجملة فرّق بين ثبوت شي‌ء عند الحاكم بحيث يحكم عليه ويحكم على الخلق بسبب وجوده ، وبين عدم الحكم بالعدم والحمل على الفعل بناء على ظاهر الحال لمصلحة ، فافهم ، ولا يستلزم الثاني الأوّل ، وهو ظاهر فتأمّل.

والاستدلال بالإجماع وعمل الصحابة والتابعين ـ فإنّهم ما كانوا يبحثون عن الشهود ، بل يكتفون بالإسلام ، كما يظهر من خلاف الشيخ ـ أضعف ، فإنّ ذلك في مثل هذه المسألة بعيد ، حتّى لم يظهر القول بذلك مطلقا من المخالفين أيضا ، بل نقل ذلك عن أبي حنيفة فقط في غير الحدود ، لا مطلقا ، ولهذا ذهب إلى غير ذلك في غيره ، وهو أعرف.

٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ثمّ اعلم أنّ الظاهر أنّ مراد الشيخ من الإسلام ، الإيمان بمعنى الأخصّ. فإنّه يبعد قوله بقبول مطلق المسلم ، مع قوله بفسقهم لمخالفة المذهب ، فكيف يستدلّ الشيخ بفعل الصحابة والتابعين القائلين بقبول كلّ المسلمين ، بل غير المؤمنين ، كما روي أنّ أبا يوسف ردّ شهادة ابن أبي يعفور ، وقال لأنك رافضيّ مع علمه بأنّه صدوق طويل الليل ، ولمّا بكى ـ وقال : نسبتني إلى قوم أخاف أن لا أكون منهم ـ ، قبله (١) كذا في التهذيب وغيره ، فتأمّل.

واعلم أيضا أنه قال في شرح الشرائع ـ بعد نقل بعض أدلّة الأول ـ : وفي هذه الأدلّة نظر ، أمّا الآية فليس فيها أنّ المراد منها ما هو زائد على الاكتفاء بظاهر الإسلام ، إذا لم يظهر الفسق ، فيقول : ذلك هو العدالة ، فإنّها الأصل في المسلم بمعنى أن حاله يحمل على القيام بالواجبات وترك المحرّمات ومن ثمّ جرى عليه هذا الحكم حتّى لا يجوز رميه بفعل محرّم ولا ترك واجب أخذا بظاهر الحال ، واتّفق الكلّ على أنّ بناء عقده على الصحيح ، سلّمنا ، أنّ العدالة أمر آخر غير الإسلام ، وهو الملكة الآتية ، لكن لا يشترط العلم بوجودها ، بل يكفي عدم العلم بانتفائها عن المسلم ، والعدالة في الآية ما جاءت شرطا ، حتّى يقال أنّه يلزم من الجهل بها. الجهل بالمشروط ، وإنّما جاءت وصفا ، ومفهوم الوصف ليس بحجّة ، بحيث يلزم من عدمه عدمه بخلاف الشرط ، نعم جاء الفسق شرطا إلى قوله : إنّ العدالة تقتضي أمرا زائدا على الإسلام مسلّم ، لكن لا يدل على وجوب العلم بوجودها ، لأنّ الآية المطلقة اقتضت قبول المسلم من رجالنا الشامل بإطلاقه للفاسق وغيره ، والوصف بالعدالة دلّت على أمر زائد وهو اعتبار أن لا يكون فاسقا ، وأمّا إثبات وصف آخر زائد على

__________________

(١) رواه في الوافي : في باب النوادر من أبواب القضاء والشهادات عن الكافي والتهذيب. وأورده في الكافي في باب النوادر من كتاب الشهادات حديث ٨ وراجع الوسائل باب ٥٣ من كتاب الشهادات ج ١٨ ص ٣٠٤ تجد ما يناسبه.

٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

عدم العلم بالفسق فلا ، فالخصم يدّعي أنّ العدالة تحصل ظاهر مع الجهل بحال المسلم ، فيتناوله الآية (١).

فيه نظر ، أوّلا : من حيث تطويل الكلام ، وإطلاق الأصل على الظاهر في قوله (فإنّها الأصل في المسلم بمعنى أنّ حاله إلخ).

وثانيا : إنّك قد عرفت أنّ العدالة أمر زائد على ذلك ، ولا يطلق العدالة على مجرّد الإسلام مع عدم ظهور الفسق ، ولا يفهم ذلك من هذا اللفظ بوجه من الوجوه.

وأيضا قد عرفت أنّ الفسق مانع شرعا عن قبول الشهادة ، فالعلم برفعه على الوجه الشرعي لازم ، وهو أن يعلم أو يظنّ ظنّا شرعيا بها.

وقد عرفت أيضا أنّه لم تحصل الملكة بمجرّد الإسلام ، ولا مع العلم بعدم الفسق ، بل ولا يظنّ بذلك عدم الفسق ظنّا شرعيا ، لما عرفت من ظهور حال الناس.

وثالثا : إنّه بعد تسليم أنّ العدالة أمر آخر غير الإسلام ، وهو الملكة ، لا معنى لعدم اشتراط العلم الشرعي بوجودها ، بل يكفي عدم العلم بانتفائها عن المسلم إلخ وأنه يكفي الأمر بإشهاد ذوي العدل ، وإن لم يكن بطريق الشرط ، فإنّه علم الحكم حينئذ بالشاهد العدل مع العلم به ولم يعلم جواز الحكم بغيره ، فلا يضر منع الاشتراط بعد تسليم الوصف ، فتأمّل.

ورابعا : إنّه لا معنى بعد تسليم أنّها أمر آخر ـ وهو الملكة ـ منع (٢) ذلك ، واحتمال أن يكون عدم الفسق ، وهو ظاهر فافهم.

__________________

(١) إلى هنا عبارة شرح الشرائع.

(٢) هكذا في النسخ المخطوطة والمطبوعة ولعلّ الصواب لمنع ذلك كما لا يخفى.

٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

ثم قال : أمّا الرواية ـ فمع قصور دلالتها على مطلوبهم ـ في طريقها جماعة : منهم الحسن بن عليّ عن أبيه ، والظاهر أنّ المراد منهما ، ابنا فضّال ، الحسن وأبوه ، وغايته أن يكون محتملا لهما ، وهو كاف. وفيه محمّد بن موسى ، وهو مشترك بين جماعة ، منهم الضعيف جدا ، والثقة. ثم إنّه معارض برواية ابن المغيرة ، وهي التي تقدّمت (١).

وفيه أيضا نظر ، إذ قد عرفت أنّها صحيحة في الفقيه. والظاهر أنّ في سند التهذيب والاستبصار غلطا ، وينبغي أن يكون هكذا : أحمد بن الحسن بن عليّ عن أبيه.

ويدلّ عليه قرائن كثيرة ، مثل وجوده في مثل هذا السند ، وهو ظاهر ، خصوصا بعد هذه الرواية في هذا الباب وعدم وجود عليّ بن فضّال في الروايات ، ولا في كتب الرجال ، بل الموجود عليّ بن الحسن ، والحسن بن عليّ ، وكلّ ذلك ظاهر عند المتتبّع ، فتتبّع.

وإنّ الحسن ثقة ، وإن قيل : إنّه فطحي ، وكذا أحمد.

والظاهر أنّ محمّد بن موسى ثلاثة ، اثنان ثقتان ، والواحد ضعيف ، كأنّه غير مشهور ، ولذلك ما ذكره في كتاب ابن داود فيغلب على الظنّ كونه ثقة ، فتأمّل.

وإنّ رواية ابن المغيرة ضعيفة على ما ذكره الشارح عن التهذيب والاستبصار ، فلا يصلح معارضا لها ، نعم هي حسنة على ما نقلناها عن الفقيه ، ومع ذلك قد عرفت أن لا تعارض ، إذ لا دلالة لها على خلاف هذه على ما عرفت.

واعلم أيضا أنه قال في الاستبصار ـ بعد نقل روايتي عبد الله وعبد الكريم ابني أبي يعفور ـ : فأمّا ما رواه عليّ بن إبراهيم عن محمّد بن عيسى عن يونس عن

__________________

(١) إلى هنا عبارة شرح الشرائع.

٧٠

ولا البناء على حسن الظاهر.

ولو ظهر فسقهما حال الحكم نقضه.

______________________________________________________

بعض رجاله عن أبي عبد الله عليه السّلام إلى آخر الرواية ، فلا ينافي الخبرين الأوّلين من وجهين (أحدهما) أنه لا يجب على الحاكم التفتيش عن بواطن الناس ، وإنّما يجوز له أن يقبل شهادتهم إذا كانوا على ظاهر الإسلام ـ إلى قوله ـ (والوجه الثاني) أن يكون المقصود بالصفات المذكورة في الخبر الأوّل ، الأخبار عن كونها قادحة في الشهادة ، وإن لم يلزم التفتيش عنها ، والمسألة والبحث عن حصولها وانتفائها ، ويكون الفائدة في ذكرها أنّه ينبغي قبول شهادة من كان ظاهره الإسلام ولا يعرف فيه شي‌ء من هذه الأشياء ، فإنّه متى عرف فيه أحد هذه الأوصاف المذكورة ، فإنّه قد يقدح ذلك في شهادته ، ويمنع من قبولها ، ويزيد ما قلناه بيانا ما رواه ، وذكر رواية يونس ورواية حريز المتقدّمة ، ثمّ ذكر رواية عبد الله بن المغيرة المتقدّمة.

وأنت تعلم بعد هذين الحملين ، وضعف رواية يونس ورواية عبد الله بن المغيرة المذكورة في الاستبصار والتهذيب.

نعم رواية حريز صحيحة ، ورواية عبد الله حسنة في الفقيه ، وإنّها ليست بمنافية لما تقدّم. وإنّ رواية حريز ليست بصريحة في المطلوب ، ومؤوّلة بما تقدّم ، فتأمّل وتذكّر.

قوله : «ولا البناء على حسن الظاهر». أي لا يكفي لقبول الشهود كون ظاهرهم حسنا من دون العدالة بالمعنى المشهور ، لما مرّ.

وهو إشارة إلى مذهب آخر ، فالمذاهب ثلاثة ، العدالة المشهورة ، والاكتفاء بالإسلام مع عدم ظهور الفسق ، واشتراط حسن الظاهر.

قوله : «ولو ظهر فسقهما حال الحكم نقضه». قد مرّ أنه لم يحكم مع ظهور مانع عن الحكم ، مثل فسق الشهود. ولو لم يكن حال إقامة الشهادة مانع ، ثمّ

٧١

ويسأل عن التزكية سرّا.

ويفتقر المزكّي إلى المعرفة الباطنة ، المستندة إلى تكرّر المعاشرة

______________________________________________________

حدث ، فإن كان قبل الحكم ، فالظاهر أنه لا يمنع ، فإنّ المقصود من اتّصاف الشهود بالأوصاف المعتبرة ، رفع الكذب والغلط والوثوق بخبرهم لثبوت الحق ، ومع عدم المانع حال الإقامة يحصل ذلك ، ولا يضرّ وجوده بعدها ، ولأنه كما إذا كان قبل الإقامة فاسقا ، وصار وقت الإقامة عدلا ، لا يضرّ الفسق السابق ، فكذا اللاحق.

ويحتمل عدمه ، لصدق انه حكم بشهادة الفاسق ، ولعدم بقاء الوثوق حينئذ.

فيه أنه يصدق أنه حكم بشهادة العدل حال الشهادة ، وإن كان فاسقا الآن ، وذلك لا يضرّ الوثوق حينئذ ، إذ عروض الفسق لا يدفع كونه موثوقا به قبله فتأمّل.

ولو كان المانع موجودا حال الحكم وخفي على الحاكم ولم يظهر ثم ظهر ، فإن كان قبل الحكم ، لم يحكم وإن كان بعد الإقامة ، وإن كان بعده نقض حكمه ، وإن كان بذل جهده فيما هو وظيفته ولم يظهر إلّا بعده ، فإن حكم الحاكم عندنا لا يثبت الحقّ في نفس الأمر ظاهرا وباطنا ، بل إنّما يثبت به ظاهرا بالعقل والنقل ، فإذا علم فساده بحسب الظاهر ينقضه ، فتأمّل.

ويثبت المانع بشهادة الجارحين بعد الحكم كما قبله ، ويحتمل بإقرار الشاهد أيضا ، ولكن يحتمل الغرامة. وبعمل الحاكم بأيّ وجه كان.

قوله : «ويسأل عن التزكية سرّا». إن كان الحاكم يعرف عدالة الشهود يحكم بعد سؤال المدّعي ، وإن عرف الفسق لم يحكم ، بل يردّ ، وإلّا يسأل عن المزكّي ، وينبغي السؤال عن التزكية وتفصيل حال الشهود عن المزكّي سرّا ، لأنّه أبعد عن التهمة وحصول الخجل لهم وعدم استحياء المزكّي عنهم ، فيقولون ما يعرفون من غير حياء ومفسدة ، فتأمّل.

قوله : «ويفتقر المزكّي إلخ». أي يحتاج المزكّي في تزكيته أحدا وتعديله

٧٢

ولا يجب التفصيل ، وفي الجرح يجب التفصيل على رأي.

______________________________________________________

إياه ليشهد بعدالته ، إلى المعرفة الباطنة ، أي المعاشرة الباطنة المتكرّرة المخبرة بباطن حاله مدّة بحيث يعلم بذلك وجود الملكة الباطنة فيه ، بمعنى أنه لو لم يكن مقيّدا وصاحب ملكة لظهر خلافها منه في هذه المدّة بتلك المعاشرة بالفسق ، وترك المروة على تقدير اعتبارها.

وذلك قد يحصل بمجرّد المصاحبة إذا كان المصاحب زكيّا في مدة قليلة ، وقد يحصل في مدّة طويلة بالجوار والمعاملات والأسفار ، وبالجملة ذلك إلى المعاشر.

والظاهر أنه لا يعتبر العلم ، بل الظنّ المتاخم له ، بل الظنّ المأخوذ من المعاشرة على الوجه الذي ذكرناه ، فينبغي أن يكون المعاشر عالما بطريق العدالة من معرفة الكبائر وغيرها.

والظاهر أنه يمكن حصوله لمن لا يعرف الكبائر بالتفصيل أيضا ، إذ قد يحصل من المعاشرة المطلعة على الباطن ، أنّ مثل هذا الشخص لا يفعل الذنب الكبير ، بل ولا الذنب عمدا ، وأنت لم يعرف المعاشر الذنوب بالتفصيل ، وهو ظاهر ، وقد مرّت إليه الإشارة.

والدليل عليه بعد اعتبار العدالة ، أنّه لا بد من معرفتها وهي خفيّة ، والتكليف بالعلم حرج منفي ، بل غير معقول.

ومطلق الظنّ أيضا غير معتبر للأصل ، ولما يمنع العمل به مطلقا ، فبقي الظنّ الذي يحصل معه الاطمئنان بحصول تلك الملكة وعدم الجرأة على الكذب الذي هو المنافي لمقصود الشهادة ، وذلك يحصل بما تقدّم ، فتأمّل.

ويمكن فهمه من الروايات السابقة أيضا كصحيحة ابن أبي يعفور فافهم.

وأيضا ، الظاهر أنّ ذلك قد يحصل بالاستفاضة.

وأيضا قد يحصل بإخبار العدلين بذلك ، والظاهر عدم الخلاف في ذلك ، بل بإخبار العدل الواحد.

٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

بل قد يحصل من الكتب كما في توثيق الرجال الآن. وكذا يحصل الجرح بما ذكرناه.

وإلّا لأشكل الحكم بتوثيق الرواة وتفسيقهم في زماننا هذا.

فالحصر المستفاد في هذا المقام من كلامهم ـ مثل المتن والشرائع وشرحه ، حيث قال : (ويفتقر إلى المعرفة الباطنة المتقادمة ، ولا يحتاج (يفتقر ـ خ) الجرح إلى تقادم المعرفة ، ويكفي العلم بموجب الجرح) (١) قال : (ولا يعتبر التقادم في الجرح ، بل يكفي فيه المعاينة ، أو السماع. أمّا المعاينة فبأن يراه يفعل فعلا ، يخرجه عن العدالة. وأما السماع به ، فكأن يسمعه يقذفه ، أو يقر على نفسه بمعصية يوجب الفسق ، أو يسمع من غيره على وجه يبلغ حدّ العلم بذلك ، أو يتاخمه) (٢) وما سيجي‌ء في المتن وفي غيره ممّا هو أصرح من هذا في الحصر ـ محلّ التأمّل ، إلّا أن لا يكون الغرض هو الحصر الحقيقي ، بل الإضافي بالنسبة إلى بعض الظنون ، وهو خلاف الظاهر.

أو يكون ذلك في مقام الشهادة فقط ، لا مقام الرواية ، وهو بعيد ، فتأمّل.

أو يكون المقصود أنه لا بد من الانتهاء بالأخرة إلى ذلك ، فتأمّل.

وقال أيضا : (ويشترط في المزكّي أيضا أن يعرف نسب الشاهد والمتداعيين ، لجواز أن يكون بينه وبين المدّعي شركة ، أو بينه وبين المدّعى عليه عداوة ، فلا يكفي إثبات أصل العدالة.

وبالجملة ، صفة المزكّي صفة الشاهد مع زيادة هذه الأمور ، مضافا إلى معرفته بشرائط الجرح والتعديل وما يخرج به من العدالة من الأفعال والأقوال

__________________

(١) هذه العبارة منقولة عن المسالك فلاحظ.

(٢) هذه العبارة منقولة عن الشرائع ، فلاحظ.

٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

والأحوال) (١).

فيه أيضا تأمّل ، إذ المزكّي هو مثبت عدالة الشاهد ، لا مثبت قبول شهادته فيما يشهد به ، كأنّه يريد به ذلك ، ومع ذلك قد يقال : يكتفي بعدم سائر الموانع من القرابة والعداوة وجرّ النفع بالشركة وغيرها بالأصل.

ولهذا ما ذكرت هذه الأوصاف في أكثر العبارات.

على أنّ معرفة النسب لا دخل لها في الجرح والتعديل خصوصا بالشركة والعداوة.

وأيضا قد عرفت أنّه قد يحصل الظنّ المتاخم للعلم ، بل العلم بعدالة شخص من غير المعرفة بتفاصيل الكبائر التي تقدح في العدالة.

ثمّ اعلم أنّ الظاهر أنه يكفي قوله (هو عدل) مع معرفة معناها ، وكذا ما يقوم مقامه ، ولا يحتاج إلى إضافة (عليّ ، ولي) لاحتمال أن يكون عدلا في بعض الأمور ، كالصادق كما قيل ، لأنّ معناها عرفا لا يتحقّق إلّا مع الملكة ، بل مع مقبوليّة الشهادة إذا أطلقت (أطلعت ـ خ ل) ، خصوصا في مقام التزكية والشهادة.

ولهذا تراهم ما يذكرون في كتب الرجال أكثر من ذلك ، فكان جميع شرائط القبول داخلة فيها وفي (الثقة) ، إذ يكتفون بذلك.

ويؤيّده قوله تعالى (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (٢) وسائر أدلّة شرائط قبول الشهادة ، حيث ما ذكر فيها غيرها.

وأيضا أنّه لو لم يكن ذلك كافيا ، لم ينفع إضافة (عليّ ، ولي) بل ليسا مربوطين بها إلّا بتأويل. نعم لو قيل بعدم الاكتفاء بها ، بل لا بدّ من قول (مقبول الشهادة) لكان وجها هذا أيضا إذا أريد من المزكي ، من يثبت قبول الشهادة ،

__________________

(١) إلى هنا عبارة شرح الشرائع (المسالك).

(٢) الطلاق : ٢.

٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

لا مجرّد العدالة ، ولم يكن ذلك مفهوما من العدل ، وإلّا لكفى ، فتأمّل.

واعلم أيضا أنّ في قوله (المعرفة الباطنة) مسامحة ، فتأمّل ، والأمر في ذلك هيّن.

والعمدة بيان أنّه هل يحتاج في بيانها (بيانهما ـ خ) إلى التفصيل والتفسير ، أم لا؟ ففيه خلاف في الأصول والفروع ، قيل : لا يحتاج فيهما ، إذ الكلام فيمن يعرف طريقهما وقبول قولهما ، فإنّ التفصيل أيضا كلامه ، فلا ينفع الزيادة.

ويؤيّده (ذوي عدل) ونحوه ممّا تقدّم ، إذ لو احتاج إلى أكثر من ذلك لذكر.

وقيل : يحتاج فيهما معا إليه ، للاختلاف في أسبابهما وطريقهما واحتمال الاشتباه والالتباس ، فقد يتخيّل ما هو سبب ولم يكن كذلك في نظر الحاكم للسهو والاشتباه وعدم الدليل ، وكونه كذلك على مذهب غيره.

ومنه يعلم حال دليل الأول (وَأَشْهِدُوا) لبيان وصف العمدة للشهود ، لا لجميع شرائط القبول ، وبيان أنّه أيّ شي‌ء يذكره المزكّي فتأمّل فيه.

وقيل : يجب التفصيل على المعدّل دون الجارح ، فإنّه يحتاج إلى المعاشرة الكثيرة المطلعة التي هي قليل الوجود ، وكذا ما شهد به من العدالة ، فإنّها قليلة جدّا ، ويحتاج إلى فعل أمور كثيرة وترك أمور كذلك ، بخلاف الجرح ، فإنّه يكفي فيه العلم بأمر واحد فهي بالتدقيق أنسب.

فيه أنّ ذلك لا يوجب التفصيل في البيان ، مع أنه يعسر ذكره ، بل لا يمكن ، إلّا أن يكتفى بالإجمال بأنّه رأيته مواظبا على الطاعات وترك المحرّمات والمروّات زمانا ، عرفت أنّ ذلك ملكة له.

وقيل بالعكس ، وهو الأشهر ومختار الأكثر ، لأنّ العدالة كما عرفت تحتاج إلى أمور كثيرة جدّا ، ولا يمكن تفصيلها ، فإيجاب ذلك يؤول إلى تعطيل الأحكام ،

٧٦

ولو اختلف الشهود في الجرح والتعديل قدّم الجرح ، وإن تعارضا وقف.

______________________________________________________

وليس ذلك في الجرح ، مع اختلاف العلماء في أسباب الجرح ، فربّ شي‌ء يراه الجارح قادحا ، لم يكن كذلك عند الحاكم.

ويؤيّده احتمال الاشتباه والسهو والنسيان. فلا يرد أنّ ذلك مشترك بين الجرح والتعديل ، فإنّ الاختلاف في أحدهما عين الاختلاف في الآخر ، وكذا الاشتباه والنسيان ، لما قلنا أنّ ذلك التفصيل فيه ممّا لا يمكن إيجابه ، لاستلزامه التعطيل المنافي لغرض نصب الحاكم وأنّ الاشتباه والنسيان مؤيّد ، ولو اكتفى بالإجمال فهو مثل قوله : (عدل).

نعم لو فرض كونهما عالمين بحيث لو كان سبب الجرح والتعديل خلاف مذهب القاضي لصرّحا به مع ظهور حالهما عند الحاكم من عدم الاشتباه والسهو والنسيان ظاهرا ، بل لم يكن محتملا ، أو كان ولكن يكون بعيدا غاية العبد لم يحتج إلى التفصيل فيهما ، وهو مذهب بعض المحقّقين في الأصول كالمصنّف.

فلا يرد عليه أنّ الفرض علمهما وضبطهما ، فلم يكن هذا المذهب ضعيفا كما قيل.

وبالجملة ينبغي التفصيل خصوصا في الجرح ، واستفسار طريق شهادته ، فإنّ المعتبر عندهم هو العلم فيه كما سيجي‌ء ، وحصوله من غير اشتباه ، قليل في العدالة سيّما مع الريبة ، ولو كانت من جهة المعارضة فقط ، فتأمّل.

قوله : «ولو اختلف الشهود إلخ». أراد بالشهود المزكّي والجارح.

اعلم أنّ باب الترجيح باب عظيم النفع ، لكن من مشكلات أبواب الأصول والفقه ، وقد تبيّن في محله.

ومنها الترجيح بين المزكّي والجارح فنقول : إن زكّي عدل شخصا وجرحه آخر ، فهما بمنزلة تعارض الدليلين على حكم واحد ، فإن أمكن الجمع بينهما بوجه ،

٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

يفعل ، ولا يطرح أحدهما ، لوجوب الجمع بين الدليلين مهما أمكن عقلا ونقلا (١).

وإن لم يمكن الجمع بوجه من الوجوه الآتية ، مثل أن يشهد الأول بأنه عدل وكان في الوقت الفلانيّ مشتغلا في الموضع الفلانيّ بكذا ، والثاني بأنه كان في ذلك الوقت ، في ذلك المكان أو في غيره مشتغلا عمدا عالما بفسق مانع من العدالة ، مع تساوي العدد والعدالة وغيرهما من الأسباب المرجحة الاتية.

فقد توقف بعض كالشيخ والمصنف ، لتكافؤ الدليلين.

وترجيح الجارح ـ بأنه مؤسس وهو خير من المؤكّد ، كما قيل ذلك في ترجيح دليل التحريم والكراهة ـ بعيد ، إذ إثبات الحقوق والحكم الشرعي بمثل هذه النكتة مشكل.

وكذا بأنّه ، إثبات شي‌ء معدوم أبعد من نفي موجود ، فيحتمل غفلة المزكّي وعدم رؤيته دون اشتباه الجارح ، لان الفرض إثبات كلّ منهما معدوما ، ولأنه قد يعكس ، مثل أن يقول الجارح : ما يصلي ، ويقول المزكّي : يصلّي ، فتأمّل.

ويمكن ترجيح المزكّي ـ كما قاله من يرجّح دليل عدم التحريم والكراهة ـ بأنه موافق للأصل ، إذ الأصل عدم ذلك الفسق ، وإن كان ترك عبادة ، فالظاهر من حال المسلم خلافه ، فيكون له دليلان : المزكّي ، والأصل أو الظاهر ، مع بعد الاطّلاع على كونه عمدا عالما فيحتمل العدم ، فتأمّل.

ويمكن أن يقال : الأصل عدم الحكم وثبوت الحقّ المدّعى به ، إلى أن ثبت عدالة الشهود ولم يثبت ، فيردّ الشهود ، بمعنى أن لا يحكم ، لا بمعنى أن يحكم بفسق الشهود كما في مجهول الحال ، لعلّه المراد بالوقف.

ولا يبعد حينئذ الحكم إذا قيل بقبول مجهول الحال ، لتعارض شاهدي

__________________

(١) راجع الوسائل باب ٩ من أبواب صفات القاضي ج ١٨ ص ٧٥.

٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الجرح والتعديل ، فصارا كأن لم يكونا ، فصار شهود الأصل مجهولي الحال ، فتأمّل.

وأمّا وجود الترجيح ونفي التعارض :

(منها) ما رجّحوا به الجارح للجمع ، مثل أن أطلقا ، أو قيّد أحدهما دون الآخر ، أو قيدا بحيث تغاير الوقتان وأمكن التغيير والتعدّد في ذلك الزمان ، فيمكن المزكّي ما رأى منه الفسق ورآه الجارح وكان في وقت متّصفا بأحدهما ، وفي وقت آخر بآخر ، فلا تعارض وتكاذب حقيقة ، وهو ظاهر.

ولكن يمكن أن يرجّح المزكّي في بعضها ، فإنه قد يكون الفسق مقدّما ثم تاب عن ذلك وصار عدلا ، ولا شكّ أنّه يرجح المزكّي على تقدير العلم بالتقدم ، بحيث يمكن في ذلك الوقت حصول الملكة.

وعلى القول بكفاية التوبة يكفي مجرّد التقدّم وإن اعتبر معها إصلاح العمل في الجملة كما هو الظاهر من الآيات (١) والأخبار (٢) يجب التقدّم بمقدار إمكان إصلاح العمل فيه ، وهو ظاهر.

وإنّما الإشكال مع الاشتباه في التقدّم والتأخّر ، وفي تعدّد الزمان واتّحاده ، فإنّ ظاهر كلامهم ترجيح الجارح لما مر.

ويمكن ترجيح المعدّل بالجمع على الوجه الذي تقدم ، فصار التعارض بين الوجهين حمل المعدّل على عدم رؤيته الفسق والجارح على رؤيته ، والحمل على تقدّم الذنب وتأخّر العدالة الظاهرة بالتوبة والعمل الصالح ، أو الملكة.

وقد يرجّح الأخير ، بأن حمل المعدّل على عدم تحقّق الملكة وغفلته عنها ،

__________________

(١) قال الله تعالى (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) ـ النساء : ١٧.

(٢) الوسائل باب ٨٧ من أبواب جهاد النفس وما يناسبه ولا سيّما حديث ٤ عن نهج البلاغة أنّ قائلا قال بحضرته : أستغفر الله ، فقال : ثكلتك أمك أتدري ما معنى الاستغفار إلخ ، ج ١١ ص ٣٦١.

٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وحمل الفاعل على التدليس والإخفاء منه دون الجارح ، بعيد ، إذ الفرض المعاشرة الباطنيّة بحيث لو كان فاسقا لظهر ، والحمل على تقدّم الفسق سالم عن هذا ، فتأمّل.

ومثله لو قال أحدهما : فطحيّ ، والآخر أنّه عدل إماميّ ، بل عدل وثقة ، إذا كان عرف القائل أنّه يريد من العدل والثقة الإماميّ ، لا العدل في مذهبه والثقة كذلك.

فحينئذ حمل بعض ما ورد في بعض الرواة ـ قيل أنّه ثقة ، وقيل (انه ـ خ) فطحيّ ـ على أنه فطحيّ ثقة محلّ التأمّل ، نعم ذلك جيّد إذا لم يعلم العرف والاصطلاح في ذلك. وكذا إذا شهد أحدهما بالضبط والآخر بعدمه ، فتأمّل.

(ومنها) كثرة العدد. فيرجّح الأكثر على الأقلّ.

(ومنها) الأعدل والأورع كما دلّت عليه الرواية في القاضي (١) ويحتمل الأعلم.

(ومنها) لو أمكن الحمل على وقوع الذنب والفسق نسيانا وغلطا وغفلة وجهلا أيضا على تقدير كونه عذرا كما هو الظاهر في أكثر الأمور.

ولكن لا بدّ أن يكون ذلك في حقّ من أمكن في حقّه ذلك ، وحمل الفعل الذي يرى الجارح أنّه فسق ، على غيره إن أمكن ، مثل أن قال : اغتاب من لا يجوز غيبته ، فيحمل على الفرد الجائز من الغيبة إن أمكن ، مثل أن كان شخصا مبهما ، أو اعتقد ردعه عن ذلك بها ، أو عدم مبالاته بها ، وعدم كراهته لها ، ونحو ذلك.

وبالجملة ، بعد شهادة العدلين وتحقيقهما العدالة خصوصا بمعنى الملكة ، يشكل ترجيح الجارح عليه في هذه الصور التي ذكرناها أوّلا مطلقا ، إلّا أن لا يمكن

__________________

(١) الوسائل كتاب القضاء باب ٩ من أبواب صفات القاضي قطعة من حديث ١ ج ١٨ ص ٧٥.

٨٠