إلى ما انتهى إليه ، ولم يطمئن إليه اطمئنانه إلا بعد أن آزرته عليه الكثرة. وبعد هذا كله وقف عثمان موقفه الحازم القاطع فألزم الأمصار بالمصحف الإمام ، ثم أحرق ما عداه. ومعنى هذا أنه لا رجعة إلى هذا الخلاف ، ولا سبيل إلى الرّجعة إليه ، إذ لو صحّ أن ثمة شكّا وقع فى روع عثمان لما كان منه هذا القرار الحازم القاطع.
ولعلك تذكر ما كان من مروان من إحراقه مصحف حفصة ، الذى كان مرجعا من مراجع الإمام. ولقد أراد من هذا ألّا يكون ثمة رجعة إلى الوراء تثير هذا الخلاف فى كتاب قال فيه تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١).
وبعد ما يقرب من قرن إلا قليلا يطالعنا ابن عامر بمؤلفه فى اختلاف مصاحف الشام والحجاز والعراق ، أو قل بعد أن اختفى جيل القرّاء الأول والثانى والثالث من الميدان ، وبعد أن نفض أصحاب المصحف الإمام أيديهم من أدلّتهم واطرحوها وأحرقوها ، بعد هذا كله تثار قضية لا تكافؤ فيها ، أدلتها الخلافيّة قطع فيها بالرأى ، واستبعد شىء لا يستقيم ، وأقيم مقامه شىء مستقيم.
وإنا من أجل هذا من القائلين ـ لا خوفا على ما بين أيدينا ـ بأن إثارة مثل هذا ليست نوعا من الدّراسة ، فتلك دراسة بتراء لا تملك أسلوبها العلمى الصّحيح. ولقد كنا نرحّب بها لو كانت شيئا جديدا لم تعرفه البيئة الأولى حين حكمت فى أمره ، بل لقد كان شيئا معهودا للبيئة الأولى تعرفه وتعرف أكثر منه ، ولقد حكمت فيه وفرغت منه ، فإثارته بعد هذا ليكون شيئا يدرس نوع من الكيد ، ولو كنا نملك لعفّينا آثاره كما عفا عثمان آثارا مثله ، ولن نكون معها متجنّين أو متعسفين أو خائفين ، بل نكون مع الحزم الذى اتصف به «عثمان» وناصره عليه «علىّ» ، واجتمع معه فى الرأى عليه اثنا عشر صحابيّا ، جمعهم عثمان لهذا العمل الجليل.
وما أصدقها كلمة جرت على لسان أبى بكر السّجستانى فى ختام عرضه لمصحف «أبىّ بن كعب» حين يقول : لا نرى أن يقرأ القرآن إلّا بمصحف عثمان الّذى اجتمع عليه أصحاب النّبى صلىاللهعليهوسلم ، فإن قرأ إنسان بخلافه فى الصّلاة أمرته بالإعادة.
ولقد جاء فى المصحف الإمام من الرسم القديم ، ما كان مظنة اللبس ، ولقد رأى عثمان أن ألسنة العرب تقيمه على وجهه ، وإن بدا على غير وجهه ، فلم يعرض له ، ولعل هذا هو تفسير ما عزى إلى عثمان حين قال :
__________________
(١) الحجر : ٩.
(م ٥ ـ الموسوعة القرآنية ـ مجلد ١)