والمراد ـ والله أعلم ـ منعهم من الحج وحضور مواضع النسك ، وقال الله تعالى مخبرا عن إبراهيم (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) [إبراهيم : ٣٥] ، فدلّ هذا على أنه وصف البيت بالأمن ، فاقتضى جميع الحرم. والسّبب في أنه ـ تعالى ـ أطلق لفظ البيت ، وعنى به الحرم كله أن حرمة الحرم لما كانت معلّقة بالبيت جاز أن يعبر عنه باسم البيت.
فصل في تحرير معنى الأمن
قوله : (وَأَمْناً) أي : موضع أمن يؤمنون فيه من إيذاء المشركين ، ولا شكّ أن قوله تعالى : (جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) خبر فتارة يتركه على ظاهره ، ويقول : هو خبر وتارة يصرفه عن ظاهره ، ويقول : هو أمر.
أما على الأول فالمراد أنه جعل أهل الحرم آمنين من القحط والجدب على ما قال (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) [العنكبوت : ٦٧] وقوله : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) [القصص : ٥٧] ولا يمكن أن يكون المراد منه الإخبار عن عدم وقوع القتل في الحرم ؛ لأنا نشاهد أن القتل الحرام قد يقع فيه.
وأيضا فالقتل المباح قد يوجد فيه ، قال الله تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) [البقرة : ١٩١] فأخبر عن وقوع القتل فيه.
وإن حملنا الكلام على الأمر فالمعنى : أن الله ـ تعالى ـ أمر الناس بأن يجعلوا ذلك الموضع آمنا من الغارة والقتل ، فكان البيت محترما بحكم الله تعالى ، وكانت الجاهلية يحرمونه ولا يتعرّضون لأهل «مكة» ، وكانوا يسمون قريشا : أهل الله تعظيما له ، ثم اعتبر فيه أمر الصيد حتى أن الكلب ليهمّ بالظّبي خارج الحرم فيفر الظبي منه فيتبعه الكلب ، فإذا دخل الظبي الحرم لم يتبعه الكلب قال النبي صلىاللهعليهوسلم يوم فتح «مكة» : «إنّ هذا البلد حرّمه الله ـ تعالى ـ يوم خلق السّموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله ـ تعالى ـ إلى يوم القيامة ، لا يعضد شوكه ، ولا ينفّر صيده ، ولا يلتقط لقطته إلّا من عرّفها ، ولا يختلى خلاها» فقال العباس رحمهالله : يا رسول الله إلا الإذخر. فقال : «إلّا الإذخر» (١).
فصل في أنه هل يجوز القتال في الحرم؟
قال الشّافعي رحمهالله ـ تعالى ـ ورضي عنه : إذا دخل البيت من وجب عليه حدّ فلا تستوف منه ، لكن الإمام يأمر بالتضييق عليه حتى يخرج من الحرم ، فإذا خرج أقيم عليه الحد في الحلّ ، فإن لم يخرج حتى قتل في الحرم جاز ، وكذلك من قاتل في الحرم جاز قتله فيه.
__________________
(١) أخرجه مسلم في «صحيحه» رقم (٩٨٦) وأحمد (١ / ٣٩٥) والبيهقي (٥ / ١٩٥) والبغوي في «شرح السنة» (١ / ١٠٥).