حاشية المكاسب

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي

حاشية المكاسب

المؤلف:

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي


المحقق: مؤسسة آية الله العظمى البروجردي
الموضوع : الفقه
الناشر: الغفور ـ قم
المطبعة: قرآن كريم ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-92663-2-1
الصفحات: ٦٤٠

التعليق على الامور المتوقفة عليه التأثير.

فإن قلت : إنّ إنشاء الأمر يصحّ تعليقه على ما يشتهيه الآمر ، فيحقّق معه الطلب المشروط ، فلم لا يصحّ تعليق البيع على ما يشتهيه البائع ، فيحقّق معه المبادلة المشروطة ويترتّب الأثر عند وجود الشرط؟ فكما أنّه لا يحتاج إلى إنشاء آخر للطلب عند وجود شرطه ، ويكون الشي‌ء واجبا بذلك الإنشاء كذلك في البيع يتحقّق المبادلة على تقدير وجود الشرط بذلك الإنشاء من غير حاجة إلى إنشاء آخر.

قلت : فرق بين المقامين ، وذلك لأنّ الإنشائيّة في الأوامر والنواهي إنّما هي باعتبار النسب المدلولة للهيئة أو الأداة بالوضع ، وقد عرفت أنّها قابلة للتعليق ، ولا واقع لما يرتبط به إلّا ما اعتبره المنشئ ، بخلاف العقود والإيقاعات الإنشائيّة فيها إنّما هي باعتبار ترتّب العناوين الطارئة.

والتعليق على غير ما يترتّب عليه التأثير ينافي بها ، فإنّ من أظهر المبادلة على تقدير مشيّة زيد لم يكن مبادلا فعليّا ، ولم يتحقّق منه مبادلة اخرى على تقدير مشيّته.

والأثر إنّما يترتّب على المبادلة لا على مجرّد مشيّتها والرضا بها.

وهذا بخلاف الأمر ، فإنّ الوجوب يترتّب على العلم بإرادة الآمر منه من غير فرق بين كون الكاشف عنه إنشاءه أو إخباره.

ولذا لو أخبر الآمر بأنّه يريد منه الفعل الفلاني وجب عليه امتثاله ، وحينئذ فإذا أمر المولى بشي‌ء مشروطا بشي‌ء آخر حصلت منه النسبة الإنشائيّة الّتي دلّت عليه اللفظ ، لكن لم يحصل بكلامه الإنشائي العنوان الطاري الّذي كان

٢٠١

يحصل به لو لا التعليق ، وهو صيرورته طالبا وآمرا بإنشائه ذلك.

نعم ؛ يستكشف منه الإرادة على ذلك التقدير ، فيجب الفعل عنده لذلك ـ أي للعلم بالإرادة ـ لا تحقّق الطلب منه بهذا الإنشاء ، فهما ـ أي إنشاء الآمر وإنشاء العقد ـ مع التعليق متساويان في عدم ترتّب العنوان الطاري ، إلّا أنّهما مفترقان في ترتّب الأثر.

وذلك أنّ الأثر في العقود إنّما يترتّب على تحقّق ذلك العنوان الطاري ، وفي الأوامر على العلم بالإرادة من غير مدخليّة في ذلك العنوان الطاري أصلا ، فضلا أن يكون ذلك إنشاء ، أو عنوانا طاريا على الكلام ، بخلاف العقود ، فإنّه لا يكفي فيها مجرّد العلم بالإرادة والرضا ، وهذا ظاهر.

فاتّضح بما ذكرنا حكم جميع الأقسام ، بل وفساد ما ذكره في «المسالك» عند قول المحقّق في كتاب الطلاق : (ويشترط في الصيغة تجريدها عن الشرط والصفة في قول مشهور) ؛

قال رحمه‌الله : (نبّه بقوله : «على مشهور» ، على ضعف مستنده ، فإنّه ليس عليه نصّ ، وإنّما أوردوا عليه أدلّة ظاهريّة كقولهم : إنّ النكاح أمر ثابت متحقّق ، فلا يزول إلّا بسبب متحقّق ، ووقوعه مع الشرط مشكوك فيه.

وقوله : إنّه مع عدم الشرط إجماعيّ ، ولا دليل على صحّته بالشرط ونحو ذلك ، فإنّ هذا كلّه يندفع بعموم الأدلّة الدالّة على ثبوت حكم الطلاق حيث يقع أعمّ من كونه منجّزا أو معلّقا على شرط) ـ إلى أن قال ـ : (وسيأتي أنّ الظهار يصحّ تعليقه على شرط ، وبه نصوص (١) تفيده ، وذلك يؤنس لقبول مثل هذه الأحكام

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٢ / ٣٣٢ الباب ١٦ من كتاب الظهار.

٢٠٢

التعليق في الجملة ، واختلفوا في وقوع الإيلاء معلّقا ، ومن جوّزه كالشيخ (١) والعلّامة في «المختلف» احتجّ عليه بعموم القرآن (٢) (٣) الدالّ على وقوعه من غير تقييد السالم عن المعارض.

وهذا الدليل وارد هنا ، وعموم «المؤمنون عند شروطهم» (٤) يشمل الجميع ، وفي تعليقه حكمة لا تحصل بالمتنجّز ، فإنّ المرأة قد تخالف الرجل في بعض مقاصده ، فيفعل ما يكره ، ويمنع ما يرغب فيه ، ويكره الرجل طلاقها من حيث إنّه أبغض المباحات عند الله تعالى (٥) ، ومن حيث أنّه يرجو موافقتها فيحتاج إلى ترجيح الطلاق بفعل ما يكرهه ، أو ترك ما يريده فإمّا إن تمنع فتفعل فيحصل غرضه أو تخالف فتكون هي المختارة للطلاق ، وقد تقدّم في خبر من علّق طلاق امرأته على تزويجها ، وسؤاله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأجابه بأنّه لا طلاق قبل النكاح (٦) ، ولم يجبه بأنّ الطلاق المعلّق على شرط باطل.

والمراد بالشرط المعلّق عليه هو ما يحتمل وقوعه ، وعدمه كدخول الدار ، وبالصفة ما لا بدّ من وقوعه عادة كطلوع الشمس) (٧) ، انتهى.

ولا يخفى عليك أنّه يلزم الشهيد الثاني رحمه‌الله على ما ذكره أن يحكم بعدم قدح التعليق في شي‌ء من العقود والإيقاعات.

__________________

(١) المبسوط : ٥ / ١١٧.

(٢) البقرة (٢) : ٢٢٦.

(٣) مختلف الشيعة : ٧ / ٤٥٠ و ٤٥١.

(٤) وسائل الشيعة : ٢١ / ٢٧٦ الحديث ٢٧٠٨١.

(٥) وسائل الشيعة : ٢٢ / ٧ الباب ١ من أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه.

(٦) انظر! السنن الكبرى للبيهقي : ٧ / ٣١٨ ـ ٣٢١ والتلخيص الحبير : ٣ / ٢١٢.

(٧) مسالك الإفهام : ٩ / ٩٠ ـ ٩٢.

٢٠٣

وهذا ممّا يقتضي ضرورة الفقه بخلافه ، ولا يلتزم هو أيضا بجواز التعليق على أمر مجهول متأخّر كقولك : بعت ، أو آجرت إن جاء زيد غدا ، فهو رحمه‌الله وإن أجاد وأنصف فيما تنبّه له من فساد ما ذكروه من التعليلات والأدلة الظاهريّة الّتي لا يعوّل عليها لإثبات الأحكام إلّا أنّه بعد الإجماع ـ بل الضرورة ـ على قدح التعليق في الجملة لا يمكن إنكاره بالمرّة ، بل لا بدّ من بيان الضابط بحيث لا يرد نقض ، وبيان السرّ بحيث لا يرد عليه إشكال في حكمه بجميع أقسامه وموارده.

والحاصل ؛ أنّ التعليق في العقود قد يكون لبيان اعتبار خصوصيّة في موضوع الإنشاء ، كالشروط المنوّعة والمشخّصة الّتي مرجعها إلى اعتبار وصف عنواني ، كقولك : بعتك هذا الثوب إن كان من قطن ، أو هذه الحنطة إن كانت جيّدة.

وقد يكون لإثبات حقّ زائد ، كقولك : بعتك هذا بكذا درهما بشرط أن تصوغ لي خاتما.

وقد يكون تحديدا للمتعلّق ، كتقييد الموكّل فيه بكونه في وقت كذا أو مكان كذا.

وقد يكون تحديدا للإنشاء ، كما في الشروط المعتبرة في الأوقاف ، فإنّها ليست إلّا بيانا لكيفيّة الوقف.

وقد يكون تحديدا للزوم ، كما هو الحال في اعتبار الامور الّتي توجب فقدها للخيار.

وقد يكون تحديدا للمتعلّق من جهة صحّة التأثير ، ككون المبيع ممّا ينتفع به وعدم كونها أمّ ولد وعدم كون المطلّقة حائضا أو في طهر المواقعة ، وعدم كون

٢٠٤

المزوّجة في العدّة.

وقد يكون تحديدا للإنشاء باعتبار ما يعتبر في المنشئ ، كالبلوغ والعقل ، وعدم كونه محجورا عليه.

وقد يكون تحديدا له باعتبار ما يعتبر في نفسه ، كإقران الإيجاب بالقبول.

وقد يكون تصريحا بإناطة التأثير بوجود المقتضي كتعليق الفضولي العقد على الإجازة ، لأنّ العقد ـ كما سيجي‌ء ـ آلة ، والمقتضي إنّما هو الإجارة.

وقد يكون تصريحا بإناطة التماميّة بوجود جزء المقتضي ، كقولك : بعتك هذا إن قبلت ، فإنّه لا إشكال في عدم قدح التعليق في شي‌ء ممّا ذكروا ما يشبهها ، وإنّما القادح من التعليق ما يوجب عدم تحقّق العنوان الطاري من المنشئ.

وقد عرفت أنّه التعليق على امور غير مرتبطة في التأثير ، ولا موجبة للتحديد مجهولة للمنشي ، أو ما يوجب إرادة تأخّر المسبّب عن الأسباب المجعولة للتأثير في الفعليّة ، لا للإعداد ، كما عرفته ببياننا المتقدّم.

قوله : (وربّما يتوهّم أنّ الوجه في اعتبار التنجيز .. إلّا أنّ الكلام ليس فيه) (١).

هذا هو الّذي ذكرنا استحالة التعليق بالنسبة إليه ، وأنّه خارج عن محلّ الكلام.

__________________

(١) المكاسب : ٣ / ١٧٠.

٢٠٥

وجوه اخر لاشتراط التنجيز

قوله : (وإن كان الكلام في أنّه كما يصحّ إنشاء الملكيّة المتحقّقة على كلّ تقدير) ـ إلى قوله ـ : (فلا ريب في أنّه أمر متصوّر واقع في العرف والشرع كثيرا ، كما في الأوامر والمعاملات من العقود والإيقاعات) (١).

قد عرفت الفرق بين الأوامر وأنّه لا يتحقّق الالتزام والمبادلة الفعليّة الّتي هي أنسب في التأثير في العقود مع التعليق ، والوجوب في الأمر تابع للعلم بالإرادة ، وهو حاصل مع التعليق أيضا ، وحينئذ فمن قال بعدم قابليّة الإنشاء للتعليق إن أراد به منافاته لتحقّق الالتزام والمبادلة الفعليّة ، وأنّه موجب لعدم تحقّقها ؛ فلا بأس به.

قوله : (ويتلو هذا الوجه في الضعف ما قيل) (٢).

قد عرفت أنّ هذا الدليل إنّما ذكره لبطلان التعليق بالوصف ، وعرفت أنّ المراد بذلك بيان كيفيّة تسبيب هذه الأسباب في التأثير ، وبيان أصل التشريع ، لا دلالة خصوص قوله تعالى : (أَوْفُوا) (٣) حتّى يناقش فيه بما ذكره.

يعني أنّ هذه الأسباب ـ أعني العقود والإيقاعات ـ عدا الخارج منها بالدليل لم يشرع إلّا في التأثير في الفعليّة دون الإعداد والتقرير من قوله تعالى :

__________________

(١) المكاسب : ٣ / ١٧٠.

(٢) المكاسب : ٣ / ١٧٠.

(٣) المائدة (٥) : ١.

٢٠٦

(أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (١) لم يثبت إلّا على الماهيّة العرفيّة ، وليس حقيقة البيع عندهم إلّا المبادلة العرفيّة الّتي هي سبب شرعا للملكيّة.

وأمّا إنشاء إرادة المبادلة في المستقبل وتأثيره فعلا في إعداد المال لحصول البدليّة فيه ؛ ليس من حقيقة البيع في شي‌ء ، وحقيقته ليست إلّا المبادلة الحاصلة بالإنشاء ، ومع إرادة حصولها بالإنشاء فالتعليق يرجع إلى تأخّر سببها عنها ، وهو أمر خارج عن اختيار المنشئ وتصرّف في السبب الشرعي ، فيبطل لخروجه عن الأسباب الشرعيّة.

وإلى ما ذكرنا يشير أيضا ما ذكره الفاضل القمّي رحمه‌الله في رسالته ، حيث قال : (إنّ أصل النقل لا بدّ أن تحصل بنفس الإنشاء ، وذلك لا يكون إلّا بالجزم والقطع بذلك ، والتعليق ينافي ذلك ، واللفظ المذكور في العقد هو الناقل ، فلو علّق تأثيره على حصول شي‌ء آخر فلم يحصل النقل بذلك اللفظ وهو خلاف المفروض) (٢) انتهى.

وبهذا البيان يظهر لك سقوط جميع ما أورده رحمه‌الله عليه ، فلاحظ وتأمّل حتّى يظهر لك الحال.

قوله : (مع أنّ تخلّف الملك عن العقد كثير جدّا) (٣).

الظاهر أنّه أراد بذلك مثل انتقال منافع العين الموقوفة إلى البطون المتأخّرة ، فإنّه منفصل عن زمان العقد ومثل انتقال العين الموصى بها إلى الموصى له بعد موت الموصي ، وانتقال الموهوب إلى الموهوب له بعد القبض ،

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢٧٥.

(٢) لم نعثر عليه.

(٣) المكاسب : ٣ / ١٧١.

٢٠٧

وتملّك عامل القراض لحصّته المقرّرة بعد ظهور الربح ، وتملّك العامل في المزارعة والمساقاة حصّته من الفائدة بعد ظهور الثمرة ، وتملّك المستأجر للمنفعة المتأخّرة عن زمان العقد ، فيما إذا وقع العقد قبل زمان الإجارة.

ولا يخفى عليك عدم ظهور شي‌ء ممّا ذكر نقضا على ما ذكره المستدلّ ، خصوصا المثال الأخير ، وذلك لظهور أنّ الزمان في الإجارة مشخّص للمنفعة ، ولا تخلف فيها للملكيّة بوجه ، غايته تأخّر الوجود لا الملكيّة.

والجواب عن سائر الأمثلة : أنّ كيفيّة الأسباب متأخّرة ، ولا يقاس ما شرع للفعليّة بما شرع للإعداد ، وكيفيّة التأثير فيها على النحو المتقدّم قد ثبت فيه بالأدلّة القطعيّة ولم يستدلّ المستدلّ إلّا بظاهر الأدلّة في خصوص العقود والإيقاعات المتنازعة ، وحينئذ ثبوت تأثير بعض العقود في الإعداد بالأدلّة الواضحة لا يكون نقضا لما استظهره المستدلّ من ظاهر الأدلّة.

وليس المراد التمسّك بالقضيّة العقليّة حتّى يكون التخلّف في مورد نقضا لتلك القضيّة ، بل المراد أنّ المستفاد من الأدلّة أنّ هذه الأسباب للفعليّة واشتراط التأخّر لكيفيّة السببيّة ، فلا يتوجّه عليه حينئذ ما ذكر بوجه.

قوله : (مع أنّ ما ذكره لا يجري في مثل قوله : بعتك إن شئت) .. إلى آخره (١).

قد عرفت أنّ التعليق على ما هو معلّق عليه في الواقع لا قدح له ولا يوجب البطلان ، فلا وجه للنقض به ، وعرفت أنّ هذا التعليل إنّما هو للتعليق على الصفة باصطلاحهم لا الشرط ولا وجه للنقض به.

__________________

(١) المكاسب : ٣ / ١٧١.

٢٠٨

قوله : (مع أنّ ما ذكره لا يجري في غيره من العقود الّتي قد يتأخّر [مقتضاها]) (١) .. إلى آخره.

أقول : على ما استظهرنا مراده رحمه‌الله من العبارة المتقدّمة يلزم كون هذه العبارة تكرارا لما سبق ، فلا بدّ من حمل العبارة المتقدّمة على إرادة عدم تحقّق الملك رأسا ولو في خصوص البيع ، وهذه العبارة على صورة التأخّر كالأمثلة المتقدّمة ، وتخلّف الملك عن البيع رأسا لا يكون إلّا لفقد الشرط ، كالقبض في المجلس في بيع الصرف ، ومعه يكون فاسدا لا وجه للنقض به.

قوله : (ثمّ الأضعف من الوجه المتقدّم) .. إلى آخره (٢).

لا يخفى عليك بما تقدّم أنّه لا يدفع من هذا الأصل شي‌ء ممّا ذكره ، لأنّ الإطلاق منصرف إلى الماهيّات العرفيّة ، وليست هي إلّا ما اريد به الفعليّة ، دون الإعداد ، فيبقى ما عداه تحت أصالة الفساد.

قوله : (وعلّل ذلك بعدم الجزم حال العقد) .. إلى آخره (٣).

قد عرفت أنّ الجزم إنّما يعتبر في العقود بالنسبة إلى ما يرجع إلى المنشئ ـ أي لا يكون متردّدا فعله ـ وأمّا الجزم بترتّب الأثر وعدم الشكّ فيه من جهة قابليّة المحلّ أو وجود شرط الصحّة ، أو فقد المانع عنها فلا وجه لاعتباره أصلا.

وهذا محكوم بقدح التعليق وهو لا يقتضي أزيد من اعتبار الجزم في مقابل

__________________

(١) المكاسب : ٣ / ١٧١.

(٢) المكاسب : ٣ / ١٧٢.

(٣) المكاسب : ٣ / ١٧٣.

٢٠٩

الترديد ، لا الجزم في مقابل الشكّ في التأثير.

ونظر ذلك اعتبار الجزم في النيّة بالنسبة إلى العبادة ، فإنّ المراد به هناك أيضا بالنسبة إلى ما يرجع إلى عمل المكلّف نفسه ـ أي تمييزه ـ لما يأتي به في النيّة ، وعدم ترديده العمل بين كونه امتثالا لأحد الأمرين لا الجزم بالصحّة من جهة العلم بالاشتمال على جميع الشرائط وفقد الموانع ، فإنّ ذلك ممّا لا دليل على اعتباره ، وإن وقع الخلط في كلامهم في مقامين ، فلاحظ وتأمّل!

اشتراط أهليّة المتعاقدين معا حين العقد

قوله : (وإن كان لعدم الاعتبار برضاهما) (١).

لا يخفى أنّه حينئذ يكون كالفضولي ، فيلحقه حكمه ، فيصحّ برضا متأخّر ، كالمكره إذا رضي بالعقد بعد الإكراه ، وكون الحكم فيه على خلاف القواعد للتعبّد يأباه ظاهر كلماتهم ، كما لا يخفى على من لا حظها.

الاستدلال على الضمان

قوله : (ويدلّ عليه النبوي المشهور : «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» (٢)) (٣).

قد اشتهر التمسّك بهذه الرواية للضمان باليد ، ولحمله من الفروع الفقهيّة بحيث يظهر منهم أن لا مدرك لها غير هذه الرواية ، وأرسلوا دلالتها عليها إرسال

__________________

(١) المكاسب : ٣ / ١٧٧.

(٢) عوالي اللآلي : ١ / ٢٢٤ الحديث ١٠٦ و ٣٨٩ الحديث ٢٢.

(٣) المكاسب : ٣ / ١٨١.

٢١٠

المسلّمات ، لكن حدثت المناقشة في دلالتها من بعض الأواخر حتّى رموها بالإجمال ، فوجب نقل المناقشة ، ثمّ بيان وجه الاندفاع ووضوح الدلالة.

قال في «العوائد» بعد نقل الرواية : (ظاهر هذا الكلام على الطريق المتعارف [في المحاورات] أن يقدّر ثابت أو كائن أو نحوهما من أفعال العموم على أن يكون خبرا مقدّما للموصول ، وجملة «ما أخذت» مبتدأ مؤخّرا ، وتكون الجملة خبريّة ، أي : ما أخذت اليد ثابت عليها كائن فيها ، ككون الأعيان على محالّها ، نحو : زيد كائن على السطح.

ولكن لا شكّ أنّ المطلوب ليس إخبارا ، وأنّ المراد باليد ليس نفسها ، ولا بما أخذت عينه ، بل المراد باليد هو ذو اليد من باب تسمية الكلّ باسم جزئه ، بل أظهر أجزائه وأدخلها في المقام حيث إنّ الأخذ يكون باليد كتسمية الجاسوس بالعين ، والترجمان باللسان.

والمراد بالموصول واحد من متعلّقاته ، كردّه أو حفظه أو ضمانه أو نحوها ، والمراد بالجملة إنشاء الحكم الشرعي أو الوضعي ، فلا بدّ في الكلام من تجوّز في اليد وتقديرين :

أحدهما ؛ تقدير متعلّق الظرف.

والثاني ؛ تقدير مضاف الموصول.

فإنّ جعل المضاف من الامور الوضعيّة ـ كضمان ونحوه ـ يكفي تقدير الثبوت في الأوّل ، فيكون المعنى : ضمان ما أخذت اليد ثابت على ذي اليد ، وإن جعل غيره نحو الردّ أو الحفظ.

فلمّا لم يكن لثبوت الحفظ أو الردّ على ذي اليد معنى محصّل فلا بدّ إمّا من

٢١١

جعل متعلّق الظرف الوجوب ليكون المعنى : واجب على ذي اليد ردّ ما أخذت أو حفظه ، أو تقدير مضاف آخر للمضاف إليه ليكون [المعنى :] ثابت على ذي اليد وجوب ردّ ما أخذت أو حفظه ، أو غيرهما لا ينتقل أذهاننا إليه الحال).

ثمّ قال : إذا عرفت ذلك ، فنقول : (الاستدلال بالحديث على ضمان المثل أو القيمة بعد التلف إنّما هو على فرض تقدير الضمان الشامل لردّ العين مع البقاء والمثل أو القيمة مع التلف ، ولا دليل على تعيّنه أصلا.

فإن قيل : استدلال الفقهاء واحتجاجهم على الضمان خلفا بعد سلف وفهمهم ذلك دليل على أنّه كان لهم قرينة على تقديره ، وإن خفيت علينا.

قلنا : مع أنّه لم يعلم ذلك من جميع الفقهاء ولا أكثرهم ، وإن علم من كثير منهم [و] ليس ذلك من الأحكام الشرعيّة الّتي يحكم فيها بالاتّفاق بضميمة الحدس والوجدان ، ولا يصلح عمل جماعة دليلا لشي‌ء لا يدلّ على أنّه لقرينة تقدير الضمان ، بل لعلّه لاجتهادهم تقدير جميع المحتملات [عند عدم] تعيين المقدّر ، أو لمظنّة شيوع تقديره ، أو لدليل اجتهاديّ آخر.

فإن قيل : المتبادر من هذا التركيب إثبات الضمان.

قلنا : ممنوع جدّا ، ولو راجعت إلى أمثال هذا التركيب الّتي ليس الذهن فيها مسبوقا بالشبهة علم عدم التبادر ، مع أنّه على فرض التسليم لا يفيد ، لأصالة تأخّر حدوث التبادر ، حيث إنّ ذلك ليس من مقتضى الوضع اللغوي لهذا التركيب.

فإن قيل : ليس هنا شي‌ء آخر يصلح أن يكون غايته الأداء إلّا الضمان ، لعدم إمكان غيره عند التلف ، فيجب تقدير الضمان الّذي يمكن ثبوته في صورتي

٢١٢

بقاء العين وتلفها ، فمع البقاء يؤدّى العين ، ومع التلف ؛ المثل أو القيمة.

قلنا : أداء المثل أو القيمة ليس أداء ما أخذت ، بل أداء شي‌ء آخر ، فلا يكون «حتّى تؤدّي» غاية للضمان في صورة التلف أيضا ، فإنّ مقتضى تقدير المفعول أن يكون مفعول «تؤدّي» أو نائب فاعله على تقدير كونه بصيغة المجهول ما يرجع إلى الموصول ، أي : ما اخذت ، ومعنى أداء ما أخذت : أداء عينه دون المثل أو القيمة ، بل إطلاق الأداء على الغير غير صحيح ، فلا يتحقّق أداؤه في صورة التلف أصلا.

وعلى هذا تكون الرواية لبيان حكم صورة التلف ، [ولا يعلم منه حكم صورة التلف] ولا يلزم أن يستفاد من كلّ حديث حكم جميع صور الواقعة ، ولمّا لم يكن لتقدير الردّ أو الأداء معنى سليسا ، إذ ليس قولك : [يجب] أداء ما اخذ أو ردّه حتّى تؤدّى ، [أو ردّ] بسليس ، فالأظهر تقدير الحفظ من الضياع والتلف أو نحوه.

وعلى فرض عدم تعيّن [تقدير] «ما اخذت» [للمفعول] فلا شكّ في احتماله ، [ومعه] فالحكم بتقدير الضمان غير موجّه قطعا ، فلا دلالة في الرواية على ثبوت ضمان المثل أو القيمة.

بل في دلالته على وجوب أداء العين مع بقائه نظر ، لأنّ الاستدلال [له] بها إمّا لأجل تقدير الأداء والردّ ، وهو غير معلوم ؛ لجواز تقدير الحفظ ونحوه ، فيكون معنى الحديث : يجب على ذي اليد حفظ ما أخذت إلى زمان أدائه.

أو لأجل قوله : «حتّى تؤدّي» ، ولا دلالة له أيضا ؛ لأنّ وجوب الحفظ ـ مثلا ـ إلى زمان الأداء لا يدلّ على وجوب الأداء ، كما إذا قال الشارع : عليك

٢١٣

بقصر الصلاة في السفر حتّى تدخل الوطن ، فإنّه لا يدلّ على وجوب دخول الوطن أصلا.

ومنه يظهر عدم تماميّة الاحتجاج بها على وجوب ردّ العين أيضا ، وإن كان ذلك ثابتا بأدلّة اخرى ، مع أنّ في الرواية إجمالا من وجهين آخرين يشكل التمسّك بها في [بعض] الموارد الّتي تمسّكوا بها على فرض تعيّن تقدير الردّ أو الضمان.

أحدهما : باعتبار الأخذ ، فإنّهم يتمسّكون بها في كلّ موضع حصل فيه التصرّف في مال الغير ، ولو لم يصدق عليه الأخذ أيضا ، وإثباته من الرواية مشكل.

وثانيهما : باعتبار المؤدّى إليه الّذي يجب تقديره أيضا ، فهل هو المالك أو من ناب منابه من الوكيل والوليّ أو من أخذ منه ، ولو كان غاصبا؟ ويشكل من هذه الجهة أيضا التمسّك بها في بعض الموارد (١) انتهى.

وتوضيح الكلام في بيان وجه الدلالة على وجه ينكشف به اندفاع هذه الشبهات يتوقّف على التعرّض لمفاد كلّ كلمة من ألفاظ هذه الرواية ، فنقول :

إنّ كلمة «على» وضعت للاستعلاء على نحو وضع الحروف ، أي : للكشف عن ملاحظة خصوصيّة في مدخولها ، وهي ارتباطها بما قبلها على جهة العلوّ ، فهذه خصوصيّة ملحوظة في استعمال المدخول ، لا أنّ الاستعلاء معنى لتلك الكلمة استعملت فيه ، يدلّ على ذلك ، الجمع بينهما في قولك : استعلى

__________________

(١) عوائد الأيّام : ١٠٨ ـ ١١٠ ، وما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.

٢١٤

عليه ، كما قد حرّر ذلك في بحث المشتقّ من الاصول (١) ، فقولنا : زيد على السطح ، هذا النحو من الارتباط وهو علوّه عليه الّذي هو عين استقراره فيه.

ثمّ العلوّ إمّا حسّي وإمّا معنوي ، والأوّل كارتباط الحمل بالحامل ، والثاني كارتباط المال المضمون بالضامن ، فإنّ الربط هنا أيضا على جهة العلوّ لكنّه معنويّ لا حسيّ ، فكلمة «على» في قولك : عليه كذا من المال ، لم يستعمل إلّا في الاستعلاء.

ونسب المال إليه بطريق الاستعلاء باعتبار كونه حملا عليه ووزرا ، والمديون حامل له ، يشعر ذلك بالتزامه به ، لأنّ الحامل لا يلزم بحمله ، كما أنّ نسبة الفعل إليه أيضا بـ «على» إنّما هو بهذا الاعتبار ، فقولك : عليه فعل كذا ، إنّما يفهم منه الوجوب والالتزام من جهة التغيير عن النسبة بـ «على» ، فيستفاد الحكم التكليفي من جهة كون المحمول فيه من الأعيان.

فلا فرق في معنى الكلمة ولا في تقدير المتعلّق بين قولك : عليه كذا من الفعل ، أو عليه كذا من المال ، فمفاد الكلامين واحد ، ومتعلّق الجارّ أيضا شي‌ء واحد.

وإنّما افترقا في استفادة الحكم التكليفي والوضعي من جهة الاختلاف في المنسوب إلى الشخص ، وقد قرّر في محلّه ، لا مجازيّة في الحروف وما يقع منها إنّما هو في المتعلّق ، وفي المقام لا يجوز في المتعلّق أيضا ، بل ليس إلّا كون العلوّ غير حسّي.

وكيف كان ؛ فلا مفاد لهذه العبارة إلّا عين حقيقة الضمان ، فإنّه ليس إلّا

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤١ و ٤٢.

٢١٥

التعهّد بالمال وكون وزره عليه والغرامة بالبدل عند الحيلولة ، والتلف من آثاره ، كما أنّ وجوب الحفظ والإيصال أيضا من آثاره ، فلا فرق حينئذ بين قولك : فلان ضامن لكذا من المال ، أو عليه ذلك المال ، من غير حاجة إلى تقدير الضمان ، وهما متّحدان في الدلالة على الضمان مختلفان في كيفيّة الدلالة من حيث الاسميّة والحرفيّة ، والضمان غير الدين ، والنسبة بينهما عموم من وجه يجتمعان بحسب المورد ، ويفترقان أيضا ، كما في المضمون عنه ، فإنّه مديون غير ضامن.

وكما في الأيادي المتعاقبة في الغصب ، فإنّ كلّا منهما عدا من تلف المال في يده ضامن للمالك غير مديون ، لرجوعه إلى من تلف المال بيده فهو يؤدّي ما استقرّ في ذمّة غيره ، وقد تقدّم تفصيله.

وأمّا اليد ؛ فقد استعملت في معناها الحقيقي ، ولا تجوّز فيها أصلا ، وإنّما التجوّز في نسبة الضمان إليها ، فالمجاز في النسبة لا في الكلمة.

وتوهّم كونها مستعملة في الشخص بعلاقة الكلّ والجزء فاسد ، بل هذه العلاقة ليست من العلائق المصحّحة لتجوّزه في شي‌ء من الموارد ، وما جعلوه من هذا الباب كاستعمال الرقبة في الإنسان ، واللسان في الترجمان ، والعين في المرئيّة ، أيضا فاسد.

أمّا الأوّل ؛ فلظهور أنّ الرقبة لو كانت مستعملة في الإنسان لم يختلف صحّة الاستعمال باختلاف المنسوب إليها من الأفعال ، مع أنّ الاختلاف ظاهر ، لأنّه يصحّ قولك : فلان اعتق رقبة ، أو فكّ رقبة ، ولا يصحّ نسبة غيرهما من الأفعال إليه ، كقولك : رأيت رقبة ، أو جاء رقبة ، أو مات رقبة.

فيكشف ذلك عن عدم المجازيّة في الكلمة ، بل المجاز إنّما هو في النسبة

٢١٦

 ـ أي نسبة الملك أو العتق أو الفكّ ـ المنسوب إلى الشخص إلى رقبته ، تنبيها إلى كمال الاستيلاء عليه ، لأنّه غالبا يكون بإلقاء الحبل على رقبته ، فصحّ واستحسن إسناد هذه الأفعال بخصوصها إليه دون سائر الأفعال ، ولو كان مجازا في الكلمة تساوى نسبة الأفعال إليها كما يساوي نسبته إلى الأسد المستعمل في الرجل الشجاع.

وأمّا استعمال اللسان في الترجمان ، والعين في المرئيّة ، وإن كان من المجاز في الكلمة إلّا أنّه ليس لعلاقة الكلّ والجزء من شي‌ء ، بل إنّما هو من باب الاستعارة ، لعلاقة المشابهة ، لأنّ الشخص إذا تمحّص في جهة راجعة إلى بعض الأعضاء كالترجمان فيما يرجع إلى اللسان والمرئيّة فيما يرجع إلى العين ، فينزل بمنزلة ذلك العضو ، فيطلق اللفظ الموضوع لذلك العضو عليه على وجه الإضافة ، كيد فلان خاصّة ، كيد فلان ولسانه ، والعلاقة حينئذ ليس إلّا المشابهة باعتبار إفادة ذلك الشخص فائدة ذلك العضو من غير مدخليّة لخصوص الجزئيّة في صحّة هذا الاستعمال.

كما يكشف ذلك عن قولك : سيف السلطان ، مع أنّ السيف ليس من أجزاء الإنسان ، فليس ذلك إلّا لمشابهة الشخص بالسيف بالنسبة إلى ذلك الإنسان.

ومن ذلك القبيل إطلاق يد الله وعين الله وسيف الله ، فإنّ هذه الإطلاقات ليست لعلاقة الكلّ والجزء قطعا ، بل يمكن أن يقال : أن لا تجوّز في هذه الألفاظ حال الإضافة ، لأنّ مفاد الإضافة بيان النسبة بين الشيئين ، وهو موقوف على استعمال اللفظ في الطرفين ، فقولنا : يد الله ، معناه أنّه من الله تعالى بمنزلة اليد من الشخص ، وكذا العين.

٢١٧

ومنه أيضا : «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة» (١) ، ويكشف عن ذلك ـ بل يدلّ عليه ـ صحّة الإطلاق من غير إضافة وإن كان هناك قرينة على التجوّز.

ومنه يظهر أنّ الماء المضاف ليس ماء مجازيا ، بل إنّما هو ممّا اضيف إليه بمنزلة الماء من سائر الأجسام ، فلفظ الماء في قولك : ماء الرمّان ، أو ماء العنب ليس مجازا في الكلمة ، ولم يستعمل إلّا في معناه الحقيقي ، والإضافة أفادت الارتباط التنزيلي ، وكلّ من المضاف والمضاف إليه أحد طرفي النسبة ، فقولك : النار فاكهة الشتاء إنّما عنى إثبات التنزّل منزلة الفاكهة للنار ، لا تسميتها بالفاكهة مجازا ، وماء الوجه أيضا كذلك ، والمراد به العزّ ، والإضافة أفادت تنزيله بالنسبة إلى الوجه منزلة الماء ، فإنّ الوجه من غير عزّ كالبطيخ من غير ماء.

إذا عرفت ذلك ؛ فالتحقيق في المقام أنّ اليد لم تستعمل إلّا في ما وضعت له إلّا أنّه كنّى به عن القهر والاستيلاء ، لأنّ كمال السلطنة والاستيلاء من جهة كونها تمام في هذا الإسناد ، ولذا ذكروا في باب الغصب أنّه لا ضمان مع ضعف اليد ، وإن وقع القبض باليد.

والمراد بالموصول ما يشمل العين والمنفعة والحقّ ، وبالأخذ السلطنة والاستيلاء ، فيكون المعنى : على المتسلّط والمستولي الشي‌ء الّذي تسلّط عليه عينا كان أو منفعة أو حقّا.

والأداء كناية عن رجوع الأمر إلى المضمون له واستقلاله بماله ، سواء كان ذلك بالوصول إليه أو بمجرّد التخلية بينه وبين المال ، وتمكّنه منه ، أو عفوه وإسقاطه.

__________________

(١) الكافي : ٢ / ٣١٥ الحديث ١.

٢١٨

ولمّا كان الخروج عن العهدة غالبا بالأداء ، وكان الغرض إفادة أنّ هذا الضمان لا مزيل له إلّا من طرف المضمون له عبّر بهذه العبارة.

ولا يخفى أنّ متعلّق الأخذ والأداء شي‌ء واحد ، والمؤدّى هو عين المأخوذ ، والبدل عين المبدل عند الحيلولة وعند التلف.

وتوضيح الكلام في ذلك : أنّ مقتضى تعهّد الشخص بالمال وضمانه المستفاد من صريح الرواية ومنطوقها ـ من غير حاجة إلى تقدير الضمان ـ هو بقاء المال عنده ، ولو بعد التلف ، فينتقل المال بعد الجزئيّة إلى الكليّة ، أي : تبطل خصوصيّته ويسقط ردّه ويتعلّق ماليّته بذمّته.

وحينئذ فإذا عيّن الضامن تلك الكليّة في خصوصيّة خارجيّة فقد أدّى الّذي أخذه بماليّته لا بخصوصيّته ، فالبدل حينئذ عين المبدل من جهة وغيره من اخرى.

وحاصل الكلام ؛ أنّ المأخوذ مضمون قبل التلف وبعده ، ومعنى ضمانه : تعهّده به والتزامه بردّه التزاما وضعيّا ، وأثر هذا الضمان قبل التلف وجوب حفظه وردّ عينه ، وبعد التلف ردّ ماليّته إمّا بالمثل أو القيمة ، لتعذّر ردّ خصوصيّته ، لا أنّه يتبدّل المأخوذ بعد التلف بالمثل أو القيمة ، ويحصل المبادلة القهريّة.

ولذا لو فرض إعادة المعدوم بإحياء الميّت بإعجاز ـ مثلا ـ بعد أخذ القيمة ، تسلّط المالك على أخذ عين ماله وردّ ما أخذه من القيمة ، كتسلّط الضامن على أخذ عين ماله ، وليس ذلك إلّا لعدم حصوله المبادلة بالتلف ، بل إنّما سقط ردّ الخصوصيّة ، لتعذّره ، وبقي الماليّة الّتي هي المقصودة بالأصالة في الأموال تؤخذ في ضمن خصوصيّة اخرى ، فالخصوصيّة الّتي تلفت لا بدل لها ، والقيمة المؤدّاة هي الماليّة المأخوذة وبدليّتها باعتبار تغيّر الخصوصيّة لا باعتبار تبدّل الاستحقاق.

٢١٩

وبهذا البيان يرتفع الإشكال عن حكمهم ببقاء العين المقصود به في ملك المغصوب منه عند الحيلولة ولو بعد أخذ القيمة ، وذلك لما عرفت من أنّ أخذ القيمة ليس أخذا للبدل من جهة حصول المبادلة.

بل إنّما هو أخذ لماليّة ماله بعد تعذّر أخذ خصوصيّته ، فإنّ اللازم على الغاصب أوّلا إيصال المال بخصوصيّته وماليّته ، وبعد تعذّر الخصوصيّة يتعيّن عليه إيصال ماليّته ، ولا يتحقّق الوصول إلّا بدخول القيمة في ملكه ، فيجتمع القيمة والمغصوب معا في ملك المغصوب منه من دون أن يلزم اجتماع بين العوض والمعوّض ، كما استشكلوا في الحكم بذلك ، فردّ القيمة غرامة للمالك لحصول الحيلولة ، لا أنّه معاملة ، أو معاوضة قهريّة.

ولذا يطلق عليها بدل الحيلولة ، أي : غرامة حصلت بسبب الحيلولة ، والحال كذلك مع التلف أيضا ، فإنّ القيمة معه غرامة حصلت من جهة حصول التلف بمن دون (١)

__________________

(١) إلى هنا تمّت النسخة في هذا المبحث.

٢٢٠