شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٩

مقبول ؛ وذلك لأنّه إن أريد من سقوط التكليف سقوطه عن الفاعليّة والمحركيّة ، بمعنى أنّ العاجز مهما كان منشأ عجزه وسببه فهو لن يتحرّك نحو الفعل فلا محركيّة للخطاب نحو متعلّقه ، فهذا المعنى صحيح ونحن نقبله أيضا ، ولكنّه لا يعني سقوط الخطاب عن الفعليّة.

بمعنى أنّ الخطاب لا يزال موجودا وفعليّا بحيث لو ارتفع عجزه لصار محرّكا وباعثا له نحو الفعل ، ولا يحتاج معه إلى خطاب آخر ، بل لو فرض سقوط الخطاب رأسا لم يحكم العقل بالإدانة والعقل ؛ لأنّ حكمه بها كان لأجل خروج المكلّف عن حقّ الطاعة ، فحيث لا تكليف لا حقّ طاعة فلا عقاب.

وأمّا إن أريد من سقوط الخطاب سقوطه عن الفعليّة رأسا ، فمع العجز يسقط الخطاب بحقّ العاجز فلا يكون مكلّفا بشيء من حين عجزه ، فهذا غير مقبول ؛ وذلك لأنّ القدرة التي هي شرط في التكليف والحكم كما تقدّم ، إن قيل بأنّها شرط في التكليف ما دام التكليف ثابتا فيكون سقوط التكليف رأسا حين ارتفاع القدرة ولو في الأثناء صحيحا.

إلا أنّ شرطيّة القدرة في التكليف ليست بهذا المعنى ، وإنّما هي بمعنى آخر وهو أنّ القدرة شرط في التكليف بالمقدار الذي يكون مصحّحا للعقاب والإدانة ، فإنّه لا تصحّ الإدانة إذا لم يكن هناك تكليف ، والإدانة مشروطة بالقدرة ، إذا فالتكليف مشروط بالقدرة أيضا ، ولكن بمقدار شرطيّتها في الإدانة لا أكثر.

فالعقل يحكم باستحقاق من كان قادرا على الامتثال فلم يمتثل للعقاب والإدانة ، لأنّه كان قادرا ولأنّه كان مكلّفا وكان قادرا حين توجّه الخطاب إليه ، فإذا عجّز نفسه أو صار عاجزا بسوء الاختيار بقيت الإدانة ثابتة ، ومعها يكون التكليف باقيا ؛ لأنّه إنّما يعاقب على تكليف لم يمتثله.

فلا بدّ من فرض بقاء التكليف ليصحّ إدانته ، وأمّا إنّ التكليف مشروط بالقدرة بمعنى أنّ بقاء التكليف في عمود الزمان مشروط ببقاء القدرة كذلك فهذا غير تام ولا دليل عليه عقلا ، بل الصحيح هو كفاية القدرة حدوثا.

والبرهان على أنّ اشتراط القدرة في التكليف لا يقتضي أكثر من ذلك وهو أنّ التكليف قد جعل بداعي التحريك المولوي ، ولا تحريك مولوي إلا مع الإدانة ، ولا

٤١

إدانة إلا مع القدرة حدوثا ، فما هو شرط التكليف إذن بموجب هذا البرهان هو القدرة حدوثا.

ومن هنا صحّ أن يقال : إنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي إطلاق الخطاب والوجوب المجعول أيضا ؛ تبعا لعدم منافاته للعقاب والإدانة.

والدليل على كفاية القدرة حدوثا وعدم اشتراط بقائها هو : أنّ التكليف قد جعل بداعي البعث والتحريك من المولى كما تقدّم ، وحينئذ يحكم العقل بوجوب التحرّك والانبعاث عن أمر المولى وتكليفه ولزوم إطاعته وامتثاله واستحقاق العقوبة على مخالفته وعصيانه.

وهذا معناه أنّ التحريك المولوي يستلزم الإدانة والعقاب على المخالفة ، فحيث ثبتت المحركيّة تثبت الإدانة ، وإذا انتفت المحركيّة تنتفي الإدانة أيضا ، فهما أمران متلازمان ثبوتا وانتفاء.

ولكن حيث إنّ القدرة شرط في الإدانة حدوثا فيكفي أن يكون المكلّف قادرا على الفعل ابتداء ، وإن زالت قدرته عليه بقاء ، فيكون مدانا لو لم يمتثل ، فكذلك التكليف المولوي ؛ لأنّ المحركيّة لمّا كانت ملازمة للإدانة فلا بدّ أن تكون مشروطة بالقدرة بنفس القدر الذي اشترطت فيه الإدانة ، وهو القدرة حدوثا وإن زالت بقاء ؛ لأنّه لو كانت القدرة في التكليف شرطا بقاء أيضا فإذا زالت لا تكليف ، فالمفروض حينئذ ألاّ يكون مدانا أيضا ؛ لأنّ الإدانة تنشأ عن مخالفة التكليف وهو خلف ما تقدّم.

إذا يتعيّن بهذا البرهان أنّ القدرة في التكليف كالقدرة في الإدانة يشترط وجودها حدوثا وإن ارتفعت بقاء.

ومن هنا صحّ أن يقال : ( إنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقابا ولا ينافيه تكليفا أيضا ) ، فالخطاب مطلق ويشمل القادر في تمام الوقت ويشمل القادر الذي زالت قدرته فيما بعد كالإدانة تماما.

نعم ، لا أثر عمليّا لهذا الإطلاق ، إذ سواء قلنا به أم لا ، فروح التكليف محفوظة على كلّ حال ، وفاعليّته ساقطة على كلّ حال ، والإدانة مسجّلة على المكلّف عقلا بلا إشكال.

وأمّا الفائدة والأثر العملي بين القولين :

٤٢

ذكرنا أنّه يوجد فارق بين القولين ولكنّه فارق نظري ، فقول المشهور : من أنّ القدرة شرط بقاء في التكليف وقول السيّد الشهيد من كفاية اشتراطها حدوثا ، يفترقان في مسألة بقاء التكليف على فعليته وعدمها فقط.

وأمّا عمليّا فسواء قلنا ببقاء التكليف على الفعليّة وكون الخطاب مطلقا والوجوب المجعول شاملا للقادر بقاء وابتداء ، فالتكليف ساقط عن الفاعليّة والمحركيّة عمليّا ولا أثر له على المكلّف من ناحية العمل ؛ لأنّه لن يتحقّق التحرّك والانبعاث من المكلّف على كلّ حال ، أي سواء كان التكليف ثابتا أم منتفيا ما دامت فاعليّته ومحركيّته مرتفعة.

وكذلك بالنسبة لروح الحكم والتكليف من الملاك والمبادئ والإرادة والشوق المولوي فإنّها محفوظة على كلّ حال ، فسواء كان هناك تكليف بحقّ العاجز بسوء الاختيار أم لا ، إلا أنّ ملاكات ومبادئ التكليف موجودة بحقّه ؛ لأنّ الفعل الذي عجز أو عجّز نفسه عنه لا تزال فيه مبادئ الحكم ولا يزال ملاك الحكم موجودا فيه ولا معنى لارتفاعه لمجرّد عجز المكلّف ، فإنّ الشوق والإرادة والملاك لا يدور أمرها مدار قدرة المكلّف أو عجزه ؛ إذ قد تتعلّق إرادة المولى بشيء غير مقدور ويكون محبوبا له.

وهكذا بالنسبة للإدانة فإنّها مسجّلة على هذا المكلّف على كلّ حال أيضا ؛ لأنّ العقل يحكم باستحقاق المكلّف الذي لم يمتثل أوامر المولى للعقاب ؛ لأنّه كان قادرا على الامتثال فلم يفعل باختياره ؛ ولأنّه سلب القدرة عن نفسه باختياره ، ومع وجود الاختيار يصحّ العقاب والإدانة.

وبه يظهر أنّ المكلّف في حالات ارتفاع القدرة بسوء الاختيار يستحقّ العقاب سواء كان التكليف باقيا أم منتفيا ، وروح الحكم محفوظة أيضا في الحالين ، والفاعليّة والمحركيّة مرتفعة في الحالتين أيضا.

* * *

٤٣
٤٤

الجامع

بين المقدور وغيره

٤٥
٤٦

الجامع بين المقدور وغيره

ما تقدّم حتّى الآن كان يعني أنّ التكليف مشروط بالقدرة على متعلّقه ، فإذا كان متعلّقه بكلّ حصصه غير مقدور انطبقت عليه قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور.

وأمّا إذا كان متعلّقه جامعا بين حصّتين إحداهما مقدورة والأخرى غير مقدورة ، فلا شكّ أيضا في استحالة تعلّق التكليف بالجامع على نحو الإطلاق الشمولي ، وأمّا تعلّقه بالجامع على نحو الإطلاق البدلي ففي انطباق القاعدة المذكورة عليه كلام بين الأعلام.

تقدّم أنّ التكليف بغير المقدور مستحيل عقلا ، فإذا كان الفعل خارج قدرة المكلّف فلا يكلّف ولا يخاطب به ولا يعاقب على عدم امتثاله أيضا ، إلا أنّ غير المقدور يمكن تصوّره من ناحية تعلّق التكليف به على أنحاء :

الأوّل : أن يكون التكليف منصبّا ابتداء ومباشرة على الشيء غير المقدور بعينه ، وهذا هو الذي كان البحث السابق يتناوله.

وبتعبير آخر : إنّ متعلّق التكليف كان عنوانا بتمام حصصه غير مقدور وكان التكليف به بعينه ، فهنا لا إشكال في الاستحالة.

الثاني : أن يكون متعلّق التكليف عنوانا أي الجامع ، بعض حصصه مقدورة وبعضها الآخر غير مقدورة ، فهنا لا بدّ من ملاحظة كيفيّة تعلّق الحكم ، فإن كان الحكم متعلّقا بهذا العنوان الجامع بنحو الإطلاق الشمولي أو العموم الاستغراقي أو المجموعي فهو أيضا مستحيل ؛ وذلك لأنّ الإطلاق أو العموم الشموليين معناهما الانحلال لكلّ فرد فرد من أفراد العنوان ، فكلّ حصّة يتعلّق بها حكم ، فيكون من التكليف بغير المقدور وهو مستحيل كالقسم الأوّل.

٤٧

وأمّا إن كان الحكم متعلّقا بالعنوان أي الجامع بنحو الإطلاق أو العموم البدلي بحيث يكون المطلوب حصّة واحدة من الحصص ، فهنا نبحث في أنّ عنوان الجامع بين الحصص المقدورة وغير المقدورة والذي تعلّق التكليف به هل هو مقدور فيعقل التكليف به ، أم ليس بمقدور فيستحيل التكليف به؟ وهذا هو الذي وقع موردا للبحث عندهم على أقوال :

وقد ذهب المحقّق النائيني ; (١) إلى أنّ التكليف إذا تعلّق بهذا الجامع فيختصّ لا محالة بالحصّة المقدورة منه ، ولا يمكن أن يكون للمتعلّق إطلاق للحصّة الأخرى ؛ لأنّ التكليف بداعي البعث والتحريك وهو لا يمكن إلا بالنسبة إلى الحصّة المقدورة خاصّة ، فنفس كونه بهذا الداعي يوجب اختصاص التكليف بتلك الحصّة.

القول الأوّل : ما ذهب إليه الميرزا النائيني من أنّ التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور مستحيل ؛ وذلك لأنّ التكليف بمثل هذا الجامع سوف يسري إلى الحصّة المقدورة فقط دون الحصّة غير المقدورة ، وذلك باعتبار أنّ التكليف إنّما يجعل بداعي البعث والتحريك كما تقدّم ، والحصّة غير المقدورة لا يمكن التحرّك والانبعاث نحوها للعجز فيكون مختصّا بالحصّة المقدورة ؛ لأنّها التي يمكن الانبعاث والتحرّك نحوها.

ومنه يظهر أنّ التكليف حتّى وإن فرض تعلّقه بالعنوان الجامع إلا أنّه في حقيقته وواقعه منصبّ على الحصّة المقدورة فقط ، ولا يمكن شموله للحصّة غير المقدورة ؛ لأنّ حقيقة الحكم والتكليف منتفية عنها ، ولذلك يجب تأويل ما ظاهره التكليف بالجامع بين المقدور وغيره بالرجوع إلى التكليف بالحصّة المقدورة فقط ، وأمّا الحصّة غير المقدورة فلا يسري إليها الوجوب من الجامع أصلا ؛ لأنّ مبادئ الحكم وملاكاته وروحه وهي البعث والتحريك منتفية عنها.

وذهب المحقّق الثاني (٢) ـ ووافقه جماعة من الأعلام (٣) ـ إلى إمكان تعلّق

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٦٧.

(٢) حكاه عنه المحقّق النائيني في أجود التقريرات ١ : ٣٦٧ ، وانظر : جامع المقاصد ٥ : ١٣ ـ ١٤.

(٣) راجع مطارح الأنظار : ١١٩.

٤٨

التكليف بالجامع بين المقدور وغيره على نحو يكون للواجب إطلاق بدلي يشمل الحصّة غير المقدورة ؛ وذلك لأنّ الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور ، ويكفي ذلك في إمكان التحريك نحوه ، وهذا هو الصحيح.

القول الثاني : ما ذهب إليه المحقّق الثاني وجماعة من العلماء واختاره السيّد الشهيد أيضا ، من أنّ التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور ممكن ؛ لأنّه مقدور للمكلّف ؛ لأنّ التكليف بالجامع المذكور بنحو الإطلاق أو العموم البدلي معناه أنّ المكلّف مخيّر في تطبيق هذا الجامع على أيّة واحدة من حصصه ، فالحصّة المقدورة كغير المقدورة يشملها هذا التخيير ، غايته كون المكلّف في مقام التطبيق والامتثال عمليّا لا يمكنه أن يختار إلا الحصّة المقدورة له ، لعجزه عن الحصّة الأخرى.

وهذا المعنى من التخيير مقبول لدى العقل والعقلاء والعرف أيضا ، وليس داخلا في التكليف بغير المقدور ؛ لأنّ الحصّة غير المقدورة لا يراد إسراء الحكم والتكليف إليها وإنّما يراد كونها مشمولة للتخيير فقط ، بمعنى أنّ المكلّف في مقام الامتثال مخيّر بينها وبين غيرها وليس امتثاله متعيّنا بحصّة خاصّة فقط ، بحيث لو فرض ارتفاع عذره وعجزه عنها لأمكن تطبيق الجامع عليها تمسّكا بالتكليف بالجامع ولا يحتاج إلى أمر جديد.

وبتعبير آخر : إنّ التكليف انصبّ على الجامع فالمطلوب من المكلّف امتثال هذا الجامع وإيجاده في الخارج ، فلا بدّ من ملاحظة قدرة المكلّف على إيجاد الجامع في الخارج هل هو ممكن له أم لا؟ والمفروض أنّه ممكن ولو ضمن الحصّة المقدورة. إذا فالتكليف بالجامع ممكن ؛ لأنّه يمكن التحرّك والانبعاث عنه ولو ضمن إحدى حصصه ؛ إذ لا يشترط في الجمع أن تكون كلّ حصصه مقدورة وضمن اختيار المكلّف ؛ إذ من الواضح أنّ بعض حصص الجامع خارجة عن اختياره ولو من جهة عدم ابتلائه بها لبعدها عنه مثلا.

وثمرة هذا البحث تظهر فيما إذا وقعت الحصّة غير المقدورة من الفعل الواجب صدفة وبدون اختيار المكلّف ، فإنّه على قول المحقّق النائيني يحكم بعدم إجزائها ووجوب إتيان الجامع في ضمن حصّة أخرى ؛ لأنّه يفترض اختصاص الوجوب

٤٩

بالحصّة المقدورة ، فما وقع ليس مصداقا للواجب ، وإجزاء غير الواجب عن الواجب يحتاج إلى دليل.

وعلى قول المحقّق الثاني نتمسّك بإطلاق دليل الواجب لإثبات أنّ الوجوب متعلّق بالجامع بين الحصّتين ، فيكون المأتي به فردا من الواجب فيحكم بإجزائه وعدم وجوب الإعادة.

الثمرة بين القولين : وتظهر الثمرة بين القول باستحالة التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور ، وبين القول بإمكانه في موردين :

الأوّل : لم يذكره السيّد الشهيد هنا ، وهو ما تقدّمت الإشارة إليه : من أنّ الحصّة غير المقدورة إذا صارت مقدورة للمكلّف لاحقا ، فعلى القول باستحالة التكليف بالجامع بين المقدور وغيره ، لم يكن هناك وجوب متعلّق بهذه الحصّة من أوّل الأمر ؛ لأنّ الوجوب يسري من الجامع إلى الحصّة المقدورة ابتداء فقط ، ولذلك يحتاج إيجابها إلى دليل آخر ، بينما على القول بإمكانه لا نحتاج في إيجاب هذه الحصّة التي صارت مقدورة إلى دليل آخر ، بل نتمسّك بنفس دليل التكليف بالجامع ؛ لأنّه كان شاملا لها من أوّل الأمر ، غايته كون المكلّف عاجزا عنها والآن ارتفع عجزه.

الثاني : ما يذكره السيّد الشهيد هنا من أنّ الحصّة غير المقدورة إذا صدرت من المكلّف صدفة ومن دون اختيار منه ، فهل يحكم بإجزائها عن المأمور به فلا تجب الإعادة أو لا؟

والجواب : أنّه على قول الميرزا من استحالة التكليف بالجامع بين المقدور وغيره لا يتحقّق الإجزاء بهذه الحصّة التي صدرت منه صدفة ؛ لأنّها لم تكن مشمولة ولا داخلة في التكليف أصلا ؛ لأنّ المفروض أنّ التكليف بالجامع يسري إلى الحصّة المقدورة فقط.

وأمّا الحصّة غير المقدورة فلا يمكن أن يتعلّق بها التكليف لا بنفسها ولا بعنوانها ، فما وقع من المكلّف لم يكن مصداقا للواجب المأمور به ، لأنّ مصداق الواجب المأمور به إنّما هو في الحصّة المقدورة وهذه ليست هي ، فيكون إجزاؤها عن الواجب المأمور به محتاجا إلى دليل خاصّ ؛ لأنّ بابه باب إجزاء غير الواجب عن الواجب ، وهو يحتاج

٥٠

إلى دليل خاصّ ، ولا يكفي فيه التمسّك بنفس إطلاق دليل التكليف بالجامع ؛ لأنّه مختصّ بالحصّة المقدورة فقط.

بينما على قول المحقّق الثاني من إمكان التكليف بالجامع بين المقدور وغيره ، فيثبت الإجزاء وسقوط التكليف بهذه الحصّة التي أتى بها صدفة ، والوجه في ذلك هو أنّ دليل التكليف بالجامع كان شاملا من أوّل الأمر للحصّة غير المقدورة أيضا ، غايته كون المكلّف عاجزا عن تطبيق عنوان الجامع عليها ، ولكن لو ارتفع عذره كما في المورد الأوّل أو صدرت منه صدفة كما هنا لكان ممتثلا للمأمور به ؛ لأنّ ما صدر منه يعتبر مصداقا للواجب المأمور به ؛ لأنّه مطالب بالجامع وامتثال الجامع يكون بإيجاد إحدى حصصه أو أفراده ، وهذه الحصّة من جملة أفراد الجامع فيكون إيجادها ولو من دون اختيار إيجادا للجامع ، فيتحقّق الامتثال تمسّكا بإطلاق خطاب التكليف بالجامع ويحكم بالإجزاء وعدم وجوب الإعادة على القاعدة ؛ لأنّ ما وقع هو نفسه المأمور به ، ولا يحتاج إلى دليل جديد.

والصحيح من القولين هو القول بإمكان التكليف بالجامع بين المقدور وغيره لما تقدّم.

* * *

٥١
٥٢

شرطيّة القدرة

بالمعنى الأعمّ

٥٣
٥٤

شرطيّة القدرة بالمعنى الأعمّ

تقدّم أنّ العقل يحكم بتقيّد التكليف واشتراطه بالقدرة على متعلّقه ؛ لاستحالة التحريك المولوي نحو غير المقدور ، ولكن هل يكفي هذا المقدار من التقييد أو لا بدّ من تعميقه؟

ومن أجل الجواب على هذا السؤال نلاحظ أنّ المكلّف إذا كان قادرا على الصلاة تكوينا ، ولكنّه مأمور فعلا بإنقاذ غريق تفوت بإنقاذه الصلاة ؛ للتضادّ بين عمليتي الإنقاذ والصلاة وعدم قدرة المكلّف على الجمع بينهما ، فهل يمكن أن يؤمر هذا المكلّف بالصلاة والحالة هذه فيجتمع عليه تكليفان بكلا الفعلين؟

مقدّمة البحث : ذكرنا في بحث اشتراط القدرة في التكليف أنّ العقل يحكم بكون القدرة شرطا في التكليف المجعول ، بحيث لا يمكن تكليف العاجز عن الإتيان بالفعل المأمور به ؛ لأنّ المراد من التكليف هو البعث والتحريك ، ومع فرض العجز لا تحرّك ولا انبعاث ، فينتفي موضوعه ويصبح التكليف فارغا عن المضمون والمعنى.

وهذا المقدار تقدّم بيانه والثمرة منه ، ولكن البحث هنا في أنّه هل يكفي هذا المقدار من التقييد بالقدرة أو أنّ هناك شيئا آخر أعمق؟

ومن أجل الإجابة عن هذا السؤال نلاحظ بالوجدان أنّ المكلّف المأمور بالصلاة ، كما لا يصحّ تكليفه بالصلاة فيما إذا كان عاجزا تكوينا عنها ، كذلك لا يصحّ تكليفه بها فيما إذا كان مأمورا بنفس الوقت بواجب آخر ، بحيث لا يتمكّن من الجمع بين الواجبين ؛ لأنّ فعل أحدهما وامتثاله يفوّت الآخر ، فإذا فرض أنّ المكلّف مأمور فعلا بإنقاذ الغريق فهل يمكن أن يكون مأمورا في نفس الوقت بالصلاة أم لا؟

وهذا هو البحث المسمّى بإمكان الأمر بالضدّين بنحو الترتّب أو استحالته.

وأمّا الجواب فهو :

٥٥

والجواب بالنفي ؛ لأنّ المكلّف وإن كان قادرا على الصلاة فعلا قدرة تكوينيّة ولكنّه غير قادر على الجمع بينها وبين إنفاذ الغريق ، فلا يمكن أن يكلّف بالجمع ، ولا فرق في استحالة تكليفه بالجمع بين أن يكون ذلك بإيجاب واحد ، أو بإيجابين يستدعيان بمجموعهما الجمع بين الضدّين ، وعلى هذا فلا يمكن أن يؤمر بالصلاة من هو مكلّف فعلا بالإنقاذ في هذا المثال وإن كان قادرا عليها تكوينا.

وأمّا جواب السؤال المتقدّم فهو بالنفي ، فإنّ المكلّف المأمور فعلا بإنقاذ الغريق لا يمكن أن يكون مأمورا بنفس الوقت بالصلاة وإن كان قادرا عليها تكوينا ؛ وذلك لأنّ اشتغاله الفعلي بالواجب الآخر يجعله عاجزا شرعا عن إتيان الصلاة أيضا في نفس الوقت ، لأنّه عاجز تكوينا عن الجمع بين الواجبين معا ، ومع كونه عاجزا عن الجمع بين الفعلين فلا يمكن تكليفه بهما معا.

إذا فلا بدّ من أن يكلّف بأحدهما فقط فعلا ، وأمّا الآخر فهل يكون مكلّفا به ولو بنحو مشروط ـ كما سيأتي ـ أو لا يكون كذلك ، فهذا ما سوف يظهر من البحث؟

وأمّا هنا فما دام المكلّف عاجزا فعلا عن الجمع بين التكليفين فلا يكون مكلّفا بالجمع ؛ لأنّ العقل يحكم باستحالة التكليف بغير المقدور ، والمفروض هنا أنّ الجمع غير مقدور فلا يكلّف به إذا.

ولا فرق في استحالة تكليفه بالجمع بين التكليفين بسبب العجز عن ذلك بين أن يكون تكليفه بالجمع بإيجاب واحد ، كما إذا خوطب بخطاب واحد يطلب منه الجمع بين الواجبين ، وبين أن يكون بإيجابين مستقلّين مطلقين ، أحدهما بالإنقاذ والآخر بالصلاة بنحو مطلق وفعلي ، فإنّ العقل يحكم بالاستحالة في كلا الموردين ؛ لانتفاء القدرة تكوينا وعدم إمكان الجمع بينهما.

وعلى هذا الأساس نخرج بنتيجة مفادها :

وذلك يعني وجود قيد آخر للأمر بالصلاة ـ ولكلّ أمر ـ إضافة إلى القدرة التكوينيّة ، وهو ألاّ يكون مبتلى بالأمر بالضدّ فعلا ، فالقيد إذا مجموع أمرين : القدرة التكوينيّة ، وعدم الابتلاء بالأمر بالضدّ ، وهذا ما نسمّيه بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ ، ولا إشكال في ذلك.

والنتيجة على ضوء ما تقدّم : هي أنّ التكليف بالصلاة مشروط بالقدرة التكوينيّة ،

٥٦

وعدم عجز المكلّف تكوينا عن الإتيان بالمتعلّق ومشروط أيضا بعدم ابتلاء المكلّف بالأمر بالضدّ ؛ لأنّ أمره بالضدّين معا مستحيل لعدم إمكان الجمع بينهما.

ومجموع هذين الشرطين يسمّى بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ ، وهذا معناه أنّ كلّ تكليف مشروط عقلا بأن يكون المكلّف قادرا على الإتيان بمتعلّقه ، وبأن لا يكون مبتلى بالأمر بالضدّ فعلا ، بحيث يطلب منه الجمع بينهما ؛ لأنّ الجمع بين الضدّين معا في وقت واحد مستحيل. وهذا المقدار ممّا لا إشكال فيه.

وإنّما الإشكال في معنى عدم الابتلاء الذي يتعيّن عقلا أخذه شرطا في التكليف ، فهل هو بمعنى ألاّ يكون مأمورا بالضدّ أو بمعنى ألاّ يكون مشغولا بامتثال الأمر بالضدّ؟

والأوّل يعني أنّ كلّ مكلّف بأحد الضدّين لا يكون مأمورا بضدّه ، سواء كان بصدد امتثال ذلك التكليف أم لا.

والثاني يعني سقوط الأمر بالصلاة عمّن كلّف بالإنقاذ ، لكن لا بمجرّد التكليف بل باشتغاله بامتثاله ، فمع بنائه على العصيان وعدم الإنقاذ يتوجّه إليه الأمر بالصلاة ، وهذا ما يسمّى بثبوت الأمرين بالضدّين على نحو الترتّب.

ذكرنا أنّه لا إشكال في اشتراط عدم الابتلاء بالأمر بالضدّ فعلا في كلّ تكليف إضافة إلى القدرة التكوينيّة ، وإنّما وقع الإشكال والنزاع في تفسير معنى عدم الابتلاء بالأمر بالضدّ فعلا على قولين :

أحدهما : أن يكون عدم الابتلاء بالأمر بالضدّ بمعنى ألاّ يكون المكلّف مأمورا بالضدّ الآخر ، فإذا كان مأمورا بالإنقاذ مثلا فيستحيل أن يكون مأمورا بالصلاة أيضا ، بمعنى أنّه يؤخذ في الأمر بالصلاة ألاّ يكون مأمورا بالفعل بواجب آخر مضادّ لها ، بحيث لا يمكن للمكلّف ان يجمع بينهما معا.

ويترتّب على ذلك أنّ المكلّف بمجرّد أن يكون مأمورا بالضدّ فالضدّ الآخر لا تكليف به ، سواء كان بصدد الاشتغال بالضدّ المأمور به أم لا ، أي أنّه سواء اشتغل بالضدّ المأمور به وكان بصدد امتثال أمره أم لم يكن كذلك ، فإنّه في كلتا الحالتين لا يتوجّه إليه الخطاب بالضدّ الآخر ؛ لأنّه مأمور فعلا بذاك الضدّ.

والآخر : أن يكون عدم الابتلاء بالأمر بالضدّ بمعنى ألاّ يكون المكلّف مشتغلا

٥٧

بامتثال الأمر بالضدّ ، فإذا كان المكلّف مشتغلا بالفعل بإنقاذ الغريق فلا يمكن تكليفه بالصلاة أيضا بالفعل ؛ لأنّ اشتغاله بالإنقاذ يمنعه من الاشتغال بالصلاة بحيث يكون عاجزا عن الجمع بين الأمرين معا.

وأمّا إذا لم يكن مشتغلا بالإنقاذ أو أراد عصيان هذا الأمر ، فحينئذ يكون الأمر بالصلاة متوجّها إليه وفعليّا بحقّه ؛ لأنّ الشرط كان عدم الاشتغال وهو فعلا ليس مشتغلا بالإنقاذ ولا بمقدّماته ، بل لا يريد الإنقاذ أصلا ؛ إذ المفروض أنّ عدم الابتلاء ليس بمعنى ألاّ يكون مأمورا بالضدّ ، بل بمعنى ألاّ يكون مشغولا بامتثال الضدّ.

وهذا معناه أنّ المكلّف يتوجّه إليه خطابان بالضدّين ، ولكن على نحو يكون أحدهما أو كلاهما ـ كما سيأتي بيانه ـ مشروطا بعدم الاشتغال بامتثال الضدّ ، فإنّه إن كان مشتغلا بالامتثال فعلا ارتفع موضوع التكليف بالضدّ الآخر ؛ لعدم تحقّق شرطه.

وأمّا إن لم يكن مشتغلا بالامتثال فعلا فقيده متحقّق فيكون فعليّا ، وهذا ما يسمّى بالأمر بالضدّين على نحو الترتّب (١).

وقد ذهب صاحب ( الكفاية ) ; (٢) إلى الأوّل مدّعيا استحالة الوجه الثاني ؛ لأنّه يستلزم في حالة كون المكلّف بصدد عصيان التكليف بالإنقاذ أن يكون كلا التكليفين فعليّا بالنسبة إليه.

أمّا التكليف بالإنقاذ فواضح ؛ لأنّ مجرّد كونه بصدد عصيانه لا يعني سقوطه ، وأمّا الأمر بالصلاة فلأنّ قيده محقّق بكلا جزئيه ؛ لتوفّر القدرة التكوينيّة وعدم الابتلاء بالضدّ بالمعنى الذي يفترضه الوجه الثاني ، وفعليّة الأمر بالضدّين معا

__________________

(١) وفكرة الترتّب هذه من مختصّات الفكر الشيعي وليس لها وجود في غيره ، وهي من المسائل الأصوليّة المهمّة جدّا ، ويترتّب عليها آثار كثيرة أهمّها استقلال باب التزاحم من باب التعارض في أحكامه وقوانينه ، كما سيأتي بيانه عند التعرّض لثمرات القول بالترتّب.

وتوجد في الفقه موارد كثيرة لا يمكن حلّها إلا بالرجوع إلى هذه الفكرة.

وينبغي أن يعلم أنّ الترتّب على مقتضى القاعدة والأصل ولا يحتاج إثباته إلى دليل خاصّ ، وإنّما على القائل بالاستحالة أن يبرز الدليل على ذلك ؛ لأنّ شرطيّة القدرة في التكليف تتكفّل بهذا الأمر الترتّبي.

(٢) كفاية الأصول : ١٦٦ ـ ١٦٧.

٥٨

مستحيلة ، فلا بدّ إذا من الالتزام بالوجه الأوّل فيكون التكليف بأحد الضدّين بنفس ثبوته نافيا للتكليف بالضدّ الآخر.

القول الأوّل : ما ذهب إليه صاحب ( الكفاية ) من أنّ الأمر الترتّبي بالضدين بنحو يكون الشرط هو عدم الاشتغال بالضدّ الآخر مستحيل ، والشيء الممكن هو أن يكون أحد الضدّين بنفس ثبوته على المكلّف رافعا ونافيا للضدّ الآخر ، سواء كان بصدد الاشتغال به أم لا ، فالصحيح عنده هو الاحتمال الأوّل لا الثاني.

والوجه في ذلك : أنّنا لو قلنا بأنّ الأمر بالضدّ مشروط بأن لا يكون مشتغلا بالضدّ الآخر ، فهذا لازمه أنّه لو تركهما معا لصارا فعليّين معا ، ولصار المكلّف مستحقّا لعقابين أيضا وهذا لا يمكن الالتزام به لاستلزامه التكليف بغير المقدور المستحيل.

أمّا صيرورتهما فعليّين معا فلأنّ تركهما معا معناه أنّ أحد الضدّين وهو الأهمّ فعلي مطلقا ، سواء اشتغل بالمهمّ أم لا ، والضدّ الآخر وهو المهمّ صار فعليّا لتحقّق شرطه وهو عدم الاشتغال بالضدّ الأهمّ فيكونان معا فعليّين ، وهذا معناه أنّ مجموع الأمرين بالضدّين مطلوب من المكلّف لكونهما فعليّين ، وهذا من التكليف بغير المقدور ؛ لأنّ المكلّف غير قادر على الجمع بينهما.

وهكذا لو كانا معا مشروطين بأن كانا متساويين ، فإنّ شرط كلّ منهما وهو ترك الآخر متحقّق فيكونان فعليّين ، ممّا يعني اشتغال ذمّة المكلّف بكلا الضدّين معا وهو مستحيل.

وأمّا لزوم تعدّد العقاب على المكلّف ، فلأنّ صيرورة الضدّين فعليّين حال تركهما يستلزم تعدّد العقاب ؛ لأنّ موضوع العقاب هو عدم امتثال التكليف الفعلي ، والمفروض هنا أنّه تركهما معا فصارا فعليّين فيستحقّ عقابين معا ، مع أنّ هذا مستحيل ؛ لأنّ المكلّف غير قادر إلا على فعل أحدهما فقط ، فلا يكون مستحقّا إلا لعقاب واحد لا أكثر ، فيكون استحقاقه للعقاب الثاني مستحيلا ؛ لأنّه عقاب على ترك فعل لا يقدر عليه.

وبهذا ظهر أنّ فكرة الترتّب كما تقتضيه وجهة النظر الأولى من تقييد التكليف بعدم الاشتغال بالضدّ غير صحيحة لاستلزامها المحال ، فالصحيح أن يقال : إنّ التكليف مقيّد بأن لا يكون مأمورا بالضدّ سواء كان بصدد الاشتغال به أم لا ، فإنّ

٥٩

نفس كونه مكلّفا بالضدّ يمتنع تكليفه بالضد الآخر ؛ لأنّه يثبت مشروطا (١).

__________________

(١) هذا ويمكن الإجابة عن بيان الاستحالة الذي ذكره الآخوند بكلا وجهيه :

أمّا الاستحالة بلحاظ الفعليّة فجوابه أنّ الأمر بالمهمّ لا يمنع عن محرّكيّة الأمر بالأهمّ ؛ لأنّ الأمر بالمهمّ مشروط بترك الأهمّ ، وما دام مشروطا به فيكون وجوب المهمّ مقيّدا بعدم الأهمّ ، وإذا كان من قيود الوجوب فيستحيل أن يكون المهمّ مانعا عن المحرّكيّة نحوه ؛ لأنّ وجوده في طول ارتفاع الأهمّ ، فلا بدّ من انتفاء الأهمّ في رتبة سابقة ليوجد المهمّ ، وأمّا إذا لم يرتفع الأهمّ فلا وجود للمهمّ ليمنع منه.

وهكذا بالنسبة للأمر بالأهمّ فإنّه لا يمنع عن الأمر بالمهمّ ؛ لأنّه مع وجود الأمر بالأهمّ يكون الأمر بالمهمّ منتفيا في نفسه لعدم تحقّق شرطه ، ومع انتفاء المهمّ لا معنى لمانعيّة الأهمّ عنه ؛ لأنّها مانعيّة عن شيء معدوم وهو مستحيل.

إذا لا منافاة بين الأهمّ والمهمّ في مقام المانعيّة والمحرّكيّة ؛ لأنّ ثبوت المحرّكيّة في أحدهما لا تكون إلا بعد انتفاء الآخر في نفسه وفي رتبة سابقة ، وحينئذ لا مانع من طلب الضدّين ؛ لأنّه لن يكون هناك محرّكيّتان ، بل محرّكيّة واحدة ولازمها أنّه لن يكون هناك إلا تحرّك واحد لا أكثر ، ومع المخالفة لا يستحقّ إلا عقابا واحدا لا أكثر.

وما ذكره من الإشكال غير صحيح أيضا ؛ لأنّ الفعليّة لكلّ منهما حال تركهما معا وإن كانت متحقّقة إلا أنّه لا يلزم منها أن يكون المكلّف مأمورا بالجمع بين الضدّين ؛ لأنّه في مقام الامتثال لا يطالب بأكثر من فعل أحدهما فقط ؛ لأنّه لا توجد أكثر من محرّكيّة واحدة ، ولهذا لو فرض تحقّق المحال في الخارج وصدر منه كلا الضدّين لم يكن ممتثلا إلا لأحدهما فقط ، وهو الأهمّ فيما لو كان أحدهما أهمّ ولم يكن ممتثلا إلا للأوّل فقط ؛ لأنّ شرطه محقّق وهو عدم الاشتغال بالضدّ دون الثاني ؛ لأنّه مشتغل بالضدّ الأوّل ، فمجرّد الفعليّة للتكليفين المتضادّين لا مانع منها عقلا ؛ لأنّها فعليّة مشروطة في مقام الامتثال.

والإشكال بتعدّد العقاب ليس بصحيح أيضا ؛ وذلك لأنّ العقاب يدور مدار ترك المكلّف للفعل الواجب المأمور به مع قدرته عليه ، وهنا إذا لاحظنا عالم الامتثال فالمكلّف ليس قادرا إلا على أحد الضدّين فقط ، فيكون في حالة تركه مستحقّا لعقاب واحد ، ولكن إذا لاحظنا حال الترك لكلا الضدّين نجد أنّ كلّ واحد من الضدّين في نفسه يمكن للمكلّف أن يوجده في الخارج ولكنّه تركه اختيارا مع قدرته عليه فيستحقّ العقاب عليه ، فكان العقاب متعدّدا لتعدّد موضوعه في الخارج ، لا من جهة أنّ المكلّف مأمور بالضدّين معا وكونهما فعليّين عليه معا.

فيكون المطلوب منه فعل واحد ولكنّه يعاقب بعقابين لو تركهما معا ، وهذا له نظائر في الفقه كالوجوب الكفائي ، فإنّه فعل واحد وامتثال واحد ولكن لو ترك لكان جميع المكلّفين القادرين الحاضرين مستحقّين للعقاب.

٦٠