حاشية المكاسب

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي

حاشية المكاسب

المؤلف:

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي


المحقق: مؤسسة آية الله العظمى البروجردي
الموضوع : الفقه
الناشر: الغفور ـ قم
المطبعة: قرآن كريم ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-92663-2-1
الصفحات: ٦٤٠

فالتمليك الحاصل بالإنشاء لا يعتبر فيه القبول ، والتمليك الّذي يعتبر فيه القبول إنّما يتحقّق إذا تعقّبه القبول ، ولا يتحقّق إذا لم يتعقّبه القبول.

(فالبيع وما يساويه معنى من قبيل الإيجاب والوجوب ، لا الكسر والانكسار) ، فإنّ الكسر والانكسار لا يتصوّر فيهما الانفكاك ، وليس هناك كسران ، بخلاف الإيجاب والوجوب ، فإنّ الإيجاب أيضا إنشاء قد يصادف الوجوب الواقعي ، كما إذا صدر عن العالي فيتحقّقان معا واقعا ، وقد لا يصادفه لفقد شرطه ، كما إذا صدر عن السافل ، فيتحقّق الوجوب في نظر الموجب لا الوجوب الواقعي ، أمّا عدم الوجوب الواقعي ، فلفقد شرطه ، وأمّا تحقّق الوجوب في نظر الموجب ، فلامتناع انفكاك الأثر عن التأثير ، هذا ملخّص مرامه رحمه‌الله.

وفيه ؛ أنّ اختلاف النظر لا يوجب تغيّر الواقع وتعدّده ، فإذا فرض حصول تأثير بالإنشاء واقعا ، فلا بدّ له من أثر واقعي ولا يكفي فيه الأثر التخيّلي.

سلّمنا ذلك ، لكن لا يجب أن يكون كلّ منشئ جاهلا بالواقع فيعتقد حصول الأثر مع عدم تحقّقه في الواقع ، فما حقّقه رحمه‌الله ممّا لم يظهر لنا وجهه ، ولعلّ الملجئ إلى ذلك ما بنى عليه بعضهم من كون الإنشاء إيجادا والتعليق ينافيه (١).

وقد أبطل ذلك المحقّقون ، وأوضحوا فساده بما لا مزيد عليه وبيّنوا ، لعدم جواز التعليق وجوها اخر يأتي ذكرها في محلّه.

ونحن نشير الآن إلى بيان معنى الإنشاء وحقيقته ، ليتّضح أنّه ليس من الإنشاء في شي‌ء ، فنقول :

__________________

(١) القواعد والفوائد : ١ / ٦٥ القاعدة ٣٥ ، جامع المقاصد : ٨ / ٣٠٥ ، مسالك الإفهام : ٥ / ٢٧٦ ، لاحظ! المكاسب : ٣ / ١٦٥.

٨١

قد قسّموا النسب الكلاميّة ، إلى الخبريّة والإنشائيّة ، والمراد من الخبريّة ما فيها جهة الكشفيّة ، ومن الإنشائيّة ما ليس فيها هذه الجهة.

وبعبارة اخرى : إن كان في النسبة نظر إلى الواقع فهي خبريّة ، وإن لم يكن فيها هذا النظر بل هي هي بنفسها من دون أن يكون فيها حكاية أصلا فهي إنشاء ، من غير فرق بين أن تكون هذه النسبة حاصلة بالكلام ، أو مدلولة له ، وإذا كانت مدلولة للكلام ، فلا يكون إلّا مدلولة للهيئة أو لأداة ، لأنّ النسبة وكيفيّاتها في الكلام من المعاني الحرفيّة لا يمكن أن يدلّ عليها بالوضع ما يكون وضعه وضع الأسماء.

وقد بيّنا في بحث المشتقّ اختلاف كيفيّة الوضع في الأسماء والحروف وأنّ الهيئات أيضا وضعها وضع الحروف.

وكيف كان ؛ فمن النسب المدلولة لهيئة «اضرب» ـ مثلا ـ فإنّ هذه الهيئة إنّما وضعت لأن تكشف عن أنّ هذه المادّة لوحظت منسوبة إلى فاعل ما على نحو المطلوبيّة منه ، فإذا كانت النسبة بهذه الكيفيّة صارت إنشاء لما لم يكن فيها جهة كشف وحكاية ، وإلّا فمن حيث التقدّم على الكلام وكاشفيّته عنها لا فرق بينها وبين الخبريّة.

فكما أنّ المخبر بخبره لا يوجد النسبة المكشوفة ، بل يكشف عنها بالوضع ، كذلك النسبة الطلبيّة لا يوجدها المنشئ بالتلفّظ ، بل يكشف عنها بالوضع.

فالقول بحصول الإيجاب من القائل بقوله : «اضرب» وإن اريد منه إيجاد الوجوب ، وحصول التأثير حتّى لا ينفكّ عنه الأثر ، ليلزم منه الالتزام بحصول

٨٢

الوجوب ، ولو في نظر الموجب ؛ فهو فاسد.

وإن اريد منه الكشف عن المطلوبيّة ، فهو حقّ وصواب ، وقد حصل ذلك بالكلام ، كما يحصل المخبريّة أيضا بالكلام الخبري ، وأين ذلك من إيجاد الوجوب في شي‌ء؟

ومن النسب الإنشائيّة المدلولة للحرف ؛ النسب الطلبيّة المدلولة للام الأمر في قولك : «ليضرب».

وأمّا النسب الإنشائيّة الحاصلة بالكلام كالجملة الخبريّة الواردة في مقام الإنشاء كالقضايا الواردة في مقام المدح والذمّ ، ومن هذا القبيل من الإنشاء إنشاءات العقود ، والإيقاعات ، وتوضيح الإنشائيّة فيها يحتاج إلى زيادة بسط ؛ فنقول :

كلّ قضيّة من القضايا خبريّة كانت أو إنشائيّة ، كما أنّها تشتمل على نسب تكشف عنها بالوضع كذلك تشتمل على نسب تحصل بنفس الكلام لم تكن حاصلة قبله ، مثلا قولك : زيد عالم ، يشتمل على نسب يكشف عنها اللفظ ، وهو علم زيد ، وعلى نسب عديدة تحصل وتوجد بهذا القول باعتبارات شتّى ، فباعتبار كون هذا كلاما تامّا يصدق أنّك تكلّمت ، وباعتبار كون ذلك موجبا لعلم المخاطب يصدق أنّك أعلمت ، وباعتبار كون الصفة المكشوف عنها صفة الحسن يصدق أنّك مدحت ، إلى غير ذلك من النسب بحسب التكلّمات والمقامات.

وهذه النسب الحاصلة بالكلام من جهة عدم جهة كشف فيها وحكاية نسمّيها نسبا إنشائيّة ، لكن إنّما يكون الكلام باعتبار هذه النسب إنشاء ، إذا كان المقصود بالأصالة للمتكلّم من الكلام إحدى هذه النسب دون النسبة المكشوفة

٨٣

عنها بالكلام ، ويكون الكشف عن تلك النسبة توطئة لتحقّق هذه النسبة ، كنسبة الحكم إلى العام توطئة لصحّة الاستثناء في القضيّة الاستثنائيّة ؛

كما إذا استعمل الجملة الخبريّة في مقام المدح والذمّ ، فإنّ الكشف عن الواقع بنفسه حينئذ غير مقصود ، بل إنّما جي‌ء به ليتحقّق بهذا الكلام إظهار حسنه ، ليكون مادحا له ، أو إظهار قبحه ، ليكون ذامّا.

وأمّا إذا لم تكن هذه النسب مقصودة ويكون المقصود بالأصالة نفس النسبة المكشوفة كان الكلام خبريّة إن كانت تلك النسبة خبريّة ، وحينئذ فنقول : قولك : «بعت» قد يستعمل في مقام الإخبار ، فيستفاد منه وقوع البيع سابقا ، وقد يستعمل في مقام بيان إرادة الالتزام بالمبادلة ، فلا يراد من النسبة المكشوفة نفس الكشف ، بل إنّما أظهر الكشف لإظهار الالتزام ، وتحقّقه من طرفه.

ولذا يعتبر في هذا المقام بصيغة الماضي ، لكونه أقوى في الدلالة على الالتزام ، بخلاف الاستقبال ، فإنّهم استشكلوا في الوقوع في العقود بلفظ الاستقبال.

مع أنّهم لم يستشكلوا استعماله في مقام الإنشاء في غير هذا المقام ، كما إذا ذكر في مقام إنشاء الطلب منه ، وقد يستعمل الجملة الاسميّة في مقام الإنشاء ، كقول المولى لعبده : أنت حرّ لوجه الله ، وقول الزوج لزوجته : أنت طالق.

واستشكلوا الوقوع هنا بصيغة الماضي ، مع أنّهم لم يستشكلوا وقوعه بها في العقود ، بل أطبقوا على البطلان بالجملة الاسمية في العقود ، مع إطباقهم على الصحّة في الإيقاعات ، وليس ذلك من جهة المجازيّة والاقتصار على القدر المتيقّن ، وإلّا لم تختلف العقود والإيقاعات في ذلك.

أمّا عدم المجازيّة ؛ فلظهور أنّها عندهم استعمال اللفظ في غير الموضوع

٨٤

له ، والنسبة الحاصلة بالكلام وإن لم تكن ممّا وضعت لها اللفظ وكانت مقصودة للمتكلّم إلّا أنّها ليست ممّا استعمل فيها اللفظ ، بل المتكلّم أفادها بغير الوضع ، لكن بمعونة الوضع ، حيث جعل الموضوع له توطئة لإفادة المقصود بالأصالة.

هذا ؛ مع ما ذكروه وتسالموا عليه من أنّه لا مجازيّة في الحروف ، ولا فيما هو وضعه وضع الحروف ، ولو كان هنا مجازيّة فلا بدّ أن تكون في الهيئة لا في المادّة ، وهو ظاهر.

وأمّا وجه التفرقة بين العقود والإيقاعات هو أنّ المسبّب في العقود لمّا كان مسبّبا عن فعلين ، وكان المقصود من الإنشاء من كلّ طرف حصول الالتزام من طرفه لينضمّ إليه الالتزام من الطرف الآخر ليحصل المسبّب ، فلا يناسبه حينئذ إلّا التعبير بصيغة الماضي.

وهذا بخلاف الإيقاع ، فإنّ المسبّب فيها لمّا كان مسبّبا عن فعل واحد كان الأنسب فيها التعبير بالجملة الاسميّة ، لأنّ فيها دلالة على الدوام والثبوت ، فلا يناسبه الانتساب إلى نفسه بصيغة المتكلّم ، بل الأنسب الحكم بالثبوت والتحقّق ، وهذا ظاهر.

فاتّضح من تحرير ما أوردناه من بيان حقيقة الإنشاء وأقسامه ؛ أن لا إيجاد للوجوب حينئذ إلا إنشاء المدلول للهيئة أو الأداة في قولك : اضرب ، ولا إيجاد للتمليك أو التبديل من طرفه لينضم إليه القول من الطرف الآخر ، ليحصل الملكيّة أو البدليّة من مجموع الفعلين.

فإن كان هناك إيجاد فإنّما هو إظهار والالتزام بالتمليك أو التبديل لا نفس التمليك والتبديل ، فلا حاجة إلى القول بحصول الملكيّة في نظر التملّك ، ولا إلى القول بحصول الوجوب في نظر الموجب في المثال الأوّل.

٨٥

قوله : (ويشكل ما ذكراه (١)) .. إلى آخره (٢).

وذلك لأنّ المراد من المطلقات بناء على القول بالصحيح هو المقيّدات ، فلا وجه حينئذ للتملّك بالإطلاقات ، لأنّه إنّما يصحّ إذا لم يكن التقييد مرادا من المطلقات.

قوله : (نعم ؛ يمكن أن يقال : إنّ البيع وشبهه [في العرف إذا استعمل في الحاصل من المصدر الّذي يراد من قول القائل : بعت ، عند الإنشاء لا يستعمل (حقيقة) إلّا في ما كان صحيحا مؤثّرا ولو في نظر القائل]) (٣) .. إلى آخره.

حاصله توجيه التمسّك بالإطلاق بناء على الصحيح ، على الأعم من الصحيح الشرعي والعرفي ، والصحيح العرفي لا يعتبر فيه شي‌ء من القيود ، فيصحّ التمسّك بالإطلاق لذلك.

وفيه ؛ أنّ ما ادّعاه الشهيدان (٤) إنّما هو وضعها للصحيح عند الشارع ، لا الصحيح عند العرف ، فلا يكون هذا توجيهها للتمسّك بالإطلاق على قولهما.

والأولى توجيه كلامهما بإرادة الحقيقة في الصحيح عند المتشرّعة ، لا الشارع ، ولا يضرّ ذلك التمسّك بالإطلاق في لسان الشرع.

__________________

(١) القواعد والفوائد : ١ / ١٥٨ ، مسالك الإفهام : ١١ / ٢٦٣.

(٢) المكاسب : ٣ / ١٩.

(٣) المكاسب : ٣ / ٢٠.

(٤) انظر! الهامش ١ من هذه الصفحة.

٨٦

المعاطاة

قوله : (إذا عرفت ما ذكرناه فالأقوال في المعاطاة على ما تساعده ظواهر كلماتهم ستّة) (١).

مبنيّ على الاكتفاء بالظواهر والاعتماد على الحكاية ، وإلّا فبعد تدقيق النظر في كلمات المتقدّمين يظهر أن ليس عندهم إلّا قول واحد ، انفرد به الشيعة ولم يخالفهم إلّا البعض من العامّة ، كبعض الحنفيّة (٢) وابن شريح في الجليل (٣) وأحمد ومالك في الجليل والحقير (٤).

وتوضيح الكلام في ذلك أنّ التعاطي من المتعاطيين يتصوّر على وجهين :

أحدهما : أن يقصد المعطي أوّلا بفعله إنشاء البيع ، والآخر بفعله ثانيا إنشاء القبول ، أي ينزّل فعله بمنزلة قوله : «بعت» عند الإنشاء ، كما في إشارة الأخرس ، والثاني بمنزلة قول القائل : «قبلت» ، أو «اشتريت». ثمّ الملكيّة حينئذ إن حصلت تحصل لكونها أثر الإنشاء.

الثاني : أن لا يقصد أحدهما بفعله ذلك ، بل مجرّد قصد التمليك وإيجاد المبادلة الفعليّة ، كما لو أوجداها بعد الإيجاب والقبول اللفظيين ، فإنّ التعاطي حينئذ حال عن قصد الإنشاء قطعا.

ومحطّ نظر المتقدّمين ومورد كلماتهم مع العامّة إنّما هو هذا القسم من

__________________

(١) المكاسب : ٣ / ٣٧.

(٢) الفتاوى الهندية : ٣ / ٢ ، ولاحظ! تذكرة الفقهاء : ١ / ٤٦٢.

(٣) نقل عنه في المكاسب : ٣ / ٣١ نقلا عن تذكرة الفقهاء ، ولاحظ! تذكرة الفقهاء : ١ / ٤٦٢.

(٤) المغني : ٣ / ٥٠٢ ط القاهرة.

٨٧

التعاطي ، لا الأوّل ، لأنّ مقصدهم إنّما هو التعرّض لحكم ما هو المتعارف والمتداول بين الناس ، وهو ليس إلّا ذلك قطعا ، كما لا يخفى.

مضافا إلى صراحة كلمات جملة منهم.

منها : قوله في «المبسوط» في المعاطاة (١) : (قال أبو حنيفة : يكون بيعا صحيحا ، وإن لم يحصل الإيجاب والقبول) (٢).

ومنها : قوله في «السرائر» بعد ذكر اعتبار الإيجاب والقبول مفرعا عليه : (فإذا دفع قطعة إلى البقلي أو إلى الشارب فقال : أعطني ، فإنّه لا يكون بيعا ولا عقدا ، لأنّ الإيجاب ما حصلا (٣) ، والإيجاب والقبول أعم من اللفظي والفعلي).

وليس المراد بهما اللفظين بالخصوص ، وإلّا لم يكن وجه لقوله : (فإنّه لا يكون بيعا) ، بل كان ينبغي أن يقول : فيكون بيعا فاسدا ، لفقدان شرط الصحّة ، لا نفي البيعيّة من أصله.

وليس ذلك إلّا من جهة أنّ مرادهم أنّ البيع من مقولة الإنشاء ، وإنشاءه مركّب من الإيجاب والقبول ، فيمتنع تحقّقه بدون الإنشاء في قبال العامّة حيث ذهبوا إلى تحقّقه بالتعاطي بدون الإنشاء (٤).

فالنزاع مع العامّة في تحقّق البيع وعدمه ، لا في أنّ هذا القسم من البيع الفعلي هل يفيد الملك اللازم ، أو الجائز ، أو يفيد الإباحة؟

وإن قصد الملك فإنّه لا وجه لشي‌ء من ذلك ، لأنّه إن كان بيعا فهو إمّا فاسد

__________________

(١) المبسوط : ٢ / ٨٧.

(٢) نقل عنه في الخلاف : ٣ / ٤١ المسألة ٥٩ ، وانظر! المجموع : ٩ / ١٦٢ و ١٦٣ ، فتح العزيز : ٨ / ١٠١.

(٣) السرائر : ٢ / ٢٥٠.

(٤) انظر! الفتاوى الهندية : ٣ / ٢.

٨٨

لا يفيد ملكا ولا إباحة ، وإمّا صحيح يفيد ملكا لازما ، لأنّه ليس لنا بيع جائز من غير جهة الخيار ، بل إطلاق الجواز في البيع وإن جاز الفسخ في غير محلّه.

ومنها : ما في «الغنية» : (واعتبرنا حصول الإيجاب والقبول) ـ إلى أن قال : ـ (وإحرازا عن القول بانعقاده بالمعاطاة نحو أن يدفع إلى البقلي قطعة ، ويقول : أعطني بقلا ، فيعطيه ، فإنّ ذلك ليس ببيع ، وإنّما هو إباحة للتصرّف) (١).

وهذا أيضا صريح فيما ذكرنا ، حيث فرّع على اعتبار الإيجاب والقبول نفي البيعيّة لا الفساد ، وحكم هذا التعاطي عندهم عدم تحقّق البيع به وحصول الإباحة المترتّبة على الملكيّة الجائزة قولا واحدا ، فمرادهم من الإباحة هي الملكيّة الجائزة ، ومن عدم الملكيّة المترتّبة على البيع وهي الملكيّة اللازمة ، كما جزم به المحقق الثاني قدس‌سره (٢).

وأمّا القول باللزوم المنسوب إلى المفيد رحمه‌الله (٣) ؛ فلا دلالة في عبارته المحكيّة عليه ، كما حكى الاعتراف به عن العلّامة في «المختلف» (٤) ، وستعرف به شيخنا رحمه‌الله فيما سيجي‌ء ، فإنّه قال في «المقنعة» ـ على ما حكي ـ : (ينعقد البيع على تراض بين الاثنين فيما يملكان التتابع له إذا عرفاه جميعا وتراضيا بالبيع وتقابضا وافترقا بالأبدان) (٥).

وهذا كما ترى لا تصريح فيه بعدم تحقّق الإنشاء اللفظي ، ولم يصرّح به ،

__________________

(١) غنية النزوع : ٢١٤.

(٢) جامع المقاصد : ٤ / ٥٨.

(٣) نسب إليه في جامع المقاصد : ٤ / ٥٨ ، المقنعة : ٥٩١.

(٤) مختلف الشيعة : ٥ / ٥١ و ٥٢.

(٥) المقنعة : ٥٩١.

٨٩

لمعلوميّة اعتباره ، بل قوله : (ينعقد البيع) معناه : يؤثّر الإيجاب والقبول في الملك اللازم على تقدير وجود هذه الشرائط ، فاعتبر التقابض والافتراق بالأبدان ، لئلّا يبقى معه خيار المجلس حتّى يتحقّق اللزوم.

والقول بالفساد وإن نسب إلى «النهاية» (١) إلّا أنّه نسب إليه أيضا رجوعه عنه في غيرها والقول بإباحة جميع التصرّفات مع عدم الملكيّة أو ما لا يتوقّف على الملك خاصّة (٢).

وقد عرفت أنّه لم يذهب إليه أحد ممّن سلف ، وإنّما نشأ القول به ممّن تأخّر زعما منهم أنّه مراد من تقدّم وما ذهبوا إليه هو الّذي يقتضيه الأصل والقواعد.

أمّا عدم تحقق البيع ؛ فلظهور كون البيع من مقولة الإنشاء ، فلا يتحقّق بدونه ، وإطلاق البيع عليه عند العرف مبنيّ على التسامح باعتبار إفادته فائدة البيع ، ولو في الجملة.

وأمّا إفادته الملك ؛ فإنّما هو لليد ، وتوضيح الكلام في ذلك يتوقّف على تمهيد مقدّمة ، وهي أنّ الملكيّة كالماليّة من الموضوعات الواقعيّة الّتي يرجع إلى العرف في تحقّقها ، وإن كان الشارع أيضا قد يثبتها ، وكذا في أسبابها ما لم يثبت من الشارع منع بالنسبة إلى أحدهما كما يثبت المنع عن حصول الملكيّة بالاستيلاء على الحرّ والمنع عن تأثير المنابذة ، وهي الحصاة في حصول الملكيّة ، وحينئذ ممّا لم يثبت من الشارع منع سببيّة ما هو سبب عند العرف

__________________

(١) نسب إليه في جامع المقاصد : ٤ / ٥٨ ، نهاية الإحكام : ٢ / ٤٤٩.

(٢) مختلف الشيعة : ٥ / ٥١ و ٥٢.

٩٠

للملكيّة ، فلا وجه للتوقّف في تأثيره.

ولا ريب أنّ من الأسباب الملكيّة عند العرف اليد ، ولم يثبت من الشرع تصرّف ومنع بالنسبة إليها ، بل يثبت تأثيرها وثبوت الملكيّة بها في الجملة ، كما في المباحات الأصليّة ، وثبوت التأثير هنا كاف في استكشاف كون اليد في نفسها من الأسباب المقتضية للملكيّة ، لظهور كون المتعلّق من المباحات من قبيل عدم المانع ، وليس هو جزءا من المقتضي حتّى يوجب فقده فقد التأثير.

وحينئذ فكلّما تعلّق اليد بما لم يكن فيه سلطنة مانعة سواء لم يتعلّق به سلطنة أصلا ـ كما في المباحات ـ أو ارتفعت بالنسبة إليه بالخصوص من جهة تسلط المالك إيّاه ، أو بالعموم من جهة إباحته لكلّ من أثبت يده عليه ـ كما في نثار العرس ـ ثبتت الملكيّة.

ثمّ الملكيّة لمّا كانت لها مراتب مختلفة ، وكانت اليد مملّكة فيما لم يكن فيه سلطنة للغير كان التملّك باليد بحسب المرتبة تابعا لتمليك المالك ، لأنّ رفع مراتب السلطنة إنّما هو بيد المالك ، فيحصل له باليد كلّ مرتبة قصده المالك من ملك الرقبة والمنفعة والانتفاع.

ثمّ اليد إن كانت مستقلّة غير تابعة أفادت ملكيّة مستقلّة ، كتملّك المباحات بالحيازة ، ولا ينقطع هذه العلاقة إلّا بالإعراض المبطل لليد الرافع للسلطنة ، لا بمجرّد النيّة أو إنشاء الإعراض ، بأن يقول : أعرضت عن مالي هذا ، أو رفعت عنه سلطنتي ، أو أسقطت حقّي عن مالي.

وذلك ؛ لأنّ إزالة الملكيّة ليس إلّا كإثباتها ، فكما أنّ الملكيّة تحصل باليد كذلك يزول بزوال اليد ، فالإعراض مخرج للملك ، كما أنّ اليد يدخل له.

٩١

ويشهد بذلك مراجعة العرف ، وقد حكم الشارع على طبقه أيضا ، كما في البعير الملتقط في غير كلأ وماء الّتي تركها صاحبها أنّه يملكه الملتقط ، وفيما يخرج بالغوص من المال الّذي غرق في البحر أنّه يملكه المخرج ، وظاهر أنّ ذلك إنّما هو من جهة كون الإعراض مخرجا واليد مملكا.

ولذا لم يخالف أحد في خصوص التملّك باليد فيما يتساقط من الزرع من الحبّات ، وفيما يلتقط في البرّ من القشور وأرواث الدواب ، ولم يحصل وسوسة لأحد في ترتيب آثار الملكيّة على هذه الملتقطات ، ولا ينطبق هذه الأحكام في أمثال هذه الفروع إلّا على كون الإعراض مخرجا عن الملك ، واليد مدخلا له فيه.

ولذا فصّلوا في تراب الصياغة بين علم الصائغ بإعراض صاحبه ، فيجوز حينئذ للصائغ تملّكه ، وعدمه فلا يجوز.

وما ذكرناه واضح على المتتبّع في كلمات الفقهاء ، بل يمكن أن يدّعى أنّ ذلك من الضروريّات عندهم.

ولذا تراهم اتّفقوا على الحكم بالإباحة المراد بها الملك هنا كإباحة المتاجر والمساكن والمناكح في الخمس ، مع اتّفاقهم على التمثيل بدفع القطعة إلى البقلي أو الشارب الّتي لا يتصوّر فيها الانتفاع إلّا بالمبادلة ، ومع ذلك لم يتعرّض أحد منهم لمدرك الحكم بالإباحة ، وليس ذلك ، إلّا لمعلوميّة كون اليد من الأسباب المملّكة بحيث لا يحتاج إلى التعرّض لبيانه.

وإن كانت اليد تابعة كان تملّك الثاني متفرّعا على تملّك الأوّل ، والأوّل بسلطنته على التسليط سلّط الغير على ماله ، ولذا لا تنقطع علقته عن المال بالمرّة سواء حصل تملّك الثاني بالإنشاء أو بنفس اليد ، فيبقى له علقة ضعيفة في الغاية ،

٩٢

كما إذا حصل التملّك بالإنشاء ، والأوّل كالعلقة الباقية بعد البيع بين البائع والمبيع ، وكذا بين المشتري والثمن يكشف عنها رجوع العينين إليهما بعد الفسخ.

وذلك لأنّ الفسخ إنّما يفيد الإبطال ، والإخراج لا الإحداث والإدخال ، لظهور أنّه ليس من الأسباب المحدثة للملك ، بل هو [من] أسباب إبطال السبب المحدث للملك.

ويكشف عمّا ذكرنا ، حكمهم بجواز الإقالة بعد التلف من غير إشكال ، فيرجع كلّ منهما إلى البدل الحقيقي من المثل والقيمة ، ووجه الاستكشاف أنّ حكمهم هذا لا يستقيم إلّا مع عدم انقطاع علقة البائع عن المبيع بعد البيع ، وكذا علقة المشتري عن الثمن بعد الاشتراء.

وذلك ، لأنّه مع الانقطاع لا وجه لاستحقاق القيمة بسبب الإقالة بعد التلف ، بل مقتضى القاعدة عدم مشروعيّة الإقالة إلّا مع وجود العينين لا مع تلفهما أو تلف أحدهما.

وذلك ؛ لأنّ الإقالة عندنا فكّ عقد بعقد ، وليس [من] البيع في شي‌ء كما يقوله العامّة (١) ، وإذا كان فكّا ، فهو فكّ من حين البيع ، وحينئذ فيكون المبيع قبل الإقالة باقيا في ملك المشتري ، والثمن باقيا في ملك البائع ، فيكون تصرّفهما تصرّفا في ملكهما ، فالإتلاف الحاصل قبل الإقالة يكون إتلافا لمال نفسهما ، لا مال غيرهما.

وظاهر أنّه يمتنع أن يكون إتلاف الشخص لمال نفسه موجبا لضمانه لغيره ، فالإقالة لا تصلح أن تكون سببا لكون الإتلاف السابق موجبا للرجوع إلى

__________________

(١) انظر! جواهر الكلام : ٢٤ / ٣٥٢.

٩٣

المثل أو القيمة قطعا ، وإيجابه الرجوع إليهما بعد الإقالة ، لقيام كلّ منهما مقام العينين حين الإقالة فهو متوقّف على سبق تعلّق حقّ بالعينين ، لظهور أنّ الرجوع إلى المثل أو القيمة إنّما هو من جهة البدليّة ، فينتقل الحقّ من المبدل بعد تعذّره إلى البدل.

وتعلّق الحقّ بالعينين من جهة الإقالة متوقّف على تحقّق الإقالة ، وتحقّقها متوقّف على بقاء متعلّقها ، ومتعلّقها إنّما هو الربط الواقع بين خصوص العينين لا بين ماليّتهما ، وظاهر أنّه لا بقاء للربط بعد انعدام المرتبطين ، فمقتضى القاعدة حينئذ عدم جواز الإقالة بعد تلف أحد العينين.

وأمّا على ما ذكرنا من بقاء علقة المالك بعد البيع فيصحّ الإقالة من غير إشكال ، وذلك لأنّ بقاء العلقة لكلّ من البائع والمشتري في العينين يوجب بقاءهما ، وإن كانتا تالفتين ، لظهور أنّ العين المتعلّق بها حقّ الغير لا تنعدم بالتلف ، فبقي المثل في الذمّة ، وإن كانت العين قيميّا ، ولا ينتقل إلى القيمة قبل الإقالة ، لبقاء الضمان بالمسمّى الحاصل بالعقد قبلها.

والّتي تنعدم بالتلف إنّما هي العين الّتي لا تعلّق للغير بها ، فكلّ من المبيع والثمن مضمون للبائع والمشتري ، ولو بعد البيع ، لكن بالبدل المعيّن ، وإنّما حصل التعيين بسبب عقد البيع.

ولذا قالوا : إنّ المبيع مضمون بالمسمّى ، وأنّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده (١) ، وحينئذ فإذا تحقّق الإقالة وبطل الربط الحاصل بين المالين انتقل الضمان المتحقّق بالقبض بعد البيع الباقي بعد التلف إلى البدل الحقيقي ، فيرجع

__________________

(١) انظر! المكاسب : ٣ / ١٨٠ ـ ١٨٢.

٩٤

إلى المثل أو القيمة حين الإقالة ، لأنّه وقت الانتقال إلى القيمة ، لبطلان الضمان بالمسمّى حال الإقالة لا القيمة وقت التلف ، أو وقت القبض ، أو أعلى القيم من وقت القبض إلى زمان التلف ، أو الإقالة.

ولا بأس بذكر ما ذكره شيخ مشايخنا رحمه‌الله في جواهره في هذا المقام : (قال المحقّق قدس‌سره في «الشرائع» : إذا تقايلا رجع كلّ عوض إلى مالكه ، وحينئذ فإن كان موجودا أخذه ، وإن كان مفقودا ضمن بمثله إن كان مثليّا وإلّا بقيمته ، قال في قيمته يوم التلف ، كما صرّح به جماعة كنظائره ، لأنّ الضمان متعلّق بالعين ما دامت ، فإذا تلفت تعلّق بقيمتها يومئذ.

وليس المراد من الضمان اشتغال ذمّة المالك بقيمة ماله ، بل المراد قيام القيمة يوم التلف مقام العين في صحّة تعلّق الإقالة لمعلوميّة بدليّة المثل أو القيمة عن العين في كلّ ما يتعلّق بها ، وربّما احتمل القيمة يوم القبض لأنّه ابتداء الضمان ، وضعفه واضح كوضوح ضعف احتمال الأعلى من يوم القبض إلى يوم التلف أو الإقالة.

نعم ؛ قد يقال بضمان القيمة يوم الإقالة ، لأنّه يوم التعلّق.

وفيه ؛ أنّ الإقالة لا يشتغل ذمّة ، بل ليست إلّا فسخا للعقد ، فلا بدّ من قيام بدل العين قبلها.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ القيمة يوم التلف قامت مقام العين ، فمع فرض تغيّرها إلى يوم الإقالة تقوم كلّ قيمة مقام الاخرى إلى قيمة يوم الإقالة ، إذ ليس قيام القيمة يوم التلف مقام العين بأدنى من قيام كلّ من أفراد القيمة عن الآخر ، بل هو أولى ، بل الظاهر أنّ الّذي قام مقام العين كلّي القيمة ، وإن قارنت تلك الخصوصيّة

٩٥

في يوم التلف ، ولا يشتغل ذمّة بها حتّى يشخص ، فيبقى كلّ فرد من أفرادها قائما مقام الآخر إلى يوم الإقالة ، فيتعيّن ذلك الفرد ، لأنّه هو الّذي قارن الاستحقاق) (١) ، انتهى.

ولا يخفى عليك أنّ ما ذكره رحمه‌الله مبنيّ على جعل الإقالة بين القيمتين ، لقيامهما مقام العينين ، كما يكشف عنه قوله : (لمعلوميّة بدليّة المثل أو القيمة عن العين في كلّ ما يتعلّق بها) أي : كما أنّ الإقالة تتعلّق بالعينين كذلك تتعلّق بالقيمتين ، لقيامهما مقام العينين.

وكذا قوله : (فلا بدّ من بدل العين قبلها).

وفيه ؛ أنّ قيام القيمة مقام العين إنّما هو إذا كان للعين مقام ، ولا مقام للعين إذا كانت تالفة في ملك المالك بيد المالك من غير تعلّق حقّ للغير به ، وإلّا لكان من أتلف شيئا من ماله مالكا لقيمته ، فيلزم أن يكون غير المالك بالفعل مالكا لجميع ما أتلفه ، وفساده ظاهر ، فالإشكال إنّما هو في أصل قيام القيمة مقام العين في المقام.

وقد ظهر أنّه لا يدفع لهذا الإشكال إلّا الالتزام ببقاء العلقة من البائع والمشتري في العوضين ، كما يقتضيه حكمهم بالضمان بالمسمّى ، ولا وجه للانتقال إلى القيمة ما دام الضمان بالمسمّى باقيا ، وإنّما يتحقّق سبب الانتقال عند الإقالة من جهة إبطالها الضمان بالمسمّى ، لا من جهة كون الإقالة بنفسها مشغلة للذمّة ، كما لا يخفى.

ويكشف عمّا ذكرنا أيضا حكمهم بجواز الأخذ بالشفعة للشفيع ولو بعد

__________________

(١) جواهر الكلام : ٢٤ / ٣٥٧ ـ ٣٥٨.

٩٦

وقف المشتري وبطلان الوقف بسبب أخذ الشفيع وحكمهم ببطلان العتق بعد الفسخ من ذي الخيار على بعض الوجوه ، وظاهر أنّه لو لا بقاء العلقة للبائع وعدم بطلان العلاقة السابقة رأسا لم يكن وجه لعود الحرّ رقّا ، والثاني كالعلاقة الباقية بين المالك الأوّل والعين في العقود الجائزة المملكة ، فإنّ القدرة على الإبطال واسترجاع العين فيها إنّما هو من جهة ضعف في الملكيّة الحاصلة بها ، وقوّة علاقة المالك الأوّل في العين بها يتمكّن من استرجاعها من دون حاجة إلى جعل حق من الشارع أو المالك ، كما في العقود اللازمة ، فإنّها لما أفادت ملكيّة قوية من جهة المعاوضة ، كانت مقتضية للزوم وتوقّف التمكّن على الفسخ على جعل حق من الشارع أو المالك.

ومن هنا قالوا إنّ الجواز في العقود الجائزة من آثار نفس الملكيّة السابقة فيكون حكما من أحكام العقد بخلاف الخيار في العقود اللازمة فإنّه سلطنة طارئة يثبت للمالك الأوّل بعد كون العقد مقتضيا بقطع سلطنته عنه بالمرّة.

ثمّ من خصائص الحقّ سقوطه بالإسقاط ، كما أنّ من خصائص الحكم عدم سقوطه بالإسقاط وسلطنة الواهب على إرجاع المال إلى نفسه حكم من أحكام ملكه ، فلا يسقط بإسقاطه.

ولنا أيضا سلطنة اخرى على العين قبل وجودها يسمّى عندهم بملك أن يملك ، وهذه السلطنة سلطنة ، فعليه تكون جائزة مرّة ولازمة اخرى ، فكليّة جائزة يمكن إزالتها قبل موت الموصى بالردّ فلا يملك القبول حينئذ بعد موته.

والثاني كسلطنة مالك العين للنماء المتجدّد في ملكه ، وهذه السلطنة اللازمة يمكن نقلها إلى الغير ، كما في بيع الثمرة قبل وجودها حيث يصح ، وكما يصحّ نقل السلطنة المتقدّمة على ملك الرقبة كذلك يصحّ نقل السلطنة المترتّبة

٩٧

على ملك الرقبة من دون ملك الرقبة ، وذلك كما في الوصاية ، فإنّ الوصي يتسلّط على التصرّف في الثلث بتسليط الموصي من دون أن يكون ملكا له.

ومن هذا القبيل استيلاء المرتهن على بيع العين المرهونة بالشرط المعبّر عنه بالوكالة اللازمة ، فإنّ المراد بهذا الاستيلاء جعل السلطنة للبيع الثابتة للمالك بمقتضى مالكيّته للعين المرهونة للمرتهن ، فيكون المرتهن حينئذ مستحقّا للبيع ومسلّطا عليه ، لا كونه وكيلا عنه ، لظهور عدم إمكان جعل الوكالة الّتي هما من العقود الإذنيّة لازمة.

وحيث قد عرفت ما مهّدناه لك من المقدّمة ظهر لك أنّ كون اليد من الأسباب المملّكة ممّا لا يعتريه شبهة ، كما أنّ في كون المرجع في تأثيرها من حيث أقسام الملك هو قصد الملك أيضا ممّا لا يعتريه شبهة ؛ وحينئذ ففي اليد التابعة إن قصد المملّك تسليطه التملّك على وجه المجانية أفادت اليد ذلك ، كما في الصدقات والهدايا والهبات.

وإن قصد منه التملّك على وجه الضمان المنصرف إلى البدل الحقيقي أفادت اليد أيضا ذلك ، كما في القرض ، وإن قصد منه التملّك على وجه الضمان بالمسمّى لم يفد اليد بمجرّدها ذلك ، لأنّ الضمان بالمسمّى إنّما هو من آثار الإنشاء ولا تصلح اليد ولا قصد التملّك لذلك.

بل يحصل التملّك بالضمان المطلق إلى أن يحصل التسليط من الآخر وإثبات اليد من الأوّل ، فيكون الضمان بالمسمّى مراعى بحصول التملّك من الآخر ، فتبرّع البدليّة حينئذ من اليدين مع قصد كلّ منهما الضمان بالمعيّن ، ويكون اليد هنا بمنزلة الإنشاء في البيع ، فكما أنّ المبادلة تتحقّق هناك بالتسمية

٩٨

من الطرفين كذلك هنا تتحقّق باليد من بعد التسليطين على الوجه الّذي عرفت.

وكما لا تتحقّق هناك المبادلة بإنشاء واحد ، كذلك لا تتحقّق هنا بيد واحدة ، فلو تحقّق العطاء من طرف واحد دون الآخر كان تملّكه مراعى بإعطاء الآخر للبدل المعيّن ، فلو لم يتحقّق عطاء ذلك البدل المعيّن من الآخر ، لم يكن للأوّل المطالبة بخصوص ذلك البدل المعيّن.

بل له المطالبة بعين ماله إن كانت باقية ، وإلّا فبمثله إن كانت مثليّة وبقيمته يوم التلف إن كانت قيميّة ، وذلك لظهور أنّ اليد لا توجب الضمان إلّا بالبدل الحقيقي ، ولم يتحقّق هنا ما أوجب الضمان بالمسمّى من اليد أو الإنشاء.

نعم ؛ تصرّف الأوّل مع عدم قصده لدفع البدل المعيّن يكون حراما ، وهذا لا يوجب تغيير حكم الضمان.

ونظير المقام في حصول البدليّة باليد ؛ بدل الحيلولة في الغصب ، فإنّ البدليّة فيه أيضا تحصل باليد ، ولذا لا يجوز للغاصب استبدال ما دفعه إلى المغصوب منه بدلا عن العين المغصوبة ، فتلزم البدليّة إلى أن يتمكّن من دفع نفس العين.

هذا تمام الكلام في بيان إفادة التعاطي للملكيّة ، وأمّا كونها على سبيل الجواز ؛ فلما عرفت من بقاء علقة ضعيفة للمالك الأوّل بملكيّته السابقة بها يتمكّن من إرجاع إلى نفسه ولم يتحقّق هنا ما يوجب اللزوم ، كما تحقّق في الصدقة ، حيث ورد فيها أنّ الرجوع إليها كالرجوع إلى القي‌ء (١) ، وكما في الوفاء عن الدين ، فإنّه ليس للمديون استبدال ما دفعه لحصول البراءة بقبض الدائن

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٩ / ٢٠٤ الحديث ٢٤٤٣٠ و ٢٠٥ الحديث ٢٤٤٣٢ و ٢٤٤٣٣.

٩٩

وانقطاع علقته عن المال بالمرّة ، بخلاف المقام الّذي لم يتحقّق فيه شي‌ء من ذلك.

ولو فرض الشكّ في ذلك فالمرجع استصحاب بقاء العلقة السابقة لا الملكيّة المتحقّقة ، كما سيجي‌ء تحقيقه عند تعرّض المصنّف له ، إن شاء الله.

قوله : (وكيف كان ؛ ففي الآيتين (١) مع السيرة كفاية) (٢).

قد عرفت ممّا تقدّم أنّ مفروض كلام القوم القائلين بالإباحة مع نفي البيعيّة غير مفروض كلامه رحمه‌الله ، وخفي مرادهم من زمان الشهيد الثاني رحمه‌الله إلى زماننا هذا ، وفي مفروض كلامهم لا وجه للتمسّك بالآية (٣) وعمومات البيع (٤) ، وفي مفروض كلامه لا يتّجه إلّا القول باللزوم أو الفساد دون الملكيّة الجائزة فضلا عن الإباحة المجرّدة.

وحينئذ فعن قوله : (إلّا أن يقال : إنّهما لا تدلّان على الملك) .. إلى آخره (٥).

غنى وكفاية ، ولا حاجة إلى هذه التكلّفات الّتي يكفي لفسادها مجرّد تصوّرها من غير حاجة إلى بيان ، فإنّه لو بنى على هذه التدقيقات لانسدّ باب الإفادة والاستفادة من العبارات.

__________________

(١) لاحظ! الرقم ٣ من هذه الصفحة.

(٢) المكاسب : ٣ / ٤٢.

(٣) البقرة (٢) : ٢٧٥ ، النساء (٤) : ٢٩.

(٤) البقرة (٢) : ٢٧٥.

(٥) المكاسب : ٣ / ٤٢.

١٠٠