مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان - ج ١٢

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]

مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]


المحقق: الشيخ مجتبى العراقي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

البحث الرابع : فيما تزول به العدالة

والظاهر أن لا خلاف في زوالها بارتكاب الكبيرة ، وأنه كذلك بالإصرار على الصغيرة فإنه كبيرة عندهم كما أشرنا إليه.

والظاهر أنها تعود بالتوبة والعمل الصالح في الجملة. وما يدلّ عليه من الآيات والأخبار (١) ، كثيرة ، بل لا يبعد كونه إجماعيا ، ولكنّ العمل الصالح غير معلوم.

فالمراد منه ـ في الظاهر ـ ما يطلق عليه عمل صالح ، مثل صلاة وصوم ، بل ذكر واستغفار ونحو ذلك ممّا يقال عليه شرعا أنه عمل صالح.

بل لا يبعد أن يكفي التوبة إذا علم كونها توبة وندامة وعدم العود على ذلك بوجه ، بأن يمضي زمان يمكن العود ولم يكن له مانع عن الذنوب وما ينقض التوبة فهي مع الاستمرار في الجملة ـ بحيث يتيقّن التوبة والإصرار عليه مدّة ـ هو العمل الصالح.

بل لا يبعد العود بمحض التوبة ـ وهي الندامة والعزم على عدم الفعل ـ لكون الذنب قبيحا ممنوعا شرعا وامتثالا لأمر الله ولم يكن غير ذلك مقصودا ، فيكون العمل الصالح تأكيدا لتحقّق التوبة وإصلاح النفس كما يظهر من تفسير (٢) قوله تعالى : «وَمَن تابَ وَأصلَح» (٣) ، لعموم قبول التوبة في الآيات والأخبار الكثيرة ،

__________________

(١) راجع الوسائل باب ٤٧ من أبواب جهاد النفس ، ج ١١ ص ٢٦٤.

(٢) في مجمع البيان ج ٤ طبع مصر ص ٤٧٦ ، عند قوله تعالى : (وَأَصْلَحَ) : أي رجع عن ذنبه ولم يصرّ على ما فعل وأصلح عمله).

(٣) ليس في القرآن المجيد آية بهذه العبارة ، بل الآية الشريفة هكذا «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ، الأنعام : ٥٤.

٣٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

مثل (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) (١).

والظاهر أنه مقصود الشيخ (٢) من قوله : تب أقبل توبتك ، فإن التوبة ما تتحقّق ما لم تكن كما قلناه ، بل تب توبة حقيقيّة ، وإذا تحقق عندي ذلك أقبل توبتك ، فتترتب عليه هذه الفائدة ، لا أنه يكون مقصودك دفع عار الردّ والقبول ، وهو ظاهر فإنه حينئذ لم تتحقّق التوبة.

والظاهر وقوعها من بعض الذنوب ، وإن منعه المحقّق في التجريد. قدّس الله روحه ونوّر ضريحه.

وأعلم أنها إنما تتمّ مع السعي في تلافي وتدارك ما يمكن تداركه ، مثل إعطاء حقوق الناس والخلاص من ذلك من إبراء وإسقاط ، وقضاء العبادات التي يجب قضاؤها. وقد تقدّم البحث عن هذه الأمور مرارا.

والدليل على القبول والعود بمطلق التوبة ، أنّ المفهوم من العدالة عدم ارتكاب الكبيرة على الوجه الذي فهم من رواية عبد الله بن أبي يعفور (٣) ، وذلك يحصل بعدم ذلك ابتداء ، وتنعدم بفعلها ، فتعود بالترك مع الندامة والعزم على عدم العود وإن لم يتحقّق بالترك فقط.

ولأنه حينئذ يتحقّق ما يفهم في قبول الشهادة.

ولأنه المانع فيزول بزواله.

ولآية القذف ، فإنّها تدلّ على الزوال وعدم قبول الشهادة به ، وعلى القبول

__________________

(١) الوسائل باب ٨٦ حديث ٨ و ١٤ من أبواب جهاد النفس ، ج ١١ ص ٣٥٨ ـ ص ٣٦٠. وتمامه في الأول : والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ به.

(٢) قال في الشرائع : المشهور بالفسق إذا تاب لتقبل شهادته ، الوجه انها لا تقبل حتى يستبان استمراره على الصلاح ، وقال الشيخ : يجوز أن يقول : تب أقبل شهادتك (انتهى) ، الشرائع.

(٣) راجع الوسائل باب ٤١ من كتاب الشهادات ، ج ١٨ ص ٢٨٨.

٣٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

والعود بالتوبة ، وهي قوله تعالى «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) (إلى قوله) (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ، إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (١) ، فيقبل بعد التوبة.

ولكن لا بدّ في توبته من إكذاب نفسه وإن كان صادقا في نفس الأمر ، لعدم إتيانه ، بالشهداء لقوله تعالى «فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ» (٢) ، فإن كان صادقا فهو ، وإن كان كاذبا يجب أن يورّي بحيث يخرج عن الكذب ظاهرا.

والأخبار على ذلك كثيرة ، مثل روايتي أبي الصباح الكناني ، قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن القاذف بعد ما يقام عليه الحدّ ، ما توبته؟ قال يكذب نفسه ، قلت : أرأيت إن أكذب نفسه وتاب أتقبل توبته (شهادته ـ ئل ـ كا)؟ قال : نعم (٣).

ولا يضرّ اشتراك محمّد بن الفضيل (٤) مع قولهم بصحّة هذا السند.

وصحيحة ابن سنان ـ كأنه عبد الله ـ قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن المحدود إن تاب ، أتقبل شهادته؟ فقال : إذا تاب ، وتوبته أن يرجع فيما (ممّا ـ ئل) قال ويكذب نفسه عند الإمام وعند المسلمين ، فإذا فعل ، فعلى الإمام أن يقبل شهادته بعد ذلك (٥).

__________________

(١) النور : ٤.

(٢) النور : ١٣.

(٣) الوسائل باب ٣٦ حديث ١ و ٥ من كتاب الشهادات ، ج ١٨ ص ٢٨٢ و ٢٨٣. وفي الثاني : عن القاذف إذا أكذب نفسه وتاب أتقبل شهادته؟ قال : نعم.

(٤) سند أحدهما كما في الكافي هكذا : محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن محمّد بن إسماعيل ، عن محمّد بن الفضيل عن أبي الصباح ، وسند الأخرى كما في التهذيب هكذا : الحسين بن سعيد ، عن محمّد بن الفضيل ، عن أبي الصباح.

(٥) الوسائل باب ٣٧ حديث ١ من كتاب الشهادات ، ج ١٨ ص ٢٨٣.

٣٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وقريب منها مرسلة يونس ، عن بعض أصحابه ، عن أحدهما عليهما السلام (١).

والظاهر عدم الفرق بين المحدود بالقذف وغيره.

ويؤيّده ما تقدّم ، ورواية السكوني ، عن أبي عبد الله عليه السلام أن أمير المؤمنين شهد عنده رجل وقد قطعت يده ورجله بشهادة ، فأجاز شهادته وقد كان تاب وعرفت توبته (٢).

واخرى له ، قال : قال أمير المؤمنين : ليس يصيب أحد حدّا فيقام عليه الحدّ ثم يتوب إلّا جازت شهادته (٣).

ورواية قاسم بن سليمان ، قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يقذف الرجل فيجلد حدّا ثم يتوب ولا يعلم منه إلّا خيرا ، أتجوز شهادته؟ فقال : نعم ، ما يقال عندكم؟ قلت : يقولون : توبته فيما بينه وبين الله ، ولا تقبل شهادته أبدا ، قال : بئس ما قالوا ، كان أبي عليه السلام يقول : إذا تاب ولم يعلم منه إلّا خير جازت شهادته (٤).

ولا يضرّ وجود القاسم بن سليمان.

البحث الخامس : فيما تثبت به العدالة

ولا شكّ في حصولها وزوالها بالمعاشرة الباطنيّة ، والعدلين ، وإن في الثاني (٥)

__________________

(١) الوسائل باب ٣٦ حديث ٤ من كتاب الشهادات ، ج ١٨ ص ٢٨٣ ، مع اختلاف في ألفاظه.

(٢) الوسائل باب ٣٧ حديث ٢ من كتاب الشهادات ، ج ١٨ ص ٢٨٤.

(٣) الوسائل باب ٣٧ حديث ٣ من كتاب الشهادات ، ج ١٨ ص ٢٨٤.

(٤) الوسائل باب ٣٦ حديث ٢ من كتاب الشهادات ، ج ١٨ ص ٢٨٢.

(٥) يعني في زوال العدالة ـ يكفي المشاهدة من غير معاشرة.

٣٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

يكفي المشاهدة مرّة دون المعاشرة.

والمشهور ثبوتهما بالاستفاضة أيضا ، وفيه تأمّل ، إلّا أن يكون متاخما للعلم وظنا أقوى من المعاشرة والعدلين.

ويمكن عدم الحاجة إلى المعاشرة الباطنيّة ، وبكفاية المعاشرة في الجملة بحيث يعلم ذلك ، بأن يراه ملازم الصلاة والجماعة ساترا لعيوبه ، كما دلّت عليه صحيحة عبد الله بن أبي يعفور (١). وبالجملة ينبغي النظر في تلك الرواية ، فإنه يستفاد منها أكثر أحكام الباب.

ويمكن ثبوتهما بعدل واحد أيضا ، لقوله تعالى «إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ» (٢).

والظاهر قبوله في الرواية ، ويمكن قبوله في الشهادة أيضا لو لم يكن إجماع أو دليل آخر على كون الجارح والمعدّل عدلين ، فتأمّل.

واعلم أنه إذا ثبت قبول شهادة الفاسق بعد التوبة كما هو مقتضى الأدلّة السابقة ، سواء اعتبرنا إصلاح العمل والعمل الصالح في الجملة ولو تسبيحا وذكرا لله ، وتكرار الاستغفار والتوبة كما هو ظاهر ، أم لا ، بل يكفي مجرد التوبة أو مع استمرارها للتوبة ولو كان ساعة كما اعتبره المحقق في الشرائع حيث قال :

وفي اشتراط إصلاح العمل زيادة عن التوبة تردّد ، والأقرب الاكتفاء بالاستمرار ، لأن البقاء على التوبة إصلاح ولو ساعة (٣).

وقد سبق تحقيق ذلك ، من انه لا يحتاج إلى شي‌ء آخر ـ والتخصيص بالقاذف بعيد جدا من غير علّة موجبة لذلك مع ظهور العلّة ـ وهو بعض الأدلّة كما عرفت يفهم (٤) :

__________________

(١) الوسائل باب ٤١ حديث ١ من كتاب الشهادات ، ج ١٨ ص ٢٨٨.

(٢) الحجرات : ٦.

(٣) إلى هنا عبارة الشرائع.

(٤) جواب لقوله قدّس سرّه : (إذا ثبت إلخ).

٣٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

عدم اعتبار الملكة في تعريف العدالة ، بل في اشتراط قبول الشهادة ، إذ لم توجد الملكة في ساعة واحدة ، بل الساعات المتعددة.

وكذا المروة (١) ، وأنه لا يحتاج في إثبات العدالة إلى المعاشرة الباطنيّة أو الاستفاضة.

بل لا يشترط العدالة قبل الشهادة ، إذ يتوب الشاهد فيأتي بها ، بل يأتي بها بعد ردّه بالفسق أيضا كما هو رأي الأكثر والأصحّ ، فإن الفسق في وقت ما ليس بمانع عن الشهادة مطلقا ، بل الرّد بالفسق كذلك ، فإنه يقبل مع حصول العدالة والشرط.

بل وإنه لا يحتاج إلى الجرح والتعديل ، فاعتبار ذلك كلّه عبث ولغو بلا فائدة ، مع أن كلّ ذلك معركة للآراء وبحث بين الفحول من العلماء ، فيصير معظم هذه المباحث قليل الفائدة.

مثل أنه يحتمل أن لا يتوب وهو قليل في الناس ممن يستشهد به ، فيقبل ـ مجهول الحال بعد التوبة أيضا وإن لم يقبل قبلها ـ بالطريق الأولى ، لأن الفاسق إذا تاب قبل ، فهو بالطريق الأولى ، وهو ظاهر.

واعلم أنه أيضا ينبغي إذا أمر به آمر (أمرا ـ خ) بمعروف من لا يفعله ونهى من ارتكب منكرا ، لا يخلّيه بمجرد الفعل والترك ، بل يطلب منه التوبة ويسمعها ، لأن التوبة أيضا واجبة كترك المنكر وفعل الواجب ، وبمجرد الترك قهرا لم يعلم التوبة ، بل الظاهر في القهر ، خلاف ذلك.

بل يقال : ذلك أمر غير مقدور ، فإنه قد يتوب ويستغفر عندنا ويكون عازما على العود ومصرّا على ذلك.

__________________

(١) يعني يفهم ممّا ذكر عدم اعتبار المروة.

٣٢٦

والمخالف في الفروع إذا لم يخالف الإجماع ، تقبل شهادته.

______________________________________________________

إلّا أن يقال : إنما نحن مكلّفون بالظاهر ، فإذا أظهر (ظهر ـ خ) ذلك ، كان لنا.

وإن في قبول أمثال تلك العبادة القهريّة تأمّلا. لعدم فعله لله الذي شرط لقبول العمل.

ويحتمل أن الله يسامح في أمثال ذلك ـ كما قيل في قبول الزكاة والخمس وبراءة الذمّة قهرا ، وبعض الواجبات الأخرى المذكورات في محالّها ـ فتأمّل فتدبّر.

وأنه قد يحدث بهذه الأبحاث ما يكدر الخاطر ، إذا غفلة الكلّ عمّا أشرنا إليه بعيد ، والقول بما قالوه ، والقول بما ذكرناه أبعد ، إذ لا دليل.

وبالجملة ، الأمر مشكل ولا يحلّ (محلّ ـ خ) لنا عندنا إلّا الله ومن أرسله للهدي وأهداه ، هدانا الله وأزالنا عن الشكوك والشبهة (والشبه ـ خ) بأصحاب الهداية والولاية.

قوله : «والمخالف في الفروع إلخ». المخالف في أصول الدين ـ وهم غير الإماميّة الاثنى عشريّة ـ لم تقبل شهادته (هم ـ خ) كما مرّ.

وأما الخلاف الذي يوجد بين علمائنا في الفروع الفقهيّة والكلاميّة (١) فلا يضرّ في العدالة ما لم يكن خلاف يقينيّ ثابت باليقين من النصّ الصحيح الصريح المعلوم.

والإجماع كذلك فإنه مضرّ بالعدالة ، بل حرام ، بل قد يكون كفرا إن كان ضروريّا ، كخلاف القرآن ، والخبر ، والإجماع ، الثابت كونه قرآنا وخبرا وإجماعا يقينيّا بالتواتر والقرائن المفيدة لليقين ، وهو ظاهر.

ويجوز خلاف غير النصّ الثابت كذلك ، مثل خلاف ظاهر القرآن والخبر

__________________

(١) في بعض النسخ : بل الفروع الأصولية ، الفقهية والكلامية إلخ.

٣٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

المتواتر ، بالدليل الأقوى منه.

وكذا نصّ الخبر الواحد ، والإجماع المنقول بخبر الواحد الثابت كونه حجّة ، بأن يكون الناقل متتبّعا أو نقل من المتتبّع معنعنا ولم يوجد ما يدلّ على خلافه أصلا ، فيجوز خلاف مثله ، لأنه دليل ظنّي ، فيجوز خلافه بأقوى منه ، فضلا عن غير هذا الإجماع فتأمّل.

قال في شرح الشرائع :

المراد بالأصول التي يردّ شهادة المخالف فيها ، مسائل التوحيد ، والعدل والنبوّة ، والإمامة ، والمعاد. وأما فروعها من المعاني والأحوال من فروع الكلام فلا يقدح الاختلاف (الخلاف ـ خ) فيها ، لأنها مباحث ظنيّة ، والاختلاف فيها بين علماء الفرقة الواحدة ، كثير شهير ، وقد عدّ بعض العلماء ما وقع الخلاف فيه بين المرتضى وشيخه المفيد رحمهما الله فبلغ نحوا من مائة مسألة ، فضلا عن غيرهما ، والمراد بالفروع التي لا تقدح فيها المخالفة ، المسائل الشرعيّة الفرعيّة ، لأنها (مسائل ـ خ) اجتهاديّة لأن الأصول التي تبنى عليها من الكتاب والسنة كلّها ظنّية ، وينبغي أن يراد بالإجماع الذي يقدح مخالفته ، إجماع المسلمين قاطبة ، أو إجماع الإماميّة مع العلم بدخول قول المعصوم في جملة قولهم (لأن (١) حجّيّة الإجماع في قولهم على أصولهم لا يطلق إجماعهم ، إذ لا عبرة بقول غير المعصوم منهم مطلقا ، وما لم يعلم دخول قوله في قولهم) فلا عبرة بقولهم وإن كثر القائل ، وقد تمادى بعضهم فسمّى مثل ذلك إجماعا ، بل سمّي المشهور ، ومخالفة مثل ذلك غير قادح بوجه من الوجوه كما تقتضيه قواعدهم الدالّة على حجيّة الإجماع ، فتنبّه لذلك لئلّا تقع في الغلط اغترارا بظاهر الاصطلاح واعتمادا على الدعوى (٢).

__________________

(١) من قوله : (لأن) إلى قوله : (في قولهم) ليس في النسخ بل نقلناه ، من شرح الشرائع.

(٢) إلى هنا عبارة شرح الشرائع.

٣٢٨

وكذا أرباب الصنائع الدنيّة ، والمكروهة ـ كالحائك ، والحجّام ، والزبّال ، والصائغ ، وبائع الرقيق ، واللاعب بالحمام من غير رهان.

______________________________________________________

هذا كلامه حسن وحقّ ، إلّا (كلّها (١) ظنيّة) فإنه ليس بحق ، إذ المسائل الأصوليّة التي تبنى عليها الفروع الفقهيّة ليست كلّها ظنيّة ، بل فيها يقينيّة ، وفيها ظنّية ، ولا يجوز الخلاف في الاولى ، ويجوز في الثانية لدليل أقوى. كغيرها من المسائل وإنما أطلقوا أنه يجوز الخلاف في الفروع ، وأنه لا يخرج مخالفه عن العدالة وقبول غيره وشهادته دون الأصول ، لأن الأغلب في الأول ذلك وفي الثاني بالعكس ، بل اليقينيّة من الاولى لا يقال لها المسائل الفقهيّة ، لأن المشهور أنها ظنّيّة فتأمّل.

قوله : «وكذا أرباب الصنائع إلخ». إنما تقبل شهادة هؤلاء الذين يصنعون الصنائع الدنيئة والمكروهة كالحجّام ، والزبّال ، والحائك ، والصائغ ، والآخذ بيع الرقيق صنعة ، واللاعب بالحمام.

دليل قبول شهادة الكلّ ، عموم أدلّة قبول الشهادة ، مع عدم ما يمنع من ذلك من عقل أو نقل ، ومجرد كونها صنائع دنيئة ومكروهة ليست بمانعة من القبول عقلا ، ولا شرعا.

ويؤيّده في الحمام رواية العلاء بن سيابة قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام ، عن شهادة من يلعب بالحمام فقال : لا بأس إذا كان لا يعرف بفسق (٢).

فيها إشارة إلى قبول شهادة مجهول الحال ، ولكن سندها غير معتبر.

وبهذا السند قال : سمعته يقول : لا بأس بشهادة الذي يلعب بالحمام ، ولا بأس بشهادة صاحب السباق المراهن عليه ، فإن رسول الله صلّى الله عليه وآله

__________________

(١) يعني إلا قول شرح الشرائع : (كلها ظنيّة) في عبارته المتقدّمة.

(٢) الوسائل باب ٥٤ حديث ١ من كتاب الشهادات ، ج ١٨ ص ٣٠٥.

٣٢٩

وتردّ شهادة اللاعب بآلات القمار كلّها كالنرد والشطرنج ، والأربعة عشر

______________________________________________________

قد اجرى الخيل وسابق وكان يقول : إن الملائكة تحضر الرهان في الخفّ والحافر والريش ، وما سوى ذلك قمار (وـ خ) حرام (١).

فيها دلالة على جواز الرهان في الطيور ، وهو خلاف المشهور بين الأصحاب ، فإنهم يحرّمون ذلك ، إلّا أن يحمل على التقيّة كما حمل هذه الرواية عليها كما سبق ، أو يحمل الريش على السهام ، فإن فيها ريشا.

ويقيّد جواز اللعب بالحمام وعدم ردّ الشهادة ، بغير الرهانة والقمار كما صرّح به في المتن ، لأنه على تقدير القمار والرهانة يصير حراما ، وهذا أيضا مؤيّد لحمل ما قلناه.

قوله : «وتردّ شهادة اللاعب بآلات إلخ». ردّ الشهادة بهذه الأمور المذكورة ـ مع ثبوت كونها كبيرة ، أو الإصرار عليها الموجب للأوّل إلى الكبيرة ، باعتبار المداومة والاستمرار وإن كان فعلا واحدا ، مثل الشطرنج ، والنرد ، واللعب بالزمر والدفّ ، والغناء وسماعه ـ ظاهر ممّا تقدّم.

ولكنّ إثبات كونها كبيرة بدون الإصرار ، مشكل.

نعم الظاهر أنها كبيرة باعتبار الإصرار ومخلّة بالشهادة ، إذ قليلا ما توجد هذه الأشياء بدون الإصرار (الاستمرار ـ خ) فتأمّل.

أما مع عدم ذلك فما نجد في الكلّ بخصوصه شيئا تردّ به الشهادة وصاحبها ليس بعدل ، بل فاسق ، فإن الموجود فيها ، النهي والذمّة في الجملة.

مثل رواية زياد بن عيسى ، قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قوله عزّ وجلّ «وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ» فقال : كانت قريش تقامر الرجل

__________________

(١) الوسائل باب ٥٤ حديث ٢ من كتاب الشهادات ، ج ١٨ ص ٣٠٥.

٣٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

بأهله وماله فنهاهم الله (عزّ وجلّ ـ ئل) عن ذلك (١).

كأنّها صحيحة ، لأنّ علي بن الحكم (٢) كأنه الثقة ، وزياد هو أبو عبيدة الثقة.

ومثل رواية جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال : لمّا أنزل الله عزّ وجلّ على رسول الله صلّى الله عليه وآله (رسوله ـ ئل) «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ» ، قيل : يا رسول الله ما الميسر؟ فقال : كلّما قومر (تقومر ـ ئل) به حتى الكعاب والجوز ، قيل : ما الأنصاب؟ قال : ما ذبحوا لآلهتهم ، قيل : فما الأزلام؟ قال : قداحهم التي يستقسمون بها (٣).

ورواية عبد الحميد بن سعيد ، قال : بعث أبو الحسن عليه السلام غلاما يشتري له بيضا فأخذ الغلام بيضة أو بيضتين فقامر بها ، فلما أتى به أكله ، فقال له مولى له : إنّ فيه من القمار ، قال : فدعا بطشت فتقيّأ فقاءه (٤).

فيها دلالة على سماع قول شخص واحد في الاجتناب عن المحرّمات احتياطا.

وصحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال : لا تصلح المقامرة ، ولا النهبة (٥).

ولكنّ النهبة قد تكون مكروها ، كما ورد في صحيحة علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام ، قال : سألته عن النثار من السكّر واللوز وأشباهه أيحلّ أكله؟

__________________

(١) الوسائل باب ٣٥ حديث ١ من أبواب ما يكتسب به ، ج ١٢ ص ١١٩. والآية ١٨٨ من سورة البقرة.

(٢) سندها كما في الكافي هكذا : عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد عن علي بن الحكم ، عن سيف بن عميرة ، عن زياد بن عيسى.

(٣) الوسائل باب ٣٥ حديث ٤ من أبواب ما يكتسب به ، ج ١٢ ص ١١٩. والآية ٩٠ من سورة المائدة.

(٤) الوسائل باب ٣٥ حديث ٢ من أبواب ما يكتسب به ، ج ١٢ ص ١١٩.

(٥) الوسائل باب ٣٥ حديث ٥ من أبواب ما يكتسب به ، ج ١٢ ص ١٢٠.

٣٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

قال : يكره أكل ما انتهب (١).

وان كان في رواية إسحاق بن عمّار ، عن أبي عبد الله عليه السلام : الإملاك يكون والعرس فينثر (فينثرون ـ خ) على القوم؟ فقال : حرام ، ولكن ما أعطوك منه فخذه (٢).

ويمكن حمل الحرام على الكراهة كالعكس.

ويمكن الجمع بأنه إن فهم بالقرينة إذن المالك فجائز ، ولكن يكره للازدحام وإلّا فحرام.

ورواية السكوني ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : كان ينهى عن الجوز يجي‌ء به الصبيان من القمار أن يؤكل ، وقال : وهو سحت (٣).

ورواية إسحاق بن عمّار قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : الصبيان يلعبون بالجوز والبيض ويقامرون؟ فقال : لا تأكل منه فإنه حرام (٤).

وصحيحة معمّر بن خلاد ، عن أبي الحسن عليه السلام ، قال : النرد والشطرنج والأربعة عشر بمنزلة واحدة ، فكلّ ما قومر عليه ، فهو ميسر (٥).

ورواية زيد الشحّام ، قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» فقال : الرجس من الأوثان ، الشطرنج ، وقول الزور الغناء (٦).

__________________

(١) الوسائل باب ٣٦ حديث ٢ من أبواب ما يكتسب به ، ج ١٢ ص ١٢١.

(٢) الوسائل باب ٣٦ حديث ٤ من أبواب ما يكتسب به ، ج ١٢ ص ١٢٢. والملاك بكسر الميم والإملاك التزويج وعقد النكاح (مجمع البحرين).

(٣) الوسائل باب ٣٥ حديث ٦ من أبواب ما يكتسب به ، ج ١٢ ص ١٢٠.

(٤) الوسائل باب ٣٥ حديث ٧ من أبواب ما يكتسب به ، ج ١٢ ص ١٢٠.

(٥) الوسائل باب ١٠٤ حديث ١ من أبواب ما يكتسب به ، ج ١٢ ص ٢٤٢.

(٦) الوسائل باب ١٠٢ حديث ١ من أبواب ما يكتسب به ، ج ١٢ ص ٢٣٧. والآية في سورة الحجّ : ٣٠.

٣٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

فهي دليل تحريم الغناء أيضا.

ومثلها بعينها مرسلة ابن أبي عمير ـ في الحسن ـ (١).

ورواية أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام : الشطرنج والنرد هما المسير (٢).

ورواية يزيد بن عمر (عمر بن يزيد ـ كا ـ ئل) ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : إنّ لله عزّ وجلّ في كلّ ليلة من شهر رمضان عتقاء من النار إلّا من أفطر على مسكر أو مشاحن (٣) أو صاحب شاهين ، قال : فقلت : أيّ شي‌ء صاحب شاهين؟ قال : الشطرنج (٤).

وحسنة حمّاد بن عيسى ، قال : دخل رجل من البصريّين على أبي الحسن الأوّل عليه السلام ، فقال له : جعلت فداك إنّني (إنّي ـ ئل) أقعد مع قوم يلعبون بالشطرنج ، ولست ألعب بها ولكن أنظر ، فقال عليه السلام : ما لك ولمجلس لا ينظر الله إلى أهله (٥).

وغيرها من الأخبار.

ولا يضرّ عدم صحّة الكلّ.

والظاهر عدم الخلاف في تحريم اللهو بآلات القمار كلّها عندنا.

قال في شرح الشرائع : مذهب الأصحاب تحريم اللعب بآلات القمار كلّها من النرد والشطرنج ، والأربعة عشر وغيرها. ووافقهم على ذلك جماعة من العامّة منهم أبو حنيفة ومالك وبعض الشافعيّة ، ورووا عن النبيّ صلّى الله عليه وآله ، قال :

__________________

(١) الوسائل باب ١٠٢ حديث ٣ من أبواب ما يكتسب به ، ج ١٢ ص ٢٣٧.

(٢) الوسائل باب ١٠٤ حديث ٢ من أبواب ما مكتسب به ، ج ١٢ ص ٢٤٢.

(٣) شاحنه : باغضه. والمشاحن المذكور في الحديث ، صاحب البدعة ، التارك للجماعة (القاموس).

(٤) الوسائل باب ١٠٢ حديث ٤ من أبواب ما يكتسب به ، ج ١٢ ص ٢٣٧.

(٥) الوسائل باب ١٠٣ حديث ١ من أبواب ما يكتسب به ، ج ١٢ ص ٢٤٠.

٣٣٣

وإن قصد الحذق.

وشارب الخمر ، وكلّ مسكر ، والفقاع.

والعصير إذا غلى وإن لم يسكر قبل ذهاب ثلثيه.

وسامع الغناء.

______________________________________________________

من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله (١) وفي رواية أخرى : من لعب بالنرد شير فكأنما غمس يده في لحم الخنزير (٢) (٣).

ولا فرق عندنا في تحريم القمار بين أن يكون مقصوده تحصيل الحذاقة وملكة فهم الدقائق أم لا.

لعلّ قول المصنّف (وإن قصد الحذق) إشارة إلى خلاف بعض العامّة.

وأما تحريم شرب الخمر فهو ضروريّ ، وقد مرّ دليله وهو كثير ، وكذا شرب كلّ مسكر ، وقد مرّ تحريم الفقّاع أيضا ، بل إنه أيضا خمر استصغره الناس.

وكذا تحريم العصير العنبيّ إذا غلى ، وإن ذلك لا خلاف عندنا فيه.

ولا يشترط السكر فيه ، بل يكفي في تحريمه الغليان بالنار وغيره ، سواء أسكر أم لا إلّا أن يصير دبسا أو ذهب ثلثاه وبقي الثلث.

وأما الغناء ، فلا شكّ في تحريم فعله ، وسماعه عندنا ، لعلّه لا خلاف فيه.

وتدل عليه أخبار كثيرة ، مثل خبر يحيى بن المبارك ، عن عبد الله بن جبلة ، عن سماعة بن مهران ، عن أبي بصير ، قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام ، عن قول الله عزّ وجلّ «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ ، وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» قال : الغناء (٤).

__________________

(١) سنن أبي داود (باب في النهي عن اللعب بالنرد) حديث ١ ج ٤ ص ٢٨٥.

(٢) سنن أبي داود (باب في النهي عن اللعب بالنرد) حديث ٢ ج ٤ ص ٢٨٥.

(٣) إلى هنا عبارة شرح الشرائع.

(٤) الوسائل باب ٩٩ حديث ٩ من أبواب ما يكتسب به ، ج ١٢ ص ٢٢٧. والآية في سورة الحج : ٣٠.

٣٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وفي رواية أبي أسامة عنه عليه السلام : الغناء غشّ النفاق (١).

ورواية محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : سمعته يقول : الغناء ممّا أوعد الله عليه النار ، وتلا هذه الآية «وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» (٢).

وفي الطريق علي بن إسماعيل (٣) ، وهو مشترك بين أوّل من تكلّم في الإمامة وبين الثقتين ، والأوّل بعيد ، وكذا كونه (دهقان) فإنه لم يرو مذاكرة عنهم عليهم السلام ، وهنا (هذا ـ خ) روى عنه ابن أبي عمير.

ويحتمل عليّ بن السريّ ، فإنه قيل : هو أيضا عليّ بن إسماعيل وثّقه (ثقة ـ خ) في رجال الصادق عليه السلام ، ولقب (إسماعيل) (سرّي). فالخبر حينئذ صحيح.

وصحيحة أبي الصباح وحسنته ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال في قول الله عزّ وجلّ «وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ» قال : (هو ـ خ) الغناء (٤).

وغير ذلك من الأخبار ، فإنها كثيرة ، وقد مرّ بعضها أيضا في كتاب التجارة (٥).

وبالجملة لا شبهة في تحريم سماع الغناء وفعلها عند علمائنا ، بل ورد في البعض أنها كبيرة ، لأنّه ممّا أوعد الله عليه النار ، فإنه المعنيّ بلهو الحديث.

وفي حديث الحسن بن مروان ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول :

__________________

(١) الوسائل باب ٩٩ حديث ١٠ من أبواب ما يكتسب به ، ج ١٢ ص ٢٢٧.

(٢) الوسائل باب ٩٩ حديث ٦ من أبواب ما يكتسب به ، ج ١٢ ص ٢٢٦ في سورة لقمان : ٣١.

(٣) سنده كما في الكافي هكذا : عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن عليّ بن إسماعيل ، عن ابن مسكان ، عن محمّد بن مسلم.

(٤) الوسائل باب ٩٩ حديث ٣ و ٥ من أبواب ما يكتسب به ، ج ١٢ ص ٢٢٦. والآية في سورة الفرقان : ٧٢.

(٥) راجع هذا الكتاب ج ٨ ص ٥٧.

٣٣٥

ـ وهو : مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب وإن كان في قرآن ـ وفاعله.

______________________________________________________

الغناء مجلس لا ينظر الله إلى أهله ، وهو ممّا قال الله عزّ وجلّ «وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ» الآية (١).

ولكنّ الإشكال في معناه ، المشهور في ذلك ما ذكره في المتن ، أنه مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب ، سواء كان في قرآن أو ذكر الله تعالى أو مدح النبيّ والأئمة عليهم السلام أم لا ، نظما كان أو نثرا ، وكان مع الملاهي أم لا.

لعلّ المراد من «الترجيع» هو ترديد الصوت في الفم والحلق ، ومن «المطرب» الذي يحصل منه اللذّة والحظ (للنفس ـ خ) كما يحصل من كثير الملاهي ، مثل الدفّ ، والزمر ، وإن حصل منه البكاء ، فإنه ليس للآخرة ، فإن البكاء أقسام ، فافهم الفرق.

ويمكن كون المراد به ، المطرب عرفا وبالنسبة إلى أكثر الناس ، فيحرم على من لم يكن مطربا له أيضا.

والظاهر اختصاص التحريم بالذي يكون مطربا له ، وبعض الأصحاب ما قيّد بالمطرب فيكون مطلقا حراما عنده ، مطربا كان أم لا.

وعلى التقديرين ما عرفنا تمام هذا المعنى له في النوع ولا اللغة.

قال في القاموس : الغناء ككساء ، من الصوت ما طرّب ، فيفهم منه أنه مطلق الصوت المطرب. وحينئذ الحوالة فيه إلى العرف ، فكلّ ما يعدّ في العرف أنه غناء يحرم فعله وسماعه مطلقا ، في القرآن وغيره ، شعرا وغيره ، فليس بمخصوص بغير القرآن والذكر والمدح ، وبالشعر على الوجه الخاصّ الذي يفعله المغنّون والمغنّيات ، لأنه يقال : لم يغنّ بل يقرأ القرآن أو يذكر الله ويمدح الأنبياء والأئمة عليهم السلام ، فإن

__________________

(١) الوسائل باب ٩٩ حديث ١٦ من أبواب ما يكتسب به ، ج ١٢ ص ٢٢٨. وفيه : (الحسن بن هارون).

٣٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ذلك الوجه والطريق الذي يفعل في غيرها إذا فعل فيها ، يقال : إنه تغنّى في القرآن ، بل يقال : هو يغنّي ، لا يقرأ القرآن ولا يذكر ولا يمدح ، ولا يخطب.

وبالجملة بعض الأصوات مثل الترجيعات التي تفعل في القرآن وغيره ، بأن يأتي القاري ، والذاكر ، والمادح ، والخطيب ، والمؤذّن بأصوات ليس من القرآن والذكر ، والمدح ، والأذان ، والخطبة ، بل تكرّر وتردد صوته الذي يحصل منه ، وهو خارج عن هذه الأشياء بالكلّية.

نعم بعض الصوت ـ الذي هو نفس القرآن والذكر وغيره إذا وجد في أثناء الغناء على وجه لا يسمّى غناء ـ لم يكن حراما ويكون غيره حراما.

وكذا في غيرها ، فإن الشعر إذا قرئ على هذا الوجه يكون مشتملا على غناء محرّم وغيره. فلا يمكن الحكم كلّية ، بأن ليس في القرآن غناء ، وكذا في الذكر والمدح والخطبة وأنه في الشعر فقط على الوجه المتعارف الذي يقال : إنه مغنّ ، ولا يوجد في غير هذه الأشياء ، ولهذا قال الأصحاب : سواء كان في القرآن وغيره.

وبالجملة لا ينبغي الخروج عن التفسير المذكور ، فإنه المشهور وفسّر به المصنف والمحقّق وغيرهما.

واعلم أنه قد استثني من الغناء المحرّم ، الحداء بالمدّ ، وهو الشعر الذي يحث الإبل على سرعة السير ، ولا يبعد في غير الإبل أيضا ، فيجوز فعله وسماعه ، لما روي عنه صلّى الله عليه وآله أنه جوّز ذلك وقال لجمّال يفعل ذلك (١) ، لكنّ الظاهر أنه من

__________________

(١) قال الشيخ الأعظم الأنصاري قدّس سره : فلم أجد ما يصلح لاستثنائه مع تواتر الأخبار بالتحريم عدا رواية نبويّة ذكرها في المسالك من تقرير النبيّ صلّى الله عليه وآله لعبد الله بن رواحة حيث حدا للإبل وكان حسن الصوت ، وفي دلالته وسنده ما لا يخفى (انتهى). وفي كنز العمّال ج ١٥ ص ٢٣٠ تحت رقم ٤٠٧٠١ ، عن مجاهد أن النبيّ صلّى الله عليه (وآله) لقي قوما فيهم حاد يحدو فلما رأوا النبيّ صلّى الله عليه (وآله) سكت حاديهم لا يحدو ، قالوا : يا رسول الله ، انا أول العرب حداء قال : وما ذاك قال : إن رجلا منّا ـ وسمّوه ـ عزب في إبل

٣٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

طرق العامّة.

فإن كان عليه دليل من إجماع وغيره ، وإلّا فيبقى على التحريم لعموم الأدلّة ، ومجرد أنّ فيه الإسراع في السير وإيقاظ النوّام ، ليس بحجّة مع عدم العموم.

وكذا استثنى منه ، البعض مرثية الحسين عليه السلام ، ولعلّ الوجه أنه موجب للبكاء الذي هو عبادة.

ويفهم جوازه أيضا من تجويز النياحة مطلقا ، لأنه غير خال عنه ، فإن النبيّ صلّى الله عليه وآله كان يسمع النياحة من أهل المدينة ، وقال : ليس لحمزة باكية ، فسمع أهل المدينة ذلك فجعلوا ينوحون عليه ، بل يبتدئون دائما على حمزة ثم على ميّتهم إلى الآن (١).

والاستثناء مشكل مع الصدق ، فالاجتناب أحوط.

واعلم أن في الاستثناء المذكور دلالة على كون الغناء عامّا غير مخصوص بالشعر المتعارف في الغناء والمغنّيات ، فتأمّل واحتط.

فقوله : (وفاعله) بالجرّ عطفا على سامعه ، كذلك عطفا على (اللاعب) بآلات القمار إلخ ، فيكون التقدير : (وتردّ شهادة سامع الغناء وفاعله).

وأنت تعلم أن ذلك موقوف على كونها كبيرة ، ويشعر به بعض الأخبار المتقدّمة هنا. والذي مضى في باب التجارة لعلّه باعتبار الاستمرار والإصرار كغيره.

__________________

له في أيام الربيع فبعث غلاما له مع الإبل فأبطأ الغلام ثم جاء فجعل يضربه بعصا على يده فانطلق الغلام وهو يقول : وأيداه فتحركت الإبل ونشطت ، فقال : أمسك أمسك ، فافتتح الناس الحداء (انتهى).

(١) لما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وآله من وقعة أحد إلى المدينة سمع من كلّ دار قتل من أهلها قتيل نوحا وبكاء ولم يسمع من دار حمزة عمّه ، فقال صلّى الله عليه وآله : لكنّ حمزة لا بواكي له ، فآلى أهل المدينة على ميّت ولا يبكوه حتى يبدأوا بحمزة فينوحوا عليه ويبكوه. فهم إلى اليوم على ذلك (الفقيه ج ١ ص ١٨٣ رقم ٥٥٣ طبع مطبعة الصدوق).

٣٣٨

والشاعر الكاذب أو الذي يهجو به مؤمنا.

أو تشبّب بامرأة معروفة غير محلّلة.

______________________________________________________

وكذا التقدير : (وتردّ شهادة الشاعر الكاذب بل الكاذب مطلقا). وجه ذلك على ذلك التقدير ظاهر ، فإنه لا شك أن الكذب حرام في الشعر وغيره ، إلّا ما يضطرّ إليه كغيره فاصراره مخلّ بغير كلام ، وأمّا غير الإصرار (بغير الإصرار ـ خ) فالظاهر العدم ، ولعلّ إطلاقه أيضا بناء على الظهور كغيره فتأمّل.

وكذا تردّ شهادة الشاعر الذي يهجو بشعره مؤمنا ، يحتمل أن يكون المراد به معناه الخاصّ الذي هو عرف الأصحاب والعامّ ، وهو الإسلام.

ودليله أن فيه أذاء (أذى ـ خ) المؤمن ، والغيبة ، وكشف ستره ، وذكر عيوبه ، وكلّ ذلك منهيّ. فهذا يحتمل أن تكون كبيرة بمجرّد الوجود ، فإنّ الظاهر أنّ الغيبة كبيرة للآية (١) والأخبار الكثيرة (٢) التي فيها مبالغة كثيرة جدا.

ولعلّ التشبيب من قبيل الهجاء ، ولكن قد لا يكون غيبة وأذاء (أذى ـ خ) لو فرضنا أنّ صاحبه متّصف به مع رضائه به.

فحينئذ دليل تحريمه كأنّه الإجماع وهتك حرمة المؤمن ـ ويحتمل المسلمة (٣) أيضا ـ الواجبة (٤). وقد قيّد تحريمه بامرأة معروفة غير محلّلة ، فيشعر بعدم تحريم غيرها.

والظاهر أنه ليس كذلك ، فإن التشبيب بالغلام يقولون أيضا حرام ، معروفا وغير معروف ، مؤمنا وغيره ، بل مسلما وغيره.

__________________

(١) لقوله تعالى «وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ» الحجرات : ١٢.

(٢) راجع الوسائل باب ١٥٢ ـ ١٥٥ ـ ١٥٦ ـ ١٥٧ من أبواب أحكام العشرة ، ج ٨ ص ٥٩٦.

(٣) لعل المراد أنه يلزم من التشبيب مضافا إلى هتك حرمة المؤمن هتك المرأة المسلمة أيضا.

(٤) صفة لقوله قدّس سرّه : حرمة المؤمن.

٣٣٩

ومستمع الزمر ، والعود ، والصنج ، والدفّ ـ إلّا في الإملاك والختان خاصّة ـ وجميع آلات اللهو.

______________________________________________________

نعم ، التشبيب بالمرأة مطلقا من غير قصد معيّنة بخصوصها ـ وهو المراد من المعروفة ـ قالوا : ليس بحرام ، والأصل عدم لزوم هتك.

ويؤيده أنه (١) لو كانت امرأته أو جاريته ، فكذلك ، إلّا ان ينجرّ إلى هتك حرمتها أو غيبتها أو بما لا ترضى ، فقيل : إنه خارج عن المروءة فتسقط به العدالة.

وهو مطلقا مشكل ، نعم إن شهرها بين الناس فذلك غير بعيد بناء على اشتراطها.

وأيضا الظاهر أن المراد بالتشبيب أعمّ من أن يكون بالشعر أو غيره وإن فسر بالشعر.

وادعى المصنف في التذكرة الإجماع على تحريم التشبيب بالمؤمنة المعروفة ، وعلى تحريم مدح من يستحقّ الذمّ ، وبالعكس ، والكذب على المؤمن ، والتهمة وسبّهم ، والغيبة فتأمّل.

وكذا تردّ شهادة فاعل الزمر بأنواعه ، ومستمعه كذلك ، وكذا العود ـ وهو نوع خاصّ من آلات اللهو معروف ـ وكذا الصبح ، وكذا الدفّ الذي معه الجلاجل.

لعلّ تحريم كلّ ذلك وغيره من جميع آلات اللهو ، مثل الطنبور وغيره بالإجماع عندنا.

والأخبار من طرق العامّة في الجملة ، والخاصّة إلّا الدفّ الخالي عن الجلاجل والصنج في الإملاك ـ بالكسر ـ أي التزويج ، وفي الختان للصبيان خاصّة.

لعلّ دليل الاستثناء أيضا الإجماع والخبر المرويّ عنه صلّى الله عليه وآله

__________________

(١) الظاهر أنه عطف على قوله قدّس سرّه : إنه ليس كذلك إلخ.

٣٤٠