مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان - ج ١٢

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]

مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]


المحقق: الشيخ مجتبى العراقي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٥

ولو ادّعى علم المشهود له بفسق الشاهدين ، أو الحاكم ، أو الإقرار ، أو أنه قد حلف ، ففي اليمين إشكال ، لأنه ليس عين الحق ، بل ينتفع فيه.

______________________________________________________

وأنها زوجته ، وذلك كاف في الدعوى إذا كان غرضها إثبات زوجيته ، فهو دعوى مقبولة فتسمع ، وتسمع البينة على ذلك ، فإنها صريحة في الزوجية ، ولا يحتمل غيره ، ومحمولة على الصحة كباقي الدعاوي ، مثل بيع وإجارة ، فلا يحتاج إلى انضمام عدم كون العقد في العدّة ، وعدم ورود المفسد خلافا لبعض العامة. ولا يحتاج إلى انضمام دعوى حق من حقوق الزوجية أيضا ، مثل الكسوة والنفقة والمضاجعة وغيرها ، فإن الزوجية أمر مستقل يمكن دعواها وإثباتها ، فتترتّب عليه أمور أخر ، وهو ظاهر.

لعل إشارة إلى رد بعض العامة ، فإنه اعتبر في سماعها انضمام حق مثل الصداق والنفقة.

قوله : «ولو ادّعى علم المشهود له إلخ». لو ادّعى المنكر بعد إقامة بينة المدعي فسق الشهود ، أو القاضي ، فيمكن أن يسمع ويطالب بالبينة ، ولكن في القاضي يحتاج إلى قاضي آخر ، فإن أثبته بالبينة فلا يثبت الحكم ، ولكن لا تسقط الدعوى ، بل هي باقية كما كانت ، ويمكن أن لا تسمع ، لعدم الفائدة والفساد.

وإن لم يكن بينة ، وادّعى علم المدّعي بذلك ، فإن أقرّ المدعي به توقف الحكم إن كان قبله ، وإن كان بعده أبطله ، ويحتاج في إثباتها إلى شهود أخر ، أو عند حاكم آخر.

وان أنكر المدعي ، هل له تحليفه على عدم العلم بذلك أم لا؟ استشكله المصنف وغيره لأنه ليس بحق يثبت بالنكول ، أو بردّ اليمين ، ولأنه يقتضي الفساد.

ولانه يحصل به نفعه ، لما مرّ من أنه إن أقر يبطل ، وتوقف الحكم.

وقد لا يكون له بينة اخرى ، فيحلف ويخلص من حقه ، وهذا نفع يمكن دعواه.

١٢١

وليس له تحليف الشاهد والقاضي ، وإن نفعه تكذيبهم أنفسهم.

وتسمع الدعوى بالدين المؤجّل.

______________________________________________________

ويمنع اقتضاء الفساد ، فإنه جرح في مقام الحاجة وهو جائز.

ويمنع أيضا حصر فائدة الدعوى والإحلاف في حصول المال وثبوته بالنكول أو بردّ اليمين وهو ظاهر ، ويوجد أمثاله.

وكذا البحث في دعوى المنكر إقرار المدعي بفسق الشهود ، أو بفسق الحاكم واعترافه به وإنكاره وطلب الحلف منه.

وكذا دعوى أنه حلّفه وحلف له فلا مطالبة له في الدنيا ولو بالبينة على ما مرّ ، فإن اعترف يبطل دعواه ولا يأخذ منه شيئا ، وإن أنكر يبطل حلفه ، فإن حلف فهو ظاهر ، وإن لم يحلف ثبت تحليفه وسقوط حقوقه به ، إن قيل بالقضاء بالنكول ، وإلّا مع اليمين المردودة ، فالظاهر السماع في كل ذلك وعدم الإشكال.

إلّا في دعوى فسق الحاكم ، فإنه لا يخلو عن إشكال ، فإنه أمين الإمام ، وفتح هذا الباب موجب لعدم إجراء الاحكام ، والطعن في الحكام ، ولا يقبلون القضاء ، فإن كل منكر يدعي فسق الحاكم ، فتعطّل الأمور وذلك فساد ظاهر ، فتأمّل.

قوله : «وليس له تحليف الشاهدين إلخ». عدم استحقاق المنكر تحليف الشاهد ولا القاضي ظاهر من العقل والنقل ، فإنه يقتضي أنّ صاحب الحق يحلف لا الأجنبي وأنّ البينة على المدعي واليمين على من أنكر وليسا أحدهما ، إلّا في مواضع ليس هذا منها ، وإن اليمين انما يكون لإثبات حق الحالف لا الغير ، ولأنه ليس له بعد البينة إحلاف المدعي ، لأن إحدى الحجتين قائمة فلا يحتاج إلى الأخرى ، فتحليف غيره بالطريق الأولى ، ولعله أراد الردّ على بعض العامة ، فتأمّل.

قوله : «وتسمع الدعوى إلخ». دليل سماع الدعوى بالدين المؤجل ، هو

١٢٢

ولا تفتقر الدعوى إلى الكشف إلّا في القتل.

______________________________________________________

عموم أدلة سماع الدعوى من العقل والنقل وعدم صلاحية كونه دينا مؤجلا مانعا ، نعم انما هو مانع الطلب بالفعل ، لا الإثبات ولأنه قد يؤول إلى التضييع ، إذ قد يكون قبل الحلول يمكن إثباته ، لا بعده بفقد الشهود أو الحاكم ، أو غيبته ونحو ذلك ، وهو ظاهر.

قوله : «ولا تفتقر إلخ». عدم افتقار الدعوى إلى التفصيل غير القتل هو المشهور ، بل كاد يكون إجماعيا ، سواء كان مالا أو غيره ، من النكاح وغيره ، لعموم أدلة الدعوى ، ومقبولية الدعوى على الإطلاق من غير تفصيل ، وعدم كون الإجمال مانعا.

ولأنّ أسباب الملك متكثرة ومتكررة فقد ينسى ولا يضبط ، فلو شرط التفصيل لأدّى إلى تضييع الحقوق.

لعله اشترط بعض مطلقا ، وبعضهم خصّص بالنكاح للاحتياط في الفروج ، ولا دليل عليه ، والاحتياط فيها لا يقتضي التفصيل في الدعوى ، بل يحتاج إلى الحجة في الإثبات ، وعدم الحكم بوجوده وعدمه إلّا بالحجة ، بل قد يؤول ذلك إلى عدم الاحتياط ، إذ قد تكون الزوجية الصحيحة معلومة ونسي تفصيلها ، فلو لم يسمع مثلها لأدى الحكم بعدم الزوجية ، فتتزوج الزوجة بزوج مع أنها زوجة غيره.

نعم لو كان الحكم مختلفا يجب التفصيل ، مثل القتل ، فإن العمد يقتضي القصاص ، والخطأ الدية على وجه خاص غير الوجه الذي يكون شبه العمد ، فما لم يفصل لا يمكن الحكم بشي‌ء خاص بخصوصه.

ولأنه إذا فات شي‌ء بالحكم في القتل ، لا يمكن استدراك ذلك بعينه فينبغي الملاحظة في ذلك ، فإن النفس المقتولة لا يمكن تحصيلها بوجه ، بخلاف غيره.

وقد ينتقض هذا بالنكاح ، فإن الوطء لا يستدرك. قد يقال باستدراكه

١٢٣

فلو ادّعى فرسا سمعت.

وهل يشترط الجزم أم يكفي الظنّ؟ إشكال.

______________________________________________________

بردّها وبالمهر ممكن ، بخلاف النفس.

على أنه يمكن الاكتفاء في القتل أيضا بعدم التفصيل ، وغايته أنه لا يمكن إثبات حكم بخصوصه ، وثبت أصله خصوصا مع عدم إمكان التفصيل بالنسيان والاشتباه ، وعدم التحقيق ، وبحكم الأصل يمكن أن يحكم بالخطإ ، إذ لو لم يسمع مثله لأدّى إلى إبطال دم امرئ معصوم مع إمكان إثباته بوجه ولا ضرر في ذلك ، أو يحكم بالمصالحة ، فتأمّل.

قوله : «فلو ادعى إلخ». متفرع على سماع الدعوى مجملا من غير تفصيل ولعل المراد أنه لو ادعى مدع أن له عند شخص فرسا معينة بالوصف الرافع للجهالة بحيث يصح بيعه وصفا ، أو عيّنه بقوله الفرس الفلانية ولم يذكر سببه من أنه اشترى منه أو غيره ، سمعت دعواه ، فإنها دعوى صحيحة خالية عن الموانع.

ولو لم تكن معينة وقلنا بصحة دعوى مجهول ، مثل دعوى بيت ما ، ودابة ما كما هو رأي المصنف ، لصحت أيضا وسمعت ، وهو ظاهر.

قوله : «وهل يشترط الجزم إلخ». ظاهر العبارة ان الإشكال في اشتراط جزم المدعي ثبوت المدّعى في ذمة المدّعى عليه في نفس الأمر ، بمعنى أن يكون جازما بالحق ، ومجرّد الظن غير كاف.

ينشأ من ان المتبادر من الدعوى على شخص في شي‌ء كونه جازما بذلك ولأنّ من لوازمه جواز اليمين إن ردت إليه ، ولا يمين الّا مع العلم ، بل الحكم بمجرد النكول أيضا على المدّعى عليه وأخذ الحق منه مع عدم علم المدعي به أيضا مشكل.

ومن عموم أدلة الدعوى مثل «أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ» (١) ، (فَلا

__________________

(١) المائدة : ٤٩.

١٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) (١) وبمنع التبادر بحيث يكون حجة.

ويمنع أيضا لزوم اليمين على تقدير الرد ، أو القضاء بالنكول.

فيحتمل أن يجوز الدعوى بالظن ، فان سلم الخصم وأقر ، أو شهد به الشهود ، يأخذ المدّعى على الظاهر ، والا فلا يأخذه بمجرد النكول عن اليمين ، وإن قيل بالقضاء بالنكول في غير هذه الصورة لعدم ثبوت الحق ، لاحتمال تعظيم اليمين وكراهتها (كراهيتها ـ خ) ، ولا يحلف إن رد عليه ويكون ذلك من لوازم الدعوى الجازمة اليقينية لا مطلقا.

ويؤيده أنه إذا أقر شخص بأن لزيد عنده كذا ولم يعرف هو فساده ، فالظاهر انه يجوز أخذه ، ومع الظن بالطريق الأولى.

وكذا إذا شهد الشاهدان على ذلك فحينئذ يمكن سماع الدعوى ، لاحتمال أن يحصل الإقرار ، أو يثبت بالشهود.

بل إذا سمع الإقرار أو من الشهود ذلك ، صح له الدعوى ، فيمكن ان يثبت عند الحاكم فيلزمه ويأخذ.

ولكن ينبغي أن يأتي بعبارة دالة على الظن ، لا الجزم حذرا من الكذب والتدليس ، وليس الإتيان بالجزم ضرورة حتى يأتي ويورّي ، وهو ظاهر هذا.

قال في الشرائع : إيراد الدعوى بصيغة الجزم ، ولو قال أظن ، أو أتوهّم لم يسمع إلخ.

قال في شرحه : نبه بقوله : (إيراد الدعوى بصيغة الجزم) على أنّ المعتبر من الجزم ما كان في اللفظ ، بأن يأتي بصيغة جازمة ، مثل أن يقول : لي عندك كذا ، دون أن يقول : أظن ، أو أتوهّم كذا ، سواء انضم إلى جزمه بالصيغة جزمه بالقلب

__________________

(١) النساء : ٦٥.

١٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

واعتقاده لاستحقاق الحق أم لا ، والأمر كذلك ، فإن المدّعي لا يشترط جزمه في نفس الأمر إلخ.

كذا قاله في الشرح أيضا ، وقال : ومن المعلوم أنه إذا كان للإنسان بينة تشهد له بحق وهو لا يعلم به ، أن له ان يدعي عند الحاكم لتشهد البينة له به.

فيه أنه تدليس وكذب بغير ضرورة.

مع انه ما ذكر التورية فلا يجوز ، ولا شك في بعد كونه مقصود المحقق ، كيف ، دليل المنع هو لزوم القضاء بالنكول ورد اليمين! وأنه لا بد من العلم ، ليأخذ ويحلف.

والعجب من الشارح أنه ذكر ذلك ، حيث قال : ووجه ما اختاره المصنف رحمه الله من اشتراط الجزم بالصيغة ، ان الدعوى يلزمها أن يعقبها يمين المدّعي ، أو القضاء بالنكول ، وهما غير ممكنين مع عدم العلم بأصل الحق إلخ.

فإذا كان وجه المصنف هو لزوم العلم ، كيف يكون مقصوده جواز الدعوى مع عدم العلم ، والظن مع الإتيان بعبارة دالة على العلم.

على أنه قد يمنع لزوم اليمين بالرد والقضاء بالنكول في كل الدعاوي ، بل إنما يكونان فيما إذا كان الدعوى مع العلم ، وإذا لم يكن العلم ، ولم يكن الشهود لم يثبت الدعوى سواء حلف المدعى عليه أو نكل أو ردّ.

مع أنه قد يلتزم بجواز الأخذ مع النكول من دون العلم على القول بالقضاء بالنكول كما احتمله في الشرح ، ولكنه بعيد.

ويؤيد عدم لزوم القضاء أو ردّ اليمين بمطلق الدعوى ، ما نقل المحقق من نجيب الدين محمّد بن نما سماع الدعوى في التهمة ، وإن لم تكن جازمة ، ويحلف المنكر من غير أن يترتب عليها رد اليمين على المدّعي لعدم إمكانه ، وهو ظاهر ، فتأمّل.

١٢٦

ولو أحاط الدين بالتركة ، فالمحاكمة إلى الوارث فيما يدّعيه للميت.

______________________________________________________

قوله : «ولو أحاط الدين إلخ». دليل كون الخصومة والمحاكمة إلى الوارث لا إلى الديّان ـ وإن استوعب دينهم تركته على تقدير أنها تنتقل إلى الوارث ، ولهم الخيار في قضاء الدين عن التركة وغيرها ، وقد تعلّق بها الدين كتعلق أرش الجناية برقبة الجاني فيتصرفون فيها كيف شاؤوا ويضمنون الدين أو لتعلق الدين بالرهن ، فلا يتصرّفون فيها ـ أنّ التركة ما لهم ، فلم يكن دعوى إثباتها إلّا لهم ، ولكن لا يجوز لهم المسامحة كدعوى سائر أموالهم ، الّا أن يلتزموا بقضاء الدين من غير التركة ، وهو ظاهر.

ولكن التقدير غير ظاهر ، وقد مرّ البحث فيه ، ويمكن أن سيجي‌ء أيضا ، فتأمّل.

ثم إنه قد يناقش في ظهور ذلك على ذلك التقدير أيضا ، لتعلّق حقهم بها ، فلهم أن ينازعوا ويدّعوا الحضور في الدعوى حتى لا يتسامحوا ، ولا يتفقوا مع الخصم والمدّعى عليه ويصالحوا بأقلّ ويسقطوا ، إذ عرفوا أن لا يصل إليهم ، لأنه يأخذه الديّان.

ويؤيده رواية أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام ، عن الرجل يقتل وعليه دين وليس له مال ، فهل لأوليائه أن يهبوا دمه لقاتله وعليه دين؟ فقال : إنّ أصحاب الدين هم الخصمان للقاتل ، فإن وهب أولياؤه دية القاتل فجائز ، وإن أرادوا القود ليس لهم ذلك حتى يضمنوا الدين للغرماء ، وإلّا فلا (١).

ولكنّ في السند محمّد بن أسلم الجبلي المجهول (٢).

__________________

(١) الوسائل كتاب التجارة : باب ٢٤ من أبواب الدين والقرض ح ٢ ج ١٣ ص ١١٢.

(٢) وأسند كما في التهذيب هكذا : محمّد بن الحسن الصفّار ، عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب ، عن محمّد بن أسلم الجبلي ، عن يونس بن عبد الرحمن ، عن ابن مسكان ، عن أبي بصير.

١٢٧

فإذا ادّعى وسأل المدّعي المطالبة بالجواب ، طولب الخصم ، فإن اعترف ، ألزم ، بأن يقول الحاكم : حكمت أو قضيت ، أو اخرج عن حقه مع التماس المدعي ، وإلّا ثبت الحق. ولو طلب أن يكتب عليه ، أجيب إن عرفه الحاكم ، أو عرفه عدلان ، وله أن يشهد بالحلّية.

______________________________________________________

وفي المتن شي‌ء ، والمضمون غير موافق لقواعدهم ، فافهم.

وأمّا على تقدير بقائها على حكم مال الميت ، أو ينتقل إلى الديان ، فغير ظاهر.

نعم هو محتمل على تقدير البقاء ، فينبغي الاجتماع أو التوكيل ، ويشكل الحلف إن نكل المدّعى عليه وردّ اليمين ، فلا بدّ من القول بعدمه هنا كما في بعض الصور ، فتأمّل.

قوله : «فإذا ادّعى إلخ». إذا ادّعى المدّعي عند الحاكم على خصمه ، فالخصم إن أجاب ، وإلّا فهل يحتاج الحاكم في مطالبة الجواب إلى سؤال المدّعي ذلك ، أم لا؟ قيل : نعم ـ كما هو ظاهر المتن ـ لأنّ الحق له فيقف على طلبه.

وقيل : لا ، لأنّ الطلب حاصل ، فإنّ الإنسان لا يحضر خصمه في مجلس الحاكم ويدّعي عليه إلّا ويريد الجواب.

على أنه قد يقال : كون الحق له لا يستلزم توقفه على طلبه ، أو أنه بعد الإحضار كان حق الحاكم ، وهما ثابتان في الحكم بعد ثبوت المدّعى ، والظاهر فيهما الثاني.

ورجّح في الشرائع الأول في الأول ، حيث قال : والوجه أنه يتوقّف ، وضعّفه في الثاني حيث قال : هل يحكم عليه من دون مسألة المدّعي؟ قيل : لا ، لأنه حق له ، فلا يستوفى إلّا بمسألة حيث عبّر عنه بالقيل ، وهو غالبا يكون إشارة إليه.

وإليه أشار في شرحه بقوله : ونسبه المصنف إلى القيل إيذانا بضعفه ، وكان ينبغي حينئذ ترجيح الأوّل بالطريق الأولى ، فإن الحقّية هنا أظهر.

١٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

لعلّه نظر إلى أن الحكم بعد ظهور الحق حق الحاكم ، فيحكم ، طلب أم لا ، بخلاف السؤال ، فإنه بعد ما ثبت شي‌ء ، فنظر إلى أنّ الكلام في الإقرار والحق يثبت بمجرده ولا يحتاج إلى حكمه ، فلكلّ أحد أن يحكم بثبوت الحق في ذمته بناء على إقراره بغير إذن صاحب الحق ، فكذا الحاكم بالطريق الأولى.

فيه تأمّل ، إذ الحكم بالثبوت مشكل ، ولهذا لم يقدر أحد أن يشهد بثبوته في ذمته ، بل بإقراره ، فليس الحكم إلّا للحاكم لاجتهاده أنّ إقرار العقلاء على أنفسهم جائز ونحوه ، وللإجماع ، فحينئذ تجويز الحكم وأخذ الحق عنه لكل أحد بغير رضا للمقرّ له محل التأمّل.

وظاهرهم يدل على الجواز ، وذلك غير بعيد ، كأنّ قبول الإقرار على نفس المقرّ والإلزام صار ضروريّا لا يحتاج إلى الاستدلال والاجتهاد فتأمّل.

ويحتمل أن يكون مراده اختيار هذا القيل. حيث نقله ونقل دليله الذي هو كان سبب اختياره الثاني في الأول واكتفى بظهور ذلك.

وعلى التقادير فالخصم إمّا ان يقرّ ، أو ينكر ، أو يسكت. فإن اعترف وأقرّ بإقرار صحيح شرعي ـ مشتمل على جميع شرائط الصحة المتقدّمة في بابه ـ ثبت المدّعى والمقرّ به في ذمّته ولا يفتقر ثبوته إلى حكم الحاكم ، فله أن يأخذ منه بدون إذن الحاكم وحكمه على الوجه المشروع وإليه أشار بقوله (والّا ثبت الحق) أي وإن لم يلزمه الحاكم ويحكم عليه ثبت ، ففيه مسامحة ما ، فافهم.

بخلاف البينة ، فإنّ الحق لا يثبت بها عندهم إلّا بحكم الحاكم. فالبينة ليست حجة مطلقة لكلّ أحد ، بل للحاكم ، ولغيره مع حكمه ، فتأمّل.

فيمكن أن يجوز أخذ ما أقرّ به بنفسه وبغير الحاكم الشرعي إن كان عينا وإن أمكن إثبات عند الحاكم ، بخلاف ما ثبت بالبينة ما لم يعلم ، فتأمّل.

وللحاكم أيضا أن يلزمه به ويحكم عليه به بعد سؤال المدّعي أو قبله على

١٢٩

ويطالب السيد بجواب القصاص والأرش ، لا العبد.

فإن ادّعى الإعسار وعرف صدقه بالبينة ، أو اعترف خصمه ،

______________________________________________________

الخلاف ، بأن يقول : حكمت وقضيت عليك بكذا ، أو ادفع حقه إليه ، أو اخرج من حقه ، ونحو ذلك.

ولو طلب المدعي ـ بعد أن أعطى القرطاس بل المداد والقلم أيضا أو وجد من بيت المال من الحاكم ، أن يكتب على المدّعى عليه حجة للمدّعي ثبوت الحق عليه عنده سواء حكم أم لا ـ ، أجابه الحاكم على ذلك.

ظاهره وجوب الإجابة والقبول ، وفيه خلاف.

وجه الوجوب أنه حجة له كالحكم والإشهاد ، ووجه العدم أنّ الذي يجب عليه الحكم والإشهاد ، لا غير ، لدليلهما ، ولأصل العدم.

لعل الاستحباب أرجح حتى يثبت الوجوب ، إلّا أن يكون وصول الحق موقوفا على الكتابة.

فعلى تقديرها ، فيكتب باسمه ونسبه إن عرفه بنفسه ، وإلّا تخيّر بين أن يعرف ذلك بشاهدين عدلين إن أمكن ، فيكتب ذلك ، وبين أن يكتب حليته بحيث يمتاز عمّن عداه.

ويمكن التخيير على تقدير معرفة النسب بنفسه أيضا ، وينبغي الجمع بينهما ليبعد عن التزوير ، ويحتاط في تحقيق الاسم والنسب وغيره بحيث لا يشتبه ولا يزوّر.

قوله : «ويطالب إلخ». يعني إذا ادّعي على مملوك بما يوجب قصاص نفسه ، أو طرفه ، أو أرش جناية كذلك ، يطلب السيد بالجواب ، لا المملوك ، فإنّ إقراره غير مقبول فيما يوجب شيئا في نفسه قصاصا أو مالا ، فإنه في الحقيقة إقرار بلزوم الحق على السيد ، وهو ظاهر وكأنه لا خلاف فيه. نعم إذا كان الموجب بحيث يوجب عليه شيئا بعد العتق يسمع إقراره فيه.

قوله : «فإن ادّعى الإعسار إلخ». أي لو ادّعى المدّعى عليه الإعسار

١٣٠

انظر حتى يوسع الله تعالى عليه ، وإلّا طولب بالبينة إن كان له مال ظاهر ، أو كان أصل الدعوى مالا ، وإلّا حلف.

______________________________________________________

بالمدّعى بعد ثبوته عليه على أيّ وجه كان فإن عرف ذلك ، إمّا بعلم الحاكم ، أو تصديق المدّعي ، أو بالبينة الشرعيّة ، فالمشهور بين الأصحاب أنه ينظر ، ويخلّى سبيله حتى يوسّع الله عليه ويقدر على أداء الحق ، أو بعضه ، فيؤخذ ما يقدر ، لقوله تعالى «وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ» (١).

قال في الشرائع : فإن استبان فقره أنظره ، وفي تسليمه إلى غرمائه ليستعملوه أو يؤاجروه روايتان (٢) أشهرهما الإنظار حتى يوسر.

قال في شرحه : الرواية الدالّة على ذلك لم تحضرني حال الكتابة ، وذكر بعضهم أنها ليست موجودة أصلا.

وجعلها صاحب كشف الرموز رواية زرارة عن الباقر عليه السلام : كان عليّ عليه السلام لا يحبس في الدين إلّا ثلاثة ، الغاصب ، ومن أكل مال اليتيم ظلما ، ومن ائتمن على أمانة فذهب بها ، وإن وجد له شيئا باعه غائبا كان أو شاهدا (٣).

ولا دلالة في هذه الرواية على المدّعى ، فضلا عن كونها أشهر ، وهي صحيحة مذكورة في زيادات القضاء من التهذيب.

ويمكن توجيه الدلالة ، بأنها تدلّ على عدم الحبس إلّا في الثلاثة قادرا كان

__________________

(١) البقرة : ٢٨٠.

(٢) يمكن أن يكون نظره إلى ما رواه الوسائل باب ٧ من كتاب الحجر ح ٣. ولفظ الحديث (عن جعفر عن أبيه أن عليا عليه السلام كان يحبس في الدين ثم ينظر ، فإن كان له مال أعطى الغرماء ، وإن لم يكن له مال دفعه إلى الغرماء فيقول لهم اصنعوا به ما شئتم ان شئتم وآجروه وإن شئتم استعملوه ، الحديث) وراجع أيضا باقي أحاديث الباب.

(٣) الوسائل كتاب القضاء باب ١١ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ح ٢ ج ١٣ ص ١٤٨.

١٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

أو عاجزا ، خرج القادر بالإجماع ونحوه ، وبقي المدين والغريم غير الثلاثة فيها ، فعلم أن لا يحبس مع العجز ، والتسليم إلى الخصم ليستعملوه أو يؤاجروه حبس.

أو أنه إذا لم يجز حبسه مع العجز ، بل مع القدرة على ظاهر الرواية ، لم يجز استعماله ومؤاجرته بالطريق الأولى.

أو يفهم من سوق الرواية أنه ما كان يستعمل المدين ، فتأمّل.

على أنّ عدم الدلالة لا ينافي أشهريتها ، وأنه لا يريد صاحب الكشف بيان الأشهر الذي قاله المصنف ، أو أراد المصنف أنّ مضمونها أشهر لا نفسها.

ويمكن كونها رواية غياث بن إبراهيم ، عن جعفر ، عن أبيه ، أنّ عليا عليه السلام كان يحبس في الدين ، فإذا تبيّن له حاجة وإفلاس خلّى سبيله حتى يستفيد مالا (١).

ويمكن كونها رواية السكوني المذكورة عند رواية زرارة المتقدمة ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن عليّ عليهم السلام أنّ امرأة استعدت على زوجها أنه لا ينفق عليها وكان زوجها معسرا ، فأبى أن يحبسه وقال (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (٢).

ولا شك أنه يفهم من هذه الرواية عدم استعمال الزوج ومؤاجرته في تحصيل نفقة الزوجة ، لقوله (أبى أن يحبسه) خصوصا وقال (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) فالغير بالطريق الأولى ، أو بالمساواة لوجود العلّة (العلّية ـ خ) ، وهو قوله : إنّ مع العسر يسرا ، فافهم ، ولا يفهم ضعف السند. ونقل في الاستبصار رواية الاستعمال ، ورواية زرارة ورواية غياث ، وجمع بينها بالحمل على الحبس على سبيل العقوبة ، أو على الحبس الطويل ، فجوّز الحبس في الدين حتى تبيّن أنّ له مالا أم لا ، وكذا جمع في

__________________

(١) الوسائل باب ٧ من كتاب الحجر ح ١ ج ١٣ ص ١٤٨.

(٢) الوسائل باب ٧ من كتاب الحجر ح ٢ ج ١٣ ص ١٤٨.

١٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

التهذيب بين رواية زرارة والسكوني.

وهو بعيد كما ترى ، فإنّ الحبس عقوبة لا وجه لها قبل الاستحقاق ، وهو ظاهر ، على أنه يلزم عدم الحبس الطويل إلّا في الثلاثة ، وذلك ليس بصحيح ، وهو ظاهر ، فالحمل الأول أولى.

ولعل المراد بالسجن المذكور في رواية زرارة هو القيد ونحوه. فيمكن أن يقال أن يراد (١) عليه السلام عدم الحبس فيه إلّا هذه الثلاثة.

على أنه لا يحتاج إلى الجمع ، لضعف رواية غير زرارة ومخالفته للعقل والنقل فتأمّل.

ونقل عن نهاية الشيخ القول بتسليم المدين الغريم ليستعمله أو يؤاجره ، لرواية السكوني ، عن الصادق ان عليا عليه السلام كان يحبس في الدين ثم ينظر إن كان له مال أعطى الغرماء ، وإن لم يكن له مال دفعه إلى الغرماء ، فيقول لهم : اصنعوا به ما شئتم ، إن شئتم آجروه (وأجروه ـ ئل) ، وإن شئتم استعملوه (٢).

وأنت تعلم أنه لا يمكن في مثل هذه المسألة العمل بمثل هذه الرواية المخالفة للعقل ، فإنّ حبس شخص قبل موجبه غير معقول وإنّ تسليط شخص على آخر أي شي‌ء شاء يفعل به مع عجزه ، ممّا يأباه العقل والنقل من عموم القرآن وخصوصه (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) (٣) ، والحديث وخصوص الرواية المتقدمة ، والشهرة.

نعم تفصيل ابن حمزة غير بعيد ، وهو أنه إذا ثبت إعساره خلّي سبيله ، إن لم يكن ذا حرفة فيكسب بها ، وإلّا دفعه إليه ليستعمله فيها ، وما فضل عن قوته وقوت عياله ، أخذه بحقه.

__________________

(١) هكذا في النسخ كلّها ولعل الأصوب (يريد).

(٢) الوسائل باب ٧ من كتاب الحجر حديث ٣.

(٣) البقرة : ٢٨٠.

١٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ويمكن حمل رواية السكوني المتقدمة عليه ، للجمع بين الأدلّة.

قال في المختلف : وما قاله ابن حمزة ليس بعيدا من الصواب ، لأنه متمكّن من أداء ما وجب عليه ، وإيفاء صاحب الدين ، فيجب عليه كما يجب عليه السعي في المئونة.

ولأنه مع تمكّنه من الكسب لا يكون معسرا ، لأن اليسار كما يتحقق بالقدرة على المال ، يتحقق بالقدرة على تحصيله ، ولهذا منع القادر على الكسب من أخذ الزكاة.

وهذه الأدلة لا بأس بها ، إلّا أنها لا تدل على ما ذكره من مذهب ابن حمزة من تسليم المدين إلى الغريم ليستعمله ، فيمكن كون ذلك كناية عن وجوب الكسب إذا كان ذا كسب وحرفة يقدر معها من تحصيل ما يصرفه في الدين ، ولكن لا يكون مفوّتا لما يجب عليه ، ولا يكون شاقا لا يتحمّل مثله عادة فيكون الكسب لتحصيله واجبا ، كما إذا كان عنده عروض من غير جنس ما يجب عليه ، يجب عليه أن يبيع ويحصّل ما هو من جنس ما عليه على أيّ وجه كان ، فتأمّل. فيأمره الحاكم بذلك ، فإن لم يفعل يستعمله الحاكم ، أو يوكّل عليه الغريم ليستعمله ويأخذ ما حصل.

وذلك غير بعيد ، للجمع بين الحقين ، ولأن الكسب ممّا يتوقف عليه الواجب ، إذ وفاء الدين واجب مع القدرة ، ولا شك أنّ صاحب الحرفة والصنعة على الوجه المفروض قادر ، ولا تنافيه آية النظرة إلى الميسرة ، فإنها مقيّدة بذي عسرة ، وقد يمنع كون المفروض كذلك ، إذ المتبادر منه إلى الذهن العاجز على الوجه المتعارف بالكلّية ، فتأمّل فيه.

وإن لم يعلم إعساره وعلم أنه كان له مال ـ ولو كان ذلك المال هو المدّعى به ، وأصل الدعوى بأن كان قرضا عنده ، أو ثمن مبيع مردود إليه بعيب ونحوه ـ كلّف بالبينة على تلف ذلك المال ، وإن لم يكن له بينة بذلك ، قالوا : يحبس حتى

١٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

يثبت ذلك بالبينة ، أو يخرج عن حقه ، أو يخرجه صاحب الحق.

لعلّ دليله أنّ الحق ثابت عليه والمال كان موجودا ، والأصل بقاؤه ، فتلفه غير مسموع إلّا بالبينة ، وليست ، فيحبس حتى يقرّ ، وفي الفقيه : أو يثبت التلف.

ورواية غياث المتقدمة ، ومثلها رواية الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السلام (١).

وكأنه المراد بما يؤخذ (يوجد ـ خ) في مثل هذه الرواية والعبارة انه يحبس حتى يتبين الإعسار وإذا تبين خلّي سبيله.

ومع ذلك لا يخلوا عن شي‌ء ، إذ قد لا يكون له بينة ويكون معسرا والمال تالفا ولم يكن مماطلا ظالما حتى يحلّ عرضه وعقوبته عاجلة من غير ظهور وجهها ، ومجرد وجود مال عنده لا يستلزم بقاءه حتى يحبس لإعطائه ، والرواية مع ضعفها ليست بظاهرة في المطلوب ، فالحبس بعيد ، خصوصا إذا كان ظاهر حاله إتلافه ، مثل أن يستقرض ليخرجه في مؤنته مع حاجته ، أو وجد عنده ولكن يحتاج كل يوم إلى نفقة.

فالظاهر من حاله أنه أخرجه ، ومن أنّي يأتي بالبينة حين إخراج كل درهم درهم ، فيمكن عدم الحبس ، بل الإحلاف على عدم بقائه عنده ، فتأمّل ، ويخلّي سبيله إلى ميسرة.

ويؤيّده ظاهر الآية ، فإن الظاهر من كونه ذا عسرة بحسب الظاهر لا في نفس الأمر ، وهو حينئذ كذلك ، فيمكن عدم اليمين أيضا لذلك ، إلّا أنه لما ادعي عليه المال ـ وقد علم وجوده ، ولم يمكن للمدّعي إثبات بقائه الآن ، والاستصحاب يقتضي البقاء ، وأنكر هو وجوده ـ احلف.

__________________

(١) الوسائل باب ١١ حديث ١ من أبواب كيفيّة الحكم ج ١٨ ص ١٨٠.

١٣٥

وإن أنكر طولب المدّعي بالبينة ، فإن قال : لا بينة لي ، وطلب إحلاف المنكر ، احلف وبري‌ء ، ويأثم لو أعاد المطالبة ، ولا يحلّ له المقاصة.

______________________________________________________

ويمكن حمل الحبس على المراقبة.

ولا شك أنّ الترك بالكلّية إلى ميسرة أولى ، لاحتمال دخوله تحت ظاهر الآية ، وللأخبار الدالّة على المسامحة ، ومواساة الإخوة وحسن الاقتضاء وعدم التضييق على الإخوة «وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ» (١).

وإن لم يعلم وجود مال أصلا ، كأن تكون الدعوى صداق الزوجة ، أو نفقتها ، أو أرش الجناية ، وأقرّ به المدّعى عليه ، وادعى الإعسار ولم يمكن الإثبات بالبيّنة ، قالوا : حلّف وخلّي.

وفيه أيضا تأمل ، وعدم الإحلاف أظهر ، لما مرّ من ظاهر الآية وغيره ، ولعدم الدليل على ذلك ، إلّا أن يدّعى عليه وجود مال وأنكر ، فيدخل تحت عموم : اليمين على من أنكر ، مع أنه مخالف لظاهر الآية وما مرّ ، ولا شكّ أنّ الترك أولى ، لما مرّ.

قوله : «وإن أنكر إلخ». إذا ادّعي المدّعي وكان جواب المدّعى عليه هو الإنكار ، طولب المدّعي بالبيّنة ، لقوله عليه السلام : البيّنة على المدّعي (٢) ، كما مرّ فإن حصلت البينة الشرعية بحيث يحكم بها عليه ، يحكم عليه بعد سؤاله ، ولا يثبت الحق عندهم إلّا بالحكم ، فإنّ مجرد البينة لا يكفي ، فإن لاجتهاده ونظره دخلا في الإثبات ، فلا بدّ من انضمامه ، فكأنه ليست بحجة شرعية مطلقا كالإقرار ، بل للحاكم ، ومع الحكم ، لغيره أيضا.

__________________

(١) البقرة : ٢٨٠.

(٢) راجع الوسائل باب ٣ من أبواب كيفيّة الحكم ج ١٨ ص ١٧٠ وباب ٢٥ حديث ٣ منها ص ٢١٥.

١٣٦

فإن ردّ أو نكل حلّف المدّعي ، فإن نكل بطل حقه. ولو حلف المنكر من غير مسألة المدّعي الإحلاف ، وقعت لاغية ، وإن كان بأمر الحاكم. ولو أقام المدّعي بينة بعد إحلاف الخصم لم يسمع ، وإن لم يشترط سقوط الحق باليمين ، أو نسيها. نعم ، لو أكذب الحالف نفسه طولب وقوصص.

______________________________________________________

وإن لم تحصل وقال : لا بينة لي ، فإن خلّى المدّعي سبيله فهو الأولى ، وإن طلب إحلاف المنكر له ذلك ، ويجاب إليه ، فإن حلف بغير سؤال المدّعي ، تقع اليمين لاغية ، فوجودها كعدمها ، فله طلبها بعد ، وإن حلف بحكم الحاكم ، لأنه حقّه.

لعلّه إجماعي.

وإن أحلفه بسؤاله بري‌ء ذمّة المدّعى عليه في الدنيا ، بمعنى أنه لا يجوز له مطالبته ، فيأثم لو فعل ، ولا الاقتصاص من ماله لو ظفر به ، بل ولا الدعوى. وإن كانت له بينة ، فلو أقامها بعد إحلاف المدّعى عليه لم تسمع ، سواء شرط سقوط الدعوى أم لا ، وسواء قال : كان لي بينة ونسيتها ونحو ذلك وطلبت اليمين ، أم لا ، وهو إشارة إلى ردّ من قال بالسماع حينئذ ، وقد مرّ البحث فيه ، وسيجي‌ء الدليل على سقوطها مطلقا.

نعم لو أكذب المدّعى عليه نفسه بعد الحلف وأقرّ بالحق يحل له مطالبته وأخذ الحق منه ، بل يمكن مقاصّته أيضا ، لأنّ إقرار العقلاء على أنفسهم جائز ، ولعلّه لا خلاف فيه أيضا ، ولعموم دليل المقاصّة ، فيخصّص عموم أدلّة السقوط بالعقل والنقل ، فتأمّل.

قوله : «فإن ردّ إلخ». جواز ردّ المدّعى عليه اليمين على المدّعي مشهور بين الأصحاب ، بل ما نجد فيه خلافا ، وعليه روايات (١).

__________________

(١) الوسائل كتاب القضاء : باب ٧ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، فراجع.

١٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

والظاهر أنه يكون في موضع ثبوت الحق بذلك للمدّعي نفسه ، ويكون ممّا جاز له اليمين. فلا يمين على المدّعى عليه إذا كان وكيلا وإن علم المدّعي.

ولكن يحتمل أن يطلب المدّعى عليه توقّف الخصومة إلى أن يحضر المدّعي ليردّ عليه اليمين ، كما في وكيل المدّعى عليه ، فتأمّل.

وكذا لا يمين عليه إذا ادّعى بالظنّ ، كما مرّ.

وكذا لا يمين على وصيّ الأيتام إذا ادّعى ، بل على أوليائهم مطلقا.

وكذا على الوصيّ إذا ادّعى حجّا أو خمسا أو زكاة ونحو ذلك في ذمّة الميّت مع كونه وصيّا ، فأنكر الوارث ذلك ، وردّ اليمين على الوصيّ ، وغير ذلك من الصور.

هكذا قالوه ، وليس ببعيد ، وحينئذ يلزم المدّعى عليه على تقدير الإنكار ، إمّا دفع الحق المدّعى ، أو اليمين.

وقال في شرح الشرائع : إن كان الوارث يتيما ، أخّر حتى يبلغ ويرشد.

وفيه تأمّل ، لاحتمال وجوب الإخراج على الولي بعد علمه بذلك ، إلّا أن يكون مقصوده لخوف ضمانه على تقدير إنكار اليتيم بعد ذلك فتأمّل.

وبعد ردّ اليمين على المدّعي ، فإن حلف استحقّ المدّعي من غير نزاع ، كأنه للإجماع ، ويشعر به بعض الأخبار (١) ويؤيّده الاعتبار.

نعم إنما النزاع في أنّ يمينه بمنزلة البينة ، أو بمنزلة إقرار المدّعى عليه.

وجه الأول ، أنها حجة له كالبينة ، فهي تكون بمنزلتها.

ووجه الثاني ، أنّ ثبوت الحق من جهة المدّعى عليه بنكوله وردّه ، فيكون بمنزلة صدور الإقرار بالحق فيه.

ولعلّه بالإقرار أشبه ، فإنّ عدم حلفه يشعر بعلمه بالحق ، وأنه كاذب في

__________________

(١) الوسائل باب ٧ من أبواب كيفيّة الحكم خصوصا ح ٤ ج ١٨ ص ١٧٦.

١٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الإنكار ، ولا يحلف لكذبه ، وإلّا لحلّف ، وفرّعوا على الخلاف فروعات كثيرة.

(منها) أنه إذا أقام المدّعى عليه البينة بأداء الحق ، أو على إبراء المدّعي له عنه بعد ما حلف ، فإنه على الأول يسمع ، فإنه يصير مثل تعارض البيّنتين ، وعلى الثاني ، لا ، لأنّ البينة إذا كانت مكذّبة لقوله ، لا تسمع.

(ومنها) أنه يحتاج بعد اليمين إلى الحاكم ، فعلى الأول يحتاج بخلاف الثاني.

وغير ذلك من الفروعات الكثيرة المذكورة في مظانّها ، هكذا قالوا.

ولي فيه تأمّل ، إذ لا ينبغي الحكم على إطلاقه بأنها كالبينة أو كالإقرار والتفرع عليه ، إذ لا دليل على شي‌ء منه ، بل بعض التعريفات كما رأيت ، بل في الحقيقة قولهم : (كالبينة ، أو كالإقرار) إجراء الفروع ، واستتباعها بمجرد القياس والاعتبار والمناسبة ، فينبغي أن يقال أنه شي‌ء برأسه ، وينظر في كلّ فرع فرع بخصوصه ، ويتأمّل ويحكم على مقتضى الدليل في ذلك.

مثلا ، الظاهر في الفرع الأول عدم سماع بينة المدّعى عليه مطلقا ، لأنّ تركه البينة واليمين وردّها إلى المدّعى ، إمّا صريح في أنه يلتزم بالحق بعد ذلك وأنه يخرج من العهدة حينئذ من غير نزاع في ذلك ، أو ظاهر في ذلك بحيث يلزم به ، فإنّ المدعي إنما أقدم على ذلك لذلك ، وهو ظاهر.

ولأنّ الأخبار الدالة على إسقاط الدعوى بعد إحلاف المدّعى عليه ، تدلّ على إسقاط دعواه أيضا بها ، بل يمكن دعوى الأولويّة.

ولأنه إذا لم يحلف المدّعي يسقط دعواه لما سيجي‌ء ، فكذا سقوط دعوى المدّعى عليه بعد إحلافه إيّاه ، فتأمّل.

ولأنه بعد ذلك لم يسمع إلى بذل يمينه فكذا بيّنته.

ولأنه يلزم التعارض بين اليمين والبيّنة ، وإذا كان حكمه حكم البيّنة ، يلزم

١٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

رجحان بيّنة المدعي ـ بناء على المشهور من رجحان بيّنته ـ فإن رجح بيّنة المدّعى عليه كما هو ظاهر كلامهم ـ على تقدير جعلها كالبيّنة ـ يلزم خلاف ذلك ، مع كون مذهبهم في ترجيح البيّنات خلاف ذلك.

وكذا في الثاني عدم التوقّف على حكم الحاكم ، لبعض ما مرّ.

ولأنّ توقّف ثبوت الحق على حكم الحاكم ، لبعض ما مرّ.

ولأنّ توقّف ثبوت الحق على حكم الحاكم خلاف الأصل أيضا ، فإنّ الظاهر من الحجة ما يثبت بها المدّعى ، بل لو لم يكن في البيّنة أيضا إجماع لكان هناك أيضا الثبوت بها متّجها.

وفيه تأمّل.

ولأنّ سقوط الدعوى بيمينه لا يحتاج إلى حكم الحاكم ، فكذا يمين المدّعي فإنها ليست بأضعف من ذلك ، بل أقوى ، فإنها مثبتة وموجبة وهي نافية ومانعة.

ولأنهم يقولون أنه يثبت الحق بالنكول بناء على القول بالقضاء به ، فكذلك يثبت باليمين المردودة على القول بالقضاء بها بالطريق الأولى.

ولأنهم قالوا : لو بذل المنكر بعد النكول ـ وسيجي‌ء في المتن ـ ، لم يلتفت إليه ، فكذا ينبغي أن لا يلتفت إلى بيّنة بعد ردّ اليمين وحصولها من المدّعي بطلبه ، وهو ظاهر.

وبالجملة ينبغي التأمّل والتدبّر في حصول الفروع واستخراجها بالدليل.

ثم إن نكل المدّعي وامتنع من اليمين بطل حقّه ، وليس له مطالبة الخصم.

وينبغي أن يقال : يسأله الحاكم عن سبب ذلك ، فإن ذكر عذرا محتملا لإثبات الحق بوجه آخر ، مثل أن يقول : لي بينة ستحضر ، أو نسيتها ، أو سأذكرها ، أو قد يقرّ الخصم بالحق ، ونحو ذلك ، فالحكم بسقوطه محلّ التأمّل.

وإن لم يذكر بل يقول : ما أريد أن أحلف ، فإنّ اليمين مكروهة غير مرغوبة ، أو لم يذكر شيئا فحينئذ يسقط حقّه به ، وليس له مطالبة الخصم بعد ذلك

١٤٠