شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٩

أمران تعيينيّان : أحدهما الصلاة الاضطرارية في الوقت ، والآخر الصلاة الاختياريّة بعد زوال العذر خارج الوقت.

ومنه يظهر أنّ الاستدلال بالملازمة العقليّة بين ثبوت الأمر الاضطراري وبين الأجزاء غير تامّة ، ولذلك هنا يحتاج الفقيه إلى مراجعة الروايات والأدلّة التي دلّت على الأمرين ( الاضطراري والاختياري ) ، فإن أمكنه استظهار شيء منها يدلّ على نفي وجوب القضاء أو على ثبوت القضاء فهو ، وإلا تعيّن الرجوع إلى الأصل العملي وهو البراءة في المقام ؛ لأنّ وجوب القضاء تكليف زائد مشكوك ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

بل يبقى على الفقيه استظهار الحال من لسان دليل الأمر الاضطراري وإطلاقه ، فقد يستظهر منه الإجزاء لظهور لسانه في وفاء البدل بتمام مصلحة المبدل ، أو ظهور حاله في أنّه في مقام بيان تمام ما يجب ابتداء وانتهاء ، فإنّ سكوته عن وجوب القضاء حينئذ يدلّ على عدمه.

كيفيّة الاستظهار : ذكرنا أنّ وجوب القضاء لا يمكن نفيه على أساس الملازمة العقليّة بين ثبوت الأمر الاضطراري والإجزاء ، وقلنا بأنّه لا بدّ من الرجوع إلى الأدلّة ليستظهر منها الحال ، فتارة يستظهر من لسان الدليل نفي وجوب القضاء ، وأخرى لا يمكن استظهار ذلك ، بل يبقى مشكوكا.

أمّا في الحالة الثانية فيرجع إلى الأصل العملي في المقام وهو هنا البراءة ؛ لأنّه شكّ في التكليف الزائد ، كما عن صاحب ( الكفاية ) وغيره ، ومنهم السيّد الشهيد.

وأمّا في الحالة الأولى فيمكن أن يستظهر نفي وجوب القضاء بأحد طريقين :

الأوّل : أن يستظهر من الدليل أي من دليل الأمر الاضطراري كونه بدلا عن الفعل الاختياري ؛ كما قال الميرزا ، فإنّ ظاهر البدليّة كون البدل وافيا بتمام الملاك والغرض من المبدل ، وهذا لا يكون مختصّا بحالة الاضطرار واستمرار العذر ، بل هو مطلق لما بعد زوال الاضطرار والعذر أيضا ، أي أنّه بدل عنه في تمام الموارد والحالات.

الثاني : أن يستظهر من دليل الأمر الاضطراري أنّ تمام الوظيفة الثابتة على المكلّف هو الفعل الذي يقوم به حال الاضطرار ، فيستفاد من مجموع الأمرين ( الاضطراري والاختياري ) ، أنّ الشارع يحدّد الوظيفة للمكلّف ابتداء وانتهاء في حالة العذر وفي

٣٢١

حالة عدم العذر ، فالشارع يبيّن للمكلّف وظيفته في هاتين الحالتين ، وما دام سكت عن وجوب القضاء فهو ليس دخيلا في الوظيفة لا ابتداء ولا انتهاء ؛ إذ لو كان داخلا لكان اللازم ذكر ما يدلّ عليه ، فسكوته عنه دليل على عدم إرادته ، وهذا تمسّك بالإطلاق المقامي.

فإذا تمّ شيء من هذين الاستظهارين كان وجوب القضاء منتفيا من خلال الدليل اللفظي نفسه ، وإلا رجعنا إلى الأصل العملي وقد قلنا أنّ نتيجته عدم وجوب القضاء أيضا (١).

__________________

(١) لا يبعد كون استظهار البدليّة تامّا في نفسه ، ويكون لسان الدليل حينئذ هو لسان الحكومة والتوسعة بلحاظ الإجزاء.

فيستفاد من مثل قوله تعالى : ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) [ النساء : ٤٣ ] أو قوله ٧ : التيمّم أحد الطهورين [ المقنع : ٩ ] أنّ التيمّم بدل عن الوضوء ، وأنّه يؤدّي نفس الغرض والمصلحة منه خصوصا مع ملاحظة ما ورد من أنّه يكفي عشر سنين.

٣٢٢

دلالة الأوامر الظاهريّة

على الإجزاء عقلا

٣٢٣
٣٢٤

دلالة الأوامر الظاهريّة على الإجزاء عقلا

قد تؤدّي الحجّة إلى تطبيق الواجب المعلوم على غير مصداقه الواقعي ، بأن تدلّ على أنّ الواجب صلاة الظهر مع أنّه صلاة الجمعة ، أو على أنّ الثوب طاهر مع أنّه نجس.

فإذا أتى المكلّف بالوظيفة وفقا للحجّة الظاهريّة فهل يجزي ذلك عن الواجب الواقعي بلا حاجة إلى قيام دليل خاصّ على الإجزاء ، أو يحتاج إثبات الإجزاء في كلّ مورد إلى دليل خاصّ ، وبدونه يرجع إلى قاعدة عدم الإجزاء؟

المقام الثاني : في دلالة الأوامر الظاهريّة على الإجزاء عقلا.

فإذا فرضنا قيام الأمارة أو الأصل العملي لدى المكلّف فعمل على طبقهما ثمّ انكشف له الواقع وأنّه مخالف لهما ، فهل يجزيه ذلك أم لا بدّ من الإعادة في الوقت؟ أو يجب القضاء خارج الوقت؟

فإذا دلّ خبر الثقة على وجوب الظهر في يوم الجمعة فصلّى الظهر ثمّ انكشف له الواقع ، وأنّ الواجب يوم الجمعة هو صلاة الجمعة لا الظهر ، فهل تجب عليه إعادة الصلاة أو قضاء الصلوات التي صلاّها أم لا؟

وإذا تمسّك بأصالة الطهارة أو الحلّيّة وطبّقها في مورد على طهارة الثوب المشكوك فصلّى فيه ، ثمّ انكشف له الواقع وأنّه نجس ، فهل تجب الإعادة أو القضاء أم لا؟

وفي كلّ هذه الموارد يكون المكلّف قد طبّق الأمارة أو الأصل على خلاف الواقع ، ويكون قد امتثل للمأمور به في غير مصداقه الواقعي ، وهنا يأتي البحث عن الإجزاء وعدمه ، فهل هناك ملازمة عقليّة بين ثبوت الأمر الظاهري وبين الإجزاء ، أو لا يوجد مثل هذه الملازمة؟

فإن قيل بوجود الملازمة العقليّة حكم بالإجزاء ، وإن أنكر وجود الملازمة كان لا بدّ

٣٢٥

من اكتشاف الإجزاء على أساس استظهاري من نفس دليل الحكم الظاهري ، وإن لم يوجد الدليل الاستظهاري أيضا رجعنا إلى الأصل الأوّلي في المسألة وهو عدم الإجزاء ؛ لأنّ إجزاء غير المأمور به من المأمور به يحتاج إلى دليل ؛ لأنّه خلاف تحقّق الإطاعة والامتثال للأمر المولوي. ولذلك سوف نستعرض الأقوال في هذه المسألة مع أدلّة كلّ واحد منها فنقول :

قد يقال بالإجزاء بدعوى الملازمة العقليّة بين الأمر الظاهري وبينه ؛ لأنّ الأمر الظاهري في حالات المخالفة للواقع يكشف عن وجود مصلحة في مورده على نحو يستوفي به الملاك الواقعي الذي يفوّت على المكلّف بسبب التعبّد بالحجّة الظاهريّة ، وذلك ببرهان : أنّه لو لا افتراض مصلحة من هذا القبيل لكان جعل الأمر الظاهري قبيحا ؛ لأنّه يكون مفوّتا للمصلحة على المكلّف وملقيا له في المفسدة ، ومع اكتشاف مصلحة من هذا القبيل يتعيّن الإجزاء فلا تجب الإعادة فضلا عن القضاء لحصول الملاك الواقعي واستيفائه ، والبناء على الاكتشاف المذكور يسمّى بالقول بالسببيّة في جعل الحجّيّة ، بمعنى أنّ الأمارة الحجّة تكون سببا في حدوث ملاك في موردها.

القول الأوّل : هو إجزاء الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي عقلا على أساس مسلك السببيّة.

وهذا القول مبني على أنّ الحكم الظاهري مجعول على أساس المصلحة الموجودة فيه ، وهو ما يسمّى بالسببيّة.

وتوضيح ذلك : تقدّم سابقا أنّه توجد إشكالات على جعل الحكم الظاهري يطلق عليها إشكالات ابن قبة ، وكانت تتمحور في أنّ جعل الحكم الظاهري مستحيل ؛ لأنّه يؤدّي إلى أحد محاذير ثلاثة :

الأول : لزوم اجتماع الضدّين في حالة المخالفة بين الحكم الظاهري والواقعي ، أو لزوم اجتماع المثلين في حالة توافقهما.

الثاني : لزوم تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة فيما إذا كان الحكم الظاهري مخالفا للواقع ؛ لأنّ المصالح والمفاسد ـ بناء على مذهب العدليّة ـ واقعيّة ومشتركة بين العالم والجاهل.

٣٢٦

الثالث : عدم إمكان تنجّز التكليف المشكوك ؛ لأنّ الحكم الظاهري مورده الشكّ ومع الشكّ تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وقد أجيب عن هذه الإشكالات بأجوبة عديدة ؛ كان منها القول بالسببيّة من جعل الحكم الظاهري ، بمعنى أنّ الشارع عند ما جعل الحكم الظاهري فقد جعله لمصلحة فيه ، فيكون الحكم الظاهري سببا لحدوث تلك المصلحة ، وعلى أساس هذه المصلحة المفترضة الوجود سوف تندفع شبهات ابن قبة كما ذكر في محلّه.

وفي مقامنا يقال : إنّ جعل السببيّة في الحكم الظاهري لن يؤدّي إلى تفويت المصلحة والإيقاع في المفسدة ؛ لأنّ المكلّف إذا أخذ بالحكم الظاهري في مورده فسوف تكون هناك مصلحة في هذا الحكم مساوية أو لا تقلّ أهمّيّة عن مصلحة الواقع ، وبها يتدارك ما فات من مصلحة الواقع.

وبالتالي فإنّ الملاك الواقعي الذي فات المكلّف عند انكشاف الخطأ في الحكم الظاهري وكون الواقع على خلافه كان متداركا ، وبالتالي لا يكون هناك تفويت للملاك وإن لم يمتثل المكلّف المأمور به إلا أنّ هذا يكفي ؛ لأنّ أحد ملاكي الإجزاء هو تحصيل الغرض والملاك من الأمر ولو من غير طريق الإتيان بالمتعلّق والمأمور به.

إذا جعل السببيّة يؤدّي إلى الإجزاء لا محالة ، والدليل على ذلك هو أنّ جعل الحكم الظاهري من دون أن يفترض فيه هذه المصلحة المساوية لمصلحة الواقع ، فسوف يكون جعله قبيحا ؛ لأنّه يؤدّي إلى المحاذير التي ذكرها ابن قبة فيكون جعله قبيحا ومستحيلا صدوره من الشارع ، فلمّا كان الحكم الظاهري ثابتا وصادرا من الشارع كشف ذلك عن وجود تلك المصلحة ، وبهذه المصلحة يحصّل المكلّف الملاك فلا تجب الإعادة فضلا عن القضاء ؛ لأنّه لا موضوع لهما (١).

__________________

(١) هذه السببيّة قال بها بعض أصحابنا ، وفي مقابلها يوجد نحوان من السببيّة :

أحدهما : السببيّة التي قال بها الأشاعرة والتي تفترض عدم وجود حكم واقعي في مرتبة سابقة عن الحكم الظاهري ، وإنّما الواقع هو ما أدّى إليه الدليل.

والآخر : السببيّة التي قال بها المعتزلة ، والتي تفترض وجود أحكام واقعيّة ولكنّها مقيّدة بعدم قيام الحجّة والدليل على خلافها ، وإلا فإنّها تتبدّل.

وعلى أساس هذين القولين من السببيّة سوف يكون الحكم الظاهري مجزيا بلا إشكال ، إلا أنّ المبنيين يؤدّيان إلى التصويب وهو باطل جزما ؛ لأنّ الأحكام مشتركة بين العالم ...

٣٢٧

ويرد على ذلك :

أوّلا : أنّ الأحكام الظاهريّة ـ على ما تقدّم (١) ـ أحكام طريقيّة لم تنشأ من مصالح وملاكات في متعلّقاتها ، بل من نفس ملاكات الأحكام الواقعيّة ، وقد مرّ دفع محذور استلزام الأحكام الظاهريّة لتفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة.

ولو كانت الأحكام الظاهريّة ناشئة من مصالح وملاكات على ما ادّعي للزم التصويب ، إذ بعد فرض وفاء الوظيفة الظاهريّة بنفس ملاك الواجب الواقعي يستحيل أن يبقى الوجوب الواقعي مختصّا بمتعلّقه الأوّل ، بل ينقلب ـ لا محالة ـ ويتعلّق بالجامع بين الأمرين ، وهذا نحو من التصويب.

الإيراد الأول على القول المذكور : إنّ الصحيح في جعل الأحكام الظاهريّة هو ما ذكرناه سابقا من أنّها أحكام طريقيّة وليست أحكاما حقيقيّة ؛ وذلك لأنّها مجرّد خطابات تعيّن ما هو الأهمّ من الملاكات الواقعيّة عند اختلاطها على المكلّف وعدم تمييزه لها ، فإنّ الشارع في هذه الحالة يجعل الحكم الظاهري لأجل حلّ هذه المشكلة التي يواجهها المكلّف.

ومن هنا لم يكن في الأحكام الظاهريّة ملاكات ومصالح مستقلّة وزائدة عن الحكم الواقعي ، بل ملاكاتها هي نفس ملاكات الواقع.

وعلى هذا المسلك ـ والذي هو المختار ـ سوف تنحلّ شبهات ابن قبة ؛ لأنّه لن يكون هناك اجتماع للمثلين أو للضدّين ؛ إذ لا يوجد حكم آخر سوى الحكم الواقعي ، وليس الحكم الظاهري إلا طريقا إليه فقد يصيبه وقد يخطأه.

ولن يكون هناك تفويت للمصلحة أو إلقاء في المفسدة ؛ لأنّ تفويت مصلحة الأمر الواقعي كانت رعاية لغرض أهمّ ، وهي الحفاظ على الملاكات الواقعيّة التي لاحظ أهمّيّتها على تلك المصلحة ؛ كما تقدّم شرحه مفصلا عند الكلام على حقيقة الحكم الظاهري.

__________________

... والجاهل بحكم العقل ولإطلاقات الأدلّة بحسب ظاهرها.

وأمّا هذا القول فهو وإن كان يؤدّي إلى القول بالإجزاء لكنّه يؤدّي إلى التصويب فيمتنع.

(١) في هذه الحلقة ، عند البحث عن الحكم الشرعي وتقسيماته ، تحت عنوان : وظيفة الأحكام الظاهرية.

٣٢٨

وعليه ، فإذا انكشف مخالفة الأمارة للواقع كشف ذلك عن أنّ الملاكات الواقعيّة بنظر الشارع ليست على طبق ما أدّت إليه الأمارة ، ممّا يعني أنّ الملاك لم يحصل ولم يتدارك فلا إجزاء.

وأمّا على القول بالسببيّة فيلزم التصويب ؛ وذلك لأنّه يفترض أنّ الحكم الظاهري يسبّب وجود مصلحة في متعلّقه ، وحينئذ لا بدّ من فرض كون هذه المصلحة مساوية أو أهمّ من مصلحة الواقع ؛ لأنّها إن كانت أقلّ أهمّيّة منها فمحذور تفويت المصلحة الذي طرحه ابن قبة يبقى على حاله. وعليه ، فما دامت المصلحة وافية بمصلحة الواقع فلن يكون هناك تفويت للملاك والغرض ، ومع عدم التفويت يحكم بالإجزاء لتحقّق ملاكه الثاني وهو استيفاء الغرض والملاك.

إلا أنّ هذا يؤدّي إلى أن يكون الوجوب الواقعي متعلّقا إمّا بالإتيان بالحكم الواقعي ، وإمّا بالإتيان بالحكم الظاهري على نحو التخيير ، فينقلب الأمر الواقعي من كونه تعيينيّا إلى كونه تخييريّا ومتعلّقا بالجامع بين الأمرين. وهذا لا يمكن أن يلتزم به ؛ لأنّ هذا الجامع يكون متعلّقه إمّا الحكم الواقعي وإمّا الأمارة المخالفة للواقع ، فإذا قامت لديه الأمارة فإن كانت موافقة للواقع فيكون قد أحرز الحكم الواقعي ، وإن كانت مخالفة للواقع فيكون قد امتثل الحكم الظاهري ، وهذا يفترض وجود حكم واقعي تخالفه الأمارة أو تصيبه ، ممّا يعني أنّ الجعل الواقعي تعييني في نفسه قبل الأمر بالجامع.

وحينئذ يستحيل وصول الأمر بالجامع إلى المكلّف ؛ لأنّ وصول الشقّ الثاني منه وهو الأمارة المخالفة للواقع يتوقّف على إحراز مخالفتها ، فإن أحرز مخالفتها لم يكن له العمل بها قطعا ، وإن لم يحرز مخالفتها لم يحرز وصول الشقّ الثاني من طرفي الجامع ، وإذا أحرز موافقتها فهو يعلم بالواقع أي بالشقّ الأوّل.

وبهذا يظهر أنّ الأمر بالجامع يؤدّي دائما إلى ثبوت الواقع التعييني دون الواقع التخييري الذي يلزم منه الإجزاء.

وعلى فرض ثبوت الواقع التخييري الذي لازمه الإجزاء فهذا لا يتمّ إلا بنحو من التصويب ؛ لأنّ التبدّل من التعيين إلى التخيير نحو من أنحاء التصويب.

وثانيا : إذا سلّمنا أنّ ما يفوت على المكلّف بسبب الحجّة الظاهريّة من مصالح

٣٢٩

لا بدّ أن تضمن الحجّة تداركه ، إلا أنّ هذا لا يقتضي افتراض مصلحة إلا بقدر ما يفوت بسببها ، فإذا فرضنا انكشاف الخلاف في أثناء الوقت لم يكن ما فات بسبب الحجّة إلا فضيلة الصلاة في أوّل وقتها مثلا لا أصل ملاك الواقع لإمكان استيفائهما معا ، وهذا يعني أنّ المصلحة المستكشفة من قبل الأمر الظاهري إنّما هي في سلوك الأمارة والتعبّد العملي بها بالنحو الذي يجبر ما يخسره المكلّف بهذا السلوك ، وليست قائمة بالمتعلّق وبالوظيفة الظاهريّة بذاتها ، فإذا انقطع التعبّد في أثناء الوقت بانكشاف الخلاف انتهى أمد المصلحة.

وهذا ما يسمّى بالمصلحة السلوكيّة ، وعليه فلا موجب للإجزاء عقلا.

الإيراد الثاني على القول بالإجزاء : ذهب الشيخ الأنصاري إلى أنّ الأحكام الظاهريّة مجعولة على أساس المصلحة السلوكيّة ، بمعنى أنّ في سلوك الأمارة مصلحة ؛ إذ لو لم يكن فيها أيّة مصلحة لكان جعلها لغوا ، وعليه فيستكشف من جعل الأمارات أو الحكم الظاهري عموما وجود تلك المصلحة.

فإذا سلك المكلّف على طبق الأمارة ثمّ انكشف له أنّها مخالفة للواقع ، فهذا الانكشاف تارة يكون في أثناء الوقت وأخرى يكون خارجه.

فإن انكشف الخلاف في الوقت كان معناه أنّ المصلحة السلوكيّة في الأمارة لم تكن بمقدار مطابق لتمام مصلحة الواقع ، وإنّما بمقدار ما سلكه على طبق الأمارة وهو جزء من مصلحة الواقع ، وأمّا الجزء الباقي فالمفروض أنّه يمكن تحصيله ؛ لأنّ الوقت لا يزال باقيا فيأتي بالحكم الواقعي في الوقت ، وهذا معناه عدم الإجزاء.

وإن انكشف الخلاف بعد الوقت فهذا معناه أنّ المصلحة السلوكيّة على طبق الأمارة كانت مستوفية لتمام مصلحة الواقع ، ولكن هذا الاستيفاء كان متعلّقا بسلوك الأمارة لا بنفس متعلّق الحكم الواقعي ؛ لأنّ المفروض أنّ ما أتى به من فعل لم يكن هو المأمور به واقعا لفرض انكشاف الخطأ بعد الوقت ، وعلى هذا تكون مصلحة الواقع لا تزال فعليّة ؛ لأنّ المكلّف لم يأت بالمأمور به ولم يحقّق ملاكه ، ومن هنا كان لا بدّ من القضاء خارج الوقت ، وهو معنى عدم الإجزاء.

وبتعبير آخر : إنّ سلوك الأمارة لا بدّ أن يتضمّن وجود مصلحة في السلوك بقدر ما يفوت من مصلحة الواقع بسبب سلوك الأمارة ، وإلا لكان جعلها لغوا.

٣٣٠

ولكن لا يلزم من وجود المصلحة السلوكيّة الإجزاء ، سواء حصل انكشاف الخطأ في الوقت أم في خارجه ؛ وذلك لأنّه إذا انكشف الخلاف في الوقت فصلّى الظهر مثلا ثمّ انكشف له وجوب الجمعة لا الظهر ، كان سلوكه للأمارة قد فوّت عليه المصلحة الواقعيّة لفضيلة الصلاة في أوّل الوقت وهذا المقدار الفائت يجب أن يضمنه سلوك الأمارة.

وأمّا الأكثر من ذلك فهو يمكن تداركه واستيفاؤه وذلك بالإتيان بالأمر الواقعي وبمتعلّقه ، فإنّ سلوك الأمارة لا يضمن هذا المقدار ؛ لأنّ المصلحة لم تكن في المتعلّق وإنّما التعبّد كان بسلوك الأمارة وكانت المصلحة مترتّبة على السلوك فقط ، فإذا انقطع التعبّد بسلوك الأمارة لفرض انكشاف الواقع انقطع ما تجبره الأمارة بسلوكها ، وبقيت المصلحة الواقعيّة المتعلّقة بالفعل المطلوب واقعا فعليّة ويمكن تداركها واستيفاؤها فتجب ، ولذلك لا يتحقّق الإجزاء.

وهكذا فيما لو كان الانكشاف خارج الوقت ، فإنّ سلوك الأمارة وإن ضمن الخسارة الحاصلة بفوات الوقت إلا أنّ المصلحة المترتّبة على الفعل المأمور به واقعا لا تزال فعليّة ؛ لأنّ المأمور به لم يتحقّق ولأنّ ملاكه لم يحصّل ، وإنّما حصّل المكلّف ملاكا ومصلحة بسلوكه الأمارة مطابقا لما خسره بفوات الوقت فقط.

وبكلمة ثانية : أنّ سلوك الأمارة يضمن الخسارة ، والخسارة هنا كانت للوقت بتمامه ، وأمّا المأمور به الواقعي أي متعلّق الأمر الواقعي فهذا يمكنه أن يستوفي مصلحته ولو بعد الوقت فتجب ، وهذا معناه عدم الإجزاء أيضا.

نعم ، يبقى إمكان دعوى الإجزاء بتوهّم حكومة بعض أدلّة الحجّيّة على أدلّة الأحكام الواقعيّة وتوسعتها لموضوعها ، وقد أوضحنا ذلك سابقا.

وهو إجزاء مبنيّ على الاستظهار من لسان دليل الحجّيّة ، ولا علاقة له بالملازمة العقليّة.

ويأتي دفع هذا التوهّم عند التمييز بين الحكومة الواقعيّة والحكومة الظاهريّة في مباحث التعارض إن شاء الله تعالى.

القول الثاني : الإجزاء على أساس الحكومة ، وهو دليل استظهاري لا عقلي.

ذهب الآخوند وغيره إلى أنّه يمكن القول بالإجزاء بالنسبة لبعض أدلّة الأصول

٣٣١

العمليّة الجارية في الشبهات الموضوعيّة ، على أساس استكشاف ذلك من أدلّتها الظاهرة في الحكومة.

وتوضيح ذلك أن يقال : إنّ الحكم الظاهري يقسّم إلى الأمارات ، والأصول.

والأصول تنقسم إلى الأصول العمليّة الجارية في الشبهات الموضوعيّة ، والأصول الجارية في الشبهات الحكميّة.

أمّا الأمارات والأصول العمليّة الجارية في الشبهات الحكميّة ـ كالبراءة والاحتياط ـ فهي لا تتصرّف في الأحكام الواقعيّة ؛ ولذلك فهي على القاعدة لا تقتضي الإجزاء فيما لو انكشف كون الواقع على خلافها ، بل لا بدّ من الإعادة في الوقت ، أو القضاء خارجه إن استفيد ذلك من نفس الدليل أو من دليل خاصّ.

وأمّا الأصول العمليّة الجارية في الشبهات الموضوعيّة ـ كأصالة الطهارة أو الحليّة واستصحابهما ـ فهي تتصرّف في الأحكام الواقعيّة ؛ بمعنى أنّه يستفاد من أدلّتها كونها حاكمة على أدلّة الأحكام الواقعيّة التي اشترط فيها الطهارة أو الحلّيّة ، ومعنى كونها حاكمة أنّها توسّع دائرة الشرطيّة لتشمل الأعمّ من الطهارة الواقعيّة أو الطهارة الظاهريّة.

وعليه ، فمن يصلّي في الثوب المشكوكة طهارته ـ بناء على جريان أصالة الطهارة فيه أو على أساس استصحابها فيه ـ يكون قد أتى بأحد فردي هذه الشرطيّة ، ولكنّه يعتقد ـ بناء على عدم علمه بمخالفة الأصل للواقع ـ بأنّه يأتي بالطهارة الواقعيّة لا الظاهريّة ، إلا أنّ هذا الاعتقاد لا يضرّ ؛ لأنّه خطأ في التطبيق فقط لا في الامتثال. ولهذا لو انكشف خلاف الواقع لم تجب عليه الإعادة فضلا عن القضاء ؛ لأنّه قد امتثل أحد مصداقي الشرطيّة.

والفرق بين هذا وما تقدّم من الأمارات والأصول الجارية في الشبهات الحكميّة هو استظهار الحكومة من أدلّة هذا القسم دونها ، فإنّ استظهار الحكومة معناه إيجاد فرد من موضوع الشرطيّة ، فالشرط متحقّق ، بخلاف الأمارات والأصول الحكميّة فإنّ لسانها ليس لسان الحكومة ، بل هي تفيد أنّ هذا هو الفرد الواقعي ؛ لأنّ الأمارات كاشفة عن الواقع أي أنّ المجعول فيها هو المنجّزيّة والمعذّريّة فهي تحرز الواقع لدى المكلّف ، فإذا انكشف كون الواقع على خلافها تبيّن أنّه لم يأت بالفرد المأمور به واقعا فتجب عليه الإعادة أو القضاء.

٣٣٢

ومثلها الأصول الجارية في الشبهات الحكميّة كالبراءة أو الاحتياط ، فإنّ لسانها لسان تسجيل الوظيفة العمليّة على المكلّف أي التنجيز أو التعذير فقط.

هذا حاصل ما يمكن أن يستفاد منه ، وعلى أساسه يثبت الإجزاء ولا تجب الإعادة ولا القضاء سواء انكشف الخلاف في الوقت أم خارجه.

وهذا الوجه ـ كما قلنا ـ استظهاري وليس مبنيّا على أساس الملازمة العقليّة ؛ لأنّه يستفيد الإجزاء من خلال استفادة الحكومة من لسان الدليل ، فإن تمّ فهو وإلا رجعنا إلى الأصل الأوّلي وهو عدم الإجزاء.

والصحيح عدم تماميّة هذا الوجه ، وذلك إذا عرفنا أنّ الحكومة تنقسم إلى قسمين. الحكومة الظاهريّة ، والحكومة الواقعيّة.

أمّا الحكومة الظاهريّة : فهي التوسعة أو التضييق في الحكم الواقعي ، بحيث يكون الدليل الحاكم في طول الدليل المحكوم ؛ وذلك بأن يؤخذ الشكّ في الحكم الواقعي في الدليل الحاكم ، فهذا يجعله في طول الدليل المحكوم ، وهذا معناه أنّ الدليل الحاكم يؤثّر أثره من التوسعة أو التضييق ما دام عنوان الشكّ موجودا ، وأمّا إذا ارتفع عنوان الشكّ وحصل العلم لدى المكلّف فإنّ هذا الأثر ينتهي ويبقى الحكم الواقعي على حاله.

وأمّا الحكومة الواقعيّة فهي التوسعة أو التضييق في الحكم الواقعي ، من دون أن يكون الدليل الحاكم في طول الدليل المحكوم ؛ وذلك بأن لا يكون المأخوذ فيه عنوان الشكّ في الحكم الواقعي ، فحينئذ يكون الدليل الحاكم مؤثّرا ويترتّب عليه الآثار الواقعيّة سواء كان الشكّ موجودا أم ارتفع بعد ذلك.

ففي النحو الأوّل لا يحكم بالإجزاء فيما إذا انكشف الخلاف في الوقت أو خارجه ؛ لأنّه بانكشاف الخلاف يتبيّن أنّ الدليل الحاكم لم تكن الآثار التي رتّبها على الحكم الواقعي صحيحة ؛ لأنّه إنّما رتّبها في صورة الشكّ ولكن بشرط أن يستمرّ هذا العنوان ولا ينكشف الواقع على خلافه. والمفروض أنّه انكشف خلافه فينكشف أنّ ترتّب الآثار لم يكن صحيحا ، وهذا معناه أنّ الأمر الواقعي لم يمتثل ولا يزال باقيا على حاله مع فعليّته فتجب الإعادة في الوقت أو القضاء خارجه على القول بأنّه يستفاد من نفس الدليل.

٣٣٣

وأمّا في النحو الثاني من الحكومة وهو الحكومة الواقعيّة فيحكم بالإجزاء ؛ لأنّ ترتّب الآثار لم يكن مشروطا ببقاء عنوان الشكّ ، كما في مثل : « الطواف في البيت صلاة » أو « لا ربا بين الوالد وولده » ، فإنّه لم يؤخذ في لسانه عنوان الشكّ في شرطيّة الطهارة للطواف أو عنوان الشكّ في الربا بين الأب وابنه ، ولذلك فهو حكومة واقعيّة. ففي المثال الأوّل يوسّع دائرة الشرطيّة لتشمل الصلاة والطواف معا حقيقة وواقعا ، بينما في المثال الثاني يضيّق دائرة الربا ؛ ليخرج منها ما كان بين الأب وابنه حقيقة وواقعا أيضا.

وفي مقامنا نقول : إنّ الأصول الموضوعيّة الجارية في الشبهات الموضوعيّة والتي ادّعى صاحب ( الكفاية ) حكومتها وإجزائها وهي من نوع الحكومة الظاهريّة التي يكون فيها الدليل الحاكم في طول الدليل المحكوم ؛ وذلك لأنّه قد أخذ عنوان الشكّ في أدلّتها ، فمثلا قاعدة الطهارة تستفاد من قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء لك طاهر حتّى تعلم أنّه نجس » أو « قذر » ، وقاعدة الحلّيّة تستفاد من قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام » أو « حتّى تعرف الحرام » منه بعينه ».

ومن الواضح أخذ عنوان الشكّ وعدم العلم فيهما ، ممّا يعني أنّ حكومتهما ـ لو سلّمت ـ فهي حكومة ظاهريّة لا تفيد أكثر من ترتيب الآثار على الطهارة وعدم النجاسة أو على الحلّيّة وعدم الحرمة ما دام الشكّ موجودا وباقيا ، وأمّا مع انكشاف الخلاف فهي تكشف عن عدم ترتّب تلك الآثار من أوّل الأمر ، وهذا لازمه أنّه قد صلّى مثلا في الثوب النجس ممّا يعني أنّه لم يمتثل الحكم الواقعي ، فلا إجزاء (١).

__________________

(١) هذا كلّه فيما إذا كان مراد صاحب ( الكفاية ) هو الحكومة.

ولكن قد يقال : إنّ مراده هو الورود بدليل أنّه عرّف الحكومة بالحكومة اللفظيّة التي تستخدم فيها أدوات التفسير من قبيل : ( أعني وأي وأقصد ومرادي ) ... إلى آخره ، فعلى هذا يكون الدليل الوارد موسّعا حقيقة وواقعا للدليل المورود عليه ـ كما سيأتي في بحث التعارض ـ ، وحيث لا يشترط في الدليل الوارد النظر إلى الدليل المورود فيصحّ ترتيب الآثار الواقعيّة من دون توقّف على عنوان الشكّ.

إلا أنّه مع ذلك لا يمكن أن يستفاد من أدلة الطهارة أو الحلّيّة الورود ؛ لأنّ لسانها ظاهر في التنزيل والحكومة الظاهريّة.

٣٣٤

امتناع

اجتماع الأمر والنهي

٣٣٥
٣٣٦

امتناع اجتماع الأمر والنهي

لا شكّ في التضادّ بين الأحكام التكليفيّة الواقعيّة ، وعلى هذا الأساس يمتنع اجتماع الأمر والنهي ؛ لتضادّهما بلحاظ المبادئ وعالم الملاك ، وبلحاظ النتائج وعالم الامتثال.

أمّا الأوّل فلأنّ مبادئ الأمر هي المصلحة والمحبوبيّة ، ومبادئ النهي هي المفسدة والمبغوضيّة.

وأما الثاني فلضيق قدرة المكلّف عن امتثالهما معا وعدم إمكان الترتّب بينهما ، وقد سبق في مباحث القدرة (١) أنّه كلّما ضاقت قدرة المكلّف عن الجمع بين شيئين ولم يكن بالإمكان الترتّب بين أمريهما وحكميهما امتنع جعل الحكمين.

تمهيد البحث : تقدّم فيما سبق أنّ الأحكام التكليفيّة متضادّة فيما بينها ، والتضادّ فيها إنّما يكون بلحاظ عالم المبادئ والملاكات وليس بلحاظ الاعتبار ، فإنّ الاعتبار مجرّدا عن المبادئ والملاكات يكون خاليا عن أيّ مضمون فهو سهل المئونة ، فالوجوب والحرمة مثلا إنّما يتحقّق التضادّ بينهما بما يحمله كلّ منهما من ملاكات ومبادئ ، وليس بين اعتبار الوجوب والحرمة مجرّدين.

وعلى هذا الأساس كان اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد بحيث يكونان متعلّقين بعنوانين متّحدين ذاتا ومصداقا مستحيلا للتضادّ بينهما من جهتين :

الأولى : بلحاظ عالم المبادئ والملاكات ، فإنّ الأمر في هذا العالم : عبارة عن المصلحة والمحبوبيّة ، بينما النهي عبارة : عن المفسدة والمبغوضيّة.

__________________

(١) ضمن بحث شرطيّة القدرة بالمعنى الأعمّ من أبحاث الدليل العقلي تحت عنوان : ما هو الضدّ.

٣٣٧

ومن الواضح أنّ اجتماع المصلحة والمفسدة أو المحبوبيّة والمبغوضيّة على شيء واحد ذاتا ومصداقا مستحيل ؛ إذ لا يمكن أن يكون واجدا للمصلحة والمفسدة معا ، أو للمحبوبيّة والمبغوضيّة معا. ولهذا كان اجتماع الضدّين مع توفّر سائر الحيثيّات والجهات مستحيلا.

الثانية : بلحاظ عالم النتائج والامتثال ، فإنّ الأمر يتطلّب من المكلّف التحرّك نحو الفعل ولزوم إيجاد متعلّقه وتحقيقه ، بينما النهي يتطلّب من المكلّف الامتناع والانزجار عن الفعل بمعنى عدم إيجاده وتحقيقه.

ومن الواضح أنّ المكلّف لا يمكنه في آن واحد أن يتحرّك نحو إيجاد شيء ولا يتحرّك نحوه ؛ لأنّ قدرة المكلّف إمّا أن يصرفها في هذا أو ذاك ولا يمكنه أن يصرفها فيهما معا ؛ لضيق قدرته عن ذلك ، فيمتنع اجتماعهما لذلك.

ولا يقال هنا بأنّ المكلّف لمّا كانت قدرته لا تتّسع إلا لأحدهما فقط فيكون مأمورا بكلا التكليفين على نحو الترتّب ، بمعنى أنّه إذا عصى الأهمّ أو المساوي كان الآخر فعليّا ، كما هو الحال في سائر الموارد التي تضيق قدرة المكلّف عن امتثال التكليفين كالصلاة والإزالة حيث يكون مأمورا بهما بنحو الترتّب ، أي مشروطا بترك أو عصيان الأهمّ أو المساوي.

لأنّه يجاب عن ذلك : أنّ الترتّب إنّما يمكن فرضه فيما إذا كان هناك تكليفان متعلّقان بموضوعين متغايرين ذاتا ومصداقا كالصلاة والإزالة ، فإنّ الصلاة مغايرة للإزالة مفهوما ومصداقا ، غاية الأمر أنّ المكلّف لمّا ضاق وقت الصلاة لم يمكنه إلا امتثال أحدهما فضاقت قدرته عن امتثالهما معا لذلك ، وإلا فلو كان الوقت متّسعا لامتثلهما معا من دون أي محذور.

وأمّا هنا فالأمر والنهي لمّا كانا متعلّقين بشيء واحد من جهة المفهوم والمصداق ، فضيق قدرة المكلّف ثابتة سواء كان الوقت متّسعا أم ضيّقا ؛ لأنّ التمانع والتضادّ بينهما في هذه الحالة ذاتي وليس عرضيّا ، ولذلك لا يمكن أن يكلّف بهما ولو بنحو مشروط ؛ لأنّ أحدهما ضروري الوقوع والتحقّق ، فإنّه إمّا أن يتحرّك أو لا يتحرّك ولا يوجد شيء آخر بينهما ، بخلاف الإزالة والصلاة فإنّه يمكنه مخالفتهما معا بأن يفعل شيئا آخر غير الصلاة والإزالة.

٣٣٨

والحاصل : أنّ الملاك في التضادّ بين الأمر والنهي أحد أمرين :

الأوّل : التنافي والتضادّ بلحاظ المبادئ والملاكات ، أي المصلحة والمفسدة أو المحبوبيّة والمبغوضيّة.

الثاني : التنافي والتضادّ بلحاظ الامتثال والنتائج أي البعث والزجر على شيء واحد لضيق قدرة المكلّف.

وعلى هذا الأساس إذا دلّ دليل على الأمر بشيء ودلّ دليل آخر على النهي عنه ـ من قبيل ( صلّ ) و ( لا تصلّ ) ـ كان الدليلان متعارضين ؛ للتنافي بين الجعلين بسبب التضادّ في عالم الملاك أوّلا ، وبسبب ضيق قدرة المكلّف عن الجمع بين الامتثالين مع عدم إمكان الترتّب ثانيا.

وهذا ممّا لا إشكال فيه من حيث الأساس ، ولكن قد نفترض بعض الخصوصيّات في الأمر والنهي التي قد تخرجهما عن كونهما مجتمعين حقّا على شيء واحد ، فيزول الامتناع ولا ينشأ التعارض بين دليليهما. ويمكن تلخيص تلك الخصوصيّات فيما يلي :

موضوع البحث : ذكرنا أنّ اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد ممتنع. وعليه فنقول : إنه إذا دلّ دليل على الأمر بشيء ودلّ دليل آخر على النهي عنه كان الدليلان متعارضين ؛ لامتناع اجتماعهما.

فإذا ورد الأمر بالصلاة يوم الجمعة بصلاة الجمعة وورد النهي عن هذه الصلاة في يوم الجمعة أيضا كانا متعارضين ؛ لتحقّق كلا الملاكين للتضادّ ؛ أمّا الملاك الأوّل فلأنّ الأمر يحمل مبادئ المصلحة والمحبوبيّة بينما النهي يحمل مبادئ المفسدة والمبغوضيّة ، ولا يمكن أن تكون صلاة الجمعة واجدة للمصلحة والمفسدة أو للمحبوبيّة والمبغوضيّة في آن واحد.

وأمّا الملاك الثاني فلأنّ الأمر يتطلّب التحرّك نحو إيجاد الفعل ؛ لأنّه عبارة عن البعث والإرسال بينما النهي يتطلّب الانزجار وعدم التحرّك نحو الفعل ؛ لأنّه عبارة عن الزجر والإمساك. ولا يمكن للمكلّف أن يمتثلهما معا لضيق قدرته عن التحرّك وعدم التحرّك في آن واحد نحو شيء واحد.

والحال أنّ الترتّب بينهما ممتنع لأنّ شرطيه ـ وهما التغاير بين التكليفين في العنوان

٣٣٩

والمصداق وعدم كون أحدهما ضروري الوقوع ـ غير متحقّقين في المقام ، فلا يمكن التكليف بهما معا ولو بنحو مشروط.

وهذا المقدار ممّا لا إشكال ولا كلام فيه عند أحد من الأصوليّين ، وليس هو محلّ البحث والنزاع بينهم. وإنّما الكلام فيما إذا كان هناك بعض الخصوصيّات في الأمر والنهي قد تخرجهما عن كونهما مجتمعين على شيء واحد ، فإنّه يبحث في كفاية ذلك لزوال الامتناع والتعارض أو عدم كفايته.

ولتوضيح هذا نقول :

تارة يكون الأمر والنهي متعلّقين بموضوعين متّحدين ذاتا ومصداقا أي متّحدين بلحاظ المفهوم وبلحاظ المصداق ، كما إذا قيل : ( صلّ ) و ( لا تصلّ ) فهنا لا إشكال في الامتناع ونشوء التعارض بينهما ، وهذا خارج عن محلّ الكلام.

وأخرى يكون الأمر والنهي متعلّقين بموضوعين متغايرين ذاتا ومصداقا أي متغايرين من حيث المفهوم ومن حيث المصداق ، كما إذا قيل : ( صلّ ) و ( لا تشرب الخمر ) فإنّه لا إشكال في إمكان اجتماعهما ؛ لأنّ مبادئ الأمر متعلّقة بغير ما تعلّقت به مبادئ النهي ؛ ولأنّ المكلّف يقدر على الصلاة وعلى عدم شرب الخمر. فهنا لا إشكال في صدور مثل هذين التكليفين ، وهذا خارج عن محلّ الكلام أيضا.

وثالثة يكون الأمر والنهي متعلّقين بموضوعين متغايرين ذاتا ومفهوما ولكنّهما متّحدين مصداقا. كما إذا قيل : ( صلّ ) و ( لا تصلّ في الحمّام ) أو قيل : ( صلّ ) و ( لا تغصب ). فهنا وقع البحث والنزاع بين الأصوليّين في كفاية ذلك لزوال الامتناع والتعارض أو عدم كفايته.

فإذا صلّى المكلّف في الحمام أو في المكان المغصوب ، فهل يكون الأمر والنهي مجتمعين على شيء واحد ليقال بالامتناع والتعارض ، أو أنّ التغاير العنواني يكفي في نفسه أو لا يكفي إلا إذا أدّى إلى التغاير في المعنون؟ ومن هنا اتّجه البحث الأصولي حول هذه المسألة بقسميها :

الأوّل : في التغاير العنواني بنحو الأمر بالإطلاق والنهي عن الحصّة.

الثاني : في التغاير العنواني بنحو يكون بينهما عموم وخصوص من وجه ، أي التباين في المفهوم والاتّحاد في المصداق ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

٣٤٠