واختار أبو حيان أن يكون «بنعمة» قسما معترضا به بين المحكوم عليه والحكم على سبيل التأكيد والتشديد والمبالغة في انتفاء الوصف الذميم (١).
وقال ابن عطية (٢) : (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) اعتراض ، كما تقول للإنسان : أنت بحمد الله فاضل ، قال : ولم يبين ما تتعلق به الباء في «بنعمة».
قال شهاب الدين (٣) : والذي تتعلق به الباء في هذا النحو معنى مضمون الجملة نفيا وإثباتا كأنه قيل : انتفى عنك ذلك بحمد الله ، والباء سببية ، وثبت ذلك الفضل بحمد الله تعالى ، وأما المثال الذي ذكره ، فالباء تتعلق فيه بلفظ «فاضل» وقد نحا صاحب «المنتخب» إلى هذا فقال : المعنى انتفى عنك الجنون بنعمة ربك.
وقيل : معناه ما أنت مجنون والنعمة لربك ، كقولهم : سبحانك اللهم وبحمدك ، أي : والحمد لله ؛ وقول لبيد : [الطويل]
٤٨٠٨ ـ وأفردت في الدّنيا بفقد عشيرتي |
|
وفارقني جار بأربد نافع (٤) |
أي وهو أربد ، وهذا ليس بتفسير إعراب بل تفسير معنى.
فصل في إعراب الآية
قوله تعالى (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ). هذا جواب القسم ، وهو نفي.
قال الزجاج (٥) : «أنت» هو اسم «ما» و «مجنون» الخبر ، وقوله : (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) كلام وقع في الوسط ، أي : انتفى عنك الجنون بنعمة ربك ، كما يقال : أنت بحمد الله عاقل.
روى ابن عباس : أنه صلىاللهعليهوسلم غاب عن خديجة إلى حراء ، وطلبته ، فلم تجده ، فإذا به ووجهه متغير بلا غبار ، فقالت : ما لك؟.
فذكر جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأنه قال له : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق : ١] ، فهو أول ما نزل من القرآن ، قال : ثم نزل بي إلى قرار الأرض ، فتوضأ ، وتوضأت ، ثم صلى ، وصليت معه ركعتين ، وقال : هكذا الصلاة ـ يا محمد ـ فذكر النبي صلىاللهعليهوسلم ذلك لخديجة ، فذهبت خديجة إلى ورقة بن نوفل ـ وهو ابن عمها ـ وكان قد خالف دين قومه ودخل في النصرانية ، فسألته فقال : أرسلي إليّ محمدا ، فأرسلته فقال : هل أمرك جبريل ـ عليه
__________________
(١) ينظر السابق.
(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٤٦.
(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٥٠.
(٤) البيت للبيد بن ربيعة ، ينظر ديوانه (١٦٨) ، القرطبي ١٨ / ١٤٨ ، والبحر ٨ / ٣٠٣ والدر المصون ٦ / ٣٥٠ ورواية الديوان :
وقد كنت في أكناف جار مضنّة |
|
ففارقني جار بأربد نافع |
(٥) ينظر معاني القرآن للزجاج ٥ / ٢٠٤.