الرغبة والاستكثار من الأنواع بضد ذلك ، فثبت أن تبديل طعام بغيره يصلح أن يكون مقصود العقلاء ، وليس في القرآن ما يدلّ على منعهم ، فثبت أن هذا القدر لا يجوز أن يكون معصية ، ومما يؤكد ذلك أن قوله : (اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) كالإجابة لما طلبوا ، ولو كانوا عاصين في ذلك السّؤال لكانت الإجابة إليه معصية ، وهي غير جائزة على الأنبياء ، لا يقال : إنهم لما أبوا شيئا اختاره الله لهم أعطاهم عاجل ما سألوه كما قال : (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) [الشورى : ٢٠] لأن هذا خلاف الظاهر. واحتجوا على أن ذلك السؤال معصية بوجوه :
الأول : قولهم : لن نصبر على طعام واحد يدلّ على أنهم كرهوا إنزال المنّ والسلوى ، فتلك الكراهة معصية.
الثاني : أن قول موسى عليه الصلاة والسلام : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) استفهام على سبيل الإنكار ، وذلك يدلّ على كونه معصية.
الثالث : أن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وصف ما سألوه بأنه أدنى ، وما كانوا عليه بأنه خير ، وذلك يدلّ على ما قلناه.
والجواب عن الأول : أن قولهم : (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) ليس فيه دليل على أنهم كرهوه ، بل اشتهوا شيئا آخر ؛ لأن قولهم : لن نصبر إشارة إلى المستقبل ؛ لأن «لن» لنفي المستقبل ، فلا يدلّ على أنهم سخطوا الواقع.
وعن الثاني : بأن الاستفهام على سبيل الإنكار قد يكون لما فيه من تفويت الأنفع في الدنيا ، وقد يكون لما فيه من تفويت الأنفع في الآخرة.
وعن الثالث : بأن الشيء قد يوصف بأنه خير من حيث إن الانتفاع به حاضر متيقّن ، ومن حيث إنه حصل بلا كدّ ولا تعب ، فكما يقال ذلك في الحاضر ، فقد يقال في الغائب المشكوك فيه : إنه أدنى من حيث إنه لا يتيقّن من حيث لا يوصل إليه إلا بالكدّ ، فلا يمتنع أن يكون مراده ـ عليه الصلاة والسلام ـ هذا المعنى ، أو بعضه ، فثبت أن ذلك السؤال لم يكن معصية ، بل كان سؤالا مباحا ، وإذا كان كذلك فقوله : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ،) لا يجوز أن يكون لما تقدم ؛ بل لما ذكره الله ـ تعالى ـ بعد ذلك وهو قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) إلى آخره. فهذا هو الموجب للغضب والعقاب لا كونهم سألوا ذلك.
فصل في المراد ب «مصر»
قال قوم : المراد من «مصر» البلد الذي كانوا فيه مع فرعون ؛ لقوله تعالى : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) [المائدة : ٢١] فأوجب دخول تلك الأرض ، وذلك يقتضي المنع من دخول غيرها ، وأيضا قوله : (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) يقتضي