تعالى عالم بحقيقة حالهم ، وما يؤول إليهم ، ولكن أنزل الكلام في قالب لا يجزم السامع معه بأحد الأمرين معيّنا ، ولكنّه يشكّ ، والشكّ كقولك : جاءني إمّا زيد وإمّا عمرو ، إذا لم تعلم الجائي منهما.
و «التخيير» كقوله تعالى : (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) [الكهف / ٨٦] ، فخيّر بين تعذيبهم بالقتل على كفرهم ، وبين اتّخاذ الحسن فيهم بإرشادهم وتعليمهم الشرائع ، ويجوز أن يكون المراد بالتعذيب القتل ، وباتّخاذ الحسن الأسر ، لأنّه بالنظر إلى القتل إحسان ، لما فيه من بقاء الحياة مدّة ، والأوّل أولى ، والمشهور أنّه لا بدّ للّتى للتخيير أن تكون واقعة بعد الطلب ، فيكون التقدير في الآية ـ والله أعلم ـ (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ) افعل (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ) [الكهف / ٨٦] ، فأن وصلتها بعد أمّا الأوّلى في محلّ نصب على المفعوليّة بالفعل المحذوف ، وما بعد إمّا الثانية معطوف على الأوّل ، أى إمّا تعذيبهم ، وإمّا اتّخاذ الحسن فيهم.
«والاباحة» ، نحو : تعلّم إمّا فقها وإمّا نحوا ، وجالس إمّا الحسن وإمّا ابن سيرين. قال ابن هشام : ونازع في ثبوت هذا المعنى لـ «إمّا» جماعة مع إثباتهم إيّاه ل ـ «أو».
تنبيهات : الأوّل : هذه المعاني الخمسة ترد لـ «أو» أيضا كما تقدّم إلا أنّ إمّا يبنى الكلام معها من أوّل الأمر على ما جيء به لأجله من شكّ وغيره ، ولذلك وجب تكرارها في غير ندور ، و «أو» يفتتح الكلام معها على الجزم ، ثمّ يطرأ الشكّ أو غيره ، قاله في المعنى.
وفيه بحث ، قال الرضىّ : مبنى الكلام مع إمّا على أحد الشيئين أو الأشياء ، وأمّا أو فإن تقدّم إمّا على المعطوف عليه نحو : جاءني إمّا زيد أو عمرو ، فالكلام مبنىّ على ذلك ، وإن لم يتقدّم جاز أن يعرض للمتكلّم معنى أحد الشيئين بعد ذكر المعطوف عليه ، تقول مثلا : قام زيد قاطعا بقيامه ، ثمّ يعرض الشكّ أو يقصد الإبهام ، فتقول : أو عمرو ، ويجوز أن يكون شاكّا أو مبهما من أوّل الأمر ، وإن لم تأت بحرف دالّ عليه كما تقول مثلا : جاءني القوم ، وأنت عازم من أوّل الأمر على الاستثناء بقولك : إلا زيدا ، انتهى.
وهو صريح في عدم تعيين افتتاح الكلام مع أو على الجزم ، وقد يجاب بأنّ معنى افتتاح الكلام معها على الجزم أنّ ذلك بحسب الصورة الظاهرة مع أنّه قد يكون في الواقع كذلك ، وقد لا يكون ، ومعنى طروء الشكّ طروء الدالّ عليه لا أن يكون المتكلّم بها لا بدّ أن يكون جازما ثم يشكّ ، فتأمّله.
الثاني : التحقيق أنّ إمّا إنّما هي لأحد الشيئين أو الاشياء ، والمعاني المذكوره ليست مستفادة من نفس إمّا ، وإنّما يستفاد من غيرها باعتبار محلّ الكلام ، كما قالوا : ذلك في