حاشية المكاسب

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي

حاشية المكاسب

المؤلف:

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي


المحقق: مؤسسة آية الله العظمى البروجردي
الموضوع : الفقه
الناشر: الغفور ـ قم
المطبعة: قرآن كريم ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-92663-2-1
الصفحات: ٦٤٠

وقد عرفت صراحة عبائرهم في ذلك ، بحيث لا يمكن رفع اليد عنها بقول العلّامة رحمه‌الله في ردّ كفاية المعاطاة في البيع : إنّ الأفعال قاصرة عن إفادة المقاصد (١).

فإنّ مقصوده من ذلك إثبات الحاجة إلى الإنشاء اللفظي وعدم كفاية الفعل بوجه ، فأراد إبطال قول الخصم بأبلغ وجه ، لا أنّ النزاع إنّما هو مع قصد الإنشاء بالفعل ، فإنّه إذا لم يكف الفعل مع قصد الإنشاء ، فلا يكفي بدونه بطريق أولى ، ومثله في عدم الدلالة قول المحقّق بأنّ الأفعال ليست كالأقوال في صراحة الدلالة (٢).

ألفاظ عقد البيع

قوله : (قد عرفت أنّ اعتبار اللفظ في البيع ، بل في جميع العقود ممّا نقل عليه الإجماع ، وتحقّق فيه الشهرة العظيمة) (٣).

لا يخفى عليك أنّ اعتماده رحمه‌الله على هذا الإجماع المحكيّ والشهرة المحقّقة كالاعتراف منه بعدم تحقّق شي‌ء من العقود بالإنشاء الفعلي ، فلا وجه للتمسّك بشي‌ء من عمومات البيع والعقود في صحّة المعاطاة.

فعلى تقدير قصد الإنشاء بالفعل فيها ليس إلّا كالمنابذة ورمي الحصاة في عدم تحقّق البيع بها ، بل عدم تحقيق شي‌ء من العقود بالإنشاء الفعلي مطلقا كالمتسالم بينهم.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء : ١ / ٤٦٢.

(٢) جامع المقاصد : ٤ / ٥٨.

(٣) المكاسب : ٣ / ١١٧.

١٦١

وإنّما خرج عن ذلك إشارة الأخرس ، لكونها بمنزلة اللفظ بالنسبة إليه ، كبدليّة الجنب عن الرجل الأقطع ، فيترتّب عليها حكمه بالنسبة إليه خاصّة ، كما يترتّب حكم الرجل على الجنب بالنسبة إلى خصوص الأقطع.

ولذا لا يكفي في ذلك مطلق العذر ، كما إذا فرض بعذر التكلّم في الصحيح من جهة شدّة البرد ـ مثلا ـ فإنّه لا ريب في عدم كفاية الإشارة بالنسبة إليه عن لفظه ، فالإشارة إنّما تكفي في الأخرس ، لكونها بمنزلة الكلام بالنسبة إليه عرفا ، فيصدق على إشارته العقد دون غيره.

ومن هذا الباب ما ورد في طلاقه (١) ، لا أنّه حكم تعبّدي ثبت من جهة الرواية ، وإلّا لوجب الاقتصار على موردها ، ولم يجر التعدّي عنه إلى غيره ، لعدم العلم بالمناط وأولويّة البيع من الطلاق بالتسامح ، لكون الاهتمام في الفروج أزيد إنّما تتمّ على تقدير ثبوت كون ذلك من باب التسامح وهو غير معلوم ، فإنّه قيل بالاكتفاء في الطلاق بقوله : اعتدّي (٢) ولم يكتف بمثله في البيع ، كما أنّه قيل بالاكتفاء في النكاح بالاستيجاب والإيجاب (٣) دون غيره ، فليس المستند في المقام قياسه بالطلاق ، ولا تعذّر التكلّم في حقّه ، فإنّه لا يتمكّن من المباشرة.

وأمّا التوكيل ؛ فغير متعذّر في حقّه ، لأنّه من العقود الإذنيّة الّتي لا يعتبر فيها اللفظ ، ويكتفى فيها بكلّ مظهر للرضا ، كما عرفته في ما تقدّم.

فالحصر المستند بما ذكرناه من كون الإشارة بالنسبة إليه بمنزلة الكلام عرفا وبناء الفقهاء ـ رضوان الله عليهم ـ على ذلك ، وإلّا لم يتمّ شي‌ء ممّا ذكروه من

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٢ / ٤٧ الباب ١٩ من أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه.

(٢) نسبه إلى البعض في جواهر الكلام : ٣٢ / ٦٥.

(٣) لاحظ! جواهر الكلام : ٢٩ / ١٣٤ ـ ١٣٥.

١٦٢

الفروع من صحّة عقده ، ولو مع التمكّن من التوكيل وإجراء هذا الحكم في جميع عقوده وإيقاعاته مع عدم ورود النصّ في غير الطلاق.

وبما ذكرنا اتّضح ما في قوله رحمه‌الله : (بل لفحوى ما ورد من عدم اعتبار اللفظ في طلاق الأخرس (١)) (٢).

قوله : (ثمّ لو قلنا بأنّ الأصل في المعاطاة اللزوم) (٣).

جعل الحكم بالصحّة واللزوم في إشارة الأخرس مطابقا للأصل بعد الاعتراف بما تقدّم من الشهرة المحقّقة والإجماع المنقول على اعتبار اللفظ في العقود ؛ من الغرائب ، فإنّ خروج الحكم عن الأصل في إشارة الأخرس من المتسالم عند الجميع.

ولذا تراهم متعرّضين فيها للمنشإ والمدرك ، ويعلّلون الحكم فيها بورود النصّ ، ولو في بعض مواردها ، ولو كان ذلك مطابقا للأصل لما احتاجوا إلى هذه التعليلات.

الخصوصيّات المعتبرة في ألفاظ العقود

قوله : (ثمّ الكلام في الخصوصيّات المعتبرة في اللفظ) (٤).

أقول : بعد ما عرفت من اعتبار الإنشاء في العقود ، وأنّه لا يكفي في تحقّقها مجرّد التعاطي من دون إنشاء ، فيقع الكلام حينئذ فيما يعتبر في ذلك الإنشاء من

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٢ / ٤٧ الباب ١٩ من أبواب مقدّمات النكاح وشرائطه.

(٢) المكاسب : ٣ / ١١٨.

(٣) المكاسب : ٣ / ١١٨.

(٤) المكاسب : ٣ / ١١٨.

١٦٣

الشرائط ، ووقع النظر في ذلك من جهات :

الأوّل : من جهة اعتبار اللفظ وعدمه.

وقد عرفت وستعرف اعتباره ، بل قيام الإجماع عليه في ما عدا الأخرس للنصّ والقواعد.

الثاني : من جهة الدلالة من حيث الصراحة والاكتفاء بالكناية.

الثالث : من حيث اعتبار العربيّة.

الرابع : من جهة اعتبار الهيئة من حيث اعتبار الماضويّة وعدمه.

الخامس : من جهة اعتبار خصوصيّة لفظ خاصّ ممّا عنون به تلك المعاملة.

السادس : من جهة لزوم المطابقة بين الإيجاب والقبول.

السابع : من جهة الترتيب واعتبار تقدّم الإيجاب على القبول.

وحيث إنّ هذه الامور ممّا لم يقم عليها دليل واضح فالمعتمد حينئذ هو حكم الأصل في ذلك ، لأنّه المرجع عند فقد الدليل ، وحينئذ فنقول :

إنّ هذه الامور منها ما يشكّ في اعتبارها في المعاملة بحسب ماهيّتها العرفيّة ؛

ومنها ما يشكّ في اعتبارها فيها بعد الفراغ عن جهة تحقّقها من جهة اعتبار الشرع في ترتّب الأثر عليها.

فإن كان من قبيل الأوّل ، فلا ريب أنّ الأصل فيه الفساد ، ولأنّ المعلوم من الأدلّة إمضاء الشارع للمعاملة على النهج المتعارف عندهم المتداول فيما بينهم ، ولم يثبت من الشارع إسقاط اعتبار شي‌ء ممّا يعتبر عندهم فيها ، وحينئذ فما لم يعلم كونه على النهج المتعارف ولم يعلم اجتماعه للشرائط المعتبرة عندهم في

١٦٤

ماهيّتها العرفية لم يعلم إمضاؤه من الشارع ، فلا يترتّب عليه الأثر.

وأمّا ما كان من هذه الامور خارجا عن الشرائط المعتبرة في الماهيّة قطعا ، وشكّ في اعتباره من جهة تصرّف شرعي ، فلا ريب أنّ الأصل حينئذ الصحّة ، لأنّ الأصل عدم اعتبار ذلك المشكوك في تلك المعاملة ، وحينئذ فنقول :

أمّا اللفظ ؛ فالظاهر عدم اعتباره من جهة العرف ، لظهور الصدق بالإنشاء الفعلي على بعض التقادير ، وإنّما ثبت اعتباره من الشرع ، لما قام عليه الإجماع ، كما عرفت فيما تقدّم من كلماتهم.

مضافا إلى ما يستفاد من كلماتهم من النهي عن الإنشاء بالامور المذكورة ، فإنّ النهي عنها ليس إلّا من جهة كونها إنشاء بالفعل لا من جهة خصوصيّة فيها ، والإنشاء بالتعاطي من جهة عدم تعارف الإنشاء به ـ كما عرفت ـ لم يرد فيه نصّ بالخصوص ، وإلّا فلا فرق بين عدم الاعتبارين من جهة الشرع بين الإنشاء بالتصفيق والمنابذة أو بالتعاطي ، وهذا ظاهر.

وقد يتوهّم دلالة ما تقدّم في الرواية : «إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام» (١) على ذلك ، وفسادها ظاهر ، فإنّ هذا الكلام مع قطع النظر عن خصوص المورد لا وجه لدلالتها على ذلك ، ومع ملاحظة خصوص المورد ففساد الدلالة أظهر وأشنع.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّ المدّعي حصر الآلة باللفظ ، لا حصر أصل التحليل به ، مع أنّه خلاف الضرورة ، لظهور حصوله بالإرث والحيازة والتعاطي والإباحة.

والعبارة الصالحة للمدّعى أن يقال : إنّما يحرّم ويحلل بالكلام إذا كان الحصر في خصوص المعاملات.

__________________

(١) الكافي : ٥ / ٢٠١ الحديث ٦ ، وسائل الشيعة : ١٨ / ٥٠ الحديث ٢٣١١٤ مع اختلاف يسير.

١٦٥

وأمّا الثاني ؛ فلأنّ السؤال إنّما وقع عن حكم المعاملة بعد تقدّم المقاولة قبل تملّكه للمبيع ، فأجابه عليه‌السلام بأنّه : إذا وقعت المعاملة عن الرضا الفعلي ، ولم تكن مبتنية على المقاولة السابقة ، فلا بأس بها ، ثمّ عقّبه بقاعدة كليّة بقوله عليه‌السلام : «إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام» (١).

وحينئذ فلا بدّ أن يكون جوابه عليه‌السلام من أحد أفراد هذه القاعدة لا محالة ، وظاهر أنّه بناء على ما ادّعى دلالته عليه هذا الكلام ، لا يكون الجواب من أفراد هذا الكلام.

فما ذكر على فرض تسليم دلالة الكلام عليه غير مراد في المقام ، لخصوص مورد السؤال والجواب.

والأوجه في توضيح المراد من هذا الكلام هو أن يقال : إنّه عليه‌السلام لمّا أجاب بصحّة المعاملة من جهة وقوعها عن الرضا الفعلي وعدم ابتنائها على المقاولة السابقة ، وكأنّ السائل توهّم مانعيّة المقاولة ، أو عدم تملّكه حالها تعبّدا أراد عليه‌السلام بيان قاعدة كليّة لدفع هذا التوهّم ، وأنّه لا يناط الحليّة والحرمة في المعاملات بما توهّم ، بل المحرّم والمحلّل إنّما هو إنشاء المتعاملين وكلامهما.

والمراد بمحرّمية الكلام ما إذا اشتملت المعاملة على ما يوجب الفساد ، وحينئذ وإن لم يكن المحرّم ثابتا في خصوص المورد ، ولكن إنّما ذكر استطرادا ومتمّا للقاعدة الكليّة ، فالحصر حينئذ يكون من قبيل حصر القلب.

وكيف كان ؛ فلا دلالة في الرواية على توقّف صحّة المعاملة على الإنشاء اللفظي.

__________________

(١) مرّ آنفا.

١٦٦

نعم ؛ يمكن استفادة ذلك منها بوجه آخر ، وهو التعبير عن المعاملة مع الإطلاق بالكلام ، فيستكشف منه أن لا تحقّق لها إلّا بالكلام ، وإلّا لعبّر عنها بما يعمّه.

هذا ؛ مع أنّ في ما تقدّم من دعوى الإجماع كفاية ، وأمّا سائر ما ذكره من الامور المتقدّمة ـ عدا الأمر السادس ـ لا ريب في عدم اعتبارها في تحقّق الماهيّة العرفيّة ، وحينئذ فمع إقامة الدليل على شي‌ء منها من جهة الشرع فالأصل فيها الصحّة.

قوله : (ولعلّ الأحسن منه أن يراد) .. إلى آخره (١).

وفيه ؛ أنّ هذا الجمع الذي ذكره أيضا ممّا لم يقم عليه دليل ولا حجّة ، ومجرّد كون القرينة في الاستعمال مقارنة حال أو سبق مقال لا يوجب عدم كون الإفادة بالألفاظ.

قوله : (ولذا لم يجوّزوا العقد بالمعاطاة) (٢).

وفيه ما عرفت من أنّ المعاطاة عندهم ليست من إنشاء المقاصد بغير الأقوال ، فلا ربط بالمقام ، وعلى فرض إرادتهم ذلك فلا دلالة فيه على ما ذكروا ذلك ، لأنّ المفروض حينئذ إنشاء البيع بالفعل وتفهيم المعنى بنفس الفعل ، ولو بقرينة سبق مقال ، وأين هذا من الإنشاء باللفظ والتفهيم به بقرينة حال؟

وظاهر أنّ المنع عن الأوّل لا يستلزم المنع عن الثاني ، وما ذكروه في

__________________

(١) المكاسب : ٣ / ١٢٦.

(٢) المكاسب : ٣ / ١٢٦.

١٦٧

المعاطاة من أنّها لا تكفي في البيع وإن حصل من الأمارات ما يدلّ على إرادة البيع إنّما يراد به ، وإن كان التقابض على وجه البيعيّة ، كالتقابض الواقع بعد البيع ، لا أنّه لا يكفي الإنشاء بالفعل ولو بضميمة القرائن الخارجيّة.

قوله : (ويمكن أن ينطبق على ما ذكرنا الاستدلال المتقدّم) (١).

لا يخفى عليك ما في هذا الانطباق وعدم إرادته بذلك ما ذكر قطعا ، كما اعترف بذلك بقوله ، ولكن هذا الوجه لا يجري في جميع ما ذكروه من أمثلة الكناية.

دعوى أنّ العقود أسباب شرعيّة توقيفيّة

قوله : (ثمّ إنّه ربّما يدّعى أنّ العقود المؤثرة في النقل والانتقال أسباب شرعيّة توقيفيّة) (٢).

وفيه ؛ أنّ الرجوع إلى أصالة عدم ترتّب الأثر ـ كما عرفت ـ إنّما يتّجه على تقدير كون الشكّ في أصل الصدق وتحقّق الماهيّة العرفيّة دون ما إذا كان الشكّ في اعتبار أمر زائد من جهة الشرع ، فإنّه حينئذ لا ريب في كون المرجع أصالة الصحّة ، للإطلاق.

وقد تقرّر في محلّه أنّ الأصل العملي إنّما يرجع إليه مع عدم أصل لفظي ، وكون المعاملات من الماهيّات العرفيّة وعدم كونها من المخترعات الشرعيّة ظاهر لا ستر فيه ، غايته اعتبار بعض الشرائط والموانع في بعضها يقتصر على ثبوتها مؤخّرا.

__________________

(١) المكاسب : ٣ / ١٢٧.

(٢) المكاسب : ٣ / ١٢٧.

١٦٨

قوله : (وقد عرفت سابقا أنّ تعريف البيع بذلك تعريف بمفهومه الحقيقي) (١).

وفيه ما قد عرفت من أنّ حقيقة البيع هي العلقة البدليّة الحاصلة بين العينين بإنشاء مستقلّ من طرف ، والمطاوعة من الطرف الآخر ، وليس من التمليك في شي‌ء ، ولذا لو باع العين الخارجي من زيد باعتقاد كونه عمرا فتبيّن كونه زيدا صحّ البيع ولزم ، وإن لم يتحقّق طيب النفس في البيع عليه بالخصوص.

ولو كان تمليكا لم يكن وجه لتملّك زيد مع عدم كون البائع قاصدا له بالخصوص صحّ البيع للموكّل من غير إشكال.

وقد صرّحوا بأنّ العينين ركنان في البيع ، والشخص غير ملحوظ فيه ، ولا يلائم ذلك كون البيع تمليكا.

نعم ؛ يترتّب عليه الملك ، ولكن لا يلازمه ذلك ، بل ينفكّ عنه إذا كان هناك مانع عن ترتّب الملك ، كما في بيع العبد ممّن ينعتق عليه ، فيترتّب عليه الانعتاق ، وبيع الدين ممّن عليه الدين ، فيترتّب عليه البراءة.

وبما ذكره المستشكل من أنّ التمليك ظاهر في الهبة ، وذلك لما عرفت من اقتضاء التمليك ملحوظيّة الشخص في الإنشاء ، فيكون قوله : ملّكتك ، في نفسه ظاهرا في التمليك المجّاني الأعم من الصدقة والهبة ، ومع التعقيب بالعوض يكون ظاهرا في خصوص الهبة ، حيث إنّ الشخص ملحوظ في التمليك ، والاشتراط لا يصحّ إلّا في الهبة ، فيكون من الهبة المشروطة فيها الثواب.

__________________

(١) المكاسب : ٣ / ١٣٢.

١٦٩

فقوله : ملّكتك هذا بكذا يمكن أن يكون من الهبة المشروطة فيها الثواب إن اريد من قوله : بكذا ، بيان شرط الثواب ، أي بشرط أن تملّكني ذلك.

ويمكن أن يكون بيعا لو استفيد ـ ولو بقرينة المقام ـ إرادة المبادلة ، فتكون الباء حينئذ للمقابلة ، كما في قولك : بعتك هذا بذاك.

الإيجاب بلفظ «اشتريت»

قوله : (وأمّا لفظ «شريت» فلا إشكال في وقوع البيع به ، لوضعه له ، كما يظهر من المحكيّ عن بعض أهل اللغة) (١).

كون الشراء موضوعا للمعنيين على نحو الاشتراك اللفظي وكونه من الأضداد خلاف ما يقتضيه دقيق النظر ، والظاهر أنّ معناه الموضوع له اللفظ هو ما ذكره في «القاموس» أخيرا من ترك الشي‌ء والتمسّك بغيره من غير فرق بين كون ذلك الشي‌ء مالا أو غيره (٢).

وعليه فيكون إطلاق الشراء في قوله تعالى : (وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) (٣) واردا على سبيل الحقيقة من غير تجوّز وإطلاق عمل البائع والمشتري معا سواء ، إلّا أنّه بالنسبة إلى المشتري لمّا كان ملحوظا فيه جهة المطاوعة يطلق عليه بصيغة الافتعال ، للدلالة على المطاوعة ، ومع التجرّد عن ذلك ينصرف إلى عمل البائع ، لظهور اللفظ حينئذ في الاستقلال ، وإلّا فهما

__________________

(١) المكاسب : ٣ / ١٣٠.

(٢) القاموس المحيط : ٤ / ٣٤٧ و ٣٤٨ مادة : «شرى».

(٣) البقرة (٢) : ٢٠٧.

١٧٠

متّحدان من جهة تحقّق أصل المعنى.

بل الّذي هو عمل للبائع إنّما هو ذلك دون البيع ، والبيع إنّما ينسب إليه باعتبار كونه موجدا له بالتوليد ، لا كونه عملا له من دون واسطة ، وذلك لما عرفت من أنّ البيع موضوع لنفس العلقة الحاصلة بين المالين بإنشاء مستقلّ من طرف ، والمطاوعة من طرف آخر.

وهذه العلقة لمّا كانت قائمة بالمتعاملين معا ، لأنّ كلّا منهما موجد لجزء العلّة وهما معا فاعل واحد صحّ الاستثناء إليهما معا باعتبار الفاعليّة ، كما في قوله عليه‌السلام : «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» (١).

ولكن لمّا كان البائع مستقلّا في الإنشاء ، والمبيع هو المقصود في المعاملة صار البائع كأنّه هو الموجد خاصّة لهذه العلقة ، والمبيع هو الّذي يقع عليه المبادلة هو الّذي يدفع من طرفه خاصّة دون ما يدفع من الطرف الآخر ، فاستند البيع إليه عند الإطلاق ، لأنّه المستحق لذلك ، واستند المبيع إلى ما يدفعه ، لأنّه المقصود بالذات ، وصارت النسبة إلى المشتري متوقفة على القرينة وإن صحّت أيضا باعتبار كونه جزء للعلّة.

وبهذا المعنى أطلق البيع في قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (٢) حيث إنّ الحلال إنّما هو نفس الماهيّة لا عمل البائع خاصّة ، كما أنّه بهذا المعنى أيضا مبدأ لاشتقاق الأفعال ، حيث إنّ المنسوب إلى الفاعل إنّما هو نفس هذه العلقة لا العلقة المنتسبة ، وليس له مصدر بهذا الاعتبار يكون الملحوظ فيه نسبة هذا المعنى.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٨ / ٥ الباب ١ من أبواب الخيار.

(٢) البقرة (٢) : ٢٧٥.

١٧١

نعم ؛ له مصدر واسم مصدر هما متأخّران عن الأفعال مأخوذان من المبيع بالمعنى المتقدّم بعد الانتساب لا يشتقّ منهما الأفعال ، نظير مصادر الفعل المزيد فيه ، بل هما معا مشتقّان من المصدر المجرّد ، كما لا يخفى ، والمصدر المتأخّر عن الفعل هنا هو البيع بالمعنى الّذي يعبّر عنه في الفارسيّة بـ «فروختن».

وإنّما قلنا من المصدر المتأخّر ، لما فيه من ملاحظة النسبة بعد انتساب أصل البيع إلى الفاعل ، لظهور أنّ المنسوب إلى الفاعل هنا بالنسبة الناقصة ليس نفس تملّك العلقة ، بل العلقة المنتسبة بعد اعتبار صدورها من البائع ، والاسم المصدر المتأخّر عنه هو المعرّى عن النسبة الثانية دون الاولى ، ويعبّر عنه في الفارسيّة بـ «فروش» ، وكون ذلك ملحوظا فيه نسبة واحدة ظاهر.

وأمّا الشراء فهو أيضا مصدر متأخّر ، وله مصدر واسم مصدر ، بملاحظة جهة الانفعال والمطاوعة أيضا يعبّر عنهما في الفارسيّة بـ «خريدن» و «خريدارى» ، وليس لهما لفظ في الفارسيّة من غير جهة الافتعال.

وحاصل الكلام في هذا المقام أنّ البيع والشراء من المتباينين لا يتصادقان على شي‌ء واحد ، ومع ذلك لا يستندان إلّا إلى البائع.

أمّا البيع ؛ فلكونه موضوعا للعلقة بين المالين على ما تقدّم تفصيله ، وهو بهذا المعنى ليس من المصدر ولا اسم المصدر ، بل هو من أسماء الأعيان.

وعلى هذا الاعتبار يكون مبدأ لاشتقاق الأفعال ، نظير اشتقاق التدهّن من الدهن ، والتموه من الماء.

وإنّما ينسب إلى البائع خاصّة ، لكونه عمدة في الإيجاد ، حيث إنّ الملحوظ في المعاملة تركا وأخذا هو المبيع ، فالبائع هو الموجد دون المشتري ،

١٧٢

والمشتري لمّا كان ملحوظا فيه جهة المطاوعة لم يصحّ نسبة البيع إليه ، لظهور التنافر بين جهة الإيجاد والمطاوعة ، وإطلاقه على عمل المشتري وإن نقل عن «الجامع» (١) ، وحكي عن بعض أهل اللغة أنّه أيضا من الأضداد (٢) ، إلّا أنّ ما استشهدوا به لذلك ممّا لا شهادة فيه على ما ذكره ، لأنّ احتمال التغليب في «البيّعان» قائم.

والحمل على عمل البائع في قوله عليه‌السلام : «لا يبيع أحدكم على بيع أخيه» (٣) ممكن ، ومع ذلك كونه من الأضداد بديهي الفساد ، لأنّ الإطلاق على عمل المشتري باعتبار الموجدية كالبائع ممكن ، غايته كون الإطلاق من التعرية من جهة المطاوعة ، وملاحظة مجرّد التسبيب في الإيجاد ، ومع ذلك لا يخلو عن مخالفة لظاهر الاستعمالات ، بل لم نجد إطلاقه صريحا على عمل المشتري في شي‌ء من الأخبار والآثار.

وأمّا الشراء ؛ فلأنّه ـ كما عرفت ـ ترك الشي‌ء والتمسّك بغيره ، وهذا المعنى يختصّ بعمل البائع ، لأنّه التارك دون المشتري ، وذلك لما عرفت أنّ الملحوظ في المعاملة هو المبيع ، فيكون الشاري هو البائع.

وحيث أنّ صاحب الثمن مطاوع لعمل البائع يطلق عليه المشتري ، ولا يصحّ أن يطلق عليه الشاري.

فكونه من الأضداد بيّن الفساد ، فإنّ الشراء لم يطلق على معنى البيع ، ولا

__________________

(١) نقل عنه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة : ٤ / ١٥٢ ، الجامع للشرائع : ٢٤٦.

(٢) القاموس المحيط : ٤ / ٣٤٧.

(٣) لاحظ! جواهر الكلام : ٢٢ / ٢٤٥ ، ومستدرك الوسائل : ١٣ / ٢٨٦ الحديث ١٥٣٧٢.

١٧٣

البيع على معنى الشراء ، بل هما من المتباينين ولا ينسبان إلى البائع ، وإنّما ينسبان إلى صاحب المثمن على نحو المطاوعة ، فيقال عليه : إنّه مبتاع ومشتري ، فالإنشاء من طرفه «ابتعت» و «اشتريت» ، لا «بعت» و «شريت» والإنشاء بهما مختصّ بالبائع.

وبما ذكرنا يتّضح النظر فيما ذكره في «الجواهر» في هذا المقام ، قال رحمه‌الله : (ويتحقّق إيجابه ـ أي البيع ـ بـ «بعت» ، بل وب «شريت» ، على المشهور شهرة عظيمة كادت تكون إجماعا ، بل لعلّها كذلك ، لاشتراك كلّ من لفظي البيع والشراء بين المعنيين ، فهما حينئذ من الأضداد ، كما عن كثير التصريح به.

بل في «مصابيح» الطباطبائي : لا خلاف بينهم في وضعهما للمعنيين ، فيصحّ استعمال كلّ منهما حينئذ في الإيجاب والقبول على الحقيقة.

ولا يقدح الاشتراك وإلّا لامتنع الإيجاب بالبيع ، ولا ظهورهما في [أشهر] معنييهما ، لوضوح القرينة المعيّنة لغيره ، وهي وقوع البيع من المشتري ، والشراء من البائع على أنّ استعمال الشراء في البيع كثير.

بل قيل : إنّه لم يرد في الكتاب العزيز غيره ، نحو : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ) (١). [و] (الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) (٢). (وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) (٣).

وكذا استعمال البيع في الشراء كثير [أيضا] ، ومنه : «البيّعان بالخيار ما لم

__________________

(١) يوسف (١٢) : ٢٠.

(٢) النساء (٤) : ٧٤.

(٣) البقرة (٢) : ٢٠٧.

١٧٤

يفترقا» (١) و «لا يبيع أحدكم على بيع أخيه» (٢) على المشهور في تفسيره ، كما ستعرفه في محلّه ، وغير ذلك من الشعر والنثر.

ودعوى هجر ذلك فيها في العرف المتأخّر ممنوعة ، إذا اريد بها الهجر على وجه يكون مجازا ومسلّمة ، ولكن لا يقدح إذا اريد بها غير ذلك ، فلا بأس باستعمال كلّ منهما حينئذ في الإيجاب والقبول.

نعم ؛ الظاهر أنّ «بعت» في القبول تتعدّى إلى مفعول واحد ، و «شريت» في الإيجاب إلى مفعولين ، كبعت فيه.

فلو قال البائع : شريتك العين ، تعيّن الإيجاب من وجهين : أحدهما وقوع ذلك من البائع ، والثانية التعدية إلى مفعولين.

ولو قال : شريتها ، فمن وجه واحد ، وكذا القبول لو قال المشتري : بعتها ، أو بعت.

ولو وكّل اثنين في بيع موصوف وابتياعه بثمن واحد ، فقال أحدهما للآخر : بعت ، أو شريت ، فقال الآخر : بعت ، أو شريت ، فإن أوجبنا تقديم الإيجاب أو قال الأوّل : بعت ، والثاني : شريت كان بيعا ، حملا للعقد على الصحيح ، وللصيغتين على ظاهرهما ، وإلّا احتمل ذلك مطلقا نظرا إلى الغالب من تقديم الإيجاب ، وإن لم يجب ، أو في غير صورة العكس فيبطل ، لتعارض الأمارتين ، أو يصحّ شراء ترجيحا لدلالة اللفظ ، وهو الأقرب) (٣) ، انتهى.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٨ / ٥ الباب ١ من أبواب الخيار.

(٢) لاحظ! مستدرك الوسائل : ١٣ / ٢٨٦ الحديث ١٥٣٧٢.

(٣) جواهر الكلام : ٢٢ / ٢٤٤ و ٢٤٥.

١٧٥

وفيه ما عرفت من تضادّ معنى البيع والشراء وعدم تصادقهما على شي‌ء واحد ، ومع ذلك يصحّ الإيجاب بهما للبائع بلفظ «بعت» و «شريت».

وأمّا في القبول ؛ فيصحّ ابتعت واشتريت ، لا بـ «بعت» و «شريت» ، واستعمال بعت في القبول متعدّيا إلى مفعول واحد لم نجد له أثرا في الأخبار والآثار ولا في العرف.

نعم ؛ يمكن القول بالصحّة بـ «شريت» على نحو من التجوّز.

قوله : (ولو وكّل اثنين في بيع موصوف) (١).

فيه ؛ أنّ تمييز البائع عن المشتري ـ كما عرفت ـ ليس بقصد عنوان البيع والشراء ، بل إنّهما بملحوظيّة العوض على نحو الاستقلال والبيع ، فإنّ تحقّق ذلك وطابق اللفظ لذلك وضعا كان صاحب العوض الملحوظ على نحو الاستقلال بايعا والآخر مشتريا ، وإن لم يطابق لذلك كان البيع فاسدا لفساد الإنشاء باستعمال الغلط ، وإن لم تتحقّق ذلك وكان العوضان ملحوظين على نحو الاستقلال كانت المعاملة حينئذ صلحا صحيحا إن طابقه اللفظ وضعا وإلّا كان صلحا فاسدا ، لفساد الإنشاء باستعمال الغلط.

هل تعتبر العربيّة في العقد؟

قوله : (وفي الوجهين ما لا يخفى) (٢).

لا ريب أنّ التقييد بالعربيّة أمر زائد على ما يتحقّق به الماهيّة العرفيّة ،

__________________

(١) جواهر الكلام : ٢٢ / ٢٤٥.

(٢) المكاسب : ٣ / ١٣٥.

١٧٦

فالأصل عدم اعتبارها ، والتأسّي بالفعل إنّما يجب على تقدير معلوميّة الوجه ، لا مع عدمها.

واعتبار الماضويّة لا دلالة فيه على اعتبار العربيّة بوجه.

هل يعتبر عدم اللحن في العقد؟

قوله : (وهل يعتبر عدم اللحن من حيث المادّة والهيئة بناء على اشتراط العربي؟ الأقوى ذلك) (١).

لا وجه لهذا البناء ، بل الحقّ اعتباره ، لعدم العبرة بالغلط في شي‌ء من اللغات ، وتوقّف تحقّق الماهيّة العرفيّة على الإنشاء الصحيح دون الغلط ، فوجه الاعتبار أصالة عدم تحقّق الماهيّة العرفيّة أصالة عدم ترتّب الأثر ، للزوم الاقتصار على المتيقّن من أسباب النقل شرعا.

هل تعتبر الماضويّة في العقد؟

قوله : (وعن القاضي في «الكامل» (٢) و «المهذّب» (٣) عدم اعتبارها) ـ إلى قوله : ـ (ولا يخلو هذا من قوّة) (٤).

بل لا وجه لاعتبار الماضويّة ، لظهور تحقّق العقد بدونها عرفا ، وعدم دليل على الاعتبار شرعا ، والاحتمال يدفع بالأصل ، فيتحقّق بالمضارع وبالجملة

__________________

(١) المكاسب : ٣ / ١٣٥.

(٢) حكى عنه في مختلف الشيعة : ٥ / ٥٣.

(٣) حكى عنه في مختلف الشيعة : ٥ / ٥٣.

(٤) المكاسب : ٣ / ١٣٨.

١٧٧

الاسميّة ، كقولك : هذا مبيع لك بكذا مثلا.

نعم ؛ لا يصحّ بالأمر ، لتمحّضه لإنشاء مباين للإنشاء العقدي ، كما لا يجوز أيضا بالاستفهام والتمنّي.

عدم جواز تقديم القبول بلفظ «قبلت»

قوله : (فإن كان بلفظ «قبلت» فالظاهر عدم جواز تقديمه) (١).

وهو كذلك ، بل هو مقطوع به في كلامهم ، وقد صرّح جملة منهم بخروجه عن محلّ النزاع ، والوجه فيه إنّ «قبلت» لمّا لم يكن له معنى سوى المطاوعة وقبول فعل الغير ، وامتنع تحقّق المطاوعة الحاصلة بالإنشاء قبل وقوع الغير ، لظهور امتناع تحقّق التأثّر قبل تحقّق التأثير ، فكما أنّه يمتنع الانكسار في الخارج بدون الكسر كذلك يمتنع تحقّق المطاوعة للإيجاب بدون الإيجاب ، أو للإيجاب المتأخّر ، وإمكان تحقّق حالة الرضا للنفس بأمر مستقبل أمر غير إنشاء القبول والتأثّر ، وإمكان تعقّل تقدّم الأوّل لا يستلزم إمكان تعقّل الثاني.

وبهذا يجاب عمّا يقال : إنّ الرضا بشي‌ء لا يستلزم تحقّق فعله ، فقد يرضى الإنسان بالأمر المستقبل ، لا بما أجابه شيخنا قدس‌سره بقوله : (بل المراد [منه الرضا بالإيجاب على وجه يتضمّن إنشاء نقل] ماله في الحال إلى الموجب على وجه العوضيّة ، لأنّ المشتري ناقل كالبائع.

وهذا لا يتحقّق إلّا مع تأخّر الرضا عن الإيجاب ، إذ مع تقدّمه لا يتحقّق النقل في الحال ، فإنّ من رضي بمعاوضة ينشئها الموجب في المستقبل لم ينقل

__________________

(١) المكاسب : ٣ / ١٤٣.

١٧٨

في الحال ماله إلى الموجب بخلاف من رضي بالمعاوضة الّتي أنشأها الموجب سابقا ، فإنّه يرفع بهذا الرضا يده من ماله ، وينقله إلى [غيره على] وجه العوضيّة) (١).

لأنّ ما ذكرناه من الوجه بعدم الجواز جار في الإنشاء القبول في مطلق العقود ، ولو فيما لا يتضمّن قبوله لنقل أصلا ، كما في الهبة والوكالة والعارية ، وكلماتهم في خروج التقديم بلفظ «قبلت» عن محلّ النزاع عام في جميع العقود.

هذا ؛ مضافا إلى أنّ ترتّب النقل في الحال ليس من لوازم الإنشاء ، فإنّ إنشائيّة الإنشاء أمر وترتّب الأثر أمر آخر ، وحينئذ فنقول : إنّ فرض تعقّل إنشاء القبول مع التقدّم والتأخّر ، فعدم ترتّب الأثر في الحال مع التقدّم وترتّبه مع التأخّر لا يوجب خروجه مع التقدّم عن كونه أحد ركني العقد ، لظهور أنّ ترتّب الأثر إذا توقّف على أمرين من الإيجاب والقبول ، فإنّما يتحقّق بتحقّق الجزء الأخير من غير فرق بين كون ذلك هو الإيجاب أو القبول.

فالقبول مع التأخّر إنّما يترتّب عليه النقل في الحال ، لكون الجزء الأخير للعقد ، ومع التقدّم يتوقّف على تحقّق الإيجاب ، فيتحقّق النقل حينئذ لتحقّق الجزءين.

هذا إن اريد بقوله رحمه‌الله : (إذ مع تقدّمه لا يتحقّق النقل في الحال) (٢) أنّه يتأخّر النقل في الحال [يعني] أنّه يتأخّر النقل عن القبول مع التقدّم).

وإن اريد بذلك عدم تضمّنه لإنشاء النقل أصلا مع التقدّم ، ففيه أنّه لا وجه

__________________

(١) المكاسب : ٣ / ١٤٤.

(٢) المكاسب : ٣ / ١٤٤.

١٧٩

للتفرقة بذلك بعد فرض صحّته وحصول إنشائه وتعلّقه بإيجاب واحد ، فإنّ الدلالة على إنشاء النقل في لفظ «قبلت» إنّما ينشأ من جهة تعلّقه بالإيجاب المتضمّن للمعاوضة دون ما لا يتضمّن للمعاوضة.

وهذا لا يفرق في حصوله بعد صحّته قبل الإيجاب أو بعده ، ولا دخل للتأخّر في الدلالة على إنشاء النقل ، وهذا ظاهر.

وما ذكرناه هو المراد ممّا حكي عن «نهاية الإحكام» من أنّ الأصل في القبول «قبلت» وغيره بدل ، لأنّ القبول على الحقيقة ممّا لا يمكن الابتداء به ، فعلّل عدم الجواز بعدم الإمكان ، لا بعدم تضمّنه لإنشاء النقل وخروجه عن كونه أحد ركني العقد (١).

جواز تقديم القبول بلفظ «اشتريت» ونحوه

قوله : (وإن كان التقديم بلفظ «اشتريت» أو «ابتعت» أو «تملّكت» أو «ملّكت هذا بكذا» فالأقوى جوازه) (٢).

وذلك لأنّه ليس المنشأ في شي‌ء من هذه الألفاظ نفس القبول والمطاوعة ، كما كان في لفظ «قبلت» ، بل المنشأ فيها أمر هو أثر لفعل البائع ومتّصف بالمطاوعة في نفس الأمر ، والدلالة عليها إنّما هي بالهيئة الّتي هي وضعها وضع الحروف ، فلا تكون ملحوظة على سبيل الاستقلال ليس إلّا نفس الفعل المنسوب إلى القابل ، فلذا يجوز الابتداء به دون «قبلت».

__________________

(١) نهاية الإحكام : ٢ / ٤٤٨ ، وحكى عنه في مفتاح الكرامة : ٤ / ١٥٣.

(٢) المكاسب : ٣ / ١٥٠.

١٨٠