[٦٥٢] فإن قيل : ما كان حزن مريم وقولها : (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) [مريم : ٢٣] ألفقد الطعام والشراب حتى تسلي بالسري والرّطب ، أم كان لخوف أن يتهمها قومها بفعل الفاحشة؟.
قلنا : كان حزنها لمجموع الأمرين ، وهو ما ذكرتم ، وجدب مكانها الذي ولدت فيه ، فإنه لم يكن فيه طعام ولا شراب ولا ماء تتطهر به ، وكان إجراء النهر في المكان اليابس الذي لم يعهد فيه ماء ، وإخراج الرطب من الشجرة اليابسة دافع لجهتي الحزن ، أما دفع الجدب فظاهر ، وأما دفع حزن التهمة فمن حيث أنهما معجزتان تدلان قومها على عصمتها وبراءتها من السوء وأن الله تعالى قد خصها بأمور إلهية خارجة عن العادة خارقة لها ، فتبين لهم أن ولادتها من غير فحل ليس ببدع من شأنها ولا بعيد في قدرة الله تعالى ، المخرج في لحظة واحدة الرطب الجنيّ من النخلة اليابسة ، والمجري للماء بغتة في مكان لم يعهد فيه.
[٦٥٣] فإن قيل : كيف أمرها جبريل عليهالسلام إذا رأت إنسانا أن تكلمه بعد النذر بالسكوت بقوله : (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) [مريم : ٢٦] الآية ، وذلك خلف في النذر؟
قلنا : إنما أمرها بذلك لأنه تمام نذرها ، فإنها لم تكن مأمورة بنذر مطلق السكوت حتى يندرج فيه الكف عن الذكر والتسبيح والدعاء ونحوها ، بل بنذر السكوت عن تكليم الإنس ، وإذا كان تمام نذرها بقولها : (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) [مريم : ٢٦] لا تكون مكلمة لإنسي بعد تمام النذر.
[٦٥٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) [مريم : ٢٩] وكل أحد كان ، في المهد صبيا؟
قلنا : كان هنا زائدة ، وصبيا منصوب على الحال لا على أنه خبر كان تقديره : كيف نكلم من في المهد في حال صباه. وقيل : كان بمعنى وقع ووجد ، وصبيا منصوب على الوجه الذي مرّ.
[٦٥٥] فإن قيل : خطاب التكليف في جميع الشرائع إنّما يكون بعد البلوغ أو بعد التمييز والقدرة على فعل المأمور به ، وعيسى عليهالسلام كان رضيعا في المهد فكيف خوطب بالصلاة والزكاة حتى قال : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) [مريم : ٣١]؟
قلنا : تأخير الخطاب إلى غاية البلوغ وغيرها إنما كان ليحصل العقل والتمييز ، وعيسى عليهالسلام كان واجد العقل والتمييز التام في تلك الحالة فتوجّه نحوه الخطاب أن يفعلهما إذا قدر على ذلك ، ولهذا قيل : إنه أعطي النّبوّة في صباه أيضا.