حاشية المكاسب

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي

حاشية المكاسب

المؤلف:

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي


المحقق: مؤسسة آية الله العظمى البروجردي
الموضوع : الفقه
الناشر: الغفور ـ قم
المطبعة: قرآن كريم ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-92663-2-1
الصفحات: ٦٤٠

وهو الزائد ، لا يوجب أمرا ، بل هو في نفسه ممّا يتسامح ، والأقوى الأوّل.

لو اختلف البائع والمشتري في ثبوت الغبن وعدمه ، فإمّا أن يكون ذلك من اختلافهما في القيمة وقت العقد أو من جهة الاختلاف بعده ، بأن يدّعي أحدهما تغيّرها بعده حتّى يكون الزيادة والنقيصة من جهته ، وينكر الآخر أصل التغيّر حتّى لا يوجب الخيار ، أو يوجبه على اختلاف الموارد. فالشيخ قدس‌سره أفتى فيهما بأنّ القول قول منكر ثبوت الخيار ؛ لأصالة عدم التغيّر واللزوم (١).

وإمّا أن يكون ذلك من جهة اختلافهما في تأريخ العقد وإن كانا متّفقين في التغيّر ، وقد أرجع قدس‌سره حكم هذه الصورة أيضا إلى الاوليين (٢).

ثمّ قال قدس‌سره : ولمّا كان تأريخ التغيّر معلوما ولكنّ الشكّ في سبقه على العقد وعدمه ، فالأصل وإن اقتضى تأخّر العقد الواقع على الزائد إلّا أنّ إثبات وقوع العقد به يكون مثبتا (٣)

هذا ؛ ثمّ قال ـ دام ظلّه ـ : علينا تحقيق أمر أوّلا ، وهو أنّ الحالة السابقة على العقد لو كانت معلومة من حيث تساوي قيمة الثمن والمثمن وعدمه هل يثمر شيئا أم لا؟

فنقول : فلو كانت الحالة السابقة معلومة فالاستصحاب التنجّزي لا يثمر ؛ لأنّ المقصود من جريانه نفي قاعدة الضرر بسببه أو إثباتها ، وهما متوقّفان على أن يكون العقد واقعا على المتساويين وعدمه ، فهما إمّا أن يكونا علّة لثبوت الضرر ، أو نفيه ، أو موضوعا لأحدهما.

وكيف كان ؛ فإثبات وقوع العقد على المتساويين وعدمه بسبب

__________________

(١) المكاسب : ٥ / ١٦٩.

(٢) المكاسب : ٥ / ١٦٩.

(٣) المكاسب : ٥ / ١٦٩.

٤٤١

الاستصحاب ثمّ إثبات الضرر به أو نفيه يكون مثبتا ، لأنّ الوقوع وعدم الوقوع المذكور يكون من لوازم عقليّة المستصحب.

وأمّا الاستصحاب التعليقي ؛ وهو أنّه لو كان العقد واقعا على المتساويين لم يكن ضرريّا أو على عدمه فيكون ضرريّا ، أيضا لا يفيد ، لأنّ المعلّق والمعلّق عليه ليسا حكما شرعيّا ، فتأمّل.

فعلى ذلك حال ما لو كان (١) للقيمة حالة سابقة على العقد وما لو لم يكن سواء.

إذا ظهر ذلك فتبيّن أنّ التمسّك لإثبات اللزوم وعدم كون العقد ضرريّا بأصالة عدم التغيّر أيضا يكون مثبتا ولا يفيد شي‌ء أصلا ، فلا مناص إلّا بالتمسّك بأصالة عدم الضرر الّذي كان العقد متّصفا به قبل وجوده ، ولكنّ المسألة مبنيّة على أن لا يكون القيد ـ وهو «لم يكن ضرريّا» ـ قيدا للعقد اللازم الموجود ، فارغا عن الوجود ، بمعنى أن لا يحدث العنوان في العقد ، فإنّه لو كان العقد الموجود الّذي لم يكن ضرريّا محكوما باللزوم فتصير القضيّة ظاهرة في السالبة بانتفاء المحمول ، فلا يثمر استصحاب العدم الأزلي.

وأمّا لو لم يكن كذلك بل كان نفس العقد متّصفا بعدم كونه ضرريّا ، فيجري فيه استصحاب نقيض الموضوع ، فيثبت نقيض الحكم الملازم لحكم العامّ.

فالحاصل ؛ أنّه إن أمكن إجراء الأصل الموضوعي بالنحو المذكور ـ وصورته : أن يقال بأنّ العقد لازم إلّا ما كان ضرريّا ثمّ شكّ في هذا العقد بأنّه ضرري أم لا ـ فيستصحب عدم الضرريّة المتّصف بها العقد قبل وجوده ، فيثبت

__________________

(١) أي : يشترط أن يكون الترتب شرعيّا ، كما في حرمة العصير إذا غلى ، «منه رحمه‌الله».

٤٤٢

نقيض حكم أصل الموضوع ، وهو عدم اللزوم ، وهو ملازم لحكم العامّ ، وإلّا فلا سبيل إلّا بالتمسّك إلى أصالة اللزوم واستصحابه ، ومن ذلك ظهر حكم الصورتين الأخيرتين.

يشترط في ثبوت الخيار أمر آخر ، وهو أن يكون الغبن فاحشا ، وقد حدّ ذلك بحدود ، والظاهر أنّ القدر المتيقّن منه هو الزائد عن العشر ، وأمّا العشر وما نقص عنه فهو متسامح فيه بالنسبة إلى كلّ معاملة ، والأحسن جعل المعيار هو العرف وأهل الخبرة على ما أظنّ.

وأمّا ما لو شكّ في فرد من أنّه من المتسامح فيه أو غيره ، فقد قال الشيخ قدس‌سره : المرجع أصالة ثبوت الخيار ، ثمّ احتمل أن يكون أصالة اللزوم هو المرجع (١).

نقول : يختلف الحكم باختلاف المبنى ، فإن قلنا بأنّ الضرر منصرف إلى ما لا يتسامح فيه ، بحيث لا يطلق على ما لا يتسامح فيه الضرر ، فتصير الشبهة مفهوميّة ، لأنّ منشأها عدم معرفة حدّ المفهوم من جهة الانصراف. فلمّا كانت القاعدة حاكمة على أصالة اللزوم.

فإن قلنا بأنّ إجمال الحاكم يسري إلى المحكوم فقاعدة اللزوم أيضا يصير مجملا ، فلا بدّ من الرجوع إلى أصل آخر من استصحاب عدم التأثير وغيره.

وإن قلنا بأنّ نظر الحاكم إنّما يكون في مقدار المتيقّن من مفهوم الحاكم ونظره ، فلا يسري إجماله إلى عموم اللزوم ، ويكون هو المرجع ، والقاعدة غير جارية ؛ لأنّ مفهوم العامّ إذا صار مجملا فلا يجوز التمسّك به إلّا في الأفراد

__________________

(١) المكاسب : ٥ / ١٧٠.

٤٤٣

المتيقّنة كونها مشمولا.

وأمّا إن قلنا بأنّ كلا منهما ضرر وإنّما اخرج بناء العقلاء المتسامح فيه عن العموم ، لا أن يكون غير مشمول عليه من الأوّل ، فتجري القاعدة في المشكوك فيه بلا ارتياب ، ولا يتوهّم عدم جوازه لأنّ الشبهة مصداقية ؛ لأنّه قد تحقّق في محلّه جواز التمسّك بالعموم في المصداق إذا كان المخصّص لبيّا (١).

مناط الضرر الموجب للخيار

مسألة : فالمدار في الضرر في المقام هل هو الحالي أو المآلي؟

لا ريب أنّ المناط في باب المعاملات الضرر المالي ، كما يستفاد من نفس القاعدة ، وأجراها الأصحاب في أبواب المعاملات فيما إذا كان الضرر شخصيّا ماليّا مطلقا.

ولا مجال لمقايسة المقام بباب التكاليف والعبادات ، فإنّ المناط فيها غير المقام ، وليس هناك المعاملة وقاعدة الضرر مخصّصة فيها من جهة الضرر المالي بالاتّفاق ، كما ورد النصّ عليه في باب الوضوء (٢).

ومن المعلوم أنّه ليس مخصوصا به ، بل يجري في التراب وشرائه للتيمّم أيضا ، كما أجروه في الآلات لتحصيل الماء للوضوء ، لأنّ الأصحاب ـ قدّست أسرارهم ـ فهموا بأنّ لا خصوصيّة لماء الوضوء في ذلك ، بل المناط في غيره أيضا موجود ، وهو كون الواجب بالنسبة إلى مثل هذه الشروط مطلقا.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٢٢.

(٢) وسائل الشيعة : ٣ / ٣٨٩ الحديث ٣٩٤٨ و ٣٩٤٩.

٤٤٤

وبالجملة ؛ فليس في باب التكاليف والعبادات معاملة ، بل إنّما المقصود بها تحصيل الشرط ، مضافا إلى أنّ أغلب التكاليف إنّما هو ضرري ، فأصل التكليف ينافي مع نفي الضرر ، فيستكشف من ذلك أنّ الضرر في باب التكاليف غير منفي ، فإذا كان المقصود بها تحصيل الشرط الواجب المطلق أو مقدّمته فيجب ما لم يصل إلى حدّ الحرج ، ولذلك ترى الشرّاح بعد قول الماتن وهو : (ولو فقد التراب) يذكرون : عقلا وشرعا.

ومن المعلوم أنّه لا يصدق الفقدان الشرعي إلّا إذا وصل حدّ التحصيل إلى حدّ الحرج ، أو الضرر بحال المكلّف ، وإلّا فمن تمكّن من تحصيل التراب للتيمم بشرائه ولو بأضعاف قيمته ، فلا يصدق عليه الفاقد ما لم يضرّ بحاله ، حتّى يوجب الحرج عليه ، فمن ذلك كلّه ترى الأصحاب ـ قدّست أسرارهم ـ متسالمين بمحكوميّة القاعدة في باب التكاليف ، فاغتنم.

ظهور الغبن كاشف عن ثبوت الخيار من زمان الحدوث

مسألة : الظاهر أنّ ظهور الغبن كاشف عن ثبوت الخيار من زمان حدوث العقد إن لم يكن المتمسّك به في إثبات الخيار هو الإجماع ، وإلّا فيؤخذ بقدر المتيقّن منه ، وهو بعد الاطّلاع على الغبن ، وقد عرفت تماميّة دلالة القاعدة عليه (١).

وأمّا ما يتراءى من بعض الآثار الدالّة على ثبوته بعد الظهور مثل التصرّف فإنّه لا يكون مسقطا إلّا بعد الظهور ، فهو لمّا كان مسقطيّته من جهة الكشف عن

__________________

(١) مع أنّ الضرر أمر واقعي ، فالحكم دائر مداره ، «منه رحمه‌الله».

٤٤٥

الرضا ، ومعلوم أنّه لا كشف إلّا بعد الظهور فلذلك اشترط فيه كونه بعد الظهور ، وكذلك نظائره.

مسقطات خيار الغبن

وأمّا المناط في إسقاط هذا الخيار وإعماله ، فنقول : أمّا إسقاطه فيجوز مطلقا ولو قبل ظهور الغبن ؛ لأنّه خفيف المئونة ، فإذا ثبت مقتضيه ـ وهو العقد ـ ولو لم يتمّ سائر معدّاته ، فلمّا كان في معرض ثبوت الحقّ وتزلزل المعاملة فيسقطان الخيار حتّى تنجّزت المعاملة ، وهذه ثمرة مهمّة يتعلّق بها الغرض العقلائي ، ومرجع ذلك إلى إبراء كلّ منهما الآخر على تقدير وجود الحقّ ، أو إبراء أحدهما.

ولا يتوهّم أنّ التعليق هنا مضر ؛ لأنّه لا يتعلّق في صورة الإنشائيّة ، وإنّما التعليق يكون في لبّ الواقع ، وقد ذكرنا أنّه لا يضرّ إذا كان التعليق على ما يتوقّف عليه مفهوم الإنشاء وموضوعه ؛ لأنّه لا دليل على بطلان التعليق إلّا الإجماع ، والمتيقّن منه في غير هذا المورد (١).

وبالجملة ؛ إذا كان للحقّ وجودا وعدما أبواب متعدّدة ، بعضها اختياره بيد ذي الحقّ فله فتحه من ناحيته أو سدّه ، كما في الإيجاب الّذي ينشئه الموجب ، مع أنّه لا يترتّب الأثر على فعله خاصّة ، بل متوقّف على امور اخر ، إلّا أنّ غرضه

__________________

(١) وهو ما لا يتوقّف عليه مفهوم الإنشاء ، مثل اشتراط قدوم الحاجّ أو اشتراط أمر محقّق الوقوع المسمّى بالوصف ، وأمّا غير ذلك من الموارد فلم يدلّ عليه دليل ، خصوصا ما كان المنشأ فيه معلّقا ، «منه رحمه‌الله».

٤٤٦

سدّ باب عدم الأثر من ناحية نفسه ، كذلك في المقام غرض المسقط فتح باب عدم هذا الحقّ من ناحيته ، لأنّا بيّنا في محلّه أنّ الحقّ ما يكون له طرفان ، زمام أحدهما بيد الشارع والآخر بيد من له الحقّ ، بخلاف الحكم ، فإنّه أمر مجعول من الشارع ، ولا يكون أمر وضعه ورفعه إلّا بيده.

وكيف كان ؛ فلمّا كان الخيار من مقولة الحقّ فيجوز إسقاطه ، وكذلك شرط سقوطه في متن العقد.

وأمّا إعمال هذا الخيار فلا يعقل إلّا بعد تحقّقه ، بمعنى ظهوره وصيرورته معلوما ؛ لأنّ الإعمال الّذي هو عبارة عن رضا التخايري ـ أي لب الرضا لا إنشاؤه ـ لا يتعلّق إلّا بما كان له طرفان ، وقبل ظهور الحقّ لا يتحقّق هذا المعنى.

فلو كان قاطعا بثبوت الحقّ فأقدم ، فلا إشكال في سقوط خياره به ، إنّما الكلام فيما لو كان شاكّا لجهله بالموضوع ، أو الحكم ، فيحتمل فيه وجهان :

السقوط ؛ نظرا إلى أنّه مع كونه محتملا لثبوت الحقّ ، فكأنّه أقدم على حال ورضي بالمعاملة.

وعدمه ؛ لأنّه مع كونه محتملا لعدم ثبوت الحقّ ورجاء عدمه أقدم ، فلا موجب لسقوطه ؛ لأنّه ليس كاشفا قطعيّا عن الرضا والالتزام ، وهو الأقوى ، لأنّه لا أقلّ يوجب الشكّ فيرجع إلى استصحاب بقاء الخيار.

وكيف كان ؛ فإن كان التصرّف بعنوان الالتزام بالمعاملة فلا ريب في كونه مسقطا ، وأمّا إن لم يكن كذلك ، بمعنى لم يتحقّق كونه مسقطا فعليّا ، فالتحقيق هو التفصيل المذكور ، والأصل عدم السقوط في ما اشتبه إلّا ما قام الإجماع عليه.

٤٤٧

الثاني من مسقطات هذا الخيار تصرّف المشتري المغبون أو البائع تصرّفا ناقلا على نحو اللزوم ، وقد نسب ذلك إلى المشهور (١) ، وقد وقع في المقام كلام بين الشهيد في «اللمعة» والمشهور ، فإنّه التزم بعدم السقوط وردّ البدل إلى المغبون (٢) ، وتلقّاه بالقبول شيخنا قدس‌سره لكونه مقتضى للقاعدة ، وأنكر تحقّق الإجماع على خلافه (٣).

قال ـ دام ظلّه ـ : الظاهر أنّ ما التزم به الشيخ قدس‌سره هنا خلاف ما عليه من المبنى كما يظهر من كلامه قدس‌سره في باب خيار المجلس (٤) ولكن يظهر من كلامه في خيار الشرط الالتزام به لبدل مع تلف العين (٥) ، فلا منافاة بين ما التزمه هنا وما كان مسلكه في حقّ الخيار على ما أظنّ من كون الخيار حقّا متعلّقا للعين ، فما لم يكن العين باقية فلا يبقى الموضوع لها ، ولا دليل على انقلابها بالبدل مع التعذّر ، كما لا يلتزم به قدس‌سره.

فلازم ذلك وقوع التعارض والمزاحمة بين حقّ الخيار والعقد الناقل للعين ، ثمّ الالتزام ببطلان التصرّف الناقل بعد فسخ من له الحقّ ، لتقدّم مقتضيه أو القول بصحّته ؛ لعدم بقاء الموضوع للفسخ والخيار (٦).

ولكن على ما هو التحقيق عندنا من كون الخيار حقّا متعلّقا للعقد وسلطنة

__________________

(١) المكاسب : ٥ / ١٨٧.

(٢) لاحظ! المكاسب : ٥ / ١٨٨ ، واللمعة الدمشقية : ١٢٨.

(٣) المكاسب : ٥ / ١٨٩.

(٤) المكاسب : ٥ / ٨١ و ٨٢.

(٥) المكاسب : ٥ / ١٣٩ و ١٤٠.

(٦) المكاسب : ٥ / ١٨٨.

٤٤٨

على حلّه ، كما هو ظاهر الأدلّة بلا مساس له بالعين.

نعم ؛ لمّا كان الفسخ مقتضيا لرجوع كلّ مال إلى مالكه الأوّل ، لأنّه إبطال للعقد ، فيصير من تبعات الفسخ هو هذا المعنى ، بلا لزوم أن يكون له دخل في ثبوت الحق ، حتّى يكون من أحكام هذا الحقّ وثبوته بقاء العين ـ كما يظهر من بعض (١) ـ فلازمه تأثير الفسخ بلا لزوم مزاحمة والرجوع إلى البدل ، جمعا بين اقتضاء الفسخ وثبوت الحقّ وصحّة التصرّفات الناقلة ، لكونها أيضا عن حقّ ، فأدلّة لزومها مقتض لذلك.

ومن ذلك ظهر أنّه لا يمنع عن هذا الحقّ شي‌ء من التصرّفات اللازمة أو الجائزة ، فما دام العين باقية على حالها بلا أن يكون متعلّقا لحقّ الغير ، فيرجع إلى مالكها.

وأمّا إن صار متعلّقا لحقّ الغير فيرجع إلى البدل إن لم ترجع بنفسها أو باختيار من عليه الخيار ، وإلّا فلا يلزم بالفسخ ، لعدم تعلّق حقّ لذي الخيار بالعين مستقلّا ، كما عرفت. ففيما إذا كانت مقولة بالعقود الجائزة يكون رجوع نفس العين مشروطة ، وظهر أيضا حكم سائر التصرّفات.

هذا كلّه في تصرّف المغبون ، أمّا الكلام في تصرّف الغابن فلا وجه لسقوط خيار المغبون ، فإن فسخ فوجد العين خارجة عن ملك الغابن فقد احتمل هنا وجوها على اختلاف المبنى.

فإن قلنا بأنّ الخيار حقّ تعلّق بالعين ، فلما كان تعلّق حقّ ذي الخيار مقدّما على الحقّ الّذي انتقل إليه العين ومن عليه الخيار ، فيكون أمر العقد الناقل بيده ،

__________________

(١) نقله عن جماعة في المكاسب : ٥ / ١٨٧.

٤٤٩

فله الإمضاء وله الإبطال وتلقّي العين من يد المشتري الأوّل ، لكونه من أصله إن قلنا بأنّ الخيار ثابت بأصل المعاملة المعيّنة ، والظهور إنّما يكون كاشفا له ، فيكون من قبيل حقّ الراهن أو الشفيع ، أو من حين الفسخ ، لأنّ الحقّ وإن كان ثابتا بأصل إلّا أنّ استقراره إنّما يكون بظهور السبب ، فيبقى الملك.

وإن لم يلتزم بذلك ، بل إلى ما هو الحقّ عندنا من كون الحقّ متعلّقا بالعقد ، وليس لازمه سلطنة على العين أوّلا ، فلازمه استقرار العقد الثاني ورجوع ذي الخيار بعد الفسخ إلى البدل ، ولا فساد في التصرّفات في زمن الخيار ـ كما يتوهّم (١) ـ لازمة كانت أم جائزة ، وإنّما منع من ذلك في خيار الشرط فقط ، لكون البناء على بقاء العين (٢) ، ويأتي تحقيق ذلك كلّه في مبحث أحكام الخيار إن شاء الله.

لو تصرّف الغابن تصرّفا مغيّرا للعين

مسألة : لا يسقط هذا الخيار بالتصرّفات المغيّرة للعين من طرف الغابن ، ولا خفاء أنّها تكون على أنحاء ، وفروعها كثيرة ، وحكمها غير مشكلة بل معلومة.

بل الإشكال في أحد الفروع من هذه المسألة ، وهو أن يكون التغيير بسبب زيادة عينيّة في العين ، بأن يغرس الغابن في الأرض المغبون فيها ، ففيه احتمالات ثلاثة :

__________________

(١) المكاسب : ٦ / ١٤٤ ـ ١٥٩ ، نقلا عن عدّة.

(٢) المكاسب : ٦ / ١٥٠.

٤٥٠

إمّا تسلّط المغبون على القلع بلا أرش ؛

وإمّا أن لا يتسلّط أصلا ؛

وإمّا بأن يتسلّط مع الأرش ، كما التزموا به في باب الأرض المغصوبة والشفعة على قول ، أو كما حكموا في باب الفلس إذا رجع الأرض المغروسة بعد التفليس إلى المشتري ، أو مثل ما قال به المشهور في باب الشفعة والعارية.

وبالجملة ؛ فأكثر الأصحاب ـ قدّست أسرارهم ـ ما تعرّضوا لحكم الفرع لعدم النصّ ، وأمّا الّذين منهم قد تعرّضوا فقد أجملوا.

قال في «المسالك» : إنّ هذه المسألة ـ أي خيار الغبن ـ كثير الفروع ، ولم يتعرّضوا لبيان حكمه ، لفقد النص فيه (١) ، انتهى بمضمونه.

والظاهر أنّ تنزيل المقام بباب الفلس ليس في محلّه ؛ لأنّ الحقّ هناك جائز من حين الفلس ، فالغرس وقع في ملك مستقرّ للمفلّس ، فالأرض فيه من حين التفليس ينتقل إلى البائع من جهة أنّ صاحب المال أولى بماله إن يكون من جهة الخيار ، فإنّ لازمه انتقال ما وقع عليه العقد بجميع منافعه من حين الفسخ إلى الفاسخ.

بخلاف باب الفلس ، فإنّ فيه يتلقّى صاحب العين ماله من حين الفلس ، ولذلك يمكن دعوى انعقاد الإجماع ظاهرا على عدم ثبوت حقّ إلزام المالك المفلّس في القلع ، ولم ينقل الخلاف إلّا من الشيخ قدس‌سره (٢) ، حتّى ذهبوا إلى عدم تعلّق اجرة لبقاء الغرس في الأرض أيضا إجماعا ، ولكن قالوا : إنّ لازم كلام

__________________

(١) مسالك الإفهام : ٣ / ٢٠٧.

(٢) المبسوط : ٣ / ١١٨ ، راجع! مختلف الشيعة : ٥ / ٣٥٦.

٤٥١

الشيخ واختلافه في أصل المسألة يعطي الخلاف في ذلك أيضا (١) ، فراجع.

وكذلك تنزيل المقام بباب الشفعة والعارية أيضا يمكن القول بأنّه في غير محلّه ؛ لأنّ حقّ الشفيع والمعير فيهما يتعلّق بأصل العين ، فلهما إرجاعها بجميع منافعها.

نعم ؛ لمّا وقع الغرس عن حقّ ، وليس عرق ظالم ، فلدفع الضرر المنفي في الشريعة التزموا بالأرش ، بخلاف المقام ، فإنّ الحقّ فيه على ما هو التحقيق لا يتعلّق إلّا بالعقد ، ولا سلطنة لصاحب الحقّ على العين.

وكيف كان ؛ من جهة افتراق خيار الغبن عمّا عرفت ، وفقد النصّ فيه وتعارض الوجوه الاعتباريّة وتزاحم الضررين التزم شيخنا قدس‌سره في «المكاسب» بأنّ لكلّ من المالكين تملّك ماله وتخليصه بلا ثبوت حقّ على الآخر ، بل عليه أن يتدارك الضرر المتوجّه منه إلى الآخر (٢).

ثمّ بيّن الاستاد ـ دام ظلّه ـ بعد ذكر مقدّمتين لتصحيح إثبات حقّ القلع للمالك ، مع أنّه تصرّف في مال الغير وخلاف لسلطنته ، ولا يكون الغارس ظالما حتّى يؤخذ بأشقّ الأحوال ، كما ورد عليه النصّ في نظير المقام بأنّه ـ أي الغاصب ـ يرفع بناءه (٣) ، فإنّه غرس عن حقّ فكيف يتصرّف في ماله ويرجّح حقّ مالك الأرض عليه؟ وما وجه ترجيح حقّه وحفظ سلطنته دون الغارس؟

أمّا المقدّمة الأولى ؛ فهي أنّ اختيار تصرّف الناس في ملكهم ثابت ،

__________________

(١) لاحظ! المكاسب : ٥ / ١٩٧ و ١٩٨.

(٢) المكاسب : ٥ / ١٩٧.

(٣) وسائل الشيعة : ٢٥ / ٣٨٨ الحديث ٣٢١٩٤.

٤٥٢

وسلطنتهم على أموالهم باقية ما لم يناف مع سلطنة الآخر في ماله ، وإلّا فينقطع ، لأنّه لا خفاء أنّ الحكم المستفاد من القاعدة إرفاقي والناس فيه شرع ، وفي الأحكام الإرفاقية والامتنانية لا بدّ من أن يلاحظ حال جميع الناس على سبيل التسوية.

والثانية ؛ أنّه إذا تعارض بين السلطنتين فارتفعت إحداهما وانعزلت عن التأثير بالنسبة إلى أحد الشخصين فلمّا لم تكن المعارض فيجوز تصرّف الآخر وإعمال سلطنته.

إذا ظهرت المقدّمتان ؛ فنقول في المقام : إن لكلّ من الغارس والمالك أمرين :

أمّا للأوّل ؛ فأحدهما إبقاء ما غرسه والآخر إشغال الأرض.

وللثاني ؛ أحدهما تفريغ أرضه والآخر قلع الشجر ، ففي كلّ واحد من الطرفين أحد الأمرين مقدّمة للآخر ، فالإبقاء مقدّمة للإشغال ، وكذلك القلع مقدّمة للتفريغ ، ولكنّ التفريغ ليس منافيا لسلطنة الغارس.

نعم مقدّمته وهو القلع مناف ؛ لأنّه تصرّف في مال الغير ورفع لسلطنته ، بخلاف طرف الغارس ، فإنّ في نفس الإبقاء الّذي هو المقدّمة يكون تصرّفا في مال الغير ، فيكون مقامنا من تعارض السلطنتين.

ولا مخرج للرجوع إلى قاعدة الضرر وجعلها حاكما ـ كما قد يقال ـ لأنّا أشرنا في محلّه ، بأنّ كلتا القاعدتين قد سيقت للامتنان وجعلت للإرفاق ، فلا يكون لأحدهما حكومة على الآخر ولا نظر ، بل لا بدّ من الرجوع إلى قاعدة اخرى حاكمة عليهما ، أو لاصول.

٤٥٣

وبالجملة ؛ فكلّ منهما يتصرّف في مال الآخر حفظا لماله وسلطنته ، ولكن على ما عرفت تصرّف المالك لا يكون أوّلا إلّا في ماله ، ولا يكون في ما يتصرّف فيه ـ وهو تفريغ الأرض ـ سلطنة للغارس ، ولكن يستتبع هذا التصرّف ؛ التصرّف في مال الغارس من ناحية مقدّمته الّتي هي القلع ، فالمقدّمة وإن كانت محرّمة بخلاف نفس ذيها ، إلّا أنّ من المعلوم أنّ ذا المقدّمة لا يكتسب الحكم من ناحيتها ، بل الأمر بالعكس ، فالقاعدة منطبقة على تصرّف المالك بلا معارض ، إلّا من جهة كونه ملزوما للتصرّف في مال الغير ، وملزوما لما ينافي سلطنته.

ولا دليل على المنع من مثل ذلك ، وإلّا يلزم انقطاع السلطنة عموما ؛ لأنّها في الأغلب ملازم أو مقارن لنفي السلطنة عن الغير ، ولازمه أن لا يتسلّط أحد لتخليص ماله ، بخلاف تصرّف الغارس وإبقائه مغروسه ، فإنّ نفس ذلك يكون تصرّفا في مال الغير ، ورافعا لسلطنته ، ويكون عليه نفسه سلطنة من طرف المالك ، ولما كانت القاعدة منصرفة عن تصرّف وسلطنة تكون تصرّفا في مال الآخر بنفس هذا التصرّف ، فهي لا ينطبق على سلطنة الغارس ، لأنّ الأرض بجميع منافعها قد انتقل إلى المغبون وانحلّ العقد ورجع الملك إلى مالكه الأوّل ، ولازمه انقطاع سلطنة الغارس عنه ، فمن أين جاء حقّ الإبقاء له؟ والسلطنة له عليه الّتي هي عين السلطنة على الأرض ، مع أنّها منقطعة ، وغاية ما يمكن من الدعوى أنّ رفع سلطنته موجب للضرر عليه مع أنّه منفيّ.

وفيه ؛ أنّ مقام الضرر غير مقام السلطنة ، وقد بيّنا أنّ قاعدة الضرر لا يمنع عن السلطنة ، بل هي حاكمة عليها ، مع أنّه متدارك بالأرش.

٤٥٤

ثمّ بيّن ـ دام ظلّه ـ بيانا آخر الدالّ على أنّ سلطنة الغارس إنّما يكون في طول سلطنة المالك للأرض ، وهو أنّ الغارس ما لم يصل حركة ماله وغرسه إلى الأرض المغروسة لم يصدق التصرّف ، وبمحض وصوله إلى ملك صاحب الأرض ـ وهو عبارة عن أوّل سكون يتحقّق بعد الحركة ـ يصدق عليه التصرّف في ملك الغير ، ولا يفترق فيه بين الإبقاء والإشغال الّذي قلنا يتحقّق به التصرّف في مال الغير ، ضرورة أنّ العرف لا يرى بينهما الفرق.

وأمّا تصرّف مالك الأرض في ملك الغارس فلا يصدق إلّا بعد تصرّفه في ملك نفسه بتخليته وتفريغه ولو كان مساوقا لتصرّف الغارس.

وبعبارة اخرى ؛ إنّ تصرّف الغارس في ملكه عين تصرّفه في ملك الغير ، بخلاف طرف مالك الأرض.

والأمر كما ذكره ـ دام ظلّه ـ حقيقة وإن كان محتاجا إلى دقّة ، وإنّما التزم بذلك بعد أن أورد على بيانه الأوّل بأنّ عموم «الناس مسلّطون» (١) .. إلى آخره ، منصرف عمّا يلزم منه نفي سلطنة الغير مطلقا ، سواء كان التنافي بنحو الاستلزام أو العليّة أو غير ذلك ، ولا يكون له لسان خاصّ.

ثمّ أتى ـ دام ظلّه ـ ببيان ثالث لإثبات كون الغارس مهاجما ومالك الأرض مدافعا.

بيان ذلك ؛ أنّه نفرض أوّلا الأمر بالنسبة إلى الحدوث ثمّ بمقايسة المقام عليه ينكشف الغطاء عمّا نحن فيه.

__________________

(١) عوالي اللآلي : ١ / ٢٢٢ الحديث ٩٩ و ٤٥٧ الحديث ١١٩ ، و ٢ / ١٣٨ الحديث ٣٨٣ ، و ٣ / ٢٠٨ الحديث ٤٩.

٤٥٥

أقول : إذا أراد الغارس نصب الشجر من أوّل الأمر في ملك الغير مع كونه غير ذي حق فأراد مالك الأرض منعه ، لا ريب أنّ كلّ واحد منهما متصرّف في مال الآخر ، ولكن تصرّف المالك إنّما يكون للدفع.

ولا خفاء أنّ الدافع لا يتوقّف سلطنته على عدم سلطنة المهاجم ، بخلاف المهاجم ، فإنّ القضية فيه دوري ، بمعنى أنّ المهاجم وإن كان مسلّطا على ماله إلّا أنّه بسبب التهاجم لما كان يخرج ماله عن الاحترام فينقطع سلطنته عنه ، فيرتفع المانع عن سلطنة المالك فيتنجّز سلطنته فيستحيل أن يصير معلّقا على عدم سلطنة الغارس الّذي هو معلّق ، فكذلك بالنسبة إلى الإبقاء ، وإن كان يتخيّل في بادي النظر أنّ الأمر فيه بالعكس ، ولكن ليس الأمر كذلك ، فإنّ الإبقاء ليس إلّا إحداثات متعاقبة ، فإنّه هو إيجاد الوجود بمعنى إدامته ، ففي كلّ آن يصدق أنّه محدث لإبقائه ما حدث بإحداثه أوّلا ، ففي كلّ آن يصدق عليه المهاجم وعلى المالك الدافع.

أقول : يمكن استكشاف هذا التقريب من مطاوي كلمات الأصحاب في نظائر المسألة في باب الشفعة والعارية والإجارة وغيرها وإن لم يصرّحوا بذلك ـ قدّست أسرارهم ـ ولقد أجاد ـ دام ظلّه ـ في إفاداته لكشف القناع عن المقام وإن كان ما نقلته لا يفي بمرامه.

ويمكن التمسّك بقاعدة الحرج لإثبات حقّ القلع للمالك بعد تعارض الضررين وسلطنتين ، كما عرفت ، فإنّ من لوازم تخلية كلّ مالك ماله المشغول بمال الغير تعارض القاعدتين غالبا ، فلو منع المالك لذلك عن تصرّفه وتخليته يلزم الحرج قطعا.

٤٥٦

وقد صرّحوا في باب الصلح بأنّه إذا خرجت أغصان شجرة إلى ملك الجار ، له عطفها بنفسه إن أمكن ، وإلّا قطعها ، ولا يحتاج إلى إذن الحاكم أيضا فيما لو امتنع مالك الأغصان مباشرته ذلك (١).

فرع آخر : إذا ثبت لمالك الأرض حقّ القلع فلا يحتاج في ذلك رجوعه إلى الحاكم حتّى يجبره لو امتنع الغارس المباشرة بنفسه ، بل يجوز لصاحب الأرض أن يباشر بنفسه ؛ لأنّه إذا لم يكن له حقّ الإبقاء فقد خرج ماله من هذه الجهة عن الاحترام.

مع أنّا فرضناه مهاجما وإن لم يخرج ماله عن الحرمة من رأسه ، ولأنّ إلزامه على القلع فلمّا لم يرجع إلى مصلحته ، لا دليل على هذا الإلزام ، كما أشاروا إليه في باب العارية والشفعة وغيرها (٢).

وبالجملة ؛ لا مجال بالتمسّك بقاعدة الاحترام وعدم جواز التصرّف في مال الغير ، كما قد يتوهّم.

فرع ثالث : إذا قلع صاحب الأرض الغرس فعليه الأرش ، فهو التفاوت ما بين كونه مقلوعا وثابتا لا باقيا ، ولكنّ الحكم ليس لقاعدة الضرر ؛ لأنّا قلنا : إنّه لا يثبت بها نفي الضرر المالي ، أي الماليّة ، لأنّه ملازم لإثبات الحقّ في ذمّة الغير ، مع أنّه مناف لسلطنته ، وقد أشرنا أنّهما لا يتعارضان ، بل لقاعدة الاحترام من أنّ «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» (٣).

__________________

(١) راجع! مفتاح الكرامة : ٥ / ٥٠٤ ، المناهل : ٣٨٨ و ٣٨٩ ، جواهر الكلام : ٢٦ / ٢٧٧.

(٢) راجع! مختلف الشيعة : ٥ / ٣٥٦ ، شرائع الإسلام : ٢ / ١٧٣ و ٣ / ٢٦٠ ، مفتاح الكرامة : ٦ / ٦١ و ٣٨٣.

(٣) عوالي اللآلي : ٣ / ٤٧٣ الحديث ٤ ، سنن الدار قطني : ٣ / ٢٣ الحديث ٢٨٦٥ (البيوع).

٤٥٧

مع أنّ الغارس ليس بظالم ، والقلع ليس بأمره ومصلحته ، بل لمصلحة المالك وأمره ، فعليه الأرش حفظا لاحترام مال الغارس.

فلا يتوهّم أنّه إذا فرضتموه مهاجما فلازمه نفي حرمة ماله ، لأنّا فرضناه مهاجما من جهة إبقاء ماله في الأرض المغروسة فيها بعد الفسخ ؛ لا أن يكون مهاجما من الأصل ، كما في الغاصب الّذي هو مهاجم من الأوّل بخلاف ما نحن فيه ، فإنّ الغرس بقاؤه في نفسه محترم لأنّ أصل وضعه يكون عن حقّ ، فاحترام الخصوصيّة الشجرية باق.

نعم ؛ لا نلتزم بتغريم التفاوت بين كون الشجر مقلوعا وباقيا على الأرض ، بل الملتزم هو التفاوت بين خصوصيّة الشجرية والخشبيّة ؛ لأنّ ما لم يكن له حقّ الإبقاء بل لو رضي المالك بالبقاء ، فعلى الغارس الاجرة لا مجّانا ، فلا موجب لتقويمه باقيا على الأرض ، كما قد يتخيّل ، حتّى يعطى التفاوت بينه وبين المقلوع.

وبالجملة ؛ ما لم يقم دليل على نفي حرمة الخصوصية فقاعدة الاحترام محفوظة ، واقتضاؤها لغرامة الماليّة ثابت.

أقول : أمّا الفقهاء ـ قدّست أسرارهم ـ تمسّكوا لإثبات الأرش في نظائر الباب بقاعدة الضرر ، ولم أجد من صرّح أو أشار بمدرك غيرها ، وما دريت أنّ قاعدة الاحترام هل هي قاعدة مستقلّة ، أم هي متّخذة من هذه القاعدة «لا ضرر» ونظائرها؟

وأمّا الاستاد ـ دام ظلّه ـ لمّا كان مسلكه عدم تقديم قاعدة الضرر على السلطنة لما أشرنا آنفا ، وقد وسّع مع ذلك دائرة هذه القاعدة حتّى بالنسبة إلى

٤٥٨

اشتغال الذمّة ، بمعنى أنّه أفاد أنّ الناس كما أنّهم مسلّطون على أموالهم ، كذلك على ذممهم ، فكلما استلزم إجراء هذه القاعدة إثبات شي‌ء على ذمّة الغير فهي لا تجري ؛ لأنّه مناف لسلطنة الغير على ذمّته ، فبالنسبة إلى [هذا] يصير مخالفا للامتنان.

وأنت خبير بأنّه لا يستفاد من هذه القاعدة سوى السلطنة على الأموال ، ولا إشعار فيها لإثبات السلطنة على الذمم كما أفاد ، مع أنّ بسبب إضرار الغير يشتغل الذمّة قهرا ، إلّا أن يثبت سلطنة الناس على ذممهم من هذه القاعدة بالأولويّة ، كما زعمه بعض ، فتأمّل.

ولا يبقى للغارم اختيار حتّى يمنع عن اشتغال ذمّته ، مضافا إلى انصراف قاعدة السلطنة عن السلطنة بالنسبة إلى الذمّة لو لم نقل بعدم شمولها لها أصلا ، مع أنّه يلزم من ذلك تضييق دائرة قاعدة «لا ضرر» جدّا ، وهي قاعدة سارية ، بل عليها أساس جلّ الفروع الفقهيّة في أبواب المعاملات وغيرها ، فكيف يلتزم بما ذكر؟!

ثمّ إنّه لما كان تعسّفا في جعل الغارس عند قلع غرسه مدافعا ، مع أنّه في الحقيقة مهاجم ، ذكر ـ دام ظلّه ـ تقريبا آخر لجعله ذا حقّ في الهجم ، ومسلّطا على ذلك مع كونه مهاجما.

بيانه : أنّه إذا فرضنا كون مالك الأرض مسلّطا عليها بجميع منافعها بعد الفسخ ، بحيث لو لا ذلك لزم الدور المذكور ، فلازمه تسلّطه على القلع أيضا من جهة سلطنته على تخلية أرضه ، وإن كانت المقدّمة محرّمة ، إلّا أنّه لما كان تقع سلطنة الغارس في طول سلطنة المالك ومعلّقا على عدمها له ، فيخرج بذلك

٤٥٩

المقدّمة عن الحرمة ؛ لخروج المال عن الاحترام.

فالمحصّل أنّه كان يدور الأمر بين التخصيص والتخصّص ، فهكذا الكلام بعينه يجري في المقام بالنسبة إلى الغارس ، فإنّ الحقّ لمّا تعلّق بعين غرسه فيتسلّط عليه بأيّ نحو شاء ما لم يناف سلطنة الآخر في نفس هذا التصرّف.

ولا خفاء في أنّه إذا صار ذا حقّ في التصرّف ـ وهو حجمه ـ فلازمه صيرورته ذا حقّ في ما يتوقّف عليه من المقدّمات ، وهي الحفر وغيره ، فعند ذلك تقع سلطنة مالك الأرض في طول سلطنة الغارس ، وتصير متوقّفا على عدم سلطنة الغارس على ماله ، مع أنّ سلطنة الغارس كانت منجّزة.

فظهر أنّ سلطنة المالك على الأرض الموجب لاستحقاق دفعه الغارس ومنعه عن التصرّف في ماله دوريّ وتعليقي ، فيستحيل أن يمنع عما هو منجّز ، فمن ذلك يخرج ماله عن الحرمة من هذه الجهة الخاصّة ، ولا يستحقّ الدفع ويصير حجم الغارس مشروعا ، فتأمّل.

ولو رضي المغبون بالبقاء ، فهل على الغابن الاجرة أم لا؟ فقد أهمل حكم هذا الفرع الشيخ قدس‌سره بل أطلق القول باستحقاق المغبون الاجرة (١) ، مع أنّ صور المسألة أربعة ؛ لأنّه إمّا أن يكون بأمر الغابن واستدعائه أو بأمر المغبون ، وكلّ منهما إمّا أن يقصد المجّان أم لا.

فإن كان بأمر الغابن الّذي هو صاحب الغرس فيستحقّ المغبون الأجرة ، سواء قصد الآمر المجّان أو الاجرة إذا كان رضا المغبون بقصد الاجرة ، والظاهر أنّ حكمه مسلم ؛ لما ذكر في محلّه أنّ من موجبات الضمان الأمر.

__________________

(١) المكاسب : ٥ / ١٩٨.

٤٦٠