حاشية المكاسب

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي

حاشية المكاسب

المؤلف:

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي


المحقق: مؤسسة آية الله العظمى البروجردي
الموضوع : الفقه
الناشر: الغفور ـ قم
المطبعة: قرآن كريم ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-92663-2-1
الصفحات: ٦٤٠

البيع

٦١
٦٢

اختصاص المعوّض بالعين

قوله : (وبيع سكنى الدار الّتي لا يعلم صاحبها) (١).

إشارة إلى ما رواه إسحاق بن عمّار عن العبد الصالح عليه‌السلام قال : سألته عن رجل في يده دار ليست له ، ولم تزل في يده ويد آبائه من قبله قد أعلمه من مضى من آبائه أنّها ليست لهم ولا يدرون لمن هي فيبيعها ويأخذ ثمنها.

قال : «ما احبّ أن يبيع ما ليس له».

قلت : فإنّه ليس يعرف صاحبها ، ولا يدري لمن هي ، ولا أظنّه يجي‌ء لها ربّ أبدا.

قال : «ما احبّ أن يبتع ما ليس له».

قلت : فيبيع سكناها أو مكانها في يده فيقول : أبيعك سكناها ، فتكون في يدك ، كما هي في يدي.

قال : «نعم ، يبيعها على هذا» (٢).

حيث أضاف البيع إلى السكنى دون العين ، بل لم يجوّز بيع العين وجوّز بيع سكناها معلّلا بعدم جواز بيع ما ليس له.

فيشكل بأنّه إذا لم يجز مع العين لعدم الملكيّة ، فينبغي أن لا يجوز بيع

__________________

(١) المكاسب : ٣ / ٧.

(٢) وسائل الشيعة : ١٧ / ٣٣٥ الحديث ٢٢٦٩٦.

٦٣

السكنى أيضا لذلك ، فما وجه التفرقة؟

والّذي يمكن أن يحمل عليه الرواية ، ليمكن التفرقة وهي إمكان أن يكون الدار صار لآبائه وأجداده من مالكها بعنوان الرقبى المقرون بمدّة كمائة سنة ـ مثلا ـ ثمّ مات مالكها الأصلي ، ولم يعرفوا الأعقاب وارثه حتّى صارت العين من الأموال المجهولة مالكها ، وكان تصرّفهم فيها على وجه الاستحقاق ، لبقاء المدّة المضروبة ، فيملكون المنفعة دون العين ، فلذا جوّز الإمام عليه‌السلام بيع الأوّل دون الثاني.

قوله : (وكأخبار بيع الأراضي الخراجية وشرائها) (١).

إشارة إلى رواية أبي بردة المسئول فيها عن بيع أرض الخراج.

قال عليه‌السلام : «من يبيعها؟ هي أرض المسلمين».

قلت : يبيعها الّذي هي في يده.

قال : «يصنع بخراج المسلمين ما ذا؟» ثمّ قال : «لا بأس ، يشتري حقّه فيها ويحوّل حقّ المسلمين عليه» (٢).

حيث أضاف الشراء إلى الحقّ المستلزم لإضافة البيع إليه أيضا ، فالإطلاق إنّما وقع في الخبر ، وإلّا ففي كلمات الفقهاء لم يضيفوا البيع إلى الأرض حيث يقولون : يجوز بيع الأرض تبعا للآثار.

__________________

(١) المكاسب : ٣ / ٧.

(٢) وسائل الشيعة : ١٥ / ١٥٥ الحديث ٢٠١٩٧.

٦٤

قوله : (كما أنّ لفظ الإجارة تستعمل عرفا في نقل بعض الأعيان كالثمرة على الشجرة) (١).

أو المراد وقوع الاستعمال في ألسنة العرف عند مكالماتهم ، لا صحّة الاستعمال عند المعاملة وإجراء الصيغة ، فإنّ الإجارة لا يصحّ إلّا في ما يجوز الانتفاع به مع بقاء عينه ، والمقصود هنا تملّك الأثمار ، فلا يجوز إجراء صيغة بلفظ الإجارة ، وقد عقدوا البيع الأثمار بابا ذكروا فيه شروطه وآدابه.

جعل عمل الحرّ عوضا

قوله : (وأمّا عمل الحرّ ؛ فإن قلنا : إنّه قبل المعاوضة عليه من الأموال فلا إشكال ، وإلّا ففيه إشكال ، من حيث احتمال اعتبار كون العوضين في البيع مالا قبل المعاوضة ، كما يدلّ عليه ما تقدّم عن «المصباح» (٢) (٣).

هذا إشارة إلى ما ذكره بعض الفقهاء في جواب ما قد يورد على بعض الفروع المسلّمة في الحرّ والعبد.

وذلك إنّهم ذكروا أنّ العبد إذا غصب فتلف تحت يد الغاصب بتلف سماوي ضمن الغاصب قيمته وقيمة منافعه الّتي فاتت تحت يده ، بخلاف الحرّ ، فإنّه لا يضمن غاصبه منافعه ، وإن فاتت تحت يده ، لكن لا بتسبيبه (٤).

__________________

(١) المكاسب : ٣ / ٨.

(٢) المصباح المنير : ٦٩ مادة «بيع».

(٣) المكاسب : ٣ / ٨.

(٤) مسالك الافهام : ١٢ / ١٥٧ و ١٥٨ ، جامع المقاصد : ٦ / ٢٤٧ و ٢٤٨ ، جواهر الكلام : ٣٧ / ٣٦ و ٣٧.

٦٥

فقال بعضهم في وجه التفرقة : إنّ العبد مال وعمله أيضا مال بخلاف الحرّ ، فإنّه لا ماليّة لشي‌ء في نفسه وعمله (١).

ثمّ استشكل عليه بأنّ ذلك يستلزم عدم جواز استيجار الحرّ ، مع أنّه من المسلّمات جوازه ، ولا يمكن إنكاره (٢).

فاجيب عن ذلك بصيرورة عمله مالا بالمعاوضة ، وهو قبل المعاوضة ليس من الأموال ، وإنّما يصير مالا بسبب المعاوضة (٣).

ومن هنا لو غصب الحرّ بعد الاستيجار ضمن الغاصب للمستأجر قيمة منافعه المستأجر لها الفائتة تحت يده.

فأشار شيخنا قدس‌سره بقوله : (فإن قلنا : إنّه قبل المعاوضة عليه من الأموال فلا إشكال ، وإلّا ففيه إشكال) (٤) إلى ما ذكره هذا البعض.

وتحقيق القول في ذلك أنّ الماليّة من الحقائق العرفيّة ، لا من المجعولات الشرعيّة ، وهي ما يبذل بإزائه المال ، فكلّ منفعة محلّلة يبذل بإزائه المال ؛ مال في العرف والشرع ، من غير فرق بين مملوكيّة ذي المنفعة حرمته.

ضرورة عدم التفرقة في بذل المال بإزاء الأعمال عند العرف بين كون العامل بها حرّا أو مملوكا ، بل قد يبذل بإزاء أعمال الأحرار ما لا يبذل بإزاء عمل العبيد.

فالقول بعدم ماليّة عمل الحرّ واضح الفساد ، وأوضح منه فساد القول

__________________

(١) مسالك الافهام : ١٢ / ١٥٨ و ١٥٩ ، جواهر الكلام : ٣٧ / ٤١.

(٢) مسالك الإفهام : ١٢ / ١٥٩ ، جواهر الكلام : ٣٧ / ٤١.

(٣) إيضاح الفوائد : ٢ / ١٦٨ ، مسالك الإفهام : ١٢ / ١٥٩ و ١٦٠.

(٤) مرّ آنفا.

٦٦

بصيرورته مالا بالمعاوضة ، فإنّ المعاوضة معاملة يتوقّف على الماليّة لا معنى لإحداثها لها ، مع ظهور عدم وجه لإيجابها لها ، وتعلّق الفعل بشي‌ء لا يوجب تغيير ماهيّته ، وهذا ظاهر.

فمن جهة الماليّة لا فرق بين عمل العبد والحرّ ، وإنّما الفرق في الدخول تحت اليد وعدمه ، فإنّهم ذكروا أيضا : أنّ الحرّ لا يدخل تحت اليد ، بخلاف العبد ، وإنّما منشأ ذلك من المملوكيّة وعدمها.

وذلك ؛ لأنّ الضمان باليد إنّما هو للحيلولة بين المملوك ومالكه ، وهي إنّما يتحقّق بالاستيلاء عليه على العبد ، فإنّه موجب للحيلولة بين المملوك ومالكه.

وأمّا الحر ؛ فلا يتحقّق بالاستيلاء عليه حيلولة أصلا ، لأنّه مالك لنفسه ، والاستيلاء إنّما هو على المالك ، بل لا تمييز هنا بين المالك والمملوك ، وهما متّحدان.

وهذا معنى قولهم : إنّ الحرّ لا يدخل تحت اليد ، فلا تجري فيه قاعدة الضمان باليد ، وحيث تحقّقت الحيلولة جرى فيه قاعدة الضمان باليد ، كما في صورة كون الحرّ أجيرا لآخر ، فإنّ المستأجر حينئذ يملك عمله ، فبالاستيلاء عليه يتحقّق الحيلولة بين المالك الّذي هو المستأجر والمملوك الّذي هو عمل الأجير الفائت تحت يده.

فاتّضح سرّ التفرقة ، وكونها مطابقا للقواعد المبرهنة المسلّمة ، فلا إشكال في صحّة جعل عمل الحرّ ثمنا للمبيع.

٦٧

أقسام الحقّ وما يصلح منها أن يقع عوضا

قوله : (وأمّا الحقوق الاخر كحقّ الشفعة وحقّ الخيار) (١).

ظاهر العبارة كون عمل الحرّ من الحقوق ، مع أنّه من المنافع ، لكن يمكن توجيهها بأنّ المنافع على قسمين :

منها ؛ ما لا يقبل الإسقاط ، كمنفعة الدار وما ضاهاها من الأموال.

ومنها ؛ ما يقبل الإسقاط ، كمنفعة الأحرار ، وذلك لأنّهم ذكروا : أنّ المستأجر إذا سقط حقّه عن الأجير سقط عنه عمله ، بخلاف ما إذا سقط حقّه عن الدار المستأجرة ـ مثلا ـ فإنّه لا يسقط عنه ملكيّة منافعه.

وحينئذ فنقول : تملّك المنافع القابلة للإسقاط حقيقة من الحقوق ، فإنّه لا معنى لصيرورة الشخص أجيرا إلّا إثبات حقّ للمستأجر عليه باستيفاء العمل المستأجر عليه منه ، فبذلك صحّ قول المصنّف رحمه‌الله : (وأمّا الحقوق) (٢) الاخر.

وملخّص مرامه في الحقوق أنّها تنقسم على ثلاثة أقسام :

قسم لا يقبل المعاوضة ، وإن قبل النقل ، كحقّ المضاجعة ، حيث صرّح بعضهم بجواز نقله إلى الضّرة ، ولا يجوز أخذ العوض عليه ، كما عن «التذكرة» (٣).

وقسم لا يقبل النقل ، وإن قوبل بالمال ، كالحقوق المأخوذ فيها العنوان

__________________

(١) المكاسب : ٣ / ٩.

(٢) المكاسب : ٣ / ٨ و ٩.

(٣) لم نعثر على هذا القول في تذكرة الفقهاء ، ولا على ناقله ، لكن نقله في مسالك الإفهام : ٨ / ٣٤١ عن المبسوط : ٤ / ٣٢٥.

٦٨

الخاصّ ، كحقّ الشفعة ـ مثلا ـ لو اريد نقله إلى غير المشتري ، بل إلى المشتري أيضا فإنّه بالنسبة إليه قابل للإسقاط لا النقل ، لامتناع كون الشخص ذا حقّ على نفسه ، كما سيجي‌ء.

وقسم يقبل المعاوضة والنقل معا ، كحقّ التحجير ، حيث لم يؤخذ في موضوعه العنوان الخاصّ ، وهو مع ذلك ممّا يتموّل.

والقسمان الأوّلان ممّا لا يجوز جعلهما ثمنا للمبيع قطعا ، والإشكال في الثالث من جهة الأصل ، لأنّه يقتضي الجواز ، ومن جهة ظهور أخذ المال في موضوع البيع لغة وعرفا ، مع ظهور كلماتهم عند بيان شرائط العوضين في ذلك ، لاعتبارهم الماليّة وعدم تصريحهم بجواز كون الثمن حقّا ، مع أنّه موضع البيان.

قوله : (ولا ينتقض ببيع الدين على من هو عليه) (١).

وتوضيحه أنّه رحمه‌الله حيثما ذكر أنّ ما لا يقبل النقل لا يصحّ جعله ثمنا ، لأنّ البيع تمليك ، والتمليك لا يتحقّق فيما لا يقبل النقل ، اورد عليه أنّ بيع الدين ممّن هو عليه ، صحيح إجماعا ، مع أنّه لا نقل فيه ولا انتقال ، لامتناع تملّك الشخص على نفسه ، بل لا أثر للبيع فيه إلّا السقوط ، فتكلّف في الجواب عن ذلك بأنّ الملكيّة علاقة بين المالك والمملوك ، لا بين الشخصين حتّى لا يعقل قيام طرفيها بشخص واحد ، فيعقل تملّك الشخص لا في ذمّته ، فيؤثر تمليكه السقوط ، وهذا بخلاف الحقّ ، لأنّه سلطنة ، فعليه لا يعقل قيام طرفها بشخص واحد.

هذا ملخّص مراده رحمه‌الله ، وهو من وضوح الفساد بمكان ، وذلك لظهور أنّ

__________________

(١) المكاسب : ٣ / ٩.

٦٩

الملكيّة وإن كانت علاقة بين المالك والمملوك ، وهما متغايران إلّا أنّ ذلك إنّما هو فيما إذا كان المملوك عينا خارجيّا ، لا فيما إذا كان المملوك كلّيا في الذمّة ، فإنّ الملك الكلّي لا حقيقة له إلّا ثبوت حقّ من شخص على آخر في أخذ ذلك الكلّي منه ، فلا يعقل تملّك الشخص لما [في] ذمّته ، لظهور أنّ الشخص لا ذمّة له لنفسه حتّى يملكه ، ولو كان كذلك لكان لكلّ شخص عينا لتملّكه لما في ذمّته ، والذمّة إنّما تتصوّر بالنسبة إلى الغير ، لا بالنسبة إلى نفسه.

وتوضيح الكلام في هذا المقام يتوقّف على بيان حقيقة البيع ، ليرتفع الإشكال بحذافيره ، فنقول :

لا ريب أنّ البيع اسم للمعنى لا للّفظ ، كما قد يتوهّم ممّن عرفه بالإيجاب والقبول ، فإنّه مجاز في النسبة باعتبار السببيّة والمسببيّة ، كإطلاق الإحراق على الإلقاء في النار باعتبار التسبيب ، وإلّا فحقيقة البيع من المعاني التوليديّة المسببيّة عن فعلي البائع والمشتري.

وذلك المعنى علاقة بين المالين ، كما أنّ النكاح علاقة بين الشخصين ، وتلك العلاقة عبارة عن بدليّة عين لشي‌ء.

والبيع قد يطلق بمعنى اسم المصدر ، أي : الفعل الخالي عن النسبة ، فيراد منه هذا المعنى ، وهو المراد في عناوين الأبواب كقولهم : كتاب البيع والنكاح ، فإنّ جميع ما يذكر في ذلك الكتاب أحكام وشرائط لتحقّق هذا المعنى ، ولذا يقولون : وتتوقّف على إيجاب وقبول ، ثمّ يذكرون ألفاظ الإيجاب والقبول.

وقد يطلق بمعنى المصدر ، فيراد منه هذا المعنى باعتبار الانتساب إلى الفاعل ، فيطلق على فعل البائع والمشتري معا مرّة باعتبار مسببيهما ، لحصول

٧٠

هذا المعنى ، فيقال : لا بيع بينهما ، والبيّعان بالخيار ما لم يفترقا (١).

ويطلق على فعل البائع خاصّة اخرى ، وهو الشائع باعتبار أنّ هو المقصود بالأصالة في المعاملة هو المبيع خاصّة حتّى كان الفعل لم يصدر إلّا من البائع ، والصادر من المشتري قبول صرف.

ولذا قيل : إنّ التمليك من المشتري ضمني دون البائع ، فصحّ انتساب ذلك المعنى إلى الفعلين مرّة ، وإلى فعل البائع خاصّة اخرى بالاعتبارين ، وحينئذ فحقيقة بيع المصدري هو عقد بدليّة عين بمال أو بشي‌ء الشامل للحقّ أيضا ، كما هو الأظهر.

والبدليّة معنى عام يتحقّق في جميع المقامات أوّلا ، ثمّ يترتّب عليها إمّا الملكيّة وهي الأثر الغالب ، لأنّ البدليّة إنّما هي باعتبار الملكين ، فيترتّب عليها الملكيّة ما لم يمنع عنها مانع.

ويترتّب عليها امور اخر مع المانع وهي كالإسقاط في بيع الدين ممّن هو عليه ، والانعتاق في بيع العبد ممّن ينعتق عليه ، والوقفيّة فيما إذا اشترى من الموقوفة شي‌ء للصرف في الجهات الموقوفة عليها ، فإنّ المال المتعيّن للصرف إلى جهة لا مالك له ، والمبادلة لا توجب ملكيّة شائعة وإن أوجبت ملكيّة لا حقة.

إن قلت : إنّهم ذكروا امتناع تحقّق المال بلا مالك إذا لم يكن من المباحات الأصليّة.

قلت : الحقّ امتناع تحقّق الملك بلا مالك ، لظهور أنّ الملكيّة علاقة بين المالك والمملوك ، فيمتنع قيامها بطرف واحد.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٨ / ٥ الباب ١ من أبواب الخيار.

٧١

وأمّا المال ؛ فهو على أقسام ثلاثة :

إمّا لا مالك له أصلا كالمباحات.

لا يقال : إنّها ليست من الأموال قبل الحيازة ، وإنّما تصير مالا بالحيازة ، لظهور عدم جواز بيعها قبل الحيازة.

قلنا : عدم جواز البيع أعم من عدم الماليّة ، وهو هنا لعدم الملكيّة لا لعدم الماليّة ، فإنّها إنّما يتحقّق في الأشياء باعتبار المنافع الموجودة فيها ، ولا ربط للاستيلاء وعدمه في الماليّة.

وإمّا له مالك كالأموال المملوكة.

وإمّا متعيّن وضعا للصرف إلى جهة معيّنة ، وله أفراد كثيرة :

منها ؛ المنذور المعيّن.

ومنها ؛ الزكاة بعد العزل ، وقبل الدفع إلى الفقير.

ومنها ؛ المنافع المعيّنة الموقوفة بالوقف العام ، كما حقّق في محلّه ، فإنّ جميع ذلك من الأموال المتعيّنة للصرف إلى جهة خاصّة لا مالك لها ، ولا داعي لإثبات المالك في جميع هذه المقدّمات بالمحتملات ، كما تكلّفوا في الوقف بالنسبة إلى العين الموقوفة.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ الملكيّة والانعتاق والإسقاط والوقفيّة من الآثار المترتّبة على البيع على حسب مواردها ، وحقيقة البيع هو البدليّة المتحقّقة في جميع هذه الموارد ، ولا داعي لتكلّف تصوّر ملكيّة شخص لما في ذمّته ، مع وضوح أنّ الذمّة إنّما هي بالنسبة إلى الغير ، لا بالنسبة إلى نفسه.

مع أنّه لو تصوّر ذلك وتحقّق لم يكن وجه لترتّب السقوط عليه وانعدامه

٧٢

بعد أن لم يكن معدم ، وكذا لا حاجة إلى تصوير ملك آنا مّا في بيع العبد ممّن ينعتق عليه.

مع أنّه لا دليل عليه ، والأخبار الواردة في عدم تحقّق العتق إلّا في ملك (١) محمول على أحد الأمرين :

إمّا مطلق الملك لا الملك من المعتق ، فيراد منه عدم جواز عتق الحر.

أو يراد منه العتق الاختياري ، فلا يشمل مثل الانعتاق الحاصل بعد البيع.

قوله : (مع أنّ النقل ليس مرادفا للبيع) (٢).

فيه ؛ أنّ ما ذكره المحقّق رحمه‌الله (٣) تعريف للبيع كسائر التعاريف ، ولم يقل أحد بلزوم كون المعرّف مرادفا للمعرّف ، وإنّما المعتبر فيه كونه موضحا ومبيّنا لحقيقة المعرّف ومساويا له في الصدق ، لا كونهما متّحدا في الوضع والموضوع له.

وأمّا التفسير ؛ فإن كان من لغة إلى لغة اخرى كتفسير العبراني بالعربي ، والعربي بالفارسي ؛ يعتبر فيه الألفاظ المترادفة في اللغتين ، ليتمّ كمال التفسير ، وإن كان بتلك اللغة لم يعتبر فيه ذلك أيضا ، بل تعيين الموضوع له بألفاظ مفهمة ولو غير مترادفة ، وهذا ظاهر.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٣ / ١٥ الباب ٥ من كتاب العتق.

(٢) المكاسب : ٣ / ١٠.

(٣) جامع المقاصد : ٤ / ٥٥.

٧٣

قوله : (إنّ النقل بالصيغة أيضا لا يعقل إنشاؤه بالصيغة) (١).

وفيه ما عرفت أنّ ما ذكره رحمه‌الله تعريف للبيع لا تفسير لما وضع له لفظ البيع حتّى يلزم منه أن يكون معنى «بعت» في الإنشاء «نقلت» بالصيغة.

ثمّ تفطّن رحمه‌الله إلى ذلك ، لكنّه قال : (ولا يندفع هذا بأنّ المراد أنّ البيع نفس النقل الّذي هو مدلول الصيغة) (٢) فجعله مدلول الصيغة إشارة إلى تعيين ذلك الفرد من النقل ، لا أنّه مأخوذ في مفهومه حتّى يكون مدلول «بعت» : «نقلت» بالصيغة.

أقول : بعد التفطّن إلى المعنى الثاني لا ينبغي احتمال إرادة المعنى ، فضلا عن اختياره ، ووروده أوّلا يوجب حمل الكلام على ما ليس بمراد ، خصوصا مع وضوح الفساد.

قوله : (نظير تملّك ما هو مساو لما في ذمّته ، وسقوطه بالتهاتر) (٣).

يعني أنّه كما يتحقّق السقوط بمجرّد الملكية في ذلك ، كذلك يتحقّق السقوط بمجرّد الملكيّة عند تملّك ما في الذمّة.

وفيه ؛ أنّ الإشكال إنّما هو في تعقّل تملّك ما في الذمّة ، لا في ترتّب السقوط على الملكيّة ، فإنّ تحقّق الملكيّة في النظير ممّا لا مانع فيه ، لتعذّر الشخصين ، بخلاف المقام ، فهذا النظير لا يدفع عن المنازع شيئا من الإشكال.

__________________

(١) المكاسب : ٣ / ١١.

(٢) المكاسب : ٣ / ١١.

(٣) المكاسب : ٣ / ١٢.

٧٤

قوله : (فإذا لم يعقل ملكيّة ما في ذمّة نفسه لم يعقل شي‌ء ممّا يساويها ، فلا يعقل البيع) (١).

وفيه ما عرفت من عدم مساواة المبادلة للتمليك ، وهي متحقّقة في جميع المبايعات ، وإن لم تتحقّق الملكية فلا ملازمة بين عدم تعقّل ملكيّة ما في ذمّة نفسه ، وعدم تعقّل البيع.

قوله : (فقد تحقّق ممّا ذكرنا أنّ حقيقة تمليك العين بالعوض ليست إلّا البيع ، فلو قال : ملّكتك كذا بكذا ، كان بيعا ، ولا يصحّ صلحا ولا هبة معوّضة ، وإن قصدهما) .. إلى آخره (٢).

غرضه رحمه‌الله من ذلك الردّ على ما ذكره الشيخ رحمه‌الله في «الجواهر» من أنّ البيع هو الأصل في تمليك الأعيان بالعوض ، فيقدّم على الصلح والهبة المعوّضة (٣).

وما ذكره مبنيّ على مختاره من كون البيع تمليكا ، لأنّه حينئذ يتعيّن إنشاء التمليك بالعوض في البيعيّة.

وأمّا بناء على ما اخترناه من كون التمليك مترتّبا على البيع ومن آثاره لا هو نفسه فلا بأس بالقول بأنّ الأصل في تمليك الأعيان بالعوض هو البيع ، لا بمعنى أصالة الحقيقة في اللفظ ، بل بمعنى الاقتضاء والانصراف ، مع الإطلاق.

__________________

(١) المكاسب : ٣ / ١٢.

(٢) المكاسب : ٣ / ١٥.

(٣) لاحظ! جواهر الكلام : ٢٢ / ٢٠٦.

٧٥

وذلك ؛ لأنّ إنشاء الأثر المشترك بين الصلح والهبة المعوّضة ، وتوهّم أنّ الصلح لا يتحقّق إلّا بإنشاء التسالم فاسد. فإنّ قول أحد الشريكين لآخر : لك ما عندك ، ولي ما عندي ، صلح مع عدم تحقّق إنشاء تسالم فيه ، بل الصلح إنّما يمتاز عن سائر العقود بكونه مركّبا من إيجابين في مقابل الإيجاب والقبول ، لا بكونه إنشاء للتسالم ، كما قد حقّق في محلّه.

قوله : (بل هو تمليك على وجه ضمان المثل ، أو القيمة ، لا معاوضة للعين) (١).

توضيح الكلام في ذلك ؛ أنّ كلّ عين من أعيان الأموال له خصوصيّة وماليّة ، والضمان قد يتعلّق بهما معا ـ كما في الغاصب مع بقاء العين ـ وقد يتعلّق بالماليّة دون الخصوصيّة ـ كما في صورة التلف ـ لأنّ تلف الخصوصيّة لا يوجب دفع الضمان عن الماليّة ، فيشتغل ذمّته بالمثل أو القيمة بمجرّد التلف ، فما يدفعه بعد ذلك تشخيص لما في ذمّته في ضمن خصوصيّة اخرى الّذي هو عين مال المغصوب منه الباقي بعد تلف العين ، لا معاوضة بين الخصوصيتين. فما يدفعه عين ما أخذه لا شي‌ء آخر.

وهذا في الغصب واضح ، والقرض أيضا نظيره إلّا في عدم الإثم ، فإنّ القرض حقيقته رفع اليد عن الخصوصيّة مجّانا ، وإبقاء للماليّة في الذمّة ، ولذا يترتّب عليه الثواب ، لما فيه من المجانية ، بخلاف المعاوضة وبمجرّد القبض تنقلب المالكيّة المفروضة عن الخصوصية إلى ما في الذمّة ، والتشخيص لا يمكن

__________________

(١) المكاسب : ٣ / ١٥.

٧٦

إلّا من ذيها ويتخيّر ذو الذمّة بين عين مال المقرض وغيره.

وليس للمقرض إلزامه بالتشخيص في ماله.

ومن [هنا] قيل : إنّ القرض من العقود اللازمة من طرف المقرض ، والجائزة من طرف المقترض حيث يجوز له الوفاء بكلّ من عين مال المقرض وغيره (١) ، لكن الحقّ كونه من العقود اللازمة من الطرفين ، لظهور أنّ الوفاء عمل بمقتضى القرض لا إبطال له.

ولو كان جائزا من طرفه لزم أن يؤثّر فسخه ، فليسلّط المقرض على عين ماله من دون حاجة إلى تشخيص المقرض ، وهو باطل قطعا.

وكيف كان ؛ فعدم كون القرض من المعاوضات من أوضح الواضحات ، ولا يحتاج إلى ما استدلّ به رحمه‌الله. بقوله : (ولذا لا يجري فيه ربا المعاوضة ، ولا الغرر المنفي فيها ، ولا ذكر العوض ، ولا العلم به) (٢).

أمّا عدم جريان ربا المعاوضة فيه ؛ فلأنّ في ربا المعاوضة يعتبر اتّحاد الجنس ، وكونهما من المكيل والموزون ، بخلاف القرض ، لأنّه يصحّ في القيميّات وإن لم تكن من المكيل والموزون ، مع كون العوض قيمة وهي مغايرة للمال المقترض ، ومع ذلك لا يجري فيه الربا ، لأنّ العبرة هنا بمطلق جرّ النفع من غير اشتراطه بشي‌ء ، فعدم جريان ربا المعاوضة فيه دليل على عدم كونه معاوضة.

لكن للخصم أن يناقش في ذلك بأنّ مجرّد ذلك لا يدلّ على عدم كونه معاوضة ، لإمكان اختلاف المعاوضات في أحكام الربا ، ولا يجب أن يكون

__________________

(١) لاحظ! جواهر الكلام : ٢٥ / ٢٨ و ٢٩ ، الحدائق الناضرة : ٢٠ / ١٢٦ ـ ١٣٠.

(٢) المكاسب : ٣ / ١٥ و ١٦.

٧٧

جميع المعاوضات متّحدا في حكم الربا ، فللشارع أن يجعل للمعاوضة القرضيّة نحوا من الربا ، ولغيرها نحوا آخر.

وأمّا عدم جريان الغرر المنفي فيها ؛ فالظاهر أنّ المراد بالغرر ، غرر المجازفة لا الإبهام والمخاطرة ، لأنّ البطلان في غرر الإبهام ـ كبيع أحد العبدين ـ عقلي ، كما حرّر في محلّه ، والمخاطرة ـ كبيع عبد الآبق ـ لا يتصوّر في القرض ، لأنّ القبض شرط في القرض ، ومع القبض لا يتصوّر مخاطرة.

فلم يبق إلّا غرر الجزاف ـ كبيع ما في الصداق ـ وهذا لا يجري في القرض ، لصحّة إقراض الطعام بكيل مجهول أو بصنجة مجهولة الوزن ، وكذا قرض حفنة من درهم مجهولة العدد ، فيملك المقرض بمجرّد القبض ويصحّ.

غايته لزوم العدّ للمقرض في الدراهم ، لإمكان الوفاء ، ولزوم تحفّظ الكيل والصنجة المجهولتان أيضا لإمكان الوفاء ، ومع التلف أو عدم العدّ يتخلّص بالصلح.

هذا ما يستفاد من كلامه رحمه‌الله ، لكنّه خلاف ما صرّح به جملة من الفقهاء ، كالعلّامة والمحقّقين وغيرهم حيث اشترطوا العلم في القرض ، بل صرّحوا بالبطلان مع الجهالة (١) ، ومقتضاه عدم حصول الملكيّة مع الجهالة.

ولو تمّ ذلك في القرض جرى عليه الإيراد المتقدّم في الربا من عدم دلالة ذلك على عدم كون القرض من المعاوضات.

وأمّا عدم ذكر العوض ـ أي ما يتحقّق به الوفاء ـ وعدم العلم به فلمعلوميّة كون العوض إمّا مثلا أو قيمة ، فلا يحتاج إلى الذكر ، والعلم بخصوصيّة ما يوفى به

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٢ / ٦٨ ، قواعد الأحكام : ١ / ١٥٦ ، جامع المقاصد : ٥ / ٢٤.

٧٨

لا عبرة به بعد معلوميّة كلّي ما في الذمّة ، فحيث ذكروا العلم بالعوض ، فالمراد بالغرر بالنسبة إلى خصوص مال القرض ، فلا تكرار.

ويرد على ذلك أيضا ما اورد على سابقيه من عدم دلالة ذلك على عدم كونه معاوضة ، لإمكان اختلاف المعاوضات في الأحكام ، وإلى ما ذكر من الإيرادات أشار بقوله : (فتأمّل).

[قوله :] (ثمّ إنّ ما ذكرنا تعريف للبيع المأخوذ في صيغة «بعت» وغيرها من المشتقات) (١).

يعني أنّ مشتقّات البيع إنّما يشتقّ من البيع ، بمعنى التملّك بالعوض.

وأمّا سائر المعاني الّذي يذكر كالتمليك المتعقّب بالقبول والانتقال ، ونفس الإيجاب والقبول ، فلا يشتقّ منه شي‌ء من المشتقّات ، وإنّما هي معنى للفظ البيع فقط.

قوله : (حتّى الإجارة وشبهها الّتي هي في الأصل اسما لأحد طرفي العقد) (٢).

يعني أنّ البيع لمّا كان في الأصل موضوعا لأحد طرفي العقد ، وهو خصوص لفظ الإيجاب ، فاستعماله في مجموع الإيجاب والقبول يكون من قبيل استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكلّ ، فهو أهون من استعمال ألفاظ سائر العقود في مجموع الإيجاب والقبول ، حيث إنّه لم يكن شي‌ء منها في الأصل اسما لأحد طرفي العقد.

__________________

(١) المكاسب : ٣ / ١٦.

(٢) المكاسب : ٣ / ١٧.

٧٩

بل كلّها أسماء للمعاني ، ومع ذلك في عناوين أبواب المعاملات يستعمل في نفس العقد المركّب من الإيجاب والقبول.

قوله : (وكذلك لفظ النقل والإبدال والتمليك وشبهها ، مع أنّه لم يقل أحد بأن تعقّب القبول له دخل في معناها ، نعم تحقّق القبول شرط للانتقال في الخارج [في نظر الشارع] لا في نظر الناقل ، إذ التأثير لا ينفكّ عن الأثر ، فالبيع وما يساويه معنى من قبيل الإيجاب والوجوب لا الكسر والانكسار ، كما تخيّله بعض (١) فتأمّل) (٢).

توضيح الكلام في بيان معنى العبارة هو أنّ تعقّب القبول خارج عن معنى البيع ، كخروجه عن معنى النقل والإبدال والتمليك ، ولا دخل له في معناها جزءا ولا شرطا.

نعم ؛ تحقّق القبول شرط للانتقال في الخارج ، لا في نظر الناقل ، لأنّ الإنشاء حيث كان إيجادا ، وحصول الإيجاد بدون الوجود كان ممتنعا ، فلا بدّ أن يلزم بأنّ الإيجاد الانتسابي لا يعتبر في تحقّقه القبول ، إذ الأثر لا ينفكّ عن التأثير.

فإذا فرض حصول التأثير وتحقّق الفعل بسبب الإنشاء ، فلا بدّ من الالتزام بحصول الأثر ، فلذا فكّك رحمه‌الله بين التمليك الواقعي وبين التمليك في نظر المملك ، والقبول إنّما هو شرط في الأوّل دون الثاني.

__________________

(١) راجع! مقابس الأنوار : ١٠٧.

(٢) المكاسب : ٣ / ١٧ و ١٨.

٨٠