مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان - ج ١٢

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]

مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]


المحقق: الشيخ مجتبى العراقي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٥

ولا ينفذ حكم من لا يقبل شهادته ، كالولد على والده ، والعبد على مولاه ، والخصم على عدوّه.

______________________________________________________

قبح تقديم المفضول على الفاضل ، والاعتبار العقلي ، وهو حصول الثقة بقوله أكثر وأرجح ، فتركه إلى غيره ترجيح المرجوح. وقد ادعى الإجماع عليه أيضا ، ويمكن منعه ، ويشعر بعدم الإجماع كلام المصنف في نهاية الأصول.

وقد يمنع لزوم ترجيح المرجوح ، إذ قد يظنّ التساوي ، بل الرجحان في الفتوى الواحد ، أو الحكم الواحد ، بل أكثر مع كونه مفضولا. وقياسه على حال الإمامة والرئاسة العامة ، غير سديد ، لان ذلك كالنبوة في اتباع المحض ، والتفويض إليه بالكلية ، ويحكم بالعلم البديهي ، ويحتاج إلى علم إلهي في جميع الأمور.

ومنشأ الفتوى والحكم ، الظن المستفاد من بعض القرائن ، فقد يفرض وصول مفضول إلى الحق دون الفاضل ، ولا محذور في ذلك.

ولا يمكن مثل ذلك في أصل الإمامة والنبوة ، فإن المدار هنا على العلم الحق ، ولهذا جوّز امامة المفضول للفاضل في الصلاة ، وجوز للإمام نصب القاضي من غير اشتراط تعذر الوصول إليه ، لأن الظن كاف للحكم. فتأمّل.

ولا شك ان تعيين الأعلم أولى ، وانه لو فرض راجحية قوله يمكن القول بعدم جواز العدول عنه ، ويحتمل في العكس أيضا ، فتأمّل.

نعم الرواية لو كانت واجبة الاتباع ، أو علم الإجماع ، فلا كلام. ولكن قد عرفت سندها ومتنها ودلالتها ، وحال الإجماع معلومة ، فإن الخلاف مشهور في الأصول والفروع. بل ظاهر عبارة الشرائع ، تجويز الرجوع إلى المفضول ، ويشعر به تجويز تعدّد القاضي في بلد واحد ، مع بعد التساوي ، فتأمّل واحتط ، ولا تخرج عنه مهما أمكن. ولا شك انه لو قطع النظر عن جميع الأمور الخارجة ، يحصل الظن بقول الأعلم ، أكثر ، فيتبع.

قوله : «ولا ينفذ إلخ». أي لا يمضي حكم من لا تقبل شهادته على

٢١

ولا حكم من (لمن خ ـ ل) لم (لا خ ـ ل) يستجمع الشرائط.

وإن اقتضت المصلحة توليته لم يجز.

______________________________________________________

شخص ، عليه كشهادته ، كحكم الولد على والده ، فإن المشهور بل ادعى الإجماع ، على عدم قبول شهادة الولد على والده ، فلا يجوز حكمه عليه ، إذ الحكم شهادة وزيادة فيه ، فتأمّل ، إذ سيجي‌ء أن لا إجماع ولا دليل على ذلك ، بل الدليل على خلافه. وقد يمنع الأولوية ، على تقدير وجود الدليل على منع الشهادة فقط ، والقياس ممنوع ، فيجوز الحكم عملا بعموم الأدلّة.

وكذا سيجي‌ء الكلام في عدم قبول شهادة العبد على الحر ، مولاه وغيره.

وصحيحة الحلبي في الفقيه (١) تدل على منع شهادته على الحر المسلم ، وخصصه الصدوق بكونها للمولى ، وسيجي‌ء تحقيقه.

وكذا منع شهادة الخصم على خصمه ، أي العدوّ وإن كان مقبول الشهادة على غيره إذا كانت العداوة لا تستلزم الفسق ، وسيجي‌ء تحقيقه.

وعلى تقدير ثبوته ففي الحكم تأمّل ، إذ الأولوية غير ظاهرة ، والقياس غير معتبر ، نعم غير بعيد إذا لم يكن فيه خلاف.

قوله : «ولا حكم إلخ». دليل عدم جواز الحكم لمن ليس متصفا بصفة القضاء ، وعدم إنفاذ حكمه ، ظاهر.

وأما إذا اقتضت المصلحة لنصبه قاضيا ، هل يجوز للإمام عليه السّلام إن ينصبه قاضيا أم لا؟ فيه نظر ، منشأه ، من اقتضاء المصلحة ، وما نقل من فعل أمير المؤمنين عليه السّلام نصب شريح قاضيا ، مع عدم اتصافه بالعلم والعدالة على ما هو

__________________

(١) الوسائل باب ٢٣ من كتاب الشهادات حديث ٥ ج ١٨ ص ٢٥٤ والحديث عن محمّد بن مسلم ولفظ الحديث (قال تجوز شهادة العبد المسلم. إلى أن قال : وفي نسخة لا يجوز).

٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

المشهور.

ومن عدم استحقاقه ، وانتفاء شرطه المستلزم لانتفاء المشروط. واقتضاء المصلحة له ـ بحيث يكون ضروريا وواجبا ، وتركه محذور لا يندفع إلّا به ـ ممنوع.

وكأنّه على ذلك حمل المصنف المصلحة ، حيث جزم بعدم الجواز ، وإلا مع فرض المصلحة بحيث لا يندفع المفسدة إلّا به ، فالظاهر الجواز من غير نزاع كسائر الضروريات ، ولكن لا يجوز التحاكم إليه وإنفاذ امره الّا بالضرورة وبقدرها ، وهو ظاهر ، وفعله صلوات الله عليه بحيث يكون مفوّضا ومستقلا ، غير ظاهر.

بل الظاهر ان المصلحة اقتضت نصبه قاضيا ظاهرا ، وكان هو الحاكم ، وما كان يحكمه راضيا ، كما روى هشام بن سالم (في الحسن) عن أبي عبد الله عليه السّلام ، قال : لما ولّى أمير المؤمنين عليه السّلام شريحا القضاء اشترط عليه ان لا ينفذ القضاء حتى يعرضه عليه (١).

فيفهم منها عدم الرضا بقضائه ، وأنّه كان عدم عزله وإبقائه على حاله ضرورة وتقية ، وعدم قدرته على ذلك لمفاسد أعظم ، حيث كان أولا منصوبا من قبل عثمان ، وقد تقرّر عند الناس كونه قاضيا بالحق.

ويؤيّده قوله عليه السّلام له (لقد جلست مجلسا لا يجلس فيه إلّا نبي أو وصي نبي أو شقي) (٢).

وبالجملة : التفويض إليه بالكلية غير معلوم. وكذا تركه للضرورة والتقية ، إذ المفسدة في عزله ليست بأعظم من المفاسد التي كانت في عزل معاوية ، لما يترتب عليه من القتل والقتال والمفاسد الكثيرة ، فما رضي بنصبه لعلمه بأنّ المفسدة في

__________________

(١) الوسائل باب ٣ من أبواب صفات القاضي حديث ١ ج ١٨ ص ٦.

(٢) الوسائل باب ٣ قطعة من حديث ٣ من أبواب صفات القاضي ج ١٨ ص ٧.

٢٣

ولو تجدّد مانع الانعقاد انعزل ، كالجنون والفسق.

______________________________________________________

نصبه أعظم ، حيث يصير حاكما على أنفس المسلمين وأموالهم ، بأمره وبرضاه وتسلطه عليهم ، ويظهر انه (١) حق ، مع بطلانه بالكلية.

نعم لا شك في جوازه مع الضرورة ، على أن البحث عن هذه مستغنى عنه ، لأنه فعله عليه السّلام ، وهو عالم بما يفعله ، وليس لنا التصرف فيه والبحث عنه ، وهو ظاهر.

قوله : «ولو تجدد إلخ».أي كل ما يمنع من انعقاد الولاية ابتداء ، لو وقع بعده ، يوجب عزل من انعقد القضاء له ، مثل أن جنّ القاضي ، بعد أن كان عاقلا حال نصبه ، أو فسق بعد أن كان عدلا ، ونحو ذلك.

دليله واضح ، لأن عدم هذه الأمور شرط للحكم والقضاء ، فوجوده يكون مانعا لاستدامته ، كابتدائه ، وهو ظاهر ، وممّا لا نزاع فيه.

وإنما النزاع في عوده بزوالها ، وصيرورته مثل ما كان حال الابتداء. فيحتمل العود من حيث انه إذا زال أمر فوجوده بعده يحتاج إلى مقتض ، ومجرد زوال المانع ليس بكاف لوجوده ، فإنه بعض العلة ، وعدمه ، من حيث ان الغرض الاتصاف بذلك الشرط ، وعدم المانع ، وهو حاصل.

والتحقيق انه إذا فهم الناصب صلاحية شخص للحكم ، ونصبه لذلك ، بحيث علم ان مقصوده اتصافه بالأوصاف حال الحكم ، وإن لم يكن متصفا بها في وقت آخر ، بل وقت النصب أيضا ، فيمكن أن لا ينعزل حينئذ بزوال تلك الأوصاف.

نعم لا يجوز له الحكم ولا ينفذ في تلك الحالة.

وإن قيل انه ينعزل ، فالمراد به ذلك ، أو العزل الحقيقي في ذلك الوقت دون

__________________

(١) أي نصب معاوية.

٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

غيره ، فيكفي حينئذ زوالها في ثبوت ما كان ، إذ لا عود حينئذ يحتاج إلى وجود مقتض ، ولم يكف عدم المانع ، إذ حاصل النيابة والنصب حينئذ انه قاض وحاكم ومأذون له ، وجوّز ذلك له في كل وقت يكون بصفات القاضي ، فهو كما يشمل حال الانعقاد قبل زوال تلك الأوصاف ، يشمل حال الاتصاف بها بعد زوالها وتخلّل المانع.

وإن لم يعلم منه ذلك ، ينعزل ولا يعود. ولكن في الغالب يعلم ذلك ، وهو ظاهر. وكلامهم خال عن ذلك.

بل يفهم الإجماع في انعزال الوصي الذي كان عدلا ثم فسق ، وهو مؤيد للعزل هنا أيضا. ولكن هناك أيضا في العزل ، لنا كلام ، ثم في عدم العود بعد عود العدالة ، فتأمّل.

ويؤيده ما قلناه انه إذا كان الفقيه الجامع للشرائط حال الغيبة نائب الإمام عليه السّلام ووكيله ، وفرض جنونه أو إغماؤه مثلا ، ثم عاد إلى الاستقامة ، يعود النيابة من غير نزاع على الظاهر ، لعموم قوله عليه السّلام (جعلته حاكما) (١) وهذا البحث وان كان قليل الثمرة في زماننا فيما نحن فيه ، لأن الناصب هو الامام عليه السّلام وهو عالم بعزل الناصب النائب بذلك ، فلا نحتاج نحن إلى التحقيق ، ككثير من المسائل مثل السابقة واللاحقة ، إلّا انه ينفع في أمثالها مثل ما قلناه في الوصي العادل ، وكذا في الوكيل ، ونحوهما ، فتأمّل.

وأمّا ما ذكره في شرح الشرائع ـ من انه ربما فرق بين ما يزول سريعا كالإغماء وبين غيره كالجنون ، فيعود الولاية في الأول بزواله دون الثاني ، لأن الإغماء كالسهو الذي يزول سريعا ، ولا ينفك عنه غالبا ، والفرق واضح ـ ،

__________________

(١) الوسائل باب ١١ قطعة من حديث ١ من أبواب صفات القاضي ج ١٨ ص ٩٩.

٢٥

وللإمام عليه السّلام ونائبه عزل جامع الشرائط لمصلحة ، لا مجانا.

وينعزل بموت الإمام والمنوب.

______________________________________________________

فغير واضح ، إذ السرعة والبطء لا دخل له ، فإن الدليل الذي ذكره ، جار فيهما ، وهو ان التولية السابقة قد بطل فعودها يحتاج إلى دليل ، الّا ان يقول : إن ما حققناه جار في السريع لا البطي‌ء ، وحينئذ نمنع.

على ان عدم الانفكاك غالبا وسرعة زواله ، ممنوع ، وكذا بطء الجنون دائما ، إذ قد يكون الأمر بالعكس.

وكذا دليل الإيضاح على الزوال ـ وهو ان القاضي مكلّف ، والمجنون والمغمى عليه غير مكلف ـ غير واضح ، فإنه منقوض بالنائم والغافل والساهي ، فتأمّل.

قوله : «وللإمام عليه السّلام إلخ». لا شك أن كل ما فعله الامام عليه السّلام فهو له ، فبحثنا هل يجوز له كذا وكذا عبث ، على ان الظاهر انه عليه السّلام لم يعزل من ولاه الحكومة بغير مصلحة ، نعم ذلك يمكن في نائبه ، ولكن كونه أيضا في زمانه عليه السّلام يغنينا الآن عن البحث عنه.

وكذا البحث من انه هل ينعزل بالعزل ، أو لا بد من الإشهاد والإعلام. ويمكن فهمه ممّا تقدم في عزل الوكيل.

قوله : «وينعزل بموت الإمام إلخ». عزل النائب بموت المنوب عنه إذا كان حكومته بنيابته ، ظاهر ، فإذا مات الإمام عليه السّلام ينعزل نوابه كلّهم من جهة نصبه بخصوصه. فإن لم نقل بمنصوبيّة المتصف بشرائط القضاء بالعموم ، وإن ذلك يكفي ـ بل يحتاج إلى النصب بخصوصه ، ويكون امام آخر ظاهرا متمكنا من نصبه يحتاج إلى نصبه ـ فلا يجوز له القضاء ، ولا يمضى حكمه حتى ينصب

٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

بخصوصه.

مع احتمال تجويز ذلك ، اعتمادا على أن الإمام الثاني يعرف أن الإمام الأول ما يفعل إلّا ما فيه المصلحة ، فإذنه إذنه ، الّا ان يفرض احتمال ظهور تغيير فيه ، أو أن النصب شرط بخصوصه من كل إمام تعبدا ، فتأمّل.

وينبغي أن يكون وجه قول المبسوط : بعدم الانعزال ، ما ذكرناه ، لا ما قيل : من أن ولايته ثابتة شرعا فتستصحب ولا ينعزل. وأنه يترتب على الانعزال مفسدة عظيمة ، من خلو بلد عن القاضي حتى ينصب الإمام الثاني لها قاضيا ، لأن الولاية كانت بالنيابة والفرعية ، كالوكالة ، فلا تبقى مع بطلان أصلها ، فإنه لا معنى لبقاء الولاية بالنيابة مع عدم أصلها ، فتأمّل.

ولأنه لا مفسدة في الخلوّ الى أن ينصبه الإمام الثاني ، إن كان حال الحضور والتمكّن ، والّا يكون منصوبا من قبل الغائب بغير إذن بخصوصه ، كما أن قبل نصبه كان خاليا ، وهو ظاهر ، فإن البلاد كلها خالية عن القاضي في ذلك الزمان.

نعم لو قيل بلزوم المفسدة ـ إن قلنا انه ينعزل بالموت قبل وصول الخبر فإنه قد يكون حكم بأحكام كثيرة ، ويفرق المتحاكمون في البلاد ، ويكون الحكم باطلا لا يمكن استدراكه ، فيضيع حقوق الناس ، ولو كلّف بتحصيلهم والنقض وردّ الحقوق ، يلزم الحرج العظيم ـ لأمكن ذلك.

فعلى تقدير الانعزال ، ينبغي عدم العزل الّا بوصول الخبر ، كما قيل في انعزال الوكيل بعزل الموكّل ، فتأمّل (١).

(ثم ـ خ) اعلم أنه قال في شرح الشرائع : قد يقدح القول بانعزال النائب بموت الإمام في ولاية الفقيه حال الغيبة ، فإن الإمام الذي جعله قاضيا وحاكما قد

__________________

(١) فإن هناك نصا ولهذا ينعزل بمجرد موت الموكّل (منه رحمه الله) كذا في هامش بعض النسخ.

٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

مات ، فجرى في حكمه ذلك الخلاف المذكور. الّا أنّ الأصحاب مطبقون على استمرار تلك الولاية ، فإنها ليست كالتولية الخاصة ، بل حكم بمضمون ذلك ، فإعلامه بكونه من أهل الولاية على ذلك كإعلامه بكون العدل مقبول الشهادة ، وذي اليد مقبول الخبر وغير ذلك ، وفيه بحث.

وأنت تعلم انه لا قدح فيه ، إذ الفقيه حال الغيبة ليس نائبا عن الأئمة الذين ماتوا عليهم السّلام حال حياتهم حتى يلزم انعزالهم بموتهم عليهم السّلام ، وهو ظاهر.

بل عن صاحب الأمر عليه السّلام ، وإذنه معلوم بالإجماع أو بغيره ، مثل أنه لو لم يأذن يلزم الحرج والضيق ، بل اختلال نظم النوع ، وهو ظاهر.

أو الأخبار المتقدمة ، فإنها تدل بسوقها وظاهرها على أن المقصود أن كل من اتصف بتلك الصفات فهو منصوب من قبلهم دائما بإذنهم ، لا أنه منصوب من الواحد فقط في زمانه بإذنه حال حياته فقط ، فإن لم يتمكن من اذنه بخصوصه فذلك كاف ، ولا يحتاج إلى النصب بخصوصه.

على أنه قد يقال : إنما يحتاج إلى الإذن إذا كان حال الظهور والتمكّن من النصب بخصوصه ، كما صرحوا به لا مطلقا ، فيكون الفقيه حال الغيبة حاكما مستقلا.

نعم ينبغي الاستفسار عن دليل كونه حاكما على الإطلاق ، وعن رجوع جميع ما يرجع إليه عليه السّلام إليه ، كما هو المقرر عندهم.

فيمكن أن يقال : دليله الإجماع ، أو لزوم اختلال نظم النوع ، والحرج والضيق المنفيّين عقلا ونقلا ، وبهذا اثبت البعض وجوب نصب النبي أو الإمام عليه السّلام ، فتأمل.

ولعله يريد بقوله : (وفيه بحث) أن الاخبار الدالة على النصب ، لا تدل على

٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الإعلام المذكور ، بل على أنه عليه السّلام جعله حاكما ، وعلى إذنه في ذلك ، فلا يدل على غيره.

وأنت قد عرفت أن سوقها غير ذلك ، وانه قد لا يكون دليل كون الفقيه حال الغيبة حاكما تلك الاخبار فقط ، وانه لو كان كذلك يلزم عدم الانعزال بالموت حال الحضور ، بل لا يحتاج إلى الإذن والنصب بخصوصه حينئذ أيضا ، لما عرفت من سوقه.

فلعل لهم دليل آخر من إجماع ونحوه على الاحتياج حال الحضور بالإذن الخاص بخصوصه من كل إمام حال إمامته وتمكّنه من ذلك ، وكونه نائبا عنه حينئذ ، فيلزم البطلان بالموت كما في الوكيل ، وهو ظاهر.

نعم لو لم يكن دليل غيرها يمكن أن يقال بعدم الانعزال حينئذ أيضا ، بل بعدم الاحتياج إلى الإذن الخاص كما في حال الغيبة ، وقد مرت إليه الإشارة فتذكر وتأمّل.

وامّا انعزال القاضي بموت منوبه الذي هو نائب عن الإمام المأذون في النيابة ، فهو ظاهر إن كان نائبا عنه ومعاونا له ، لا عن الإمام ، وإن كان الثاني أيضا نائبا عنه عليه السلام ويكون هو وكيلا للإمام لنصب الثاني كما في الوكيل الثاني ، فلا ينعزل ، وهو أيضا ظاهر.

وانما البحث في حال الإطلاق ، فإن ظهرت قرينة يعمل عليها ، والّا ففيه إشكال ، ولا يبعد كونه نائبا عنه أيضا ، فإنّ الحكم له ، وهو الأصل الأصيل ، فوجود نائب لنائبه خلاف الأصل ، فيحتاج إلى إذن صريح ، والفرض عدمه ، فيحمل على انه نائب عنه عليه السّلام ، فلا ينعزل بموت الواسطة ، وقد مر مثله في الوكيل فتذكر.

فإطلاق القول بالانعزال غير جيد ، كالإطلاق بعدمه ، الّا أن يحمل على حال عدم القرينة.

٢٩

ويجوز نصب قاضيين في بلد يشتركان في ولاية واحدة ، أو يختصّ كل بطرف ، ولو شرط اتفاقهما في كل حكم لم يجز.

______________________________________________________

هذا كله في النائب العام ، والقاضي على الإطلاق.

وأما نوابه الخاص في شغل خاص ، مثل كونه نائبا في بيع مال النائب الخاص ، أو الميت كذلك لأداء دينه ، والوصية بطفله ونحو ذلك ، فنقل في شرح الشرائع عدم الخلاف في انعزاله بموت القاضي ، فإنه معين وتابع ، فيبطل ببطلان الأصل.

ونقل الوجهين في النائب المتصرف في شغل عام ، مثل كونه وصيا على الأطفال كلها في البلد ، ووكيل الغياب ، وناظرا في الموقوفات والمنذورات ، من حيث التبعية ، ومن ترتّب الضرر بانعزالهم إلى أن يتجدد قاض آخر.

ونقل في الإيضاح عن المصنف عدم الخلاف فيه (١) أيضا ، قال : وأما المنصوبون في شغل عام ، كقوّام الأيتام ، والوقوف ، فقال والدي : انهم لا ينعزلون بموت القاضي وانعزاله ، بغير خلاف ، لئلّا يختل أبواب المصالح ، وسبيلهم سبيل المتولين من قبل الواقف. ويمكن التفصيل المتقدم هنا أيضا.

وكأنه محمول على أنهم نوّاب بإذنه عليه السّلام له ، لا أنّه معاون للقاضي وتابع له ، ويرشد إليه قوله (وسبيلهم سبيل المتولّين) فتأمّل.

قوله : «ويجوز نصب قاضيين إلخ». هذه المسألة أيضا مستغنى عنها ، إلّا أن يكون الناصب نائبا ، فهو أيضا كذلك فإنه بإذنه عليه السّلام وفي زمانه ، فتأمّل.

الظاهر عدم الخلاف في جواز نصب القاضيين في بلد واحد مع استقلال كل واحد في قطر ، وكذا في زمانين ، أو أحكام مخصوصة ، مثل كون أحدهما قاضيا في الأموال والآخر في الدماء.

__________________

(١) أي في عدم الانعزال.

٣٠

فإن تنازع الخصمان في الترافع قدّم اختيار المدّعي.

______________________________________________________

وأما إذا كان في زمان واحد ومكان واحد : فإن اشتراط (شرط ـ خ) اجتماعهما في الحكم ففيه وجهان ، الجواز. وقال في شرح الشرائع انه مختار العلامة وولده ، لأن النيابة له وباختياره ، فيه انه كالمصادرة.

والعدم ، وهو مختار المصنف هنا ، لأنه قد يؤول إلى تعطيل الأحكام ، وبقاء المنازعة ، إذ قد لا يتفق اتفاقهما في الاجتهاد.

ويمكن ان يقال : يحكمان مع الاتفاق ، ويراجعان إليه عليه السّلام مع الاختلاف (١).

وان لم يشترط اتفاقهما في الحكم ، ففيه أيضا الوجهان ، الجواز ، وهو مختار المصنف كما مر ، وعدمه ، لاحتمال النزاع ، لاحتمال اختيار كل ، غير الآخر ، فلا يرتفع النزاع والخصومة.

ويمكن دفعه بتقديم من سبق داعيه إن كان ، ومع معية الداعي ، تقديم من يخرجه القرعة ، كذا قال في شرح الشرائع ، ومع عدم الداعي بتقديم مختار المدعي ، فإن المنازعة له ، فينبغي أن يتبع.

وفيه تأمّل ، خصوصا إذا كان مختاره مفضولا ، أو غيره أعدل ، أو أورع ، إن جوّز ذلك فلا يبعد الرجوع إليه عليه السّلام ، إن أمكن بسهولة ، والّا القرعة.

قوله : «فإن تنازع إلخ». من تتمة (يشتركان في ولاية واحدة).

وقد يتصور التنازع في الاختصاص أيضا بأن يكون أحدهما من قطر ولاية قاض ، والآخر من اخرى ، ففيه أيضا ما تقدم ، فيحتمل تقديم قطر المدعي ، مع التأمّل.

__________________

(١) هذا إذا لم يكن أحدهما اتصل أو لم نقل بتقديم الأفضل خصوصا في زمانه عليه السّلام وتجويزه (بخطّه رحمه الله) كذا في هامش النسخ.

٣١

وإذا أذن له في الاستخلاف جاز ، والّا فلا ، إلّا مع الإمارة كاتساع الولاية.

وتثبت الولاية بشاهدين وبالاستفاضة.

______________________________________________________

قوله : «وإذا إلخ». هذه أيضا مثل الاولى. وجواز الاستخلاف مع الإذن ظاهر ، وكذا عدمه مع العدم ، الّا مع قرينة مفيدة للإذن ، بأن يكون ما ولّاه فيه من البلد لا يمكن أن يتعاطى ولايتها بنفسه فقط ، لاتساعها كما في نصب المعاون من القوام لأموال اليتامى والنذورات والغياب وحفظ الأمانات من الودائع والأمانات الشرعية وغير ذلك كما مر في الوكيل والوصي. والظاهر أن لا نزاع فيه.

قوله : «وتثبت إلخ». الظاهر أن ثبوت الولاية بالشاهدين مما لا نزاع فيه ، بل مجمع عليه لأكثر الأحكام ، لأنها حجة شرعيّة ، إلّا فيما شرط أكثر مثل الزنا ، وكذا بالسماع عنه عليه السّلام.

واما بالاستفاضة فالمشهور ذلك أيضا ، بل ما نجد فيه خلافا. فإن فسرت بإخبار جماعة تفيد العلم اليقيني ، فلا نزاع فيه أيضا ، بل هو أقوى من الشاهدين ، لأن العلم متبع بالعقل والنقل ، وسيجي‌ء أن القاضي يعمل بعلمه. وإن فسّرت بما أفاد الظن الغالب المتاخم للعلم ، بل هو العلم العادي العرفي الذي لا يضره الاحتمال البعيد الذي هو مجرد التجويز العقلي ، فالظاهر انه كذلك.

ولا ينبغي النزاع في ثبوتها بها أيضا ، ولا في ثبوت غيرها من الأحكام ، الّا ما نص الشارع. وكذا بغيرها حتى الكتابة والحجة مع الأمارات المفيدة لما قلناه ، لانه العلم العادي ، ولا يطلب الشارع أكثر من ذلك ، فإن مداره على العرف ، فتأمّل.

وأما مجرد الظن الراجح الغير الواصل إلى تلك المرتبة ، فما نعرف له دليلا ، الّا قولهم على الإجمال ، فإن كان إجماعا ، والّا ففيه تأمّل ، فإن مجرد قولهم ليس بحجة.

وكذا البحث فيما عداها من الأمور التي عدّوا إثباتها بالاستفاضة ، مثل

٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

النسب والملك المطلق ، والموت ، والنكاح ، والوقف ، والعتق كما فعله في الشرائع ، وأضاف إليها غيره غيرها ، وعلّلوا بمناسبات ، مثل انها أمور لا مدخل للبينة فيها غالبا ، فإن النسب غاية الأمر فيه رؤية الولادة في فراش الإنسان ، وذلك في غاية البعد ، مع انه لم يجر في الأجداد وغيرهم.

وفيه ما (١) لا يخفي مع أنهم استشكلوا في النسب من الامّ. والملك أسبابه مختلفة ، وهو موجب لعسر الاطلاع.

وفيه أيضا ما لا يخفي ، بل أكثر. والموت يبعد حضور الشاهدين حين الموت.

فيه أيضا ما فيه ، بل أظهر. وكذا الوقف والعتق.

مع انه قد يطول الزمان وينعدم الشهود لو كان ، والمرتبة الثالثة لم يقبل ، فلو لم يقبل الاستفاضة ، يلزم التعطيل. وكذا النكاح.

وفيها ما تقدم ، خصوصا النكاح إذا لا فرق بينه وبين الطلاق ، فتأمّل ، وعلى هذا القياس.

وبالجملة هذه مناسبات يمكن قبولها نكتة للنصّ والإجماع لا جعلها أدلة.

ويؤيده الاختلاف في ذلك ، فإنه قد زاد بعض على ما ذكرناه وبعض آخر نقص عنه.

والحاصل أن الحكم الشرعي يحتاج إلى دليل شرعي ، وما رأينا كونها دليلا شرعيا ، لا في كل الاحكام ، ولا في البعض ، بل رأيناها مذكورة في كلامهم مع الاختلاف فيما يثبت بها.

وأما الاستدلال بأنها تفيد ظنا أقوى ممّا يفيده الشاهدان فيقبل بالطريق

__________________

(١) من عدم كونه دليلا ، ولا مكان ثبوته بالإقرار فيكتفى في موضع التعذر لا مطلقا وحصول العلم بالأخبار الكثيرة أو المحفوفة بالقرائن ـ منه رحمه الله ـ كذا في هامش النسخ.

٣٣

ولا يجب قبول قوله من دونهما ، وإن حصلت الأمارة.

ولو كانت الدعوى على القاضي في ولايته رفع إلى خليفته.

المطلب الثاني : في الآداب

يستحب سكناه في وسط البلد ، والإعلام بقدومه.

______________________________________________________

الأولى ، لمفهوم الموافقة كما فعله في شرح الشرائع.

ففيه أنه موجب لطرح كلامهم بالكلية ، مع ثبوت المنع في إفادته ذلك كلّية ، الّا أن يخصص بتلك الصورة.

على أنه قد لا يحصل الظنّ بالشهود ، وقد يحصل بغير الشهود بمجرد قول المدّعي ، وقد يحصل بشهادة الفاسق.

وأنه قد اعتبر في مفهوم الموافقة ، العلم بعلّية العلّة ، ووجودها في الأدنى ، وليس بمعلوم أنّ قبول الشارع قول العدلين ، لحصول ظنّ الحاكم بحقّية قولهما ، بل الظاهر خلافه ، وإلا لزم ما ذكرناه ، فيختل الأحكام ، الله يعلم بالصواب.

قوله : «ولا يجب قبول إلخ». بل يمكن عدم جواز ذلك ، وإن حصلت الأمارات المفيدة للظنّ ، الّا ان يحصل العلم ، أو الظنّ المذكور.

قوله : «ولو كانت الدعوى إلخ». إذا كان لشخص دعوى على القاضي فلا يمكن ترافعه إليه ، بل لا بد إلى غيره ، فإن كان في البلد نائبه وخليفته ، يرجع إليه ، وإلّا إلى غيره ، ومعه أيضا يحتمل الرجوع إلى غيره أيضا ، وهو ظاهر.

قوله : «يستحب سكناه إلخ». بيان آداب القاضي ، وهي كثيرة :

(منها) استحباب جعل مسكنه ومنزله ومجلسه للقضاء وسط الموضع الذي هو قاض فيه ، ليكون النسبة إلى جميع الخصوص على السواء ، فتأمّل.

والإعلام : بأن يأمر من ينادي : ألا ان فلانا جاء قاضيا.

٣٤

والجلوس بارزا.

مستدبر القبلة.

واستعلام حال بلده من أهله.

______________________________________________________

وقراءة عهده ، وإحضار شهوده ، بعد إحضار الناس ، إن احتاج إلى ذلك.

وأن يجلس للقضاء بارزا ، مثل فضاء لم يكن له باب ، ولا حيطان ليسهل الوصول إليه ، لكلّ من يحتاج إليه.

وينبغي له حين أن يدخل البلد ، الرواح إلى المسجد والصلاة فيه ركعتين للتحية ولكن لا خصوصية له بالقاضي ، بل ورد في الرواية (١) مطلقا ان يذهب داخل البلد أولا المسجد ذكره في الدروس (٢)

ويجلس حال الحكم مستدبر القبلة ، ليكون الخصوم مستقبلها ، لعلّهم يخافون الله تعالى ويرجعون عن الظلم. وقيل : يستقبلها هو ، لما روي عنه صلّى الله عليه وآله ، أنه قال : خير المجلس ما استقبل به القبلة (٣) ، فينبغي أن يختارها لنفسه.

واستعلام أمور بلده ، بأن يطلب من أهله من يسأله ما يحتاج إليه من أحوال الناس من العلماء والعدول ، ليكون على بصيرة ممّن يعتمد عليه ، ويسكن إلى قوله ، ويعرف من يستحق التعظيم ، ومن لا يستحقّه ، ومن ينبغي أن يخالطه ويصاحبه ، ومن يجتنب عنه ، ومن يحذر شرّه ، ومن يرجو خيره ، وينبغي كون ذلك قبل الوصول (٤) ، وإن لم يتيسّر فبعده.

__________________

(١) لم نعثر عليها حسب تتبّعنا في المجامع الحديثية فتتبّع.

(٢) عبارة الدروس هكذا : في آداب القضاء وهي إما مستحبة وهي عشرون الأوّل قصد المسجد الجامع حين قدومه وصلاة ركعتين فيه كما يستحب لكل قادم إلى بلد ويسأل الله التوفيق والعصمة والإعانة (انتهى) فقول الشارح قدّس سرّه : ذكره في الدروس ، يريد به أصل الدخول إلى البلد لا ورود الرواية.

(٣) الوسائل باب ٧٦ حديث ٣ من أبواب أحكام العشرة ج ٨ ص ٤٧٥.

(٤) أي قبل الوصول إلى البلد.

٣٥

والبدأة بأخذ الحجج من المعزول ، والودائع.

والسؤال عن سبب الحبس ، وإحضار غرمائهم ، والنظر في صحّة السبب وفساده ، ولو لم يظهر لأحدهم غريم بعد الإشاعة أطلقه. وعن أولياء الأيتام واعتماد ما ينبغي من عزل ، أو ضمّ ، أو تضمين ، أو إبقاء. وعن أمناء الحكم ، والضوال ، وبيع ما يراه منها ، وتسليم المعرّف حولا إلى ملتقطة إن طلبه.

______________________________________________________

وهذا إنّما يكون بعد معرفة حال المسؤول عنه ، ويجوز له ذكر شر من يتّقي شره مختصرا على قدر الحاجة مجملا ، أو تفصيلا في الجملة. وكذا استماع القاضي.

كأنّه من جملة ما استثني من تحريم الغيبة واستماعها ، كالجرح.

ثمّ ابتدأ بأخذ ما في يد الحاكم المعزول من حجج الناس المودعة عنده ، وحجج الأيتام ، والوصايا ، والأوقاف والمحاضر والسجلّات وغيرها ، ليعرف أحوال الناس وحوائجهم وحقوقهم.

ثم ينبغي أن ينظر أوّلا في حال المحبوسين إن لم يفت قبله حقّ شخص ولم يكن هناك أمر ضروري أحوج منه ، فإنّ الحبس عذاب. بل ينبغي أن ينادي إن احتاج : إنّ القاضي يسأل عن حال المحبوسين ، فليحضر من له محبوس ، ومن هو خصمهم ، فيروح بنفسه ، أو يبعث أمينا أو أكثر ، إليهم ، ولو اقتضت المصلحة بإخراجهم لاستعلام حالهم ، فعل فيسأل ، فمن ظهر له خصم وإن حبسه على حق ، يحبس ، ومن علم أنه على باطل يطلقه ، ومن لم يظهر له خصم ، وقال : ما لي خصم ، أو ما أعرف ، يشيع حاله ، بحيث لو كان لظهر ، فإن لم يظهر ، يمكن أن يطلقه مع عدم المفسدة. وإن علم أن له خصما غائبا ، ففيه احتمالات ، الحبس ، وعدمه ، ومراقبته ، والكتابة إلى الخصم ، والتحقيق ، فتأمّل.

ثم يسأل عن أولياء الأيتام ، وهم أوصياؤهم الذين نصبهم الأب ، أو الجد

٣٦

وإحضار العلماء حكمه ، ليرجع إذا نبهوه على الغلط.

______________________________________________________

له ، فينظر ويعتمد على ما ينبغي أن يعتمد عليه ، فإن كان أحد منهم لا يليق ، ولا يستحقّ ، عزله ، وإن كان في الأيتام من بلغ ورشد ، يسقط وصيّة ويسلّم إليه ماله ، وإن كان يحتاج إلى ضمّ أحد معه ، يفعل ، وإن كان فيهم من ضمن بتفريط وإفراط ، يضمنه ، ويأخذ منه.

ويسأل أيضا عن أمناء الحكم ، وهم الذين نصبهم القاضي السابق على أموال الأيتام وأنفسهم أوصياء ، إذا لم يكن هناك وصيّ ، ووضع عندهم ودائع الناس وأموال الغياب ومال المحجور عليه لسفه أو فلس ، فمن كان ممّن يعتمد عليه ، تركه على حاله ، ومن لم يكن كذلك عزله ونصب غيره ، ومن يحتاج إلى معاون عاونه ، ومن خان ضمّنه وغرمه وعزله وعزّره.

فينظر في الضوال ـ المراد بها هنا لقطة المال ـ حيوانا كان أو غيره ، فيبيع منها ما يراه أن يباع مثل الذي خشي تلفه ، أو نقصه ، وما يستوعب نفقته ثمنه ، ونحو ذلك ، ويسلّم اللقطة التي يجوز تملكها إلى ملتقطها إن طلبها ، والّا فيحفظها في بيت المال معزولا مكتوبا عليه ، أنه ملتقط.

ويمكن أن يتصدّق به لصاحبه ويضمن ، أو يخلطه ببيت المال ويضمنه فيه. وكذا يفعل فيما لا يجوز تملّكها مثل لقطة الحرم. وما لم يعرف ، أمر بتعريفه.

وإذا حصل حال اشتغاله بهذه الأمور حكومة وخصومة ، فإن أمكنه الجمع بحيث لا يضرّ بأحدها يفعل ، ومع الضرر يقدّم صاحبه ، وإلّا يقدم أحوال المحبوسين والأطفال ، فإنّهم أحوج.

وإن أمكن الاستخلاف ، بأن يكون مأذونا ، ويوجد من يصلح لذلك ، يستخلف في أحدهما ، ويفعل بنفسه ، الآخر.

قوله : «وإحضار العلماء إلخ». أي يستحب له أيضا أن يحضر العلماء حال حكمه ، إذ قد يسهو ، أو يخطأ ، فينبهونه ، فيرجع بعد ان رأى ما ذكروه صوابا

٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

إليه ، أو ربّما استشكل (أشكل ـ خ) عليه المسألة للغفلة عن دليلها تلك الساعة ، أو للتعارض وعدم حضور وجه الجمع لتشتّت باله حال القضاء ، أو غير ذلك ، فينبّهونه ، بل ينبغي له السؤال والمشاورة معهم في كلّ مسألة لم تكن قطعيّة واضحة ، لاحتمال الغفلة وغيرها.

ثمّ اعلم أن ليس إحضارهم ليقلّدهم في الحكم والمسألة ، بل للتنبيه ، لما عرفت أنّ المجتهد والقاضي لا يجوز له الحكم والفتوى بالتقليد ، وغير المجتهد لا يجوز له ذلك ، للإجماع المنقول.

وان ليس المراد بهم المجتهدون فقط ، بل الظاهر أنه الأعم ، إذ يجوز لغير المجتهد تنبيه المجتهد إذا غفل ، وذلك بأن يفتي ويحكم في مسألة لخبر ، ويعرف غير المجتهد أنّ في سند ذلك الخبر من هو فاسق غير مقبول ، بأن عرفه ، أو قد ذكر هذا المجتهد قبله له أنّ في سند هذا الحكم ، الفلاني الفاسق ، أو أنّ له معارضا أقوى ، أو أنّ هذا الحكم مبنيّ على الجمع بهذا الوجه ، وهو غير سديد ، إذ هنا وجه آخر أحسن من هذا ونسيه وحفظه المقلّد ، مثل الإضمار ، والتخصيص فإنّه خير منه ، أو الاشتراك والمجاز ، وهو خير ونحوه ، ومثل هذا لا يبعد عن غير المجتهد.

وقد رأينا كثيرا أنّه قد يعرف المفضول شيئا لا يعرفه الفاضل ، ويعرف التلميذ شيئا لا يعرفه الأستاذ ، مع أنه أخذه منه ونسيه.

فقول شارح الشرائع : «المراد بأهل العلم ، المجتهد» غير سديد.

وبالجملة هو يذكر في مواضع ، عدم جواز بحث غير المجتهد معه ، وهو ليس بصواب ، بل يفهم من كلامه عدم البحث إلّا في المسألة الدينية بين المجتهدين ، وهو خطأ ظاهرا.

وأن ليس الاستحباب مخصوصا بمذهب من يقول : أنّ المصيب واحد ، إذ كون كلّ واحد مصيبا ، لا ينافي التذكير بعد السهو والنسيان والرجوع عن اجتهاده

٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

مع ظهور خطأه ، ولا يوجب الفتوى والحكم بحيث لا يجوز له التفتيش والاستفسار ، ولا يوجب عدم استحباب إحضار من ينبّهه على مثل ذلك ، لاحتمال ذلك ، وهو ظاهر.

ولهذا الظاهر أنّه يقول بالاستحباب أيضا من قال أنّ الكلّ مصيب.

قال في الشرائع : ويحضر من أهل العلم من يشهد حكمه ، فإن أخطأ نبّهوه ، لأنّ المصيب عندنا واحد.

قال في شرحه ، وقوله : لأنّ المصيب عندنا واحد ، نبّه به على خلاف بعض العامّة ، حيث ذهب إلى ان كلّ مجتهد مصيب ، فلا وجه حينئذ في الرجوع إلى قول من نبهه ، لأنّ كلّا منهما موافق للصواب ، وإن كان بعض الآراء أرجح من بعض. وفيه نظر ، لأنّ هذا الحكم يجري على المذهبين ، وقد ذكره الفريقان في آداب القضاء ، لأنّ الإصابة في الاجتهاد على القول بكون كلّ مجتهد مصيبا إنّما هي مع موافقة الاجتهاد للدليل المناسب للحكم ، والمفروض هنا الغفلة عنه إلخ.

وأنت تعلم أنّ خطأ ذلك لا يخفى على مثل المحقّق ، فيمكن أن يقال أنّ مراده أنّ التنبيه على الخطأ واجب عند من يرى أنّ المصيب واحد ، أو راجح لا يتركه البتة ، إذ قوله : (لأنّ المصيب إلخ) دليل الجزم على أنّهم ينبّهونه البتة ، أو يجب عليهم ـ بناء على أنّ المصيب واحد ـ ذلك ، فليس تقييد (تقييدا ـ خ) لأصل الحكم ، وهو ظاهر.

نعم يمكن أن يفهم أنّ فائدة الإحضار حينئذ ظاهرة ، فإنه لو أخطأ الحاكم نبّهه (ينبّهه ـ خ) الحاضر البتة ، ولا يسكت عنه ، لأنّ المصيب واحد ، ففائدة الإحضار هنا واضحة مكشوفة ، لا على القول بأنّ الكل مصيب ، فإنه يحتمل عدم الوجوب ، بل وعدم الأولويّة حينئذ ، فيسكت ، فلا يظهر للإحضار فائدة مثل ظهورها على الأول ، فتأمّل.

٣٩

فإن أتلف خطأ ، فالضمان على بيت المال.

ويعزّر المتعدّي من الغريمين إن لم يرجع إلّا به.

______________________________________________________

وأمّا اعتقاد المحقّق أو الفهم من كلامه ، أنّه لا وجه حينئذ في الرجوع إلى قول من نبّهه ، لأنّ كلّا منهما موافق للصواب فلا يفهم ، فإسناده إلى المحقّق ، بعيد ، فافهم.

قوله : «فإن أتلف إلخ». إذا أخطأ القاضي في الحكم ـ وبسبب حكمه تلف مال أو نفس لا على وجه الحقّ بعد أن اجتهد وبذل جهده ، وكانت المسألة اجتهادية ـ فلا شكّ في ضمان هذا المال والنفس ، فإن أمكن الأخذ من المتلف ، فالظاهر أخذه منه ، وإلّا فيكون الضمان في بيت المال ، لأنه لمصالح المسلمين ، ونصب القاضي لها. فلو الزم من ماله ، فيمكن أن لا يقبله احد ، فيلزم تعطيل أمور المسلمين ، وهو ظاهر.

ولما قال في الفقيه ، روى الأصبغ بن نباتة أنه قال قضى أمير المؤمنين عليه السّلام : إنّ ما أخطأت القضاة في دم أو قطع فهو في (على ـ ئل) بيت المال المسلمين (١) ، ولعلّه لا خلاف أيضا.

قوله : «ويعزّر إلخ». إذا تعدّى احد الخصمين على الآخر ، أو خرج عن الشرع بغير ذلك الوجه بما يحرم ، يجب على القاضي منعه وزجره ، من باب النهي عن المنكر على الوجه الذي تقدم ، الأسهل فالأسهل. فيبيّن أنّه حرام ، لا تفعل ، برفق.

فإن كان له شبهة أزالها كذلك ، فإن لم يترك ، فيصيح عليه ويغلظ صوته ، فإن لم يترك فيزبره (٢) ، فإن توقّف على التعزير بالتأديب ونوع الإهانة ولو كان ضربا فعل ، على الوجه الذي تقدّم ، وان كان بالنسبة إلى الحاكم ، بأن ينسبه إلى

__________________

(١) الوسائل باب ١٠ من أبواب آداب القاضي حديث ١ ج ١٨ ص ١٦٥.

(٢) الزبر : الزجر (مجمع البحرين).

٤٠