شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٩

فيلزم منه محذور تقدّم الشيء وتأخّره في آن واحد ، ولكن لمّا كان العلم بالحكم مأخوذا في موضوع الحكم ، فهذا معناه أنّ الحكم موقوف ثبوته على العلم بالحكم والعلم بالحكم موقوف تحقّقه على ثبوت الحكم ، ممّا يعني أنّ الحكم صار موقوفا على ثبوت الحكم وهو من توقّف الشيء على نفسه ، وهو معنى الدور.

وقد أجيب عن محذور الدور بأنّ التوقّف ليس من الجانبين بل هو من جانب واحد.

وتوضيحه : أنّ الحكم لمّا أخذ في موضوعه العلم به فهو متوقّف على العلم ، إلا أنّ العلم بالحكم ليس متوقّفا على ثبوت الحكم ؛ إذ لو كان كذلك لكان العلم دائما مصيبا ما دام متعلّقه ومعروضه ثابتا وهو خلف.

إذا العلم بالحكم لا يتوقّف على ثبوت الحكم ؛ لأنّ العلم بشيء لا يتوقّف على ثبوت ذلك الشيء وإلا لكان كلّ علم مصيبا وهو خلف الواقع جزما ، وإنّما يتوقّف العلم بالحكم على مجرّد الصورة الذهنيّة للحكم لا على ثبوته ووجوده حقيقة ، فالعلم بالحكم يتوقّف على أن يكون لدى الذهن صورة ذهنيّة للحكم وهذا هو المعلوم بالذات.

وأمّا حقيقة هذه الصورة وكونها موجودة فهذا لا يتوقّف عليه العلم. وعليه فنقول : إنّ ما هو مأخوذ في موضوع الحكم هو الصورة الذهنيّة فقط ، فيقال : إنّ ثبوت الحكم في الخارج وحقيقته موقوف على العلم بالحكم كصورة ذهنيّة ، فاختلف اللحاظ والموضوع بينهما ، أي أنّ المراد تحقيقه هو ثبوت العلم ووجوده بالعرض ، بينما المأخوذ قيدا هو ثبوت العلم كصورة ذهنيّة موجودة بالذات ، فلا يلزم منه توقّف الشيء على نفسه والذي هو الدور.

وتحقيق الحال في ذلك : أنّ القطع بالحكم إذا أخذ في موضوع شخص ذلك الحكم : فإمّا أن يكون الحكم المقطوع دخيلا في الموضوع أيضا ، وذلك بأن يؤخذ القطع بالحكم بما هو مصيب في الموضوع ، وإمّا ألاّ يكون لثبوت ذات المقطوع دخل في الموضوع.

ففي الحالة الأولى تعتبر الاستحالة واضحة ؛ لوضوح الدور وتوقّف الحكم على نفسه عندئذ.

١٨١

وأمّا في الحالة الثانية فلا يجري الدور بالتقريب المذكور.

والتحقيق في هذه الحالة أن يقال : إنّ أخذ العلم بالحكم في موضوع شخص الحكم لا يخلو من إحدى حالتين :

الأولى : أن يؤخذ العلم بالحكم مع افتراض كونه مصيبا للواقع ، فيكون التقييد بهذا المعنى ( أنّ العلم بالحكم الثابت واقعا قد أخذ في موضوع شخص ذلك الحكم ).

الثانية : أن يؤخذ العلم بالحكم الأعمّ من افتراض كونه مصيبا أم مخطئا فيكون التقييد بهذا المعنى ( أنّ العلم بالحكم سواء كان الحكم ثابتا أو مجرّد صورة ذهنيّة قد أخذ قيدا في موضوع شخص ذلك الحكم ).

ففي الحالة الأولى لا إشكال في استحالة أخذ العلم بالحكم ـ بمعنى الحكم المقطوع الثابت في الواقع ـ في موضوع شخص ذلك الحكم وذلك للدور بالتقريب المتقدّم ؛ لأنّ النتيجة هي أنّ العلم سوف يكون متوقّفا على ثبوت الحكم في الواقع ، والحال أنّ العلم بذلك من قيود موضوع الحكم ممّا يعني أنّه لا ثبوت للحكم قبل العلم ، فيؤدّي إلى أنّ الحكم متقدّم على العلم ومتأخّر عنه ، أو يصبح ثبوت الحكم موقوفا على نفسه ؛ لأنّه موقوف على العلم بثبوت الحكم وكلاهما مستحيل.

وأمّا في الحالة الثانية فما ذكر من الجواب على تقريب الدور يكون تامّا ؛ وذلك لأنّ المأخوذ قيدا في موضوع الحكم ليس هو القطع المصيب ليكون الحكم الثابت واقعا هو متعلّق العلم والقطع ، بل الأعمّ منه ؛ ولذلك لو فرض خطأ القاطع في قطعه فإنّ لازم ذلك أنّ مقطوعه ليس ثابتا في الواقع ، ممّا يعني أنّ القطع به لا يجعله ثابتا وحقيقة ، ومن هنا فيحلّ إشكال الدور ؛ لأنّ القطع بالحكم الثابت لدى القاطع في ذهنه قد أخذ في موضوع ثبوت الحكم واقعا ، فيكون الثبوت الواقعي للحكم موقوفا على الثبوت الذهني له فلا دور ؛ لاختلاف الجهة والموضوع بينهما.

فإنّ الثبوت الواقعي قد أخذ في موضوعه الثبوت الذهني قيدا فيه ، وأمّا الثبوت الذهني فلم يؤخذ فيه قيديّة الثبوت الواقعي ؛ لأنّه غير متوقّف عليه أصلا.

إلا أنّه مع ذلك يقال بالاستحالة أيضا ، وذلك لوجهين آخرين غير محذور الدور ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

١٨٢

ولكنّ الافتراض مع هذا مستحيل ، وقد برهن على استحالته بوجوه :

منها : أنّ الافتراض المذكور يجعل الحكم المقطوع منوطا بنفس القطع ، وهذا أمر يستحيل أن يسلّم به القاطع ؛ لأنّه يخالف طبيعة الكاشفيّة في القطع التي تجعل القاطع دائما يرى أنّ مقطوعه ثابت بقطع النظر عن قطعه.

الوجه الأوّل : أنّ أخذ القطع الأعمّ من المصيب والمخطئ قيدا في موضوع شخص الحكم وإن كان لا يبتلي بمحذور الدور المذكور سابقا ، إلا أنّه في نفسه مستحيل ؛ وذلك لأنّ تصويره يعني أنّ ثبوت الحكم موقوف على العلم بالحكم ذهنا ، ممّا يؤدّي إلى أنّ العلم بالحكم ذهنا هو السبب الذي به يوجد الحكم في الواقع ؛ لأنّ العلاقة بين الحكم وموضوعه كالعلاقة بين السبب والمسبّب.

وهذا لا يمكن قبوله ولا المصير إليه ؛ لأنّ دور القطع هو دور المرآتيّة والكاشفيّة ، فهو يري الواقع للقاطع بقطع النظر عمّا إذا كان هذا الواقع حقّا وصوابا أم مجرّد وهم وخيال ، فالقاطع يرى أنّ مقطوعه ثابت في الواقع والقطع هو الذي يريه هذا الواقع ، ممّا يعني أنّ القاطع نفسه ـ سواء كان قطعه مصيبا أم مخطئا ـ لا يرى أنّ قطعه هو الذي يولّد ويكوّن الواقع ، بل يراه كاشفا له عن الواقع فقط.

وحينئذ فما قيل في دفع إشكال الدور وإن كان معقولا في نفسه ، ولكنّه يلزم منه محذور آخر هو في الاستحالة بمكان ؛ لأنّه يؤدّي إلى صيرورة العلم هو الذي يكوّن الواقع ، وهو خلف حقيقة العلم وخلف الواقع أيضا.

ومن هنا فإذا قيل : ( إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة فقد وجبت عليك ) ، كان معناه أنّ ثبوت الوجوب واقعا منوط بالعلم ذهنا بالوجوب ، فكان للعلم مدخليّة في ثبوت الواقع وتكوينه وليس مجرّد الإراءة والكشف عنه ، وهذا يستحيل التصديق به حتّى من نفس القاطع ؛ لأنّه لا يرى أنّ قطعه هو الذي كوّن وجوب الصلاة ، بل يراه كشف عن هذا الوجوب فقط ، فضلا عن كون هذا الافتراض في نفسه مخالفا لحقيقة القطع والعلم.

ومنها : أنّه يلزم الدور في مرحلة وصول التكليف ؛ لأنّ العلم بكلّ تكليف يتوقّف على العلم بتحقّق موضوعه ، وموضوعه بحسب الفرض هو العلم به ، فيكون العلم بالتكليف متوقّفا على العلم بالعلم بالتكليف ، والعلم بالعلم نفس

١٨٣

العلم ؛ لأنّ العلم لا يعلم بعلم زائد ، بل هو معلوم بالعلم الحضوري لحضوره لدى النفس مباشرة ، وهذا ينتج توقّف العلم على نفسه.

الوجه الثاني : للاستحالة هو أنّ يقال : إنّه لو فرض أخذ العلم بالحكم قيدا في موضوع نفس الحكم بلحاظ عالم الجعل والتشريع ، فإنّ مثل هذا التكليف يستحيل وصوله إلى المكلّف ، فلا يكون فعليّا بحقّه ؛ لأنّه إذا استحال وصوله إليه والوصول شرط في الفعليّة استحال كونه منجّزا وفعليّا على المكلّف.

وتوضيحه : أنّ العلم ينقسم إلى العلم الحصولي والعلم الحضوري ، فالعلم الحصولي هو حضور صورة الشيء في الذهن لا نفس الشيء ، فالعلم بالأشياء الخارجيّة كلّها من العلم الحصولي ؛ لأنّ صورتها هي التي تحصل في الذهن لا هي نفسها كالعلم بأنّ النار حارّة ، فإنّ صورة النار هي التي تحصل لا نفس النار الخارجيّة بما لها من خاصيّة الحرارة والإحراق كما هو واضح.

بينما العلم الحضوري هو حضور نفس المعلوم في الذهن لا مجرّد صورته فقط ، أي حضور شيء لشيء ، وهذا يكون بالنسبة للمجرّدات ، فالنفس بما أنّها مجرّدة فهي تعلم ذاتها علما حضوريّا ، بمعنى أنّ الإنسان يعلم ذاته لحضور ذاته بنفسها عنده لا مجرّد صورتها ، إذ المفروض أنّ النفس مجرّدة عن المادّة والصورة.

وهكذا علم النفس بما تعلمه فإنّ الصور الذهنيّة التي حضرت إلى الذهن تكون معلومة للنفس علما حضوريّا ؛ لأنّ نفس هذه الصورة حاضرة لدى النفس ولا يحتاج علمها بها إلى تصوّرها ، وإلا لزم التسلسل الذي لا ينتهي.

وعلى هذا نقول : إنّ العلم بالحكم لو كان قيدا في موضوع شخص الحكم ، فوصوله إلى المكلّف لا يكون إلا بوصول موضوعه ؛ لأنّ الحكم مرتبط بموضوعه ، وعلاقة الحكم بموضوعه علاقة السبب بالمسبّب ، فلكي يصل الحكم إلى المكلّف ويصبح فعليّا لا بدّ أن يصل موضوعه إليه ويصبح فعليّا في رتبة سابقة.

والمفروض هنا أنّ من جملة قيود الموضوع هو العلم بالحكم ، وهذا معناه أنّ العلم بالحكم متوقّف على العلم بالموضوع أي على العلم بالحكم ، ممّا يعني أنّ العلم بالحكم متوقّف على العلم بالعلم بالحكم ؛ لأنّه هو الموضوع ، وهذا ينتج أنّ العلم بالحكم متوقّف على العلم بالحكم فيتوقّف الشيء على نفسه وهو دور باطل.

١٨٤

وأمّا لما ذا كان العلم بالحكم هو نفسه العلم بالحكم؟ فهذا اتّضح ممّا ذكرناه آنفا ؛ لأنّ علم النفس بما لديها من علوم وصور ذهنيّة هو علم حضوري أي لا يحتاج إلى علم زائد ولا إلى صور ذهنيّة أخرى ، بل العلم حاضر لدى النفس بنفسه ؛ لأنّه مجرّد كيف نفساني وليس مركّبا من المادّة والصورة ، فالعلم بالعلم ليس إلا نفس العلم.

وبهذا يظهر أنّ محذور الدور والذي روحه وحقيقته توقّف الشيء على نفسه ، بمعنى أنّه إذا فرض في سلسلة المعلولات كان موجودا ، وإذا فرض في سلسلة العلل كان موجودا أيضا ، فهذا المحذور لا يجري فقط في عالم الجعل والتشريع بل يجري أيضا في عالم الوصول والفعليّة.

ولازم ذلك أنّ أخذ العلم بالحكم قيدا في موضوع الحكم نفسه وشخصه مستحيل.

إلا أنّ كلّ هذا إنّما يرد إذا أخذ العلم بالمجعول في موضوعه ، ولا يتّجه إذا أخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول ، فبإمكان المولى أن يتوصّل إلى المقصود بتقييد المجعول بالعلم بالجعل.

ويمكن المناقشة في كلا التقريبين للاستحالة بالتقريب التالي :

إنّ المحذور المتقدّم سواء كان بلحاظ عالم الجعل والتشريع أم بلحاظ عالم الوصول والفعليّة ، إنّما يتوجّه فيما إذا كان قيد العلم بالحكم المجعول قيد في موضوع الحكم المجعول ، فإنّه بهذا اللحاظ يشكل بالدور ، فيقال : إذا فرض أنّ العلم بالحكم المجعول قيد في موضوع الحكم المجعول نفسه ، فهذا معناه توقّف الشيء على نفسه ؛ لأنّ العلم بالحكم المجعول لا يكون ثابتا إلا بعد تحقّق موضوعه وهو قد أخذ فيه العلم بالحكم المجعول ، فيلزم أن يكون العلم بالحكم المجعول موقوفا على ثبوت العلم بالحكم المجعول فيدور.

ولكن إذا أخذنا العلم بالجعل قيدا في موضوع الحكم المجعول فهذا لا إشكال فيه ولا دور.

أمّا أنّه لا دور بلحاظ عالم الجعل والتشريع فلأنّ ثبوت الحكم المجعول وإن صار موقوفا على العلم بالحكم الجعلي إلا أنّ هذا التوقّف لا مانع منه ؛ إذ لا محذور في أن يكون الحكم المجعول مسبّبا عن العلم بالحكم الجعلي ، وذلك للتغاير بينهما ، فإنّ

١٨٥

الحكم بلحاظ عالم الجعل هو الحكم الثابت على الموضوع المفترض والمقدّر الوجود ، وهما موجودان وثابتان معا في عالم اللحاظ ، بينما الحكم المجعول هو الحكم الذي يصبح فعليّا على تقدير وجود موضوعه في الخارج ، فالشارع لا يجعل الحكم فعليّا على المكلّف إلا إذا علم بالحكم في عالم الجعل ، فما لم يعلم به لا فعليّة للحكم عليه.

فمثلا وجوب الجهر على المكلّف في القراءة لا يكون مجعولا ولا فعليّا على المكلّف ، إلا إذا علم بثبوت هذا الحكم في عالم الجعل ، فما هو المتوقّف عليه إنّما هو العلم بالجعل وما هو المسبّب والمتولّد من ذلك إنّما هو العلم بالمجعول فلم يتوقّف الشيء على نفسه ولم يتولّد الشيء من نفسه.

وأمّا أنّه لا دور بلحاظ عالم الوصول فكذلك ؛ لأنّ العلم بالحكم الجعلي ووصوله إلى المكلّف ليس هو نفسه العلم بالحكم المجعول ؛ لأنّ متعلّق العلم الأوّل لمّا كان مغايرا لمتعلّق العلم الثاني فيمكن أن يؤخذ قيدا فيه ، نظير ما إذا أخذ العلم بالحكم قيدا في موضوع حكم آخر مخالف للحكم الأوّل.

وهكذا يظهر أنّه بالإمكان أن يتوصّل المولى إلى نتيجة التقييد من خلال هذا الطريق ، ولا يحتاج إلى طريق آخر للوصول إلى هذه النتيجة.

وأمّا من لم يأخذ هذا المخلص بعين الاعتبار كالمحقّق النائيني ; فقد وقع في حيرة من ناحيتين :

الأولى : أنّه كيف يتوصّل الشارع إلى تخصيص الحكم بالعالم به إذا كان التقييد المذكور مستحيلا؟

الثانية : أنّه اذا استحال التقييد استحال الإطلاق بناء على مختاره من أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد الثبوتيّين تقابل الملكة والعدم ، وهذا يعني أنّ الجعل الشرعي يبقى مهملا بلا تقييد ولا إطلاق ، فكيف يرفع هذا الإهمال ويتعيّن في المطلق تارة وفي المقيّد أخرى؟

تقدّم أنّ تقييد الحكم بالعلم به مستحيل ؛ لمحذور الدور فيما إذا كان العلم بالحكم المجعول قيدا في الحكم المجعول ، وقلنا بأنّ هذا المحذور لا يرد فيما إذا كان العلم في عالم الجعل قيدا للحكم في عالم المجعول.

١٨٦

إلا أنّ الميرزا النائيني ذهب إلى عدم إمكان حلّ إشكال الدور بذلك ، واعتبر أنّ إشكال الدور أو توقّف الشيء على نفسه ثابت ، سواء كان التقييد بلحاظ عالم الإنشاء أم بلحاظ عالم الفعليّة ، فقال ما حاصله : أنّ أخذ العلم بالحكم قيدا في مقام الإنشاء يلزم منه توقّف الشيء على نفسه ؛ لأنّ الإنشاء يكون على نهج القضيّة الحقيقيّة أي عبارة عن جعل الحكم على موضوعه المقدّر الوجود ، وهذا الإنشاء ثابت قبل تحقّق الموضوع في الخارج ، وإنّما يصبح الإنشاء فعليّا بتحقّق الموضوع في الخارج.

وعليه ، فإذا أخذ العلم بالإنشاء قيدا في الموضوع لزم حين إنشاء الحكم أن يتصوّر الموضوع ، والموضوع قد أخذ فيه العلم بالإنشاء فيكون العلم بالإنشاء سابقا على الإنشاء أو مولّدا للإنشاء وهو خلف حقيقة العلم ؛ لأنّ دوره إنّما هو الكاشفيّة لا التوليد. مضافا إلى استلزامه الدور ؛ إذ يتوقّف الإنشاء على العلم بالإنشاء.

وهكذا الحال بالنسبة لأخذ العلم بالحكم قيدا في مقام الفعليّة ؛ لأنّ الحكم لا يكون فعليّا إلا يتحقّق موضوعه ووصوله إلى المكلّف ، والمفروض أنّ موضوعه قد أخذ فيه العلم بالحكم.

وهذا يعني أنّ الحكم لا بدّ أن يكون ثابتا وفعليّا وواصلا للمكلّف في رتبة سابقة ، والمفروض أنّ ثبوته كذلك يعني فعليّته التي هي فرع تحقّق موضوعه ، فصار الحكم موقوفا على تحقّق الموضوع وفعليّته ، وصار الموضوع موقوفا على تحقّق الحكم وفعليّته ، فكان كلّ منهما متوقّفا على الآخر وهذا دور.

ومن هنا ذهب إلى أنّه لا يمكن للشارع أن يتوصّل إلى نتيجة التقييد بأخذ العلم قيدا في الحكم ، سواء كان في عالم الإنشاء مأخوذا قيدا أم في عالم الفعليّة.

ولكن توجد أمامه مشكلتان لا بدّ من حلّهما :

الأولى : أنّه قد ثبت في بعض الموارد الفقهيّة تقييد الحكم بالعالم به ، فكيف يمكن للشارع أن يتوصّل إلى تقييد الحكم بالعالم به ، مع أنّ التقييد مستحيل كما تقدّم؟

والثانية : أنّ الميرزا ذهب في بحث الإطلاق والتقييد إلى أنّ التقابل بينهما في عالم الثبوت هو تقابل العدم والملكة ، بمعنى أنّه لا يصحّ الإطلاق إلا في المورد الذي يكون قابلا للتقييد ، فإذا كان المورد قابلا للتقييد ولم يقيّد استكشف من ذلك الإطلاق.

وأمّا إذا كان المورد غير قابل للتقييد فهو غير قابل للإطلاق ، إذ قد يكون مراده

١٨٧

التقييد ولكنّه لم يقيّد من أجل محذور الدور أو توقّف الشيء على نفسه ، ولذلك يكون المورد مهملا من ناحية الإطلاق والتقييد ، إلا أنّ هذا الإهمال لا يمكن الالتزام به عمليّا ؛ لأنّ مراد المولى إمّا أن يكون مطلقا أو يكون مقيّدا ، ولذلك نحتاج إلى ما يرفع هذا الإهمال لتعيين المطلق أو المقيّد.

وهذا بخلاف مذهب المشهور القائل بأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد من تقابل النقيضين أو الضدّين اللذين لا ثالث لهما كما هي مقالة السيّد الخوئي ، فإنّ النتيجة هي أنّه إذا استحال التقييد تعيّن الإطلاق وهكذا العكس.

والحاصل : أنّ الميرزا يواجه مشكلة على صعيدين :

الأوّلى : في كيفيّة التوصّل إلى تخصيص بعض الأحكام بالعالم بها.

الثانية : في كيفيّة الخروج من حالة الإهمال بالنسبة للإطلاق والتقييد.

وأمّا جوابه عنهما فهو :

وقد حلّ رحمه‌الله ذلك بافتراض جعل ثان يتكفّل إثبات نفس الحكم للعالم بالجعل الأوّل خاصّة إذا أريد التقييد ، وللمكلّف مطلقا من حيث علمه بالجعل الأوّل وجهله به إن أريد الإطلاق.

وبذلك تتحقّق نتيجة التقييد والإطلاق ، وإنّما نعبّر بالنتيجة لا بها ؛ لأنّ ذلك لم يحصل بالجعل الأوّل المهمل ، وإنّما عوّض عن إطلاقه وتقييده بجعل ثان على الوجه المذكور.

ولا يلزم من التعويض المذكور محذور التقييد والإطلاق في نفس الجعل الأوّل ؛ لأنّ العلم بالحكم الأوّل أخذ قيدا في الحكم الثاني لا في نفسه ، فلا دور.

ونظرا إلى أنّ الجعلين قد نشا من غرض واحد ولأجل ملاك فارد كان التقييد في الثاني منهما في قوّة التقييد في الأوّل ، ولهذا عبّر عن الثاني بمتمّم الجعل الأوّل (١).

ثمّ إنّ الميرزا قد ذكر حلاّ للمشكلتين معا ، وهذا الحلّ أسماه بمتمّم الجعل.

وتوضيحه : أنّ الأمر لمّا كان مهملا من ناحية تقييده بالعالم به أو إطلاقه للعالم والجاهل معا ، وهذا الإهمال نشأ نتيجة استحالة التقييد بالعلم والمفروض أنّه إذا

__________________

(١) فوائد الأصول ٣ : ١١ ـ ١٢.

١٨٨

استحال التقييد استحال الإطلاق أيضا ؛ لأنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، ولكن هذا الإهمال إنّما هو بحسب عالم الدلالة والإثبات.

وأمّا بلحاظ عالم الواقع والثبوت فالشارع إمّا أن يكون قد رأى أنّ الملاك محفوظ في حالتي العلم والجهل فهذا يعني الإطلاق ، وإمّا أنّه محفوظ في حالة العلم به دون الجهل ممّا يعني أنّه مقيّد ، فالمراد الواقعي للشارع لا يخلو من الإطلاق أو التقييد ولا يتصوّر الإهمال في المراد الواقعي الجدّي في عالم الثبوت ؛ لأنّ الإهمال في عالم الملاك غير معقول.

وعلى هذا فالشارع يمكنه أن يتوصّل إلى نتيجة الإطلاق أو إلى نتيجة التقييد ، وذلك بأن يجعل حكما آخر يتكفّل إثبات أنّ الحكم الأوّل مختصّ بالعالم به إذا كان يريد التقييد ، أو إثبات أنّ الحكم الأوّل شامل للعالم والجاهل إذا كان يريد الإطلاق ، وبهذا الجعل الثاني تحصل لدينا نتيجة الإطلاق أو نتيجة التقييد ، ولكن لا يحصل لدينا الإطلاق والتقييد أنفسهما.

والوجه في ذلك هو : أنّ المقام ليس مثل سائر المقامات الأخرى التي يمكن استكشاف الإطلاق فيها لمجرّد عدم ذكر القيد على أساس مقدّمات الحكمة كما إذا قيل : ( أعتق رقبة ) أو ( أكرم العالم ) ، فإنّه يمكننا إثبات الإطلاق على أساس مقدّمات الحكمة ؛ لأنّه لو كان يريد التقييد لذكر ما يدلّ عليه مع كونه في مقام البيان والتفهيم ، فعدم ذكره للقيد دليل على إرادة الإطلاق ، إلا أنّ مقدّمات الحكمة هذه لا تجري في مقامنا وما شابهه كأخذ امتثال الأمر مثلا.

والفرق بين المقامين هو أنّ الحكم في تلك الموارد انصبّ على المقسم ؛ لأنّ الرقبة تنقسم إلى المؤمنة وغيرها وهكذا العالم ، فلمّا انصبّ على المقسم ولم يرد ما يدلّ على شيء آخر زائدا عليه استكشف أنّ مراده المقسم فقط الشامل لكلا القسمين فيكون مطلقا.

وأمّا في مقامنا فالحكم لا ينصبّ على المقسم ؛ لأنّ التقسيم إنّما يحصل بعد الحكم والأمر ، فمثلا العلم والجهل إنّما هما وصفان للأمر والحكم ، فالمكلّف إمّا أن يعلم بالحكم والأمر وإمّا أن يجهلهما ولكن علمه أو جهله بعد فرض ثبوت الأمر والحكم.

ومن الواضح أنّه حينما ثبت الأمر والحكم كان منصبّا على الطبيعة والماهيّة لا على

١٨٩

شيء آخر ، والطبيعة والماهيّة ليست مقسما للعلم والجهل ، ولذلك لا يمكن إثبات الإطلاق للعالم والجاهل كما لا يمكن إثبات التقييد بخصوص العالم.

هذا ولكن يمكن للشارع أن يتوصّل إلى نتيجة الإطلاق والتقييد ، وذلك بجعل حكم آخر وهو ما يسمّى بمتمّم الجعل ، فمن خلال هذا الجعل الثاني إمّا أن يستكشف نتيجة الإطلاق وإمّا أن يستكشف نتيجة التقييد ، فإذا ذكر الشارع متمّم الجعل وذكر فيه قيد العلم بأن قال : إنّ الحكم الأوّل مقيّد بالعالم به ثبتت نتيجة التقييد كما هو الحال بالنسبة للجهر والإخفات ، وإن لم يذكر متمّم الجعل هذا فعدم ذكره يكون دليلا على أنّ الجعل الأوّل المراد منه خصوص ما تعلّق به ، فيشمل حالتي العلم والجهل فتحصل نتيجة الإطلاق.

هذا وقد ثبت بمتمّم الجعل نتيجة الإطلاق في سائر الأحكام الشرعيّة ، ولذلك ادّعي الإجماع على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل ، وثبت على أساسه نتيجة التقييد في بعض الموارد كالجهر والإخفات والقصر والتمام.

يبقى الكلام في حقيقة متمّم الجعل فنقول : إنّ متمّم الجعل عبارة عن أمر آخر ناشئ من نفس ملاك الأمر الأوّل ، فهو وإن كان هناك تعدّد في الأمر إلا أنّ الأمرين لهما ملاك واحد ، ولذلك لا يوجد إلا امتثال واحد وعقاب واحد على المخالفة.

ولا يقال : إنّ الأمر الثاني لمّا كان مجعولا على نحو الاستقلال فله مخالفة وامتثال غير المخالفة والامتثال للأمر الأوّل ؛ لأنّه يقال : إنّ تعدّد الأمر لو كان على أساس تعدّد الملاك للزم الإشكال ، إلا أنّه ليس كذلك بل الأمر الثاني كان لأجل بيان المراد الواقعي وبيان ما هو الملاك الثابت واقعا من الأمر الأوّل ، وليس ناشئا من ملاك استقلالي فيه ؛ لأنّ المولى لا علاج لديه من أجل تحصيل غرضه إلا بذلك ، فهناك ملاك واحد لا يمكن إبرازه إلا بأمرين.

ومن هنا كان الوجه في تسمية الجعل الثاني بمتمّم الجعل ؛ لأنّه به يتمّ الإفصاح عن الملاك ، ولا يمكن للأمر الأوّل وحده أن يكشف عن الملاك الواقعي للمولى.

وبهذا يظهر أنّ مشكلة الإهمال تنحلّ بمتمّم الجعل الذي يثبت نتيجة الإطلاق أو التقييد ، كما أنّ مشكلة تقييد الحكم بالعالم به تنحلّ أيضا بالتوصّل إليها عن طريق متمّم الجعل هذا.

١٩٠

وأمّا مشكلة الدور التي كانت واردة فيما لو أريد أخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم نفسه ، فهذه لا تأتي هنا ؛ لأنّ التقييد إنّما كان في الجعل الثاني لا في نفس الجعل الأوّل ، بمعنى أنّ الشارع قد أخذ العلم بالحكم قيدا لا في نفس الأمر الأوّل وإنّما بالأمر الثاني ، فالعلم بالحكم الأوّل قد أخذ قيدا في الحكم الثاني ، فثبوت الحكم الثاني موقوف على ثبوت الحكم الأوّل ، وأمّا الحكم الأوّل فهو ليس موقوفا على العلم بالحكم الثاني ليلزم الدور.

وبتعبير آخر : إنّ العلم بالحكم الأوّل وإن كان قيدا في ثبوت الحكم الثاني ، إلا أنّ ثبوت الحكم الأوّل لم يؤخذ فيه العلم بالحكم الثاني ليلزم الدور أو توقّف الشيء على نفسه.

وأمّا كيفيّة تأثير الجعل الثاني على الجعل الأوّل في الإطلاق والتقييد ، فلأنّ الجعل الثاني لمّا كان ناشئا من نفس ملاك الجعل الأوّل فكان التقييد فيه بقوّة التقييد في الجعل الأوّل والإطلاق فيه بقوّة الإطلاق في الجعل الأوّل أيضا ، فالأمران معا كأنّهما أمر واحد ، وإنّما لم يجعل الشارع الأمر واحدا ؛ لأنّه لا يمكنه التوصّل إلى مراده الجدي وبيان ملاكه الواقعي بالأمر الواحد ؛ لأنّه سوف يبتلي بالإهمال ؛ لأنّ التقييد مستحيل فيستحيل معه الإطلاق.

هذا ملخّص ما ذكره الميرزا من حلّ للمشكلة.

إلا أنّ السيّد الشهيد لم يقبل هذه الفكرة ، ولذلك ردّ كلام الميرزا بقوله :

ويرد عليه : أنّه إن أراد تقييد الحكم في الجعل الثاني بالعلم بالجعل الأوّل فهذا التقييد ممكن في الجعل الأوّل مباشرة كما عرفت ، وإن أراد تقييد الحكم في الجعل الثاني بفعليّة المجعول في الجعل الأوّل المهمل فهذا غير معقول ؛ لأنّه يفترض أنّ فعليّة المجعول بالجعل الثاني فرع العلم بفعليّة المجعول بالجعل الأوّل المهمل ، وحينئذ نتساءل أنّ المجعول بالجعل الأوّل المهمل هل ترتبط فعليّته بالعلم به أو لا؟ فعلى الأوّل يعود المحذور وهو توقّف الشيء على العلم به ، وعلى الثاني يلزم الخلف وأن يكون الجعل المهمل الذي لا إطلاق فيه مطلقا ؛ لأنّ ثبوت مجعوله بدون توقّف على القيد هو معنى الإطلاق.

الإشكال على مقالة الميرزا بمتمّم الجعل ، وحاصله أن يقال : إنّ الجعل الثاني الذي

١٩١

به يتمّ الجعل الأوّل المهمل به ، حيث أخذ العلم قيدا فيه فنسأل عن كيفيّة أخذ قيديّة العلم هذه؟

فإن كان مقيّدا بالعلم بالجعل الأوّل بأن قال المولى : ( إذا علمت بالجعل الأوّل فالجعل الثاني فعلي ) ، فهذا وإن كان معقولا في نفسه ولا يلزم منه محذور الدور كما تقدّم ؛ لأنّ العلم بالجعل الأوّل لا يتوقّف على العلم بالجعل الثاني وإنّما التوقّف من جهة الجعل الثاني فقط فإنّه موقوف على العلم بالجعل الأوّل ، إلا أنّه مع ذلك يكون لغوا ولا فائدة منه ؛ لأنّه تطويل بلا فائدة إذ كان بإمكان المولى أن يقيّد بهذا القيد في نفس الجعل الأوّل فيقول : ( إذا علمت بالجعل الأوّل فيصبح فعليّا عليك ) ؛ لأنّ العلم بالجعل يمكن أخذه قيدا في المجعول كما تقدّم.

وإن كان مقيّدا بالعلم بفعليّة الجعل الأوّل ، بأن قال المولى : ( إذا علمت بفعليّة الجعل الأوّل المهمل فالجعل الثاني فعلي ) ، فهذا غير معقول في نفسه.

والوجه في ذلك : هو أنّ الفعليّة معناها تحقّق الموضوع وقيوده وشروطه ، فلكي يصبح الحكم فعليّا لا بدّ من تحقّق الموضوع وكلّ ما أخذ فيه. وعليه ، فلكي يعلم المكلّف بفعليّة الجعل الأوّل لا بدّ من تحقّق موضوعه أوّلا ، وموضوع الجعل الأوّل لا يخلو إمّا أن يكون مقيّدا أو مطلقا أو مهملا ، والكلّ لا يمكن الالتزام به. إذا فلا يمكن أن يعلم المكلّف بالفعليّة لعدم إمكان تحقّق هذه الفعليّة.

وبيان ذلك : أنّ موضوع الجعل الأوّل إن كان مقيّدا بالعلم ومختصّا بالعالم فقط ، فهذا يلزم منه محذور الدور وتوقّف الشيء على نفسه ؛ لأنّ معناه هكذا ( العلم بالجعل الأوّل قيد في موضوع الجعل الأوّل ) فيتوقّف العلم به على العلم.

وإن كان غير مقيّد بالعلم فهذا معناه أنّه يشمل العالم والجاهل وهو معنى الإطلاق ، والمفروض أنّه مهمل ، والمهمل معناه أنّ التقييد والإطلاق غير ملحوظين فيه ، فيكون إطلاقه مخالفا لحقيقة الإهمال فيه.

وإن كان مهملا كما يفترضه الميرزا فهذا معناه أنّ المكلّف لا يمكنه العلم بموضوعه ؛ لأنّه لا يعلم هل موضوعه مقيّد بالعلم أم هو شامل للعلم والجهل معا؟ ومع عدم العلم بموضوعه لا يمكن العلم بفعليّته ، وبالتالي لا يكون الجعل الثاني ثابتا ؛ لأنّه موقوف على العلم بفعليّة الجعل الأوّل المهمل.

١٩٢

مضافا إلى أنّ الإهمال نفسه غير معقول ثبوتا ؛ إذ المولى إمّا أن يكون لاحظ قيد العلم أو لا ، فعلى الأوّل يكون مقيّدا وعلى الثاني يكون مطلقا ، ولا معنى لفرض الإهمال الثبوتي.

وبهذا يظهر أنّ فكرة متمّم الجعل غير ممكنة في نفسها.

وثمرة هذا البحث تظهر في إمكان التمسّك بإطلاق دليل الحكم لنفي دخل قيد العلم في موضوعه ، فإنّه إن بني على إمكان التقييد والإطلاق معا أمكن ذلك ، كما هو الحال في نفي سائر القيود المحتملة بالإطلاق.

وإن بني على مسلك المحقّق النائيني القائل باستحالة التقييد والإطلاق معا فلا يمكن ذلك ؛ لأنّ الإطلاق في الحكم مستحيل ، فكيف يتمسّك بإطلاق الدليل إثباتا لاكتشاف أمر مستحيل؟!

وإن بني على أنّ التقييد مستحيل والإطلاق ضروري ـ كما يرى ذلك من يقول بأنّ التقابل بين التقييد والإطلاق تقابل التناقض أو تقابل الضدّين اللذين لا ثالث لهما ـ فلا يمكن التمسّك بإطلاق الدليل ؛ لأنّ إطلاق الدليل إنّما يكشف عن إطلاق مدلوله وهو الحكم ، وهذا معلوم بالضرورة على هذا المبنى ، وإنّما الشكّ في إطلاق الملاك وضيقه ، ولا يمكن استكشاف إطلاق الملاك لا بإطلاق الحكم المدلول للدليل ولا بإطلاق نفس الدليل.

أمّا الأوّل فلأنّ إطلاق الحكم إنّما يكشف عن إطلاق الملاك إذا كان بإمكان المولى أن يجعله مقيّدا فلم يفعل ، والمفروض في المقام استحالة التقييد.

وأمّا الثاني فلأنّ الدليل مفاده مباشرة هو الحكم لا الملاك.

وأمّا الثمرة : من هذا البحث فهي تظهر فيما إذا شكّ في كون العلم مأخوذا قيدا في موضوع الحكم أو لا ، بمعنى أنّه في صورة الشكّ في أخذ العلم قيدا في موضوع الحكم ، هل يمكن نفي هذا القيد على أساس مقدّمات الحكمة أم لا يمكن ذلك؟

والجواب يختلف باختلاف المباني ، وبيان ذلك : أنّه إذا بني على أنّ التقييد والإطلاق كلاهما ممكن في نفسه ، بمعنى أنّ الشارع يمكنه أن يجعل الحكم مقيّدا بالعلم به كما يمكنه أن يجعله مطلقا من هذه الناحية ، فإذا جاء الدليل الدالّ على

١٩٣

الحكم خاليا من القيد المذكور أمكن القول بأنّه مطلق لجريان مقدّمات الحكمة ، فإنّه يقال : لو كان يريد القيد ومع ذلك لم يذكره لكان مخلاّ في مقام البيان لمراده ، إذا فهو لا يريد التقييد ، فيتعيّن أنّه يريد الإطلاق ؛ لأنّ الإهمال الثبوتي مستحيل. وهذا نظير سائر الموارد التي يحتمل فيها التقييد فإنّه ينفى بقرينة الحكمة.

وأمّا إذا بني على مسلك المحقّق النائيني بأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل العدم والملكة ، ففي مقامنا حيث يستحيل التقييد بالعلم لما مرّ من محذور الدور أو توقّف الشيء على نفسه أو على العلم به ، فيستحيل الإطلاق أيضا.

ولا يمكننا إثبات الإطلاق على أساس قرينة الحكمة ؛ لأنّها تبتني على أنّ المولى إذا لم يقيّد فهو يريد الإطلاق والمفروض أنّ التقييد مستحيل ، فقد يكون المولى مراده التقييد ولكنّه لم يقيّد لأجل محذور الاستحالة ، فلا يستكشف من إطلاق الدليل على أساس مقدّمات الحكمة الإطلاق ؛ لأنّها لا تجري أصلا.

بل لو قيل بجريان الإطلاق ومقدّمات الحكمة في الدليل فمع ذلك لا يمكننا الأخذ بها ؛ لأنّها تريد أن تثبت لنا الإطلاق والمفروض أنّنا أثبتنا استحالته في رتبة سابقة ، ولا يمكن الأخذ بدليل يثبت لنا أمرا مستحيلا.

وأمّا إذا بني على مسلك السيّد الخوئي القائل بأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، أو بني على المسلك المختار عند السيّد الشهيد القائل بأنّ التقابل بينهما هو تقابل النقيضين ، فهنا لمّا استحال تقييد الحكم بالعلم به فسوف يتعيّن الإطلاق بالضرورة ؛ لأنّ النقيضين وهكذا الضدّين اللذين لا ثالث لهما إذا استحال أحدهما تعيّن الآخر بالضرورة ؛ إذ يستحيل ارتفاع النقيضين معا كما هو واضح.

وعليه ، فإذا كان الإطلاق ضروري الوقوع فلا يمكننا أيضا التمسّك بإطلاق الدليل وإجراء مقدّمات الحكمة ؛ وذلك لأنّ إطلاق الدليل ما ذا يراد به؟

فإن كان المراد به إثبات إطلاق الحكم فهذا معلوم بالضرورة ؛ لأنّ الحكم الذي هو مدلول للدليل قد علم إطلاقه في رتبة سابقة ، فيكون إثبات الإطلاق لاكتشافه تحصيلا للحاصل فيلغو.

وإن كان المراد به إثبات إطلاق الملاك فهذا غير ممكن أيضا ؛ لأنّ إثبات إطلاق

١٩٤

الملاك إمّا أن يكون عن طريق الإطلاق في الدليل ، وإمّا عن طريق الإطلاق في المدلول أي في الحكم ، وكلاهما غير ممكن.

أمّا عدم إمكان إثبات إطلاق الملاك على أساس الإطلاق في الدليل ؛ فلأنّ الإطلاق في الدليل يثبت كون المدلول مطلقا والمدلول ليس هو إلا الحكم ، فينحصر الوجه في إثبات إطلاق الملاك بإطلاق الحكم.

وأمّا عدم إمكان إثبات إطلاق الملاك بإطلاق الحكم الذي هو مدلول الدليل ، فلأنّ اكتشاف الإطلاق بهذا الطريق فرع أن يكون الحكم مطلقا ، وإطلاق الحكم في المقام كان ضروريّا لاستحالة التقييد ، إلا أنّ هذا لا يكشف عن الإطلاق في الملاك ؛ لأنّه قد يكون ملاك المولى في التقييد ولكنّه لم يقيّد بسبب الاستحالة ولهذا أطلق ، فإطلاق الحكم إنّما يكشف عن إطلاق الملاك فيما لو كان يمكن للمولى أن يجعل الحكم مقيّدا ولكنّه لم يقيّده ، فيدلّ ذلك على أنّه مطلق وإطلاقه حينئذ يكشف عن إطلاق الملاك ، إلا أنّ هذا غير موجود في محلّ الكلام بسبب استحالة التقييد.

وبتعبير آخر : إنّ إطلاق الملاك ينحصر طريقه في إثبات الإطلاق في الحكم ، ولكن الإطلاق في الحكم تارة يكون متعيّنا ومفروضا على المولى ، وأخرى لا يكون كذلك بل المولى يريده.

فعلى الثاني يمكن استكشاف إطلاق الملاك على أساس إطلاق الحكم ؛ لأنّ إطلاق الحكم لمّا كان مرادا للمولى فهو يعني أنّ الحكم مطلق لجميع الحالات وبه يستكشف إطلاق الملاك كذلك.

وأمّا على الأوّل فلا يمكن استكشاف إطلاق الملاك ؛ لأنّ إطلاق الحكم لمّا كان مفروضا على المولى ومتعيّنا فهو قد لا يريده ثبوتا ، وإنّما أطلق بسبب المحذور في التقييد ، فقد يكون الملاك على أساس التقييد فقط فلا يمكن إثبات إطلاق الملاك.

وفي مقامنا إطلاق الحكم كان على أساس استحالة التقييد ممّا يعني أنّ الإطلاق مفروض ومتعيّن على المولى ؛ لأنّه ضروري الوقوع ، ولذلك لا يمكن أن يكشف عن إطلاق الملاك.

أخذ العلم بالحكم في موضوع ضده أو مثله :

وأمّا الافتراض الثاني فهو مستحيل ؛ لأنّ القاطع ـ سواء كان مصيبا في قطعه أو

١٩٥

مخطئا ـ يرى في ذلك اجتماع الحكمين المتضادّين فيمتنع عليه أن يصدّق بالحكم الثاني ، وما يمتنع تصديق المكلّف به لا يمكن جعله ، وفي حالات إصابة القطع للواقع يستبطن الافتراض المذكور اجتماع الضدّين حقيقة.

وهذا الافتراض في حقيقته نحو من الردع عن العمل بالقطع بجعل حكم على القاطع مضادّ لمقطوعه ، واستحالته بتعبير آخر هي استحالة الردع عن العمل بالقطع.

الحالة الثانية : أن يؤخذ العلم بالحكم قيدا في موضوع حكم مضادّ لهذا الحكم ، كما إذا قيل : ( إذا قطعت بوجوب الصلاة فهي حرام عليك ) ، أو قيل : ( إذا قطعت بحرمة شرب الخمر فهو حلال لك ).

وفي هذه الحالة يقال أيضا بالاستحالة ؛ وذلك للتقريب التالي : أنّ من قطع بوجوب الصلاة مثلا فقطعه إمّا أن يكون مصيبا للواقع أو يكون مخطئا.

وعليه ، فإن كان قطعه مخطئا وفي الواقع لم تكن الصلاة واجبة ، ولكنّه لمّا علم بوجوبها فهو يعتقد أنّها واجبة ، فمثل هذا القاطع لا يمكنه أن يصدّق بأنّها محرّمة ؛ لأنّ تصديقه بذلك يعني أنّه يصدّق باجتماع الضدّين ، واجتماع الضدّين كما أنّه مستحيل الوقوع فكذلك هو مستحيل التصديق والاعتقاد به.

فالاستحالة في اجتماع الضدّين لا تتوقّف على الوقوع في الخارج ، بل هي تعمّ الوجود الذهني أيضا ، فكما لا يمكن وجود الضدّين معا في الخارج على موضوع واحد ، فكذلك لا يمكن وجودهما معا في الذهن على صورة ذهنيّة واحدة.

وإذا استحال التصديق بهما كذلك يستحيل للمولى أن يجعل مثل هذا الحكم ؛ لأنّه لا أثر ولا محرّكيّة له ، وما دام الحكم فاقدا للمحرّكيّة والباعثيّة كان جعله لغوا ، والشارع يمتنع في حقّه أن يشرّع ما هو لغو في نفسه.

وأمّا إن كان قطعه مصيبا للواقع ، فهذا معناه أنّ الصلاة واجبة واقعا والشارع قد حكم بوجوبها واقعا ، ومعه فبالإضافة إلى المحذور السابق سوف يردّ محذور اجتماع الضدّين واقعا وحقيقة ، بمعنى أنّ لازم الحكم المذكور أنّ الشارع قد حكم بوجوب الصلاة وبحرمتها أيضا ، وهذا مستحيل صدوره من الشارع الحكيم الملتفت ؛ لأنّه مستحيل في نفسه.

١٩٦

هذا ، ويمكن تقريب الاستحالة بنحو آخر وذلك بأن يقال : أنّ أخذ العلم بالحكم في موضوع ضدّه تعبير آخر عن الردع عن العمل بالقطع بعد حصوله ، ومثل هذا الردع مستحيل ؛ لأنّه إمّا أن يكون بحكم واقعي أو بحكم ظاهري وكلاهما مستحيل.

أمّا أنّه يستحيل الردع الواقعي فلأنّه يؤدّي إلى صدور حكمين متضادّين واقعا ، وهو غير معقول في نفسه فيما إذا كان القطع مصيبا للواقع ، أي يؤدّي إلى اجتماعهما في نظر القاطع وفي الواقع أيضا وهو غير معقول ؛ لأنّه لا يمكنه التصديق بهما معا.

وأمّا أنّه يستحيل الردع الظاهري فلأنّ الحكم الظاهري مأخوذ فيه الشكّ في الحكم الواقعي في رتبة سابقة ، والمفروض أنّ المكلّف قد قطع بوجوب الصلاة فهو غير شاكّ ، ولذلك لا يرى أنّ الردع الظاهري جدّيا بالنسبة إليه على فرض صدوره.

وهذا التقريب تقدّم في مباحث القطع وأنّه لا يعقل سلب المنجّزيّة ولا المعذّريّة عن القاطع لا بحكم واقعي ولا بحكم ظاهري.

ومقامنا يعتبر مصداقا لذلك فهو تعبير آخر عن الردع ؛ لأنّه لمّا كان عبارة عن إنشاء حكم مضادّ لما قطع به ، فهذا معناه أنّ الحكم الثاني يردعه عن العمل بالحكم الأوّل الذي قطع به.

ولا فرق بين المقامين ؛ لأنّه هناك كان من باب سلب الحجّيّة عن القطع وهنا كان من باب جعل حكم آخر مضادّ للحكم المقطوع به ، إلا أنّهما عمليّا شيء واحد ؛ لأنّ سلب الحجّيّة معناها عدم العمل بالقطع وجعل حكم مضادّ معناه أنّه لا يعمل بالقطع السابق.

وأمّا الافتراض الثالث : فقد يطبّق عليه نفس المحذور المتقدّم ، ولكن باستبدال محذور اجتماع الضدّين بمحذور اجتماع المثلين.

وقد يجاب على ذلك بأنّ محذور اجتماع المثلين يرتفع بالتأكّد والتوحّد ، كما هو الحال في ( أكرم العادل وأكرم الفقير ) فإنّهما يتأكّدان في العادل الفقير.

ولكنّ هذا الجواب ليس صحيحا ؛ لأنّ التأكّد على نحو التوحّد إنّما يكون في مثلين لا طوليّة وترتّب بينهما كما في المثال لا في المقام ، حيث إنّ أحدهما متأخّر رتبة عن الآخر لترتّبه على القطع به فلا يمكن أن يرتفع محذور اجتماع المثلين بالتأكّد.

١٩٧

الحالة الثالثة : أن يؤخذ العلم بالحكم قيدا في موضوع حكم مماثل له ؛ كما إذا قيل : ( إذا علمت بوجوب الصلاة فقد وجبت عليك ).

وفي هذه الحالة يقال بالاستحالة أيضا ؛ للزوم محذور اجتماع المثلين ، فإنّ اجتماع المثلين كاجتماع الضدّين كلاهما مستحيل سواء كان المكلّف مصيبا في قطعه للواقع أم كان مخطئا ، فإنّه إذا كان مصيبا في قطعه فهذا معناه اجتماع المثلين واقعا على موضوع واحد ، وإن كان مخطئا في قطعه فلازمه اجتماع المثلين في اعتقاده وتصديقه بذلك ؛ لأنّه يرى أنّه مصيب بقطعه دائما ولا يرى أنّ قطعه مخطئ.

والوجه في استحالة المثلين : هو أنّ الحكمين المتماثلين كغيرهما من الأوصاف والأعراض الخارجيّة لا يمكن اجتماعهما معا مع الحفاظ على تعدّدهما ، فإذا كان شيء ما أسود فلا معنى لثبوت سواده مجدّدا بنحو يكون لكلّ سواد منهما وجود مستقلّ ومباين للآخر ، وهكذا في الأحكام الشرعيّة فإنّه إذا كان شيء ما حراما أو واجبا فلا معنى لإيجابه أو تحريمه مجدّدا ؛ لأنّه تحصيل للحاصل فيلغو.

وأجيب عن المحذور المذكور بأنّ اجتماع المثلين ممكن فيما إذا أدّى إلى التأكّد والتوحّد ، فيصبح الأمران أمرا واحدا والوجوبان وجوبا واحدا ولكنّه آكد وأشدّ ، نظير ما إذا قيل : ( أكرم العالم ) وقيل : ( أكرم الفقير ) فإنّهما إذا اجتمعا في شخص واحد لم يكن من اجتماع المثلين ؛ لأنّ الوجوبين يتّحدان ويتأكّدان بلحاظه. ولا يلزم منه تحصيل الحاصل واللغويّة ؛ لأنّ التأكّد فيه غرض عقلائي واضح.

وفيه : أنّ التوحّد والتأكّد إنّما يتصوّران فيما إذا كان بين الشيئين اللذين يراد توحيدهما وتأكيدهما رتبة عرضيّة ، ولم يكن أحدهما متوقّفا على الآخر ومترتّبا في وجوده عليه وفي طوله ، وإلا لكان التأكّد مستحيلا.

وتوضيحه : أنّنا إذا فرضنا شيئين في رتبة واحدة وفي عرض واحد في الوجود أمكن عروضهما على موضوع واحد فيصبحان شيئا واحدا آكد وأشدّ ، كما هو الحال في الأعراض والأوصاف الخارجيّة ، فإنّ عروض السواد على ما هو أسود يؤدّي إلى تأكّد السواد وصيرورته شديدا أكثر ممّا كان عليه سابقا.

وهكذا في مثل : ( أكرم العالم ) و ( أكرم الفقير ) فإنّ عروضهما على شخص واحد يتّصف بالوصفين معا يجعل من وجوب إكرامه وجوبا أكيدا ، ممّا يعني أنّه يوجد

١٩٨

وجوب واحد لإكرامه ولكنّه بسببين هما الفقر والعلم ، وهذا ممكن في نفسه ولا محذور فيه.

ولكن إذا افترضنا شيئين ليس بينهما رتبة وجوديّة عرضيّة ، بل كان أحدهما في طول الآخر ووجوده متوقّف على وجود الآخر ، فهنا يستحيل التأكّد والتوحّد ، والوجه فيه هو : أنّ أحدهما لمّا كان سابقا في وجوده على الآخر وكان الآخر متوقّفا ومترتّبا عليه ، فهذا معناه أنّه صار علّة وسببا لوجوده وصار الثاني معلولا ومسبّبا عنه. ومن الواضح أنّ العلّة والمعلول أو السبب والمسبّب لا يمكن أن يتوحّدا معا ويصيرا شيئا واحدا ، بل هما أمران متغايران ومتعدّدان.

وهذا الكلام يجري في مقامنا ، فإنّ الوجوب الثاني لمّا كان مترتّبا وموقوفا على العلم بالوجوب الأوّل فهذا معناه أنّه متولّد منه ومتفرّع عليه في الوجود ، فلا بدّ من ثبوت الوجوب الأوّل ثمّ يتولّد من العلم به الوجوب الثاني ، ولا يمكن للوجوب الثاني أن يتّحد مع الوجوب الأوّل ؛ لأنّه متأخّر في الوجود عنه لأنّه معلول له ، والعلّة لا تتّحد مع المعلول.

فإذا كانا متعدّدين جاء محذور اجتماع المثلين ؛ لأنّ الوجوب الثاني يعتبر لغوا وتحصيلا للحاصل ولا فائدة منه ، ولذلك يستحيل جعله من الشارع ويستحيل التصديق به من قبل المكلّف.

وبهذا يظهر أنّ هذا الفرض مستحيل أيضا.

* * *

١٩٩
٢٠٠