وثالثها : أنه ـ تعالى ـ لما أعلم إبراهيم ـ عليهالسلام ـ أن في ذريته من يكون ظالما عاصيا ، لا جرم سأل هاهنا أن يجعل بعض ذرّيته أمة مسلمة ، ثم طلب منه أن يوفق أولئك العصاة للتوبة فقال : (وَتُبْ عَلَيْنا) أي على المذنبين من ذرّيتنا ، والأب المشفق على ولده إذا أذنب ولده ، فاعتذر الوالد عنه ، فقد يقول : أجرمت وعصيت فاقبل عذري ، ويكون مراده : أن ولدي أذنب فاقبل عذره ؛ لأن ولد الإنسان يجري مجرى نفسه ، والذي يقوي هذا التأويل وجوه :
الأول : ما حكى الله ـ تعالى ـ في سورة «إبراهيم» أنه قال : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [إبراهيم : ٣٥ ـ ٣٦].
فيحتمل أن يكون المعنى : ومن عصاني فإنك قادر على أن تتوب عليه إن تاب ، وتغفر له ما سلف من ذنوبه.
الثاني : ذكر أن في قراءة عبد الله : «وأرهم مناسكهم وتب عليهم».
الثالث : أنه قال عطفا على هذا : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) [البقرة : ١٢٩].
الرابع : تأولوا قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) [الأعراف : ١١] بجعل خلقه إياه خلقه لهم إذ كانوا فيه ، فكذلك لا يبعد أن يكون قوله : (أَرِنا مَناسِكَنا) أي «ذرّيتنا».
قال القرطبي رحمهالله تعالى : أجاب بعضهم عن هذا الإشكال فقال : إنهما لما قالا (وَتُبْ عَلَيْنا) وهم أنبياء معصومون إنما طلبا التثبيت والدوام ؛ لأنهما كان لهما ذنب.
قال القرطبي : وهذا حسن ، وأحسن منه أن يقال : إنهما لما عرفا المناسك وبنيا البيت أراد أن يبيّنا للناس ، ويعرفاهم أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصّل من الذنوب وطلب التوبة.
فصل فيمن استدل بالآية على خلق الأفعال لله تعالى
دلّت الآية الكريمة على أن فعل العبد خلق لله ـ تعالى ـ لأنه عليه الصلاة والسلام طلب من الله ـ تعالى ـ أن يتوب عليه ، فلو كانت التوبة مخلوقة للعبد ، لكان طلبها من الله ـ تعالى ـ [محالا وجهلا.
قالت المعتزلة : هذا معارض بما أن الله ـ تعالى ـ](١) طلب التوبة منا. [فقال](٢) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً يا أَيُّهَا) .. (تَوْبَةً نَصُوحاً) [التحريم : ٨] ولو كانت فعلا لله تعالى ، لكان طلبها من العبد محالا وجهلا ، وإذا ثبت ذلك حمل قوله : (وَتُبْ
__________________
(١) سقط في أ.
(٢) في أ : قالت المعتزلة : وقد قال الله.