مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان - ج ١٢

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]

مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]


المحقق: الشيخ مجتبى العراقي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٥

ويكره الحاجب وقت القضاء.

______________________________________________________

الميل إلى خصمه ، وأخذ جانبه ، لا الحقّ ، فله ان يعفو عنه ، وان يؤدّبه. والأول أولى ، للعقل والنقل ، إن لم يؤدّ إلى سقوط محلّه ، وعدم سماع حكمه وقوله ، ونحو ذلك ، وإن كان غير حرام ولكن ترك أدب ، فيعرّفه طريق الأدب والسلوك برفق بما يراه أنه حسن.

قوله : «ويكره إلخ». هذه الآداب المكروهة التي ينبغي للحاكم تركها ، عكس الأول.

(منها) أخذ الحاجب ، وهو الذي لا يدخل شخص على صاحبه إلّا برضاه. دليل الكراهة العقل ، لأنّه قد لا يرضى ويكون الأمر ضروريا لصاحب الحاجة ، فيفوت غرضه وحاجته ، ويلزم تعطيل بعض الأمور.

والنقل أيضا ، مثل ما روي أنّه صلّى الله عليه وآله قال : من ولي شيئا من أمور الناس فاحتجب دون حاجتهم وما فيهم احتجب الله دون حاجته وفقره (١).

ونقل فخر الفقهاء عن بعض الفقهاء القول بالتحريم ، عملا بظاهر الحديث وقرّبه.

ومع اتّخاذه على الدوام يمنع أرباب الحوائج ، ويضرّ بهم. الظاهر أنّه لا خلاف حينئذ في التحريم ، بل ولو كان في بعض الأوقات ، إذ يجب على القاضي أن يرفع ما يمنع الوصول إليه ، المستلزم لرفع الظلم ، وإيصال الحقوق إلى أهلها ، ويمكن حمل الخبر عليه.

نعم يمكن الكراهة إذا لم يتحقّق منع المحتاج والضرر بالناس ، بأن يعلم أنّه يخلى كلّ من له حاجة ضروريّة تضرّ بحاله (إليه ـ خ) ، ولكن لاحتمال أن يمنع ذا

__________________

(١) عوالي اللآلي ج ٢ ص ٣٤٣ طبع مطبعة سيّد الشهداء وفيه من ولي من أمور المؤمنين شيئا ولاحظ ذيله أيضا.

٤١

والقضاء وقت الغضب والجوع والعطش والغمّ والفرح والجوع ومدافعة الأخبثين والنعاس.

______________________________________________________

الحاجة أيضا ، أو قد يستحيي ولا يستأذنه فيؤول إلى إصاعة حقّه فيكره.

ومن هذه يعلم عدم الاحتياج للدخول على القاضي إلى الاستئذان ، وكذا من هو مثله جالس لوصول الناس إليه ، فتأمّل ، ولا شكّ أنّه أفضل للعموم إن أمكن.

والظاهر أن لا خصوصية للكراهة بالقاضي ، فإنّه مستلزم للمنع عن زيارة المؤمنين للمؤمن إلّا برضا شخص ، وقد لا يرضى فيمنع من قضاء حاجته ، بل قد يحصل له الأذاء ، ويحصل الغرض الصحيح باشتراط الاستئذان ، ولهذا ما نقل عن أحد من الصلحاء ذلك ، فضلا عنهم عليهم السّلام ، إلّا ما نقل عن بعضهم.

لعله محمول على غرض صحيح كالخوف من الظلمة ، مع العلم بعدم الضرر والمفسدة التي ذكرت.

فقول شرح الشرائع ، بعدم الكراهة لغير القاضي ، محلّ التأمّل.

وقول المصنف : (وقت القضاء) يشعر بذلك ، بل بعدم الكراهة للقاضي أيضا في غير ذلك الوقت ، فيمكن أن يحمل على عدم ما ذكرناه ، أو يكون المراد شدّة الكراهة التي قال بعض بالتحريم حينئذ ، لا مطلق الكراهة ، فتأمّل.

قوله : «والقضاء إلخ». أي من الآداب المكروهة قضاؤه وقت شغل نفسه ، وعدم كمال توجّهه مثل الغضب ، والجوع ، والعطش ، والغمّ ، والفرح ، و

الوجع ، ومدافعة الأحداث ، والنعاس ، وكثرة النوم ، ونحو ذلك.

ويدلّ عليه الاعتبار والأخبار ، مثل ما روي أنّه قال في الفقيه قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : من ابتلي بالقضاء فلا يقضي وهو غضبان (١) رواه

__________________

(١) الوسائل باب ٢ من أبواب آداب القاضي ح ١ ج ١٨ ص ١٥٦.

٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

في التهذيب والكافي أيضا بالإسناد عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السّلام قال : قال : الخبر.

وما نقل في شرح الشرائع روي عنه صلّى الله عليه وآله أنّه قال : لا يقضي وهو غضبان (١).

وفي حديث آخر عنه صلّى الله عليه وآله : لا يقضي إلّا وهو شبعان (ريّان) (٢).

وفي آخر لا يقضي وهو غضبان مهموم ولا مصاب محزون (٣).

وفي وصيّة أمير المؤمنين عليه السّلام لشريح : ولا تقعد في مجلس القضاء حتّى تطعم (٤).

وعن أحمد بن أبي عبد الله رفعه قال : قال أمير المؤمنين لشريح : لا تسارّ (لا تشاور ـ خ ل) أحدا في مجلسك ، وان غضبت فقم ، ولا تقضينّ وأنت غضبان (٥) الخبر.

ويظهر منها أنّ المراد منع القضاء مع حالة مشغلة للنفس عن التفكّر واستيفائه وبذل الجهد والتوجّه بكلّه ، فيتعدّى إلى كلّ ما هو كذلك مثل ما مرّ ، مع عدم نص فيه.

وكأنّه لعدم صحّة الأخبار ، مع الاعتبار ، حملت على الكراهة ، فإنّ الفرض

__________________

(١) لاحظ صحيح البخاري ج ٤ باب هل يقضي الحاكم أو يفتي وهو غضبان ج ٤ ص ١١٥.

(٢) في المستدرك باب ٢ من أبواب آداب القاضي عن دائم الإسلام ح ١ ولفظ الحديث (نهى أن يقضي القاضي وهو غضبان أو جائع أو ناعس).

(٣) إلى هنا عبارة شرح الشرائع.

(٤) الوسائل باب ١ من أبواب آداب القاضي ذيل ح ١ ج ١٨ ص ١٥٦.

(٥) الوسائل باب ٢ من أبواب آداب القاضي حديث ٢ ج ١٨ ص ١٥٦.

٤٣

وأن يتولّى البيع والشراء لنفسه ، والحكومة ، والانقباض واللين ، وتعيين قوم للشهادة ، وأن يضيّف أحد الخصمين ، والشفاعة في إسقاط أو إبطال ، وتوجّه الخطاب إلى أحدهما.

______________________________________________________

علمه وعدالته ، فهما يمنعانه عن ترك ما يحتاج إليه ، والإخلال بالواجب ، إلّا أنه مع عدم تلك الحالات أولى ، فتأمّل.

وحينئذ لا شك أنّه لو حكم مع تلك الحالات يكون نافذا.

وقد خصّ بعض الغضب ، بما إذا لم يكن لله ، وأمّا إذا كان لله ، والقاضي ممّن يكون قادرا على منع نفسه ، فلا كراهة ، لما روي عنه صلّى الله عليه وآله لمّا جاءه الأنصاري ينازع زبيرا في سقي الزرع ، قال صلّى الله عليه وآله : اسق يا زبير زرعك ثم أرسل الماء ، فقال الأنصاري : أن كان ابن عمّتك ، فاحمرّ وجه رسول الله صلّى الله عليه وآله ، وقال : اسق زرعك يا زبير ثمّ احبس الماء حتى يبلغ أصول الجذر (١).

فقضى له باستيفاء حقّه مع الغضب ، بعد أن كان نقص بعض حقّه حيث لم يصرّح بتمام حقّه أوّلا ، كأنّه فهم صلّى الله عليه وآله منه المسامحة في ذلك.

وفعله هذا لا يقاس عليه ، فإنّ الغضب بالنسبة إليه كالعدم ، فإنّه لا يمكن أن يمنعه من كمال الحقّ بوجه ، وإنّه لا يحتاج إلى الفكر ، ولا يشغله عنه شي‌ء ، وهو ظاهر.

قوله : «وأن يتولّى البيع إلخ». لعلّ دليل كراهة تولّي البيع والشراء بنفسه ، قولهم ، وأنّه قد يقع في المعاملة أمر تنفّر (يتنفر ـ خ ل) عنه الطباع ، وأنّه قد يلاحظه المعامل ظاهرا ولم يكن راضيا باطنا ، وأنه قد يميل قلبه إلى من يلاحظه

__________________

(١) سنن أبي داود ج ٣ (من أبواب القضاء) رقم ٣٦٣٧ ص ٣١٥ طبع مصر.

٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وينفر عن غيره ، وقد يخطر ببال من لاحظه أنّه يراعيه في الحكم وينفر عنه غيره لعدم ملاحظته ، ونحو ذلك.

ويؤيّده ما روي عنه صلّى الله عليه وآله قال : ما عدل وال اتّجر في رعيّة أبدا (١).

ولا يضرّ عدم ظهور سنده ، وكونه في المطلوب.

ثم إنّ الظاهر أن لا خصوصية بهما ، بل سائر المعاملات كذلك ، مثل الإجارة والاستيجار والصلح وغيرها.

وأن لا خصوصية بنفسه ، بل من كان معلوم للمعامل أنّه وكيله كذلك لجريان بعض ما تقدّم ، فينبغي له أن لا يوكّل معينا معروفا بخصوصه ، بل شخصا مجهولا غير معروف النسبة إليه ، وإذا عرف ، عزله ونصب غيره وهكذا ، وإن قولهم (لنفسه) لا يناسب ، بل (بنفسه) ، فافهم.

وأما دليل كراهة ارتكابه الحكومة بنفسه ، بأن يقف مع خصمه في منازعة بين يدي قاض ، لما تقدّم في البيع والشراء.

ولما مرّ من كراهة ارتكاب ذلك لذوي المروات مطلقا والقاضي منهم ، بل أعظمهم.

ولما روي عنه صلّى الله عليه وآله : إنّ للخصومات قحما وإنّي لأكره أن أحضرها (٢).

لعل المراد ، ارتكابها. والقحم بالضم : الأمر الشاقّ.

__________________

(١) كنز العمال ج ٦ ص ٢٣ تحت رقم ١٤٦٧٦ نقلا عن الحاكم في الكنى عن رجل.

(٢) كنز العمّال ج ٦ ص ١٩٧ تحت رقم ١٥٣٣٣ ولفظ الحديث هكذا عن علي عليه السّلام أنه كان وكّل عبد الله بن جعفر بالخصومة ، وقال : إنّ للخصومة قحما. وفي ذيل كنز العمّال إن القحم بالضم هي الأمور العظيمة.

٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

ولما روي أنّ أمير المؤمنين وكل عقيلا في خصومة (١).

ودليل كراهة الانقباض ، هو احتمال كونه مانعا عن تحرير الدعوى والجواب والحجّة ، لاحتمال ان ينسى حجّته ودعواه لهيبته.

وكراهة اللين المفرط ، لاحتمال أن يحصل للخصم جرأة ، ويسقط محلّه عن القلوب ، ولا يبقى له وقر واعتبار ، وذلك يخلّ بالمقصود منه.

وأمّا كراهة تعيين قوم للشهادة فوجهه ظاهر ، لأنّه تضييق على الناس ، وقد يؤول إلى تضييع الحقوق المحرّم ، والحرج والضرر المنفيّين ، لعدم حضورهم للتحمّل ، ولا يستشهدون غيرهم لظنّ عدم قبوله ، ولأنّه ينبغي تساوي العدول عنده ، فالترجيح غير سديد.

وقيل : لأنه لم ينقل من السلف ، ولفضاضة غير المرتّب ، وفيه تأمّل.

ونقل في شرح الشرائع قولا بالتحريم لذلك.

والظاهر أنّه على تقدير التعيين ، لو شهد غيرهم يجب قبوله ، ولا يجوز ردّه ، فلا شكّ حينئذ في تحريم الرّد ، وحصر المقبول في جماعة معيّنين. وإن اتصفت بزيادة ورع ، إذ القبول لا يحتاج إلى أكثر من الشروط المذكورة في العدل ، لقوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (٢) ولعلّ القائل بالتحريم أراد ذلك.

وأمّا كراهة ضيافة أحد الخصمين دون صاحبه فللتساوي المطلوب منه ، ولما رواه السكوني أنّ رجلا نزل بأمير المؤمنين عليه السّلام فمكث عنده أياما ، ثم تقدم إليه في خصومة (حكومة ـ خ ل ئل) لم يذكرها لأمير المؤمنين عليه السّلام ، فقال له : أخصم أنت؟ قال : نعم. قال : تحول عنّا ، فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله نهى

__________________

(١) لم نعثر على موضعه فتتبّع.

(٢) الطلاق : ٢.

٤٦

والحكم في المساجد دائما ، ولا يكره متفرّقا.

______________________________________________________

أن يضاف خصم (الخصم ـ خ ل) إلا ومعه خصمه (١).

واما كراهة الشفاعة في إسقاط حق بعد ثبوته فلأنّه منصوب لاستيفاء حقوق الناس ، لا لإسقاطها ، فقد يستحيي الخصم ، أو لكونه محتاجا إليه فيسقط لأجله ، فيضيع حقّه.

وكذا في إبطال الدعوى ، فإنّه منصوب لسماعها ، نعم يجوز له طلب الصلح ، بل يستحبّ ذلك على ما يظهر.

وأما دليل كراهة توجّه الخطاب إلى أحدهما دون صاحبه ، فهو التساوي المطلوب كما سيجي‌ء.

قوله : «والحكم إلخ». اختلف قولهم في كراهة القضاء في المسجد على أقوال ، اختار المصنف القول بالكراهة مع الدوام ، للأخبار الكثيرة الدالة على أن المسجد إنّما بني لذكر الله (٢) ولا يقال للقضاء أنّه ذكر الله ، فمنع عدم كونه ذكرا غير سديد. ولقوله صلّى الله عليه وآله : جنّبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم (٣) والخصومة قد تطلق على الحكومة ، مع أنّها مستلزمة للمنازعة ورفع الصوت غالبا.

ويمكن أن يستدلّ بظاهر ما تقدم على الكراهة مطلقا ، ولكن قيّد بالدوام لما روي من قضاء أمير المؤمنين عليه السّلام في جامع الكوفة (٤) ، ودكّة القضاء إلى الآن مشهورة.

وكأنّه قد وقع هناك قضاء غريب اتّفاقا واشتهر بها لغرابتها لا لكونها كان

__________________

(١) الوسائل باب ٣ من أبواب آداب القاضي ح ٢ ج ١٨.

(٢) راجع الوسائل باب ١٤ ـ ١٦ ـ ١٧ من أبواب أحكام المساجد ج ٣ ص ٤٩٢.

(٣) الوسائل باب ٢٧ من أبواب أحكام المساجد ح ٢ ج ٣ ص ٥٠٧.

(٤) لم نعثر على موضعه فتتبّع.

٤٧

وأن يعنت الشهود العارفين الصلحاء ، ولو ارتاب فرّق بينهم.

ويحرم عليه الرشوة ، ويأثم الدافع إن توصّل بها إلى الباطل.

وعلى المرتشي إعادتها ، فإن تلفت ضمن.

______________________________________________________

يقضي دائما فيها ، ولو قيل به فيحتمل أن يكون عليه السّلام لعلمه بكونه خاليا عن المحاذير المذكورة ، فلا يطّرد معها ، فتأمّل.

ولأنه قد يؤول إلى دخول الصبيان والحيّض ومن لا يتوقى النجاسة ، ومن لا يكون مشغولا بالذكر ، وهو يؤيّد كراهة الدوام ، إذ هو لا ينفكّ عنه.

وقيل بالكراهة مطلقا ، وهو قول المحقّق في كتاب الصلاة لما مر.

ونقل القول بالاستحباب عن جماعة كثيرة مطلقا ، لأنّ القضاء من أعظم الأعمال ، فالأفضل أن يقع في أفضل المواضع ، وأنه ذكر ، فتأمّل.

وقيل بالجواز ، كأنّ المراد الإباحة للأصل ، قال المحقّق الثاني : لا يكره مطلقا ، بل إنما يكره إنفاذ الأحكام مثل الحدّ والتعزير وغيرهما.

وذلك أيضا يحتاج إلى دليل ، لعلّه أنه ليس بذكر ، وقد يوجب المنازعة والحدث.

قوله : «وأن يعنت الشهود إلخ». وجه كراهة التعنيت ، أي التدقيق في الاستفسار عن الشهود العلماء والصلحاء البعيدين عن التهمة والسهو والخطأ ، مثل ان يفرّقهم ، أنه موجب لتهمتهم ، والنقص والقدح فيهم في الجملة ، وربما يحصل به الأذى بغير موجب ، فقد يؤول إلى التحريم. ولا شكّ في حسن ذلك ، بل قد يجب مع التهمة كما فعل أمير المؤمنين عليه السّلام في بعض قضاياه (١) وإليه أشار بقوله : ولو ارتاب فرق بينهم.

قوله : «ويحرم عليه الرشوة إلخ». أي يحرم على القاضي الرشوة.

__________________

(١) الوسائل باب ١٩ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى حديث ١ وفيه (فقال عليّ عليه السّلام الله أكبر ، أنا أول من فرّق بين الشاهدين (الشهود ـ خ) إلّا دانيال النبي عليه السّلام).

٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

دليله العقل والنقل ، كتابا (١) وإجماعا من المسلمين وسنّة وهي أخبار كثيرة من طرقهم وطرقنا ، مثل أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله قال : لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم (٢). وعن أبي عبد الله عليه السّلام قال : الرشا في الحكم ، هو الكفر بالله (٣).

فينبغي تحقيقها ، وهي في اللغة الجعل ، والظاهر أنّ المراد بها هنا ، ما يعطى للحكم حقا أو باطلا ، لأنّه المفهوم الموافق للّغة والخبر. فهو حرام على الراشي أيضا مطلقا.

فتخصيص البعض ـ بأنّها التي يشترط بإزائها ، الحكم بغير الحقّ ، والامتناع من الحكم بالحقّ ـ غير جيّد. وكذا تعميم عدم الإثم ، إن دفعها لأخذ الحقّ في نفس الأمر ، فإنّه موهم لعدم التحريم حينئذ على المرتشي أيضا.

وأيضا الظاهر أنّ التحريم عليه ، إذا لم يتوقّف الحكم على ذلك ، فإذا توقف يجوز له ذلك ، ويكون حراما على المرتشي.

ولكن ليس حينئذ أخذا بالحكم الحقّ ، بل استيفاء الحقّ بوجه ، كالمقاصّة ، فلا بدّ من التعذّر بكلّ وجه حتّى يحلّ ذلك.

__________________

(١) قد استدل عليه بكلمة (السحت) في قوله تعالى (سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ) المائدة : ٤٢ وقوله تعالى (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) المائدة : ٦٢.

(٢) سنن أبي داود : كتاب الأقضية (باب كراهية الرشوة) حديث ٣٥٨٠ ولفظ الحديث (عن عبد الله بن عمر قال : لعن رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم الراشي والمرتشي) وفي سنن ابن ماجة : كتاب الأحكام (باب التغليظ في الحيف والرشوة) حديث ٢٣١٣ ولفظ الحديث (عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم : لعنة الله على الراشي والمرتشي) وفي صحيح الترمذي كتاب الأحكام (باب ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم) حديث ١٣٣٦ ولفظ الحديث (عن أبي هريرة : لعن رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم الراشي والمرتشي في الحكم).

(٣) الوسائل باب ٨ من أبواب آداب القاضي ح ٣ ـ ٨ ج ١٨ ص ١٦٢ و ١٦٣.

٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

قال في المختلف : منع أبو الصلاح من التوصّل بحكم المخالف للحقّ إلى الحقّ إذا كان الغريمان من أهل الحقّ ، فإن كان أحدهما مخالفا جاز ، ومنعه بقوله : (وهو في موضع المنع) ، لأنّ للإنسان أن يأخذ حقّه كيف أمكن. وكما جاز الترافع إلى المخالف مع المخالف توصلا إلى استيفاء الحقّ ، فليجر مع المؤمن الظالم بمنع الحقّ.

ولعلّ دليل أبي الصلاح الروايات الكثيرة جدّا في منع الحكومة إليهم وأنّ ذلك حرام ، وكذا المأخوذ ، وأن ليس للمجوّزين دليل سوى الاعتبار.

وأمّا قياس المختلف ، فهو غير ظاهر ، ولا يفيد العموم ، إذ المؤمن المدّعى عليه قد لا يعرف الحقّ عليه ، فلا يكون ظالما ، وإن عرفه المدّعي ، فكان أصله متّفق عليه.

ويدلّ عليه بعض الروايات فهو لا بأس به.

أما الفرع فما نجد له دليلا إلّا قولهم المشهور والاعتبار ، أي لزوم تضييع الحقّ المحقّق من غير وجه ، فيشترط التعذّر بكل وجه ، وقد شاع في هذا الزمان الترافع إليهم وأخذ المال بحكمهم من غير تعذّر وبأدنى تعسّر ، أو عدم إمكان ثبوته عندنا ، لعدم شهود عدول.

وهو ليس بجيّد ، لما عرفت من تحريم المال وأخذه بالحكم من غير أهله.

نعم لو كان المال عينا باقية لا يبعد جواز أخذها مهما أمكن مع عدم ترتّب المفسدة ، ومعها يختار ما لا مفسدة فيه ، مثل حكم قاضي الجور.

وممّا سبق يعلم وجوب الإعادة على المرتشي ، وأنّه لا بدّ من دفعه فوريا مع وجود العين ، ومع التلف عوضها مثلا أو قيمة على الوجه الذي تقرّر في ضمان المتلفات ، سواء كان بتفريطه أم لا مثل الغصب ، فإنّ اليد ليست بيد أمانة ، وهو ظاهر.

ثم الظاهر أنّه يجوز له قبول الهدية فإنّه مستحب في الأصل ، إلّا أنه يمكن أن

٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

يقال : صار حينئذ مكروها ، لاحتمال كونها رشوة.

إلّا ان يعلم باليقين أنها ليست كذلك ، مثل أن كان بينه وبين المهدي صداقة قديمة ، وعلم ان ليس له غرض من حكومته وخصومته بوجه ، أو يكون غريب لا يعلم ، أو جاء من السفر وكان عادته ذلك ، أو فعل ذلك بالنسبة إليه وإلى غيره.

ومع ذلك لا شك أن الأحوط هو الاجتناب في وقت يمكن ويحتمل احتمالا بعيدا لكونها رشوة.

وتؤيّده الأخبار من طرقهم ، وقد روي أنه صلّى الله عليه وآله قال : هدايا العمّال غلول (١).

وفي أخرى : هديّة العمّال سحت (٢).

واخرى أنّ النبي صلّى الله عليه وآله استعمل رجلا من بني أسد (الأسد ـ خ ل) ، يقال له ابن اللتبية (أبو اللبيبة ـ خ ل) ، على الصدقة ، فلمّا قدم ، قال هذا لكم ، وهذا لي اهدي إليّ ، قال : فقام رسول الله صلّى الله عليه وآله على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال : ما بال عامل أبعثه فيقول هذا لكم وهذا اهدي إلى؟ أفلا قعد في بيت أبيه ، أو في بيت امه حتى ينظر أيهدى إليه ، أم لا. والذي نفس محمّد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئا إلّا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه ، بعير له رغاء أو بقرة له خوار ، أو شاة تبعر ، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه ، ثم قال : اللهم هل بلّغت اللهم هل بلّغت (٣).

__________________

(١) الوسائل باب ٨ من أبواب آداب القاضي حديث ٦. ولفظ الحديث (هدية الأمراء غلول) ج ١٨ ص ١٦٣.

(٢) كنز العمّال ج ٦ ص ١١١ وفيه : هدايا العمّال إلخ وفي ص ١٢ منه : هدايا العمّال حرام كلها.

(٣) صحيح مسلم : كتاب الإمارة باب (تحريم هدايا العمّال) حديث ٢٦. وقوله (تبعر) معناه تصيح. واليعار : صوت الشاة. وقوله (عفرتي إبطيه) بضمّ العين وفتحها ، والأشهر الضم. قال الأصمعي وآخرون : عفرة

٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

ولا ينافي ذلك قبوله صلّى الله عليه وآله الهدايا ، وكذا أهل البيت عليهم السّلام وترغيبهم وتحريضهم على الاهداء والقبول حتّى جعلوا قبولها من حقوق الإخوان (١).

وقال صلّى الله عليه وآله : لو اهدي إلى كراع لقبلت (٢) لأنهم معصومون ، وإن كان ذلك في زمان كونهم حكاما ، لأنه لا يتوهّم فيهم ، الميل إلى جانبه في الحكم وغيره ممّا لا يجوز ، بل ولا ينبغي ، وكانوا يعرفون المقاصد ، فما كان أحد يقدر أن يقصد ذلك ويتم له.

والتحريض محمول على غير مادة يتوهّم ذلك فيهم فضلا عن الراجح واليقين ، وهو ظاهر لا خفاء فيه.

__________________

الإبط هي البياض ليس بالناصع ، بل فيه شي‌ء كلون الأرض. قالوا : وهو مأخوذ من عفر الأرض ، وهو وجهها. واعلم أنه ليس في النسخ : فقام رسول الله إلى قوله : أبيه.

(١) راجع الوسائل باب ٩٠ ـ ٩١ من أبواب ما يكتسب به ج ١٢ ص ٢١٥ ـ ٢١٧.

(٢) الوسائل : كتاب التجارة باب ٨٨ من أبواب ما يكتسب به ح ٣ ـ ١٣.

٥٢

المقصد الثاني

في كيفيّة الحكم

إذا حضر الخصمان بين يديه سوّى بينهما في السلام والكلام والقيام والنظر وأنواع الإكرام والإنصات والعدل في الحكم.

ولا يجب التسوية في الميل القلبي ، ولا بين المسلم والكافر ، فيجوز إجلاس المسلم وإن كان الكافر قائما.

______________________________________________________

قوله : «إذا حضر الخصمان إلخ». ظاهره يدلّ على أن التسوية بين الخصمين في السلام ، والكلام ، والقيام ، والنظر ، والالتفات ، وغير ذلك من أنواع الإكرام ، واجب ، فإن (سوّى) خبر ، بمعنى الأمر الظاهر للوجوب. ولعطف الواجب عليه بقوله (والإنصات) وهو الاستماع إلى الدعوى وجوابها. والعدالة في الحكم. ولنفي الوجوب عن الميل القلبي ، بقوله : «ولا يجب التسوية في الميل القلبي إلخ». لأنّ ذلك غير مقدور غالبا. وتجويز تفضيل المسلم على الكافر ، بل ينبغي ذلك ، مثل أن يكون الكافر قائما والمسلم جالسا ، ليتميز المسلم عن الكافر ، ولكن لا يجوز العدول عن الحقّ في المسألة والحكم ، وقد صرّح بوجوب التسوية بين الخصمين المتساويين في الإسلام والكفر.

٥٣

ويحرم عليه تلقين أحد الخصمين وتنبيهه على وجه الحجاج.

______________________________________________________

قال في شرح الشرائع : والأكثر بالوجوب كما يظهر.

ونقله في المختلف واستدلّ له برواية النوفلي عن السكوني قال : قال أمير المؤمنين عليه السّلام : من ابتلي بالقضاء فليتساو (فليساو ـ ئل) بينهم في الإشارة ، وفي النظر ، وفي المجلس (١).

وأجاب بمنع صحّة السند والدلالة على الوجوب.

وأنت تعلم أنّ ظاهرها الوجوب ، ولكن ـ للندرة وضعف السند ، والأصل ، وورود الأمر للندب كثيرا خصوصا في مقام بيان الآداب الأعمّ ـ حملت على الندب.

قوله : «ويحرم عليه إلخ». أي يحرم على القاضي أن يلقّن أحد الخصمين ، وأن ينبّهه على وجه صحيح من الحجاج ، بأن يعلمه دعوى صحيحة إذا لم يأت بها ، مثل أن يدعي بطريق الاحتمال فيعلمه أن يدعي بالجزم حتّى تكون دعواه مسموعة.

وإن ادعى عليه بالقرض وأراد أن يقول : دفعته إليك ، فيعلّمه الإنكار ، لئلّا يلزمه الاعتراف ثم البيّنة بالأداء ونحو ذلك. لأنه منصوب لقطع المنازعة ، لا لفتح بابها ، فتجويزه ينافي الحكمة الباعثة للنصب.

نعم لا باس بالاستفسار والتحقيق ، وإن أدى بالأخرة إلى صحّة دعواه ، بل لا يبعد جواز الأول أيضا إذا كان المدّعي جاهلا لا يعرف التحرير والقاضي علم بالحال.

وما ذكر لا يصلح دليلا للتحريم مطلقا ، إذ فتح باب المنازعة الحقّة التي يصير سببا لعدم إبطال حقوق الناس ، ما نعرف فساده ، إلّا أن يكون لهم دليل آخر

__________________

(١) الوسائل كتاب القضاء باب ٣ من أبواب آداب القاضي ح ١ ج ١٨ ص ١٥٧.

٥٤

ويسمع من السابق بالدعوى ، فان اتّفقا فمن الذي عن (على ـ خ ل) يمين صاحبه. ولو تضرّر أحدهما بالتأخير (التأخّر ـ خ ل) قدّمه. ولو تعدّد الخصوم بدأ بالأول فالأوّل ، فإن وردوا دفعة أقرع.

______________________________________________________

من إجماع وغيره فتأمّل.

قوله : «ويسمع من السابق إلخ». إذا حضر الخصمان ، فإن ابتدأ أحدهما بالدعوى سمع منه من غير نزاع ، وإن اتّفقا وابتدرا (ابتدأ ا ـ خ) معا ، فالمشهور أنّه يسمع ممّن على يمين صاحبه ، بل نقل الإجماع من السيد ، على ذلك ، ثم إذا خلص دعواه فيشرع الآخر في الدعوى.

ولعلّ المستند رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال : قضى رسول الله صلّى الله عليه وآله أن يقدّم صاحب اليمين في المجلس بالكلام (١).

ويمكن أن يجعل صحيحة عبد الله بن سنان أيضا دليلا له ، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال : إذا تقدّمت مع خصم إلى وال أو إلى قاض ، فكن عن يمين الخصم (٢).

فإنّ الفائدة ذلك.

فتأمّل فإنّهما غير صريحتين ، بل ظاهرتين في المطلوب.

ونقل عن الشيخ القرعة.

وعن ابن الجنيد تأويل الرواية ، بأن يكون المراد تقديم المدّعي ، فإنّه صاحب اليمين ، وطالبها من المدّعى عليه.

ولا شكّ أنّه تأويل بعيد كما قاله السيد.

__________________

(١) الوسائل ، كتاب القضاء : باب ٥ من أبواب آداب القاضي ح ٢ ج ١٨ ص ١٦٠.

(٢) الوسائل ، كتاب القضاء : باب ٥ من أبواب آداب القاضي ح ١ ج ١٨ ص ١٥٩ وفيه : فكن عن يمينه يعني يمين الخصم ، كما في الفقيه والتهذيب أيضا.

٥٥

وإذا اتّضح الحكم وجب. ويستحبّ الترغيب في الصلح. وإن أشكل أخر إلى أن يتضح.

______________________________________________________

والظاهر أنّ الكلام مع كون كلّ واحد منهما مدعيا على الآخر ، وإلّا فلا بحث في تقديم المدّعي ، والقرعة انما تكون مع الاشتباه ، ومع الرواية لا اشتباه ، وأيّد كون المقصود ذلك ، رواية ابن سنان المتقدّمة. فإنّ الحسن بن محبوب روى كليهما ، إحداهما عن محمّد بن مسلم ، والأخرى عن عبد الله بن سنان.

قال في المختلف : ومع تعدّد الخصوم يبدأ بالأوّل فالأوّل ، ومع الاتّفاق والمعيّة في الدخول على القاضي يستعمل القرعة ، لأنّها لكلّ أمر مشكل ، وهنا كذلك ، لإشكال الترجيح بغير مرجّح ، ويحتمل جعل الأمر إلى القاضي ، والقرعة أولى.

هذا مع عدم اختصاص الضرر بأحدهما بالتأخير ، وإلّا يقدم من يختصّ بالضرر ، للعقل والنقل ، فتأمّل.

واعلم أنّه لو ذكر بعض ما ذكره في الكيفيّة ، في الآداب ، بل ما ذكره فيها إلى هنا لكان أولى فإنّها مقدّمات ، لا كيفيّته للحكم ، فتأمّل.

قوله : «وإذا اتضح الحكم إلخ». يعني إذا ظهر (على ـ خ) للحاكم بعد تحرير الدعوى والمنازعة ، الحكم الحقّ في ذلك ، وجب عليه أن يحكم لصاحبه به.

وجهه ظاهر. ولكن الظاهر أنّه بعد سؤال صاحبه ، لا مطلقا ، كما سيجي‌ء ، فإنّه حقّ له ، فما لم يطلب لم يجب ، فإنّ له بعد ، تركه وغيره.

ويستحب له أن يرغّب المتخاصمين بعد ظهوره ، على الصلح ، بأنّ الصلح خير ونحو ذلك ، لأنّ الترغيب بالخير خير.

وإن أشكل الحكم عليه ، وما ظهر عنده ، لعدم الدليل ، أو للتعارض ، وجب التأخير وعدم الحكم ، فإنّ الحكم مع الجهل حرام ، بل كاد أن يكون كفرا ، كما مرّ ، فعليه أن يتأمّل ويجتهد ويطالع ويراجع ويبحث عنه ويشاور العلماء حتّى يظهر.

٥٦

ولو سكتا استحبّ أن يقول : ليتكلّم المدّعي ، أو يأمر به إن احتشما.

وإذا عرف الحاكم عدالة الشاهدين حكم بعد سؤال المدّعي وإلّا طلب المزكي ، ولا يكفي معرفته بالإسلام.

______________________________________________________

والظاهر أن يكون عليه حينئذ إعلام صاحب الحقّ ، ويحتمل أن يترك حتّى يرجعوا إليه ، ويستفصلوا منه ، وفي الأول أيضا ينبغي أن يشاورهم ويبحث معهم ويعرض عليهم إن كانوا حضّارا إن احتمل خلاف ما فهمه ، ولم يكن منصوصا عليه بنص جلي.

بل لا يبعد مع ذلك أيضا ، لتشاورهم ، فإنّه صلّى الله عليه وآله ما كان يحتاج في الحكم ولا في أمر من الأمور ، من تدبير الجدال والعسكر وغيره ، إلى غيره ، ولكن أمر بالمشاورة في الجملة ، ليقتدى به ، وليطيب قلوبهم ، واستمالتها ، ولينبّئ عن حسن خلقه صلّى الله عليه وآله ومعاشرته معهم.

قوله : «ولو سكتا إلخ». لو سكت المتخاصمان عند القاضي ولم يتكلما استحياء منه واحتشاما له ، استحبّ له أن يقول : وليتكلّم المدّعي منكم ، أو يأمر من يتكلّم بذلك ، لذلك ، ولاحتمال أن ينتظروا الإذن فيضيع وقته ووقتهما بالانتظار والعبث.

قوله : «وإذا عرف الحاكم إلخ». إذا حضر الخصوم وحرّروا منازعتهم ، فإن أقر المدّعي عليه على وجه يلزمه المدّعى فاتضح الحال ، فلا يحتاج إلى الشاهد ، فيحكم للمدّعى عليه به بعد سؤاله كما مرّ ، وإلّا فيحتاج إلى الشاهد ، فإن عرف المدّعي أنّ عليه الشاهد وأحضره ، وإلّا فيعرف ، فإن قال : ما هو بحاضر ، انظر حتى يحضره.

والظاهر عدم جواز الحبس والكفيل ، لعدم ثبوت الموجب لذلك ، نعم يمكن المراقبة على وجه لا يضرّ بحال ولا يفوت المدّعي لو أحضر الشهود ، ولكن مقدار

٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ما يمكن إحضارهم.

ومع الحضور إن عرف فسقهم ، ردّهم بالإجماع ، والآية (١) والأخبار (٢).

وإن عرف العدالة ، حكم بعد سؤال المدّعي ، والّا فإن عرف الإسلام فقط ، فالمشهور بين المتأخّرين عدم الحكم ، بل يتوقّف ويطلب المزكّي حتّى تثبت العدالة.

ونقل عن المتقدّمين الحكم حينئذ أيضا ، بل نقل عن الشيخ في الخلاف الإجماع على ذلك ، ونقل ذلك عن بعض العامّة مثل أبي حنيفة في غير الحدود ، وعن غيره حتّى صاحبيه ـ أبي يوسف ومحمّد ـ أنه لا بدّ من البحث والتفتيش حتّى تظهر العدالة.

دليل الأول ، أصل عدم الحكم وعدم ثبوت الحقّ حتى يثبت بالدّليل ، ولزوم الفساد بأخذ الأموال والفروج والدماء بمجرّد شهادة المسلم ، فإنّا نجد أنّ التقيّد (التقييد ـ خ) في زماننا هذا بين المسلمين قليل جدّا ، وهو ظاهر.

وما يدلّ على عدم الخروج عن اليقين إلّا بيقين آخر (٣) وعدم العمل بالظنّ ، مثل (لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (٤) وغير ذلك من عمومات الآيات والأخبار ، وخصوص الآية مثل قوله تعالى (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (٥).

والأخبار مثل صحيحة عبد الله بن أبي يعفور (الثقة) في الفقيه قال : قلت لأبي عبد الله عليه السّلام : بما (بم ـ خ) تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتّى تقبل

__________________

(١) إشارة إلى قوله تعالى (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ) الآية.

(٢) راجع الوسائل كتاب القضاء باب ٦ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ج ١٨ ص ١٧٤.

(٣) الوسائل ، كتاب الطهارة : باب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، فراجع.

(٤) الإسراء : ٣٦.

(٥) الطلاق : ٢.

٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

شهادته لهم وعليهم؟ فقال : أن تعرفوه بالستر والعفاف وكفّ البطن والفرج واليد واللسان ، وتعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله تعالى عليها النار ، من شرب الخمر (الخمور ـ فقيه) والزنا والربا وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وغير ذلك ، والدلالة على ذلك كلّه ، أن يكون ساترا لجميع عيوبه حتّى يحرم على المسلمين ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه وتفتيش ما وراء ذلك ، ويجب عليهم تزكيته وإظهار عدالته في الناس ، ويكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهنّ وحفظ مواقيتهنّ بحضور جماعة من المسلمين ، وأن لا يتخلّف عن جماعتهم في مصلّاهم الّا من علّة ، فإذا كان كذلك لازما لمصلّاه عند حضور الصلوات الخمس ، فإذا سئل عنه في قبيلته ومحلّته ، قالوا : ما رأينا منه إلّا خيرا ، مواظبا على الصلاة (الصلوات ـ خ) متعاهدا لأوقاتها في مصلّاه ، فإنّ ذلك يجيز شهادته وعدالته بين المسلمين ، وذلك ان الصلاة ستر وكفّارة للذنوب ، وليس يمكن الشهادة على الرجل بأنه يصلي إذا كان لا يحضر مصلّاه ويتعاهد جماعة المسلمين ، وإنّما جعل الجماعة والاجتماع إلى الصلاة لكي يعرف من يصلّي ممن لا يصلّي ، ومن يحفظ مواقيت الصلاة ممّن يضيع ، ولو لا ذلك لم يمكن لأحد أن يشهد على أخر بصلاح ، لان من لا يصلي ، لا صلاح له بين المسلمين ، فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم همّ بأن يحرق قوما في منازلهم لتركهم الحضور لجماعة المسلمين ، وقد كان منهم من يصلّي في بيته فلم يقبل منه ذلك ، وكيف يقبل شهادة أو عدالة بين المسلمين ممّن جرى الحكم من الله عزّ وجلّ ومن (رسول الله) (رسوله ـ خ فقيه) صلّى الله عليه وآله فيه الحرق في جوف بيته بالنار ، وقد كان يقول رسول الله صلّى الله عليه وآله : لا صلاة لمن لا يصلّي في المسجد مع المسلمين إلّا من علّة (١).

__________________

(١) الوسائل كتاب القضاء : باب ٤١ من كتاب الشهادات ح ١ ـ ٢ ج ١٨ ص ٢٨٨.

٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وفيها أحكام كثيرة ومبالغة زائدة على الصلاة جماعة في المسجد ، فافهم ومثلها مذكورة في التهذيب والاستبصار بتغيير مّا في المتن والسند.

ورواية عبد الله بن أبي يعفور عن أخيه عبد الكريم بن أبي يعفور عن أبي جعفر عليه السّلام قال : يقبل شهادة المرأة والنسوة ، إذا كنّ مستورات من أهل البيوتات ، معروفات بالستر والعفاف ، مطيعات للأزواج ، تاركات للبذاء والتبرّج إلى الرجال في أنديتهم (١).

ولا يضرّ عدم صحة سند هذه.

وصحيحة محمّد بن الحسن الصفّار قال : كتبت إلى أبي محمّد عليه السلام هل تقبل شهادة الوصي للميّت بدين له على رجل مع شاهد آخر عدل؟ فوقّع عليه السّلام إذا شهد معه آخر عدل ، فعلى المدعي يمين. وكتبت : أيجوز للوصي أن يشهد لوارث الميّت صغيرا أو كبيرا بحقّ له على الميّت ، أو غيره ، وهو القابض للصغير ، وليس للكبير بقابض؟ فوقّع عليه السلام : نعم ، وينبغي للوصي أن يشهد بالحقّ ولا يكتم الشهادة. وكتبت : أو يقبل شهادة الوصي على الميّت مع شاهد آخر عدل؟ فوقع : نعم من بعد يمين (٢).

وجه الدلالة أنه لو لم يكن شرطا لزم أن يكون التقييد لغوا ، فتأمّل فيه.

ولا يضرّ اشتماله على يمين المدّعي مع الشهود ، إذ يمكن حملها على الاستحباب مطلقا ، أو في وقت الريبة ، أو الوجوب أيضا بمعنى اليمين على نفي العلم بأن الميت استوفاه ، أو يحذف إذا كان خلاف النصّ والإجماع إن لم يمكن الجمع.

وفيها دلالة على اليمين على المدّعي في الدعوى على الميّت مع العدلين ، وهو

__________________

(١) الوسائل كتاب القضاء : باب ٤١ من أبواب الشهادات ح ٢٠.

(٢) الوسائل باب ٢٨ من كتاب الشهادات ح ١ ج ١٨ ص ٢٧٣.

٦٠