حاشية المكاسب

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي

حاشية المكاسب

المؤلف:

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي


المحقق: مؤسسة آية الله العظمى البروجردي
الموضوع : الفقه
الناشر: الغفور ـ قم
المطبعة: قرآن كريم ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-92663-2-1
الصفحات: ٦٤٠

وهذا هو المراد في «النهاية» من أنّ «اشتريت» ليس قبولا حقيقة (١) أي ليس المنشأ به نفس القبول ، وإنّما هو بدل ، أي المنشأ فعل هو منسوب إلى القابل واقعا ، فلذا صار الأصل في القبول «قبلت» الّذي لا يمكن الابتداء به ، دون «اشتريت» ونحوه ممّا يجوز الابتداء به.

فقوله : إنّما هو من جهة عدم كون المنشأ نفس القبول ، لا من جهة أنّ مفاده كمفاد بعت ، وأنّه ليس فيه من حيث هو معنى القبول ، لكن لمّا كان الغالب وقوعه عقيب الإيجاب وإنشاء انتقال مال البائع إلى نفسه إذا وقع عقيب نقله له إليه يوجب تحقّق المطاوعة ومفهوم القبول أطلق عليه القبول ، كما ذكره شيخنا رحمه‌الله (٢).

وذلك لأنّ المنشأ في ألفاظ الإيجاب هو الإدخال ، والدخول مفهوم من ذكر العوض ، ولا يتفاوت في كونه قبولا بين التقدّم والتأخّر.

وبذلك ظهر لك النظر في كثير ممّا ذكره شيخنا رحمه‌الله في هذا المقام ، ولا يحتاج إلى ذكره كلّ فقرة منها بالخصوص.

التنجيز في العقد

قوله : (ومن جملة الشرائط الّتي ذكرها جماعة التنجيز في العقد) (٣).

لا يخفى أنّ ما تقدّم من الشرائط من اعتبار اللفظ والعربيّة والماضويّة والترتيب والموالاة إنّما هو شرائط لما يتحقّق به إنشاء البيع.

__________________

(١) نهاية الإحكام : ٢ / ٤٤٨ ، ونقل عنه في مفتاح الكرامة : ٤ / ١٥٣.

(٢) المكاسب : ٣ / ١٥٠.

(٣) المكاسب : ٣ / ١٦٢.

١٨١

وأمّا التنجيز ؛ فإنّما هو شرط لأصل إنشائه ، أي لا بدّ أن يكون إنشاء البيع على نحو التنجيز لا التعليق ، فالتعليق والتنجيز كيفيّتان لأصل الإنشاء لا خصوصيّا فيما يتحقّق به الإنشاء.

وهذا هو السرّ في خلوّ جملة من العبائر عن ذكره في هذا المقام ، أعني مقام بيان شرائط ألفاظ الإيجاب والقبول وكيفيّتها ، لا أنّه ليس معتبرا عندهم في البيع.

وسيتّضح أنّ هذا الشرط ممّا اتّفقت عليه كلمتهم في جميع أبواب العقود والإيقاعات عدا ما استثني من التعليقات الخاصّة في بعض العقود ، كالوصيّة والتدبير والكتابة.

ولا بأس بنقل بعض العبائر كي يتّضح لك أنّ هذا الحكم ممّا لا يمكن إنكاره مع عدم استثناء أحد منهم في ذلك رواية ، فلا بدّ من معرفة وجه اتّفاقهم على ذلك ، وسيتبيّن لك وجهه.

فنقول : فعن نكاح «التذكرة» : (عقد النكاح لا يقبل التعليق ، بل شرطه الجزم فلو علّقه على وقت أو وصف مثل : إذا جاء رأس الشهر ، أو إن قدم زيد فقد زوّجتك ابنتي ، فقال الزوج : قبلت النكاح لم ينعقد ، وبه قال الشافعي) ـ إلى أن قال ـ : (ولو اخبر بمولود فقال لغيره : إن كان بنتا فقد زوّجتكها ، أو قال : إن كان بنتا ـ وطلّقها زوجها ، أو مات عنها ، أو انقضت عدّتها ـ فقد زوّجتكها ، ... أو قال : إن مات أبي وورثت جاريته فقد زوّجتكها ، وبان أنّ الأمر كما قدّم ، لم ينعقد شي‌ء من هذه الصور عندنا.

وللشافعيّة وجهان مبنيّان على أنّه إذا زوّج أمة أبيه أو باعها على ظنّ أنّه

١٨٢

حيّ فبان أنّه ميّت (١) وقت العقد هل يصحّ فيه العقد فيه قولان للشافعيّة ، فإن قلنا : لا يصحّ العقد هناك مع أنّه أطلق ؛ فهنا مع التعليق أولى ، وإن قلنا : يصحّ عند الإطلاق ففي هذه الصورة وجهان :

أحدهما : أنّ النكاح صحيح ، لأنّ الصحيح إن خرج على تقدير هذا التعليق ، فإذا صرّح به فقد صرّح بمقتضى العقد ، وبه قال أبو حنيفة ، وأصحّهما عند الشافعيّة أنّه لا يصحّ ـ كما قلنا ـ لفساد الصيغة.

ولو بشّر ببنت ، فقال : إن صدق الخبر فقد زوّجتكها ، فقال بعض الشافعيّة : يصحّ ولا يكون ذلك تعليقا ، بل هو تحقيق ، كما لو قال : إن كنت زوجتي فأنت طالق يكون بتنجّز الطلاق (٢) ، ويكون «إنّ» بمعنى «إذا» ، كما في قوله تعالى : (وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٣).

وكذا لو اخبر من له أربع نسوة بموت إحداهنّ ، فقال لرجل : إن صدق الخبر ، فقد نكحت ابنتك ، فقال ذلك الرجل : زوّجتكها ، يصحّ ، وهذا إنّما يصحّ إذا تيقّن صدق المخبر في ما فرض ، وإلّا فكلمة «إنّ» من المتردّد فيما دخلت عليه تعليق واشتراط ، وهذا حقّ عندنا أيضا) (٤) ، انتهى.

سيجي‌ء أنّ التعليق على ما علّق العقد أو على تحقّق الموضوع ممّا لا وجه لقدحه ولا لاعتبار الجزم من جهتهما ، فإنّ الأوصاف المنوّعة والمشخّصة مع توقّف ارتفاع الغرر على العلم بها لا يوجب الاعتقاد بانطباقها على المورد ،

__________________

(١) في المصدر : كان ميتا.

(٢) في المصدر : يكون تنجيزا للطلاق.

(٣) آل عمران (٣) : ١٧٥.

(٤) تذكرة الفقهاء : ٢ / ٥٨٣ ـ ٥٨٤.

١٨٣

فتصحّ المعاملة بمجرّد الاعتبار مع جهل كلّ من المتعاقدين بالحال.

فقوله رحمه‌الله : (لم ينعقد شي‌ء من هذه الصور عندنا) الظاهر في دعوى إجماع الإماميّة عليه ، لا بدّ من توجيهه ، فإنّه ـ أعلى الله مقامه ـ معترف بصحّة التعليق في نظائر المقام وعدم اعتبار الجزم من جهتها ، فهل يمكن أن يتوهّم اعتبار الجزم بلحوق القبول في صحّة الإيجاب ، أو الإجازة في صحّة إنشاء عقد الفضولي؟

وعن كتاب البيع من «النهاية» : (ولا بدّ وأن يقع الإيجاب والقبول منجّزا ، فلو علّقه على شرط لم يقع ، كما لو قال : إن دخلت ، لأصالة بقاء الملك.

ولو علّقه على مشيّة المشتري ، بأن قال : بعت هذا بألف إن شئت ، فقال : اشتريت ، لم يقع أيضا ، لما فيه من التعليق ، كما لو قال : إن دخلت الدار.

ويحتمل هنا الصحّة ، لأنّ هذه صفة يقتضيها إطلاق العقد ، فإنّه لو لم يشأ لم يشتر ، والحقّ الأوّل ، فإنّه حال الإيجاب غير عالم بحاله ، فلم يوقع الإيجاب منجّزا) (١) ، انتهى.

وعن كتاب البيع من «التذكرة» بعد ذكره اعتبار الجزم : (فلو علّق العقد على شرط لم يصحّ ، وإن كان الشرط المشيّة ، للجهل بثبوتها حال العقد وبقائها مدّته ، وهو أحد قولي الشافعيّة ، وأظهر الوجهين لهم الصحّة ، لأنّ هذه صفة يقتضيها إطلاق العقد ، لأنّه لو لم يشأ لم يشتر) (٢) ، انتهى.

وعن كتاب الضمان منها قال : (يشترط فيه التنجيز ، فلو علّقه بمجي‌ء الشهر ، أو قدوم زيد لم يصح) ـ إلى أن قال ـ : (ولو قال : إن لم يؤدّ إليك غدا فأنا

__________________

(١) نهاية الإحكام : ٢ / ٤٥١.

(٢) تذكرة الفقهاء : ١ / ٤٦٢.

١٨٤

ضامن ، لم يصحّ عندنا ، وبه قال الشافعي ، لأنّه عقد من العقود ، فلا يقبل التعليق ، كالبيع ونحوه.

وقال أبو حنيفة : لو قال رجل لآخر : إن لم يعطك فلان مالك فهو علي ، فتقاضاه صاحب المال ، فلم يعط المديون شيئا ساعة تقاضاه ، لزم الكفيل استحسانا ، وكما أنّ عقد الضمان لا يقبل التوقيت ، فلو قال : أنا ضامن إلى شهر فإذا مضى ولم اغرم فأنا بري‌ء.

قال ابن شريح : إذا جاز على القديم للشافعي ضمان المجهول أو ما لم يجب صحّ التعليق ، لأنّ من ضرورة الضمان قبل الوجوب تعليق مقصوده بالوجوب ، وبه قال أبو حنيفة.

وقال الجويني : وفي تعليق الإبراء القولان بالطريق الأولى ، فإنّ الإبراء إسقاط ، قال : وكان لا يمنع من جهة القياس المسامحة به في الجديد أيضا ، لأنّ سبب امتناع التعليق في الصور المشتملة على الإيجاب والقبول خروج الخطاب والجواب بسببه عن النظم اللائق بهما ، فإذا لم يشترط القبول فيه كان بمثابة الطلاق والعتاق ، وكلّ هذا عندنا باطل ، فإنّ التعليق في الضمان والإبراء مبطل لهما عملا بالاستصحاب) (١).

وعن كتاب الوكالة منها : (لا يصحّ عقد الوكالة معلّقة بشرط أو وصف) ، قال : (فإن علّقت عليهما ، مثل أن يقول : إن قدم زيد ، أو إذا جاء رأس الشهر فقد وكّلتك ، عند علمائنا ، وهو أظهر مذهبي الشافعيّة ، لأنّه عقد يملك به التصرّف حال الحياة لم يبن على التغليب والسراية ، فلم يجز تعليقه بشرط كالبيع ، ولأنّ

__________________

(١) تذكرة الفقهاء : ٢ / ٨٥ ـ ٨٦.

١٨٥

الشركة والمضاربة وسائر العقود لا يقبل التعليق ، فكذا الوكالة.

وقال بعض الشافعيّة وأبو حنيفة وأحمد : يصحّ تعليقها على الشرط ، لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في جيش مؤتة : أميركم جعفر ، فإن قتل فزيد بن حارثة ، فإن قتل فعبد الله بن رواحة ، والتأمير في معنى التوكيل.

ولأنّه لو قال : أنت وكيلي في بيع عبدي إذا قدم الحاج ، أو وكّلتك في شراء كذا في وقت كذا ، صحّ إجماعا ، ومحلّ النزاع في معناه.

والفرق ظاهر بين تنجيز العقد وتعليق التصرّف مثل أن يقول : وكّلتك في بيع العبد ولا تبعه إلّا بعد شهر ، فهذا صحيح ، وليس للوكيل أن يخالف.

واعلم! أنّ بعض الشافعيّة خرج الخلاف بينهم في وجوب التنجيز وصحّة التعليق على أنّ الوكالة هل تفتقر إلى القبول؟ إن قلنا : لا تفتقر جاز التعليق ، وإلّا لم يجز ، لأنّ فرض القبول في الحال والوكالة لم تثبت بعد ، وتأخّرها إلى أن يجعل الشرط مع الفصل الطويل خارج عن قاعدة التخاطب).

ثمّ قال : (وقد بيّنا بطلان الوكالة المعلّقة على الشرط ، وهو أظهر قولي الشافعيّة ، فلو تصرّف الوكيل بعد حصول الشرط فالأقرب صحّة التصرّف ، لأنّ الإذن حاصل لم يزل بفساد العقد وصار كما لو شرط في الوكالة عوضا مجهولا ، فقال : بع بكذا على أنّ لك العشر من ثمنه ، تفسد الوكالة ، ولكن إن باع يصحّ ، وهو أحد وجهي الشافعيّة ، والثاني لا يصحّ ، لفساد العقد ، ولا اعتبار بالإذن الضمني في عقد فاسد.

ألا ترى أنّه لو باع بيعا فاسدا وسلّم إليه المبيع لا يجوز للمشتري التصرّف فيه وإن تضمّن البيع والتسليم الإذن في التصرّف والتسلّط عليه وليس بجيّد ، لأنّ

١٨٦

الإذن في تصرّف المشتري باعتبار انتقال الثمن إليه والملك إلى المشتري ، وشي‌ء منهما ليس بحاصل ، وإنّما أذن له في التصرّف لنفسه ليسلم له الثمن ، وهذا إنّما أذن له في التصرّف عن الآذن لا لنفسه.

قال بعض الشافعيّة : أصل المسألة ما إذا كان عنده رهن بدين مؤجّل فأذن المرتهن في بيعه على أن يعجل حقّه من الثمن ، وفيه خلاف سبق.

وهذا البناء يقتضي ترجيح الوجه الثاني ، لأنّ ظاهر المذهب للشافعيّة هناك فساد الإذن والتصرّف ، فإن قلنا بالصحّة ـ وهو الّذي اخترناه نحن ـ فتأثير بطلان الوكالة أنّه يسقط الجعل المسمّى إن كان قد سمّي له جعلا ويرجع إلى اجرة المثل.

وهذا كما أنّ الشرط الفاسد في النكاح يفسد الصداق ويوجب مهر المثل وإن لم يؤثر في النكاح) (١) انتهى.

وعن كتاب القراض منها : (يجب التنجيز في العقد ، فلا يجوز تعليقه على شرط أو صفة ، مثل : إذا دخلت الدار ، أو إذا جاء رأس الشهر فقد قارضتك بكذا ، كما لا يجوز تعليق البيع ونحوه ، لأنّ الأصل عصمة مال الغير) (٢) انتهى.

وعن «التحرير» : (لو حلف بالطلاق لم يقع ، وكذا لو علّقه بشرط سواء كان معلوما أو مجهولا ، وكذا لو علّقه بمشيّة الله تعالى سواء قال : أنت طالق إن شاء الله ، أو إلّا أن يشاء الله ، أو متى شاء الله ، أو إذا شاء الله ، أو ما شاء الله ، وكذا إن شاء زيد ، أو إن يشاء ، أو إلّا أن يشاء ، سواء قال زيد : شئت أو لا أو إن طلعت

__________________

(١) تذكرة الفقهاء : ٢ / ١١٤.

(٢) تذكرة الفقهاء : ٢ / ٢٢٩.

١٨٧

الشمس ، أو عند طلوعها ، أو عند هلال شوّال ، أو إن كان الطلاق يقع بك ، سواء علم بإمكان وقوع الطلاق بها أو لا.

ولو قال : أنت طالق في مكّة ـ أو بمكّة ـ وقع ، لأنّ وقوعه يستلزم تحقّقه في كلّ مكان ، ولو قال : أردت إذا كنت بمكّة وقع الشرط) (١).

وعن ظهاره : (وهل يشترط تجريدها من الشرط؟ قال السيّد المرتضى رحمه‌الله : نعم ، واختاره ابن إدريس رحمه‌الله (٢) ، قال الشيخ : لا يشترط ، فلو قال : أنت عليّ كظهر أمّي إن دخلت الدار ، أو وطئتك وقع الظهار ، مع حصول الشرط (٣) ، وبه روايات كثيرة صحيحة (٤).

فلو ظاهر إحدى زوجتيه ، إن ظاهر ضرّتها ثمّ ظاهر الضّرة وقع الظهار ، ولو ظاهر زوجته إن ظاهر فلان الأجنبيّة وأطلق أو نوى الظهار شرعيّا ، فإذا ظاهرها وهي أجنبيّة لم يقع الظهاران فإن تزوّجها ، وظاهر منها صحّ ، وهل يقع ظهاره المشروط؟ فيه إشكال ينشأ من جعل الشرط منوطا بالاسم ، فيقع ، وبالوصف فيبطل.

وقوّى الشيخ ؛ الثاني (٥) ، وإن قصدا النطق بلفظ الظهار وقع الظهار المشروط عند مواجهة الأجنبيّة ، ولو قال : إن تظاهرت من فلانة الأجنبيّة فامرأتي عليّ كظهر أمّي ، وكانت أجنبيّة وقصد الشرعي لم يقع ظهاره منها وهي

__________________

(١) تحرير الأحكام : ٢ / ٥٤.

(٢) الانتصار : ١٤١ المسألة ٣ ، السرائر : ٢ / ٧٠٩ ، ونقل عنهما في مختلف الشيعة : ٧ / ٤١٥ و ٤١٦.

(٣) المبسوط : ٥ / ١٥٢ ، الخلاف : ٤ / ٥٣٥ و ٥٣٦ المسألة ٢٠.

(٤) وسائل الشيعة : ٢٢ / ٣٣٢ ـ ٣٣٦ الباب ١٦ من كتاب الظهار.

(٥) المبسوط : ٥ / ١٥٣ و ١٥٤.

١٨٨

أجنبيّة ، وإن قصد النطق بظهاره منها وقع عند مواجهتها وإن تزوّجها وظاهرها وقع الظهاران إن قصد الشرعي ولو قال إن شاء الله لم يقع.

ولو قال : إن لم أتزوّج عليك فأنت عليّ كظهر أمّي ، لم يتحقّق الظهار إلّا عند الموت ولا كفّارة في التركة) (١) انتهى.

وعن كتاب الإيلاء منه : (وهل يشترط تجريده عن الشرط الأقرب ذلك) (٢).

وعن كتاب الوقف من «التذكرة» : (يشترط في الوقف التنجيز ، فلو علّقه على شرط أو صفة لم يصحّ ، مثل أن يقول : إذا جاء زيد فقد وقفت داري ، أو قال : إذا جاء رأس الشهر وقفت عبدي ، كما لا يصحّ تعليق البيع والهبة) (٣) انتهى.

وعن «جامع المقاصد» : يشترط في الوقف امور : أحدها : تنجيزه ، فلو علّق على شرط أو صفة مثل أن يقول : إذا جاء زيد فقد وقفت داري ، وإذا جاء رأس الشهر وقفت عبدي لم يصحّ ، لعدم الجزم ، كما لا يصحّ تعليق البيع والهبة).

ثمّ قال : (واستثنى في «الدروس» : ما إذا كان المعلّق عليه واقعا والواقف عالم بوقوعه ، كقوله : وقفت إن كان اليوم جمعة) (٤) انتهى.

وعن «المسالك» بعد قول المحقّق رحمه‌الله : (ولو قال : وقفت إذا جاء رأس الشهر ، أو إن قدم زيد ، لم يصحّ ، قال رحمه‌الله : نبّه بالمثالين على أنّه لا فرق بين تعليقه بوصف لا بدّ من وقوعه كمجي‌ء رأس الشهر ، وهو الّذي يطلق عليه الصفة ، وبين تعليقه بما يحتمل الوقوع وعدمه ، كقدوم زيد ، وهو المعبّر عنه بالشرط ،

__________________

(١) تحرير الأحكام : ٢ / ٦١.

(٢) تحرير الأحكام : ٢ / ٦٣.

(٣) تذكرة الفقهاء : ٢ / ٤٣٣.

(٤) جامع المقاصد : ٩ / ١٤ و ١٥.

١٨٩

واشتراط تنجيزه مطلقا موضع وفاق ، كالبيع وغيره من العقود ، وليس عليه دليل بخصوصه) (١) انتهى.

هذه جملة من العبائر ؛ يظهر منها الاتّفاق على الحكم في الجملة من غير فرق بين العقود والإيقاعات ، ولا بين اللازم من العقود وجائزها ، وقد عرفت من كلماتهم أنّهم لم يتعرّضوا لوجه الحكم ، بل أخذوا في التفريع بعد إرسالهم الحكم إرسال المسلّمات.

وقد رأيت التصريح من «المسالك» بعدم الدليل عليه بخصوصه ، ولذا صرّح شيخنا رحمه‌الله فيما يأتي من كلامه ؛ أنّ العمدة في المسألة هو الإجماع (٢).

قوله : (صرّح به العلّامة في «التذكرة» (٣)) .. إلى آخره (٤).

أقول : لا يخفى عليك أنّ العلّامة لم يصرّح بعبارته المنقولة عنه بوجه الاشتراط ، وإنّما صرّح بأصل الاعتبار ؛ اعتبار الجزم ، ليفرّع عليه البطلان بالتعليق ، وليس المراد أنّ الجزم من لوازم الإنشاء والتعليق ينافيه العلّة حينئذ عدم قابليّة الإنشاء للتعليق ، كما قد توهّم ، وسيجي‌ء منه رحمه‌الله نقله عن بعضهم.

بل لم يصرّح إلّا باعتبار شرط ، وهو الجزم ، وأرسل ذلك إرسال المسلّمات ولم يتعرّض لوجه الاشتراط.

نعم ؛ جعل وجه الاعتبار في «القواعد» توقّف الرضا عليه تخيّلا منه مراد

__________________

(١) مسالك الإفهام : ٥ / ٣٥٧.

(٢) المكاسب : ٣ / ١٧٠.

(٣) تذكرة الفقهاء : ١ / ٤٦٢.

(٤) المكاسب : ٣ / ١٦٤.

١٩٠

من اعتبره (١) ، وسيظهر لك بطلانهما معا.

ثمّ إنّ من جملة ما ذكره من الوجه لاعتبار الجزم وبطلان التعليق في العقود والإيقاعات امور :

أحدها : عدم قابليّة الإنشاء للتعليق ، وأنّه مناف لأصل الإنشاء.

ثانيها : أنّ الانتقال بحكم الرضا ، والرضا لا يكون إلّا مع الجزم ، والتعليق ينافيه.

ثالثها : أنّ ظاهر ما دلّ على سببيّة العقد ترتّب مسبّبه عليه حال وقوعه ، فتعليق أثره بشرط من المتعاقدين مخالف لذلك.

رابعها : توقيفيّة الأسباب الشرعيّة الموجبة لوجوب الاقتصار فيها على المتيقّن ، وليس إلّا العقد العاري عن التعليق (٢) ، وسنبيّن أيضا عدم ورود شي‌ء ممّا ذكره عليهما.

أقسام التعليق في العقود

قوله : (وتفصيل الكلام ؛ أنّ المعلّق عليه إمّا أن يكون معلوم التحقّق) (٣).

جعل أقسام التعليق ستّة عشر ، ثمّ أتبعه بذكر حكمها بما لا يخلو عن اضطراب وغلق ، وتوضيح الكلام في بيان حقيقته وأقسامه وتمييز ما يضرّ منها في العقود والإيقاعات عمّا لا يضرّ ، وعدم منافاته على الإطلاق لحقيقة الإنشاء

__________________

(١) لاحظ! قواعد الأحكام : ٢ / ٤ و ٦٣.

(٢) لاحظ! المكاسب : ٣ / ١٦٥ ـ ١٧٢.

(٣) المكاسب : ٣ / ١٦٦.

١٩١

يتوقّف على بيان امور :

الأوّل : أنّ حقيقة الإنشاء عبارة عن إظهار النسبة على وجه لا يكون لها نظر إلى غيرها ، ولا يكون فيها جهة كشف أصلا ، فلا تصلح لأن تتّصف بالمطابقة والمخالفة من غير فرق بين كونها مدلولة للكلام مكشوفة عنها بالوضع أو حاصلة بالكلام.

والأوّل لا يكون إلّا مدلولا للهيئة أو الإرادة ، لظهور أنّ النسبة من المعاني الحرفيّة لا يمكن أن يدلّ عليها المادّة ، فما كان مدلولا للهيئة كصيغة أمر الحاضر ، وما كان مدلولا للحرف كصيغة أمر الغائب ، والجملة الاستفهاميّة ونحوها ممّا تكون النسبة الإنشائيّة بالأداة ، وما كان حاصلا بالكلام كالجملة الخبريّة الواردة في مقام الإنشاء ، كالمدح والذمّ.

ومن هذا القبيل إنشائيّة العقود والإيقاعات ، فقولك : زيد عالم ، مدلوله الوضعي هو النسبة الخبريّة ، أي الكشف عن ثبوت العلم له ، لكنّه بعد الإظهار والكشف يحدث نسب عديدة لم تكن حاصله قبل الكلام وهي الإظهار والإخبار والإعلام والمدح والتوصيف والتكلّم ، ولا يخلو كلام خبري ـ بل الكلام الإنشائي أيضا ـ عن شي‌ء من النسب الحاصلة به نسمّيها عناوين طارئة تتوقّف حصولها على تماميّة الكلام واستعمال ألفاظها في المعاني الموضوعة لها.

ثمّ الكلام الخبري إن صيغ لبيان نفس الموضوع له ، ولم يكن المقصود بالذات إلّا الموضوع كان خبرا ، ولم يكن من الإنشاء في شي‌ء وإن لم يكن الموضوع له مقصودا بالذات ، بل قصد تبعا وتوطئة للنسبة الحاصلة ، نظير إرادة العموم قبل الاستثناء ، كان الكلام حينئذ إنشاء.

١٩٢

فزيد عالم في المثال المذكور قد يكون إخبارا إذا لم يقصد المتكلّم غير معناه الوضعي ، وقد يكون إنشاء إذا كان في مقام المدح ، أي إذا قصد الموضوع له توطئة لحصول النسبة الحاصلة بالكلام ، وهي إظهار صفته الحسنة.

فالنسبة الحاصلة ـ ولو بقرينة المقام ـ إن كانت هي المقصودة من الكلام كان الكلام إنشاء ، وإن لم تكن مقصودة وإن كانت حاصلة كان الكلام إخبارا.

ومن هنا يظهر أنّ الجملة الخبريّة المستعملة في مقام الإنشاء لا مجازيّة فيها أصلا ، لظهور أنّ الاتّصاف بالحقيقة والمجاز إنّما هو باعتبار الاستعمال في الموضوع له وعدمه ، لا باعتبار النسب الحاصلة بالكلام ، فإنّها وإن قصدت بالإفادة تتوقّف على استعمال الألفاظ في الموضوع له ، ليكون ذلك توطئة لحصول المقصود بالذات.

ولذا لا ترى فرقا بحسب الاستعمال بين قولك : زيد عالم ، في مقام الإنشاء والإخبار ، بل لا مجازيّة في الإنشائيّة المستفادة بسبب الأداة أيضا ، وذلك لأنّ الجملة الفعليّة أو الاسميّة قبل دخول أداة الاستفهام وإن كانت خبريّة إلّا أنّ خبريّتها إنّما هي للإطلاق ، لا هي نفس الموضوع له حتّى يلزم مجازيّة بالنسبة إليها بعد دخول حرف الاستفهام.

وكيف كان ؛ فالتفرقة بين الخبر والإنشاء إنّما هي بكون النسبة مقصودة للمتكلّم من الكلام ناظرة إلى النسبة الاخرى أو غير ناظرة ، لا أنّها نابتة بنفسها ، أو حاصلة بالكلام ، فإنّ قولك : اضرب ، إنّما هو إنشاء باعتبار النسبة المكشوفة عنها بالوضع ، وهي ممّا يمتنع تأخّره عن اللفظ ، فلم يكن الإنشائيّة فيه باعتبار الإحداث والإيجاد قطعا.

١٩٣

نعم ؛ يعرضه عناوين طارئة كالتكليف والإلزام والإيجاب والطلب وأمثالها ، كما يعرضه الخبر نحو هذه العناوين كالإعلام والإخبار والإظهار وأمثالها.

والحاصل ؛ أنّ التفرقة بينهما بالإيجاد والإحداث في الإنشاء دون الإخبار فاسد ، والتفرقة ما ذكر.

إذا عرفت [ذلك] ظهر لك فساد ما قيل من أنّ الإنشاء لا يقبل التعليق والإيجاد ، بل هي باعتبار ثبوت جهة الكشفيّة في النسبة وعدمه ، والنسبة مطلقا قابلة للتعليق وعدمه (١) ، فإنّ هيئة «افعل» ـ مثلا ـ موضوعة لأن تكشف عن أنّ هذه المادّة ملحوظة منسوبة إلى المخاطب على نحو المبعوثيّة إليه إمّا مطلقا ، أو على تقدير أمر آخر.

وعلى التقديرين لا تخرج النسبة عن كونها إنشاء ، وكذا الإنشائية في الخبر الوارد في مقام الإنشاء ، فإنّ التعليق الواقع فيه إنّما يكون قيدا للنسبة المكشوفة عنها بالوضع ، لا للنسبة الحاصلة بالكلام ، غايته أن يكون النسبة الحاصلة بالكلام على تقدير إطلاق تلك النسبة التزاما مطلقا ، وعلى تقدير اشتراط تلك النسبة التزاما مشروطا ، من غير فرق بين إنشاء البيع والمدح والذّم والتمنّي ، فيقال : إن أعطاني زيد كذا فهو سخي ، أو إن منعني عن الشي‌ء الفلاني فهو بخيل ، أو ليت زيدا إن جاءني أكرمني.

نعم ؛ يمكن القول بأنّ الإنشاء ينافي التعليق ، وهو حينئذ كذلك في الإخبار أيضا ، لظهور أنّ التوقّف إنّما يتصوّر قبل التحقّق ، وأمّا بعده فلا يتعقّل التوقّف ، وهو ظاهر ، فيقصد من التعليق حينئذ تعليق أصل الفعل ، أي إظهار النسبة

__________________

(١) نسبه في المكاسب : ٣ / ١٧٠ إلى المتوهّم وقال : (وربما يتوهّم).

١٩٤

الإنشائية أو الخبريّة ، وظاهر أنّهما بعد الحدوث لا يتصوّر فيهما التعليق ، ونحو هذا التعليق لا يتصوّر وقوعه فضلا عن النزاع في صحّته وبطلانه ، والتعليق بمعنى آخر خال حينئذ عن محلّ الكلام ، أي إظهار النسبة الإنشائيّة وإحداثها ينافي التعليق.

الثاني : أنّ ترتّب الأثر على الإنشائيّة أثر خارج عن الإنشاء لا يتوقّف إنشائيّة الإنشاء على ترتّبه ، فلا يضرّه العلم بعدم ترتّب الأثر فضلا عن الشكّ فيه ، فإنّ إنشاء عقد الفضولي حال علمه بعدم تعقّب الإجازة إنشاء لا نقص في الإنشائيّة ، كما لا نقص في إنشائيّة إيجاب البائع مع علمه بعدم ترتّب الأثر عليه بدون تعقّبه لإنشاء القبول ، فتوقّف ترتّب الأثر على اشتمال الإنشاء على الشرائط وفقد الموانع أمر آخر لا ربط له بحقيقة الإنشاء.

الثالث : أنّ الإنشاءات تختلف بحسب الأثر ، فمنها ما يكون أثره الفعليّة كالبيع والنكاح والطلاق ، ومنها ما يكون أثره الإعداد وإنشائيّة لترتّب الأثر عليه في الزمان المتأخّر كالوصيّة والمكاتبة والتدبير ، فإنّ المعلول من إنشاء الوصيّة هو صيرورة المال بحيث يصير ملكا للموصى له عند موت الموصي ، والمعلول من إنشاء المكاتبة إعداد العبد للانعتاق عند أداء مال الكتابة ، والمعلول للثالث إعداد العبد للانعتاق عند موت المولّى ، وهذا بخلاف البيع ، فإنّ أثره ثبوت الملكيّة بنفس الإنشاء.

ولا ريب أنّ هذا الاختلاف إنّما هو لاختلاف أصل الماهيّة وكيفيّة التأثير والتسبيب بحسب جعل أصل السبب ، لا بحسب اختلاف قصد المنشئ في إنشائه بحيث يدور مدار قصده ، كما سيتّضح.

١٩٥

وحيث عرفت ما ذكرناه لك من الامور فنقول : التعليق في العقود والإيقاعات إن اريد به التعليق في أصل الإنشاء ـ أعني به فعل الشخص من حيث كونه فعلا له ـ فهو كالتعليق في أصل الإخبار أمر غير متعقّل ضرورة ، استحالة فعليّة الوجود ، والتوقّف ليس من محلّ الكلام في شي‌ء ، وإنّما الكلام في مقامين :

أحدهما : تأخّر الأثر بالتعليق على أمر متأخّر عن الإنشاء.

وثانيهما : تعليق الإنشاء على ما لا يعلم بتحقّقه.

أمّا الأوّل ؛ فقد عرفت أنّه يجوز بالنسبة إلى الإنشاءات الّتي شرعت للإعداد لا للفعل ، كما في الوصيّة والوصاية والتدبير والمكاتبة ، فإنّ الوصيّة تمليك حيث ينقطع عنه الملكيّة بالموت وتأثيره الفعلي إعداد المال لأن يملكه الموصى له ، فهو حينئذ ملك أن يملك ، والوصاية جعل ولاية حيث ينقطع السلطان والولاية عن الموصي بالموت ، ويلزم بعد الموت ، لعدم التمكّن وإلّا فليس حقيقتها إلّا النيابة.

والتعليق في التدبير مقوّم لماهيّته ، والمكاتبة عقد فكّ الرقبة بدفع مال معيّن ، فتوقّف فعليّة الحريّة على الدفع من مقتضيات البدليّة ، كتوقّف استحقاق الأجير للاجرة على العمل المستأجر له.

وأمّا البيع ؛ فإنّما شرع للتأثير والفعليّة ، فتأخّر تأثيره عن حال وقوعه تصرّف في كيفيّة تأثير الأسباب ، وهو خارج عن اختيار المنشئ ، فقولك : بعتك هذا إذا جاء رأس الشهر الفلاني ، إن اريد به عدم تأثيره إلّا في ذلك الوقت فهو تفكيك للمسبّب عن السبب ، وهو خارج عن اختيار المكلّف ، وإن اريد به عدم

١٩٦

حصول المبادلة والبيع إلّا في ذلك الوقت فهو مناف لقصد إنشاء المبادلة بنفس الكلام ، لظهور أنّ العنوان الطاري ينطبق على الكلام ويوجد بوجوده ويمتنع تأخّره عنه بإرادة المنشئ ، وإن لم يرد إنشاء المبادلة بنفس الكلام فلم يتحقّق منه العنوان الطاري الّذي يتوقّف التأثير على تحقّقه.

وهذا بخلاف التعليق الواقع في الأوامر كقولك : افعل كذا إذا جاء وقت كذا ، وذلك لما عرفت من أنّ الإنشاء فيها على نحو آخر غير نحو الإنشاء في العقود والإيقاعات ، فإنّ الإنشائيّة في العقود والإيقاعات إنّما هي بالنسبة الحاصلة بالكلام ، وفي الأوامر والنواهي بالنسبة المدلولة للكلام المكشوفة عنها بالوضع ، فالتعليق فيها يرجع إلى التعليق في النسبة المكشوفة ، وقد عرفت أنّها قابلة للتعليق والتنجيز معا ، فإنّ الهيئة مع الإطلاق تكون كاشفة عن أنّ هذه المادّة ملحوظة منسوبة إلى الفاعل على وجه المبعوثيّة إليه ، ومع التقييد بأمر آخر تكون كاشفة عن كونها ملحوظة منسوبة إليه على وجه المبعوثيّة على تقدير تحقّق ذلك الأمر.

هذا إن اريد التعليق في أصل النسبة المكشوفة بالوضع ، فيكون الفعل في الأوّل واجبا مطلقا ، وفي الثاني واجبا مشروطا ، فلا يجب عليه شي‌ء من المقدّمات قبل تحقّق ذلك الشرط ، فهما مختلفان في العنوان الطاري لا في النسبة الإنشائيّة المكشوفة عنها بالهيئة.

والمراد بالعنوان الطاري تعلّق الوجوب به ، فإنّه يكون فعليّا في الأوّل ، وموقوفا في الثاني ، وهذا أمر آخر لا ربط له بالإنشائيّة المكشوفة عنها باللفظة.

وقد يراد به التقييد في نفس الفعل لا في أصل النسبة ، كما لو علّق الأمر

١٩٧

بالزمان المتأخّر ، فإنّ الزمان حينئذ قيد للفعل ، لا لأصل النسبة ، وذلك كما في الأمر بالحجّ قبل الوقت ، والأمر بالصوم من أوّل الليل.

والواجب حينئذ يسمّى عندهم معلّقا لا مشروطا ، ويفترقان بعدم وجوب المقدّمات قبل تحقّق المعلّق عليه في الأوّل دون الثاني ، وذلك لظهور عدم تنجّز الأمر قبله حينئذ في الأوّل وتنجّزه في الثاني.

ونظير هذه التفرقة ما ذكره الفقهاء ـ رضوان الله عليهم ـ في باب الوكالة من التفرقة بين تعليق إنشاء الوكالة بأمر متأخّر فتبطل ، وبين تعليق الفعل الموكّل فيه وتقييده بزمان متأخّر فتصحّ.

فلو قال : وكّلتك إذا جاء رأس الشهر الفلاني ، بطلت الوكالة ، للتعليق ، دون ما إذا قال : وكّلتك الآن ، ولكن لا تبع إلّا إذا جاز رأس الشهر الفلاني ، فإنّه لا يصحّ له البيع إلّا في ذلك الزمان المعيّن.

والقسمان في التعليق في الأمر كالقسمين في التعليق في الوكالة ، والتفرقة بين القسمين في المقامين ظاهر ، ومع ذلك أنكر شيخنا الأنصاري رحمه‌الله في الأوّل ـ أي في الأمر ـ فردّ عليه سؤال الفرق بينه وبين الوكالة (١).

وأمّا الثاني ؛ فملخّص القول فيه أنّ كلّا من الأخبار والإنشاء ينطبق عليه عنوان آخر ، وهو فعل توليدي للمخبر والمنشئ كالإعلام والاستعلام وطلب الفعل والترك والإرشاد ، والتعليق إنّما يصحّ فيهما بالنسبة إلى الفعل الثاني أعني التوليدي لا الأولي ، بل قد عرفت استحالة التعليق بالنسبة إليه.

وأمّا بالنسبة إلى عنوان الطاري ؛ فإمّا أن يكون ممّا يعتقد المتكلّم ارتباطه

__________________

(١) المكاسب : ٣ / ١٦٣ و ١٦٤.

١٩٨

به كما إذا كان علم المخبر بما يخبره منوطا بأمر ، فيعلّق عليه إخباره ، كقولك : الأمير في الدار إن كان الفلاني في الباب ، وفي الإنشاء كقول الطبيب : اشرب الدواء الفلاني إن كنت على حالة كذا ، لتوقّف الصلاح باعتقاده عليه.

فهذا النحو من التعليق في الخبر والإنشاء معا ممّا لا كلام فيه ، سواء كانت النسبة الإنشائيّة مدلولة للكلام أو حاصلة به ، كما قيل في التمنّي : يا ليت زيدا إن جاءني أكرمني ، وفي المدح : نعم الرجل زيد إن كان عالما تقيّا ، وزيد حسن الوجه إن لم يكن فيه كذا من الوصف.

وإمّا أن يكون التعليق بامور غير مربوطة بالقضيّة الخبريّة أو الإنشائيّة ، أي لم يكن العناوين الطارئة باعتقاده مرتبطة به ، وهذا القسم من التعليق يوجب انتفاء العنوان رأسا ، وجعل الكلام لغوا في الخبر والإنشاء معا.

والأوّل مثل قولك : إن كان الخبز غاليا فالبطيخ حلو ـ مثلا ـ ، والثاني كقولك : اشرب الدواء إن كان الطير في الهواء ، فإنّ شيئا منهما ليس إعلاما وإرشادا ، والمتكلّم حينئذ لاغ أو مستهزئ.

ومن هنا تبيّن السرّ في التفرقة بين تعليق العقود والإيقاعات على ما هو معلّق عليه في الواقع ، وبين تعليقها على ما لا يرتبطان به حيث لم يعلم بتحقّقه ، وأمّا مع العلم بالتحقق فهو تأكيد ، كقولك : إن كنت ابني فلا تفعل كذا ، وحينئذ فنقول :

لمّا كان الإنشائيّة في العقود والإيقاعات باعتبار العناوين الطارية ، كالالتزام بالمبادلة في البيع ـ مثلا ـ كان التعليق في الامور الغير المرتبطة بها في ترتّب الآثار عليها موجبا لعدم تحقّق تلك العناوين بها ، فتبطل لعدم انطباق تلك

١٩٩

العناوين عليها ، كعدم انطباق الإعلام على الخبر المعلّق على أمر غير مرتبط به ، كما عرفته في المثال ، فالبطلان حينئذ إنّما هو لإيجابه سلب العناوين المقصودة في العقود والإيقاعات.

والمقصود تحقّق الالتزام من طرفه ، والتعليق ينافيه ، ولذا عبّر بعضهم عن اعتبار التنجيز باعتبار الجزم ، ثمّ فرّع عليه بطلان التعليق (١).

فالمقصود من الجزم إنّما هو بالنسبة إلى الامور الراجعة إليه ـ أي الجزم ـ بمضمون العقد والإيقاع ، لا الجزم بترتّب الآثار ، فإنّ ذلك لا وجه لاعتباره.

بل قد عرفت الحكم بصحّته مع القطع بعدم ترتّب الأثر فضلا عن الشكّ فيه ، وذلك كما إذا جرى الفضولي للعقد مع قطعه بعدم تعقّبه للقبول من المشتري ، ثمّ اتّفق القبول منه بعد الإيجاب ، فإنّه لا كلام أيضا في صحّة العقد معه ، ولا وجه لاعتبار العلم بترتّب الأثر على الإنشاء ، سواء كان من جهة الامور المتأخّرة المعتبرة في الصحّة ، كالقبض في بيع الصرف ـ مثلا ـ أو من جهة الامور المعتبرة وجودها حال الإنشاء ، كالملكيّة في البيع ، والزوجيّة في الطلاق ، فلا إشكال حينئذ في الصحّة ، كما إذا قال : بعتك هذا إن كان في ملكي ، أو إن كانت هذه زوجتي فهي طالق.

والحاصل ؛ أنّ الغرض من إنشاء العقود والإيقاعات حصول الالتزام من المنشئ بسبب الإنشاء ، وتحقّق العناوين الطارية ، والتعليق على الامور الغير المتوقّفة عليه التأثير ينافيه ، لكونه موجبا لعدم تحقّق ذلك العنوان ، بخلاف

__________________

(١) انظر! تذكرة الفقهاء : ١ / ٤٦٢ ، والقواعد والفوائد : ١ / ٦٥ القاعدة ٣٥ ، ولاحظ! المكاسب : ٣ / ١٦٤ و ١٦٥.

٢٠٠