قال أبو مالك : هو الجور وقال الكلبي : هو الكذب وأصله البعد ويعبر به عن الجور لبعده عن العدل وعن الكذب لبعده عن الصدق (١) ؛ قال الشاعر : [الطويل]
٤٨٩٤ ـ بأيّة حال حكّموا فيك فاشتطّوا |
|
وما ذاك إلّا حيث يمّمك الوخط (٢) |
قوله : (وَأَنَّا ظَنَنَّا) أي : حسبنا (أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً).
«أن» مخففة ، واسمها مضمر والجملة المنفية خبرها ، والفاعل بينهما هنا حرف النفي ، و «كذبا» مفعول به ، أو نعت مصدر محذوف ، أي : قولا كذبا.
وقرأ الحسن (٣) والجحدري وأبو عبد الرحمن ويعقوب : «تقوّل» ـ بفتح القاف والواو المشددة ـ وهو مضارع «تقوّل» أي : كذب ، والأصل : تتقوّل ، فحذف إحدى التاءين ، نحو «تذكرون». وانتصب «كذبا» في هذه القراءة على المصدر ؛ لأن التقول كذب ، فهو نحو قولهم : «قعدت جلوسا».
ومعنى الآية : وأنّا حسبنا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا ، فلذلك صدقناهم في أن لله صاحبة وولدا حتى سمعنا القرآن وتبينا به الحق.
وقيل : انقطع الإخبار عن الجنّ ـ هاهنا ـ فقال الله تعالى جل ذكره لا إله إلا هو ـ : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ) فمن فتح ، وجعله من قول الجنّ ردّها إلى قوله : (أَنَّهُ اسْتَمَعَ) ، ومن كسرها جعلها من قول الله تعالى.
والمراد به ما كانوا يفعلونه ، من قول الرجل إذا نزل بواد : أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه ، فيبيت في جواره حتى يصبح ، قاله الحسن وابن (٤) زيد وغيرهما.
وقيل : كانوا في الجاهلية إذ أقحطوا ، بعثوا رائدهم ، فإذا وجد مكانا فيه كلأ وماء رجع إلى أهله فسار بهم حتى إذا انتهوا إلى تلك الأرض نادوا نعوذ بك بربّ هذا الوادي أن تصيبنا فيه آفة ، يعنون من الجن ، فإن لم يفزعهم أحد نزلوا ، وإن أفزعهم الجن رجعوا.
قال مقاتل : أول من تعوذ بالجنّ قوم من أهل اليمن ، ثم من بني حنيفة ، ثم فشا ذلك في العرب ، فلّما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم (٥).
__________________
(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٨).
(٢) ينظر : القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٨).
(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٨٠ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٤١ ، والدر المصون ٦ / ٣٩١.
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٣) عن الحسن ومجاهد وابن زيد.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٣٢) عن الحسن وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر كما ذكره عن مجاهد وعزاه أيضا إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٨).