شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٩

والجواب : أنّ الحجر على شخص له معنيان :

أحدهما : الحجر الوضعي ، بمعنى الحكم بعدم نفوذ معاملاته.

والآخر : الحجر التكليفي ، بمعنى منعه.

فإن أريد أنّ التحريم يساوق الحجر بالمعنى الأوّل فهو أوّل الكلام.

وإن أريد أنّه يساوقه بالمعنى الثاني فهو مسلّم ، ولكن من قال : إنّ هذا يستتبع الحجر الوضعي؟ فالظاهر أنّ تحريم المسبّب لا يقتضي البطلان ، بل قد يقتضي الصحّة كما أشرنا في حلقة سابقة (١).

الوجه الثاني : ـ للقول باقتضاء النهي عن المسبّب للبطلان ـ هو ما ذكره الميرزا وحاصله : أنّ ترتّب المسبّب والأثر على المعاملة يتوقّف على توفّر شروط ثلاثة :

الأوّل : أن يكون هناك عقد وإيجاب وقبول ، أي على وجود الصيغة الشرعيّة.

الثاني : أن يكون المتعاملان المالكين أو الوكيلين أو بالاختلاف للثمن والمثمن.

الثالث : أن يكون للمتعاملين السلطنة والولاية والقدرة على التصرّف في الثمن والمثمن.

فإذا اختلّ أحد هذه الشروط الثلاثة كشف ذلك عن عدم تحقّق الأثر والمسبّب.

وفي مقامنا إذا تعلّق النهي عن المسبّب اختلّ الشرط الثالث ، بحيث يكون المالك ممنوعا من التصرّف ومسلوب القدرة والسلطنة والولاية على نقل المال إلى الغير ، وبذلك يكون محجورا عليه تماما كالصغير. فإذا كان كذلك وقعت المعاملة منه فاسدة بمعنى عدم ترتّب الأثر عليها ، وهذا معناه بطلان المعاملة بالنهي عن المسبّب.

والجواب : أنّ الحجر بمعنى انتفاء القدرة والسلطنة والولاية يحتمل فيه أحد أمرين :

أحدهما : الحجر الوضعي ، بمعنى عدم نفوذ معاملاته والحكم ببطلانها كالصغير.

الآخر : الحجر التكليفي ، بمعنى أنّه لا يجوز له إنشاء المعاملات وإنّما هو ممنوع شرعا من إنشائها.

فإن أريد المعنى الأوّل ، فهذا هو المدّعى في الوجه الذي ذكره الميرزا ، ويحتاج إثباته إلى دليل عليه ، وهو غير موجود ؛ لأنّ الثابت شرعا هو الحجر الوضعي على الصغير

__________________

(١) الحلقة الثانية ، ضمن بحوث الدليل العقلي ، تحت عنوان : اقتضاء الحرمة للبطلان.

٤٢١

والسفيه والمجنون بالأدلّة الخاصّة ، وهذا المورد لم يرد فيه دليل خاصّ فيكون على مقتضى القاعدة من التسلّط والقدرة على المال.

وإن أريد المعنى الثاني ، فهذا مسلّم به ، فإنّ معنى النهي هو المنع الشرعي ، ولكن لا ملازمة بين المنع الشرعي وبين البطلان ؛ لأنّ هذا هو محلّ البحث. ولا ملازمة بين الحجر التكليفي والحجر الوضعي لاحتياجه إلى دليل خاصّ عليه ؛ لأنّه على خلاف القاعدة.

وبهذا ظهر أنّه لا يوجد دليل تامّ على كون النهي عن المسبّب يقتضي البطلان في المعاملة ، كما أنّ النهي عن السبب لا يقتضي البطلان أيضا ، بل يمكن أن يقال بأنّ النهي عن المسبّب يقتضي صحّة السبب ونفوذه وترتّب الأثر عليه.

والوجه في ذلك : أنّ النهي ـ ككلّ تكليف ـ يشترط فيه القدرة على متعلّقه ، فلو لم يكن متعلّقه مقدورا للمكلّف لامتنع التكليف به ؛ لأنّه يكون من التكليف بغير المقدور وهو محال عقلا.

وعليه ، فإذا تعلّق النهي عن المسبّب فلا بدّ من فرض قدرة المكلّف على إيجاد المسبّب ، وحيث إنّ المكلّف لا يقدر على إيجاد المسبّب إلا بإيجاد سببه فلا بدّ أن يكون السبب صحيحا ونافذا ومؤثّرا في حصول المسبّب ؛ لأنّه لو لم يكن كذلك لكان انتفاء المسبّب ضروري الوقوع دائما ؛ لأنّه دائما ينتفي عند وجود سببه ، وما دام ضروري الوقوع فلا يتعلّق به النهي ؛ لأنّ القدرة والاختيار على الفعل والترك شرط في التكليف ، وهنا لا يكون المكلّف قادرا على إيجاد المسبّب ؛ لأنّه ليس باختياره وقوعه وعدم وقوعه لأنّه دائما منتف.

* * *

٤٢٢

الملازمة بين حكم العقل

وحكم الشارع

٤٢٣
٤٢٤

الملازمة بين حكم العقل وحكم الشارع

يقسم الحكم العقلي إلى قسمين :

أحدهما : الحكم النظري وهو إدراك ما يكون واقعا.

والآخر : الحكم العملي وهو إدراك ما ينبغي أو ما لا ينبغي أن يقع.

وبالتحليل نلاحظ رجوع الثاني إلى الأوّل ؛ لأنّه إدراك لصفة واقعيّة في الفعل ، وهي أنّه ينبغي أن يقع وهو الحسن ، أو لا ينبغي وهو القبح.

تقسيم الحكم العقلي : ينقسم حكم العقل بلحاظ متعلّقه إلى قسمين ، وأمّا نفس حكم العقل فهو واحد ؛ لأنّه عبارة عن الإدراك. فالعقل إمّا أن يدرك أو لا يدرك ، فإن أدرك فمتعلّق إدراكه ينقسم إلى قسمين : وذلك لأنّه تارة يدرك ما يكون واقعا وموجودا ، فيسمّى بالعقل النظري أو الحكم النظري.

وأخرى يدرك ما ينبغي أن يقع فيسمّى بالعقل العملي أو الحكم العملي.

والمراد من الإدراك العقلي : هو الحكم الذي يصدره العقل بنحو الجزم والقطع واليقين مستندا فيه إلى العقل نفسه ، وهو ما يسمّى بالمستقلاّت العقليّة. وفي قبال ذلك الإدراك العقلي المستند إلى حكم الشارع أي الذي يكون في طول حكم الشارع ، وهو ما يسمّى بغير المستقلاّت العقليّة.

ثمّ إنّ مدركات العقل العملي ترجع إلى مدركات العقل النظري بالتحليل والملاحظة. والوجه في ذلك : هو أنّ إدراك العقل العملي لما ينبغي أو لا ينبغي أن يقع معناه إدراك العقل لوجود صفة واقعيّة في متعلّقه أي الفعل ، فإنّ الفعل إذا كان حسنا فهو ينبغي أن يقع ، بينما إذا كان قبيحا فهو لا ينبغي أن يقع ، وهذا معناه أنّ الفعل تارة يكون حسنا وأخرى يكون قبيحا ، فالحسن والقبح صفتان واقعيّتان يتّصف بهما الفعل ، فإدراك العقل لهاتين الصفتين إدراك لما هو كائن وموجود واقعا ، وهو معنى الحكم النظري.

٤٢٥

ولذلك سوف نتكلّم عن حقيقة هاتين الصفتين ولو بشيء من الاختصار فنقول :

وعلى هذا نعرف أنّ الحسن والقبح صفتان واقعيّتان يدركهما العقل كما يدرك سائر الصفات والأمور الواقعيّة ، غير أنّهما تختلفان عنها في اقتضائهما بذاتهما جريا عمليّا معيّنا خلافا للأمور الواقعيّة الأخرى.

وعلى هذا الأساس يمكن أن يقال : إنّ الحكم النظري هو إدراك الأمور الواقعيّة التي لا تقتضي بذاتها جريا عمليّا معيّنا ، والحكم العملي هو إدراك الأمور الواقعيّة التي تقتضي بذاتها ذلك.

الحسن والقبح :

الحسن والقبح من مدركات الحكم العقلي العملي ؛ وذلك لأنّهما صفتان واقعيّتان يتّصف بهما الفعل في الواقع ، أي في واقع الأمر الأعمّ من الوجود الخارجي المادي ، وهو ما يعبّر عنه بنفس الأمر.

فالحسن : هو الفعل الذي يستحقّ المدح ، بينما القبح : هو الفعل الذي يستحقّ الذمّ. فهما متعلّقان بالفعل بحيث إذا كان حسنا فهو ينبغي صدوره من الفاعل ويستحقّ المدح عليه كالصدق والوفاء والإخلاص والمروءة والإحسان. وأمّا إذا كان قبيحا فهو ممّا لا ينبغي صدوره من الفاعل ويستحقّ الذمّ عليه كالكذب والخيانة والظلم والعدوان والإساءة ، وهاتان صفتان للفعل بحدّ ذاته ونفسه وبقطع النظر عن وجود الموانع أو حالات التزاحم.

والحسن والقبح كغيرهما من الأمور والصفات الواقعيّة الحقيقيّة ، غير أنّهما يختلفان عنها ، فهناك نقطة اشتراك وهي كونهما واقعيّتين أي لهما واقع قبل تحقّقهما في الخارج وقبل صدورهما من الفاعل ، فقبل صدورهما من الفاعل يدرك العقل الحسن والقبح في الفعل ذاته ، وهذا إدراك لما هو كائن وموجود ، ثمّ بعد ذلك يحكم بأنّه ينبغي أن يقع هذا الفعل الحسن من الفاعل ، وينبغي ألاّ يقع الفعل القبيح من الفاعل ، وهذا إدراك لما ينبغي أو لا ينبغي أن يقع. وهذه هي نقطة الاختلاف بينهما وبين سائر الأمور الواقعيّة الأخرى.

وبتعبير آخر : إنّ الحسن والقبح يشتركان مع سائر الأمور الواقعيّة بوجودها الواقعي ، فاستحالة اجتماع النقيضين أو الضدّين أو المثلين من الأمور الواقعيّة الحقيقيّة ، وهكذا

٤٢٦

الحسن والقبح. ولكنّهما يختلفان عن غيرهما من الأمور الواقعيّة بأنّهما يقتضيان جريا عمليّا معيّنا على طبقهما ، فإنّ الحسن المتعلّق بفعل يقتضي جريا عمليّا وهو صدوره ، بينما القبح يقتضي عدم صدوره.

ولهذا يمكننا تعريف الحكم النظري بأنّه إدراك الأمور الواقعيّة التي لا تقتضي الجري العملي ، بينما الحكم العملي هو إدراك الأمور الواقعيّة التي تقتضي جريا عمليّا معيّنا بذاتها وبقطع النظر عن وجود المانع وحالات التزاحم التي قد تمنع من ذلك في بعض الأحيان.

فالحسن والقبح بلحاظ وجودهما الواقعي يدخلان في الحكم النظري ، ولكن بلحاظ ما يقتضيان من الجري العملي على طبقهما من الفعل أو الترك يدخلان في الحكم العملي ، هذا بحسب التحليل والملاحظة. وإلا فهما من مدركات العقل العملي ؛ لأنّ الحسن ينبغي وقوعه والقبح لا ينبغي وقوعه.

ويدخل إدراك العقل للمصلحة والمفسدة في الحكم النظري ؛ لأنّ المصلحة ليست بذاتها مقتضية للجري العملي ، ويختصّ الحكم العملي من العقل بإدراك الحسن والقبح.

وسنتكلّم فيما يلي عن الملازمة بين كلا هذين القسمين من الحكم العقلي وحكم الشارع.

المصلحة والمفسدة :

ذكرنا سابقا في بحوث متقدّمة أنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها.

فالفعل إذا كان فيه مصلحة فسوف يتعلّق به حكم شرعي طبقا لهذه المصلحة ، فإن كانت لزوميّة تعلّق بها الوجوب وإن كانت غير لزوميّة تعلّق بها الاستحباب.

وأمّا إذا كان فيه مفسدة فسوف يتعلّق به التحريم أو الكراهة تبعا للزوميّة المفسدة وعدم لزوميّتها. وأمّا إذا لم يكن فيه المصلحة والمفسدة أو كان واجدا لهما بنحو واحد فسوف يكون مباحا.

وهذا معناه أنّ المصلحة والمفسدة من الأمور الواقعيّة التي يتّصف بها الفعل. ولكن هذه المفسدة والمصلحة لا تقتضيان بذاتيهما جريا عمليّا على طبقهما ، فإنّه ليس كلّ

٤٢٧

مصلحة ينبغي وقوعها وليس كلّ مفسدة ينبغي عدم وقوعها ، وإنّما يرتبط بذلك بما يلاحظه الشارع ويجعله ، فليس كلّ مصلحة يوجبها وليس كلّ مفسدة يحرّمها ؛ لأنّ الجعل فعل اختياري للشارع يجعله متى ما تعلّقت إرادته وشوقه ، وهذا يعني أنّ مجرّد المصلحة والمفسدة بذاتيهما لا يقتضيان الإيجاب والتحريم ، بل لا بدّ من وجود الشوق والإرادة المولويّة للجعل.

نعم ، جعل الوجوب والتحريم يكشف بالملازمة عن وجود المصلحة والمفسدة في متعلّقيهما.

ولهذا فيكون إدراك المصلحة والمفسدة من مختصّات الحكم العقلي النظري ؛ لأنّه إدراك لما هو موجود وواقع. ولا يدخلان في مدركات الحكم العقلي العملي ؛ لعدم استتباعهما الجري العملي على وفقهما بذاتهما.

وهذا بخلاف الحسن والقبح كما تقدّم فإنّهما من مختصّات مدركات العقل العملي ؛ لأنّهما يقتضيان الجري العملي على طبقهما ، وإن كانا بالتحليل والملاحظة يرجعان إلى الحكم النظري أيضا ، باعتبارهما صفتان واقعيّتان لهما وجود واقعي في عالم الواقع ونفس الأمر بقطع النظر عن صدورهما من الفاعل أو عدم صدورهما منه.

ونحن حينما نتكلّم عن الملازمة بين حكم العقل وحكم الشارع فهذا يعني ملاحظة حكم العقل النظري تارة وحكم العقل العملي أخرى. فالبحث يقع في مقامين :

المقام الأوّل : الملازمة بين الحكم النظري للعقل مع حكم الشارع.

المقام الثاني : الملازمة بين الحكم العقلي العملي مع حكم الشارع.

* * *

٤٢٨

الملازمة بين الحكم

النظري وحكم الشارع

٤٢٩
٤٣٠

الملازمة بين الحكم النظري وحكم الشارع

لا شكّ في أنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح والمفاسد ، وأنّ الملاك متى ما تمّ بكلّ خصوصيّاته وشرائطه وتجرّد عن الموانع عن التأثير كان بحكم العلّة التامّة الداعية للمولى إلى جعل الحكم على طبقه وفقا لحكمته تعالى.

وعلى هذا الأساس فمن الممكن نظريّا أن نفترض إدراك العقل النظري لذلك الملاك بكلّ خصوصيّاته وشئونه ، وفي مثل ذلك يستكشف الحكم الشرعي لا محالة استكشافا لمّيّا ، أي بالانتقال من العلّة إلى المعلول.

المقام الأوّل : في تحقيق حال الملازمة بين حكم العقل النظري وبين حكم الشارع.

المراد من حكم العقل النظري : هو إدراكه للصفة الواقعيّة الموجودة في عالم الواقع ونفس الأمر ، والمقصود هنا ليس كلّ الصفات وإنّما خصوص صفتي المصلحة والمفسدة ، وأمّا سائر الصفات الواقعيّة الأخرى ـ كاستحالة اجتماع النقيضين أو الضدّين أو المثلين أو استحالة الدور والتسلسل اللامنتهى والخلف ـ فهذه كلّها لا ارتباط لها في البحث ؛ وذلك لأنّ الكلام عن الملازمة بين هذا الإدراك العقلي وبين حكم الشارع.

وحكم الشارع : عبارة عن جعله الإيجاب أو التحريم على متعلّقيهما ، وحيث إنّ الأحكام تابعة للمفاسد والمصالح في متعلّقاتهما كما هو الصحيح فيكون الإيجاب كاشفا عن المصلحة والتحريم كاشفا عن المفسدة ، ومن هنا صح طرح البحث عن الملازمة بين إدراك العقل النظري للمصلحة أو المفسدة وبين حكم الشارع بالإيجاب أو التحريم.

فإذا أدرك العقل النظري وجود مصلحة أو مفسدة في شيء من الأفعال التي تنسب إلى المكلّف ، فهل يكشف ذلك عن وجود حكم شرعي بالوجوب أو الحرمة من قبل الشارع أم لا؟

٤٣١

وقبل الإجابة عن هذا السؤال لا بدّ من بيان أمرين :

الأوّل : أنّ الأحكام لا شكّ في كونها تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها ، وهذا ما يعبّر عنه بالملاك ، ولكن ليس وجود المصلحة أو المفسدة وحده دخيلا في الملاك ، بل هناك أمور أخرى يؤخذ وجودها شرطا أو عدمها ضروريّا لكي يكون الملاك مع توفّر كلّ الشروط المعتبرة وانتفاء كلّ الموانع مؤثّرا في وجود الحكم ، بمعنى أنّه يصبح داعيا إلى الإيجاب أو التحريم ؛ لأنّه ليس إذا تمّ الملاك في شيء ترتّب عليه الحكم قهرا ، لما تقدّم من أنّ جعل الحكم فعل اختياري للشارع. فيكون تماميّة الملاك داعيا إلى وجود الحكم فهو بحكم العلّة التامّة ؛ لأنّه موقوف على الجعل المولوي وليس العلّة التامّة وإلا لصار قهريّا.

وهذا نقوله طبقا لحكمة المولى ، بمعنى أنّ المولى بحكمته ولطفه وتقديره يفعل ذلك ، أي أنّه يجعل الإيجاب والتحريم عند وجود المصلحة والمفسدة وعند تحقّق سائر الشرائط وانتفاء سائر الموانع.

الثاني : أنّ العقل النظري تارة يدرك وجود المصلحة أو المفسدة في الفعل أو الشيء المتعلّق لفعل المكلّف ، وأخرى لا يدرك ذلك.

فإن لم يدرك شيئا من المصلحة أو المفسدة فهذا خارج من محلّ الكلام جزما.

وإن أدرك المصلحة أو المفسدة مع كلّ الشروط المعتبرة الأخرى ولاحظ انتفاء الموانع تماما ، فهنا لا إشكال في كونه كاشفا عن الحكم الشرعي ، فيحكم بالملازمة بين إدراك العقل وبين حكم الشارع. وهذا استدلال من العلّة على المعلول ؛ لأنّ الحكم معلول للمصلحة مع ما يرتبط بها من تحقّق الشرائط وانتفاء الموانع ، فإنّ الشارع يجعل الحكم وفقا لحكمته وهو ما يسمّى بالدليل اللمّي ، أي بالاستدلال على وجود المعلول من خلال وجود العلّة.

وهذا الأمر ممكن وليس مستحيلا أو ممتنعا في نفسه ، ولكنّه نادر الوقوع ولذلك قال السيّد الشهيد :

ولكنّ هذا الافتراض صعب التحقّق من الناحية الواقعيّة في كثير من الأحيان ؛ لضيق دائرة العقل وشعور الإنسان بأنّه محدود الاطّلاع ، الأمر الذي يجعله يحتمل غالبا أن يكون قد فاته الاطّلاع على بعض نكات الموقف ، فقد يدرك

٤٣٢

المصلحة في فعل ولكنّه لا يجزم عادة بدرجتها وبمدى أهمّيتها وبعدم وجود أيّ مزاحم لها ، وما لم يجزم بكلّ ذلك لا يتمّ الاستكشاف.

والصحيح : هو عدم الملازمة بين حكم العقل النظري وحكم الشارع.

والوجه في ذلك هو : أنّ استكشاف الملازمة بين حكم العقل وحكم الشارع يتوقّف على إدراك العقل لما هو بمثابة العلّة للحكم ، أي لوجود المصلحة وكونها مهمّة جدّا ، وإدراكه لكلّ الشروط المعتبرة فيها ، ولإدراك انتفاء سائر الموانع التي تمنع من التأثير.

وإدراك كلّ هذه الأمور ممّا لا يتيسّر للعقل في كثير من الأحيان ؛ لأنّ العقل محدود في اطّلاعاته ومقيّد بما يصل إليه من معلومات عن طريق الحواسّ والتجارب ونحوهما.

وهذا الأمر يجعله غالبا غير محيط بكلّ ما هو شرط وما هو مانع لو سلّم إدراكه للمصلحة أو المفسدة في الفعل ، وإلا فإنّه قد يخطئ أيضا في تشخيص المصلحة أو المفسدة أيضا.

وهذا معناه أنّنا نعلم إجمالا بأنّ كثيرا من المصالح والمفاسد وما هو دخيل فيهما كشرط أو عدم مانع ممّا لا يقدر أن يدركها العقل بتمامها وبصورة كاملة ، وهذا يجعلنا نحتمل الخطأ في مدركاتنا للمصالح والمفاسد ، الأمر الذي يجعلنا في الأغلب بعيدين عن القطع والجزم ، وما دام كذلك فلا تتحقّق الملازمة ؛ لعدم تحقّق طرفها الأوّل وهو إدراك العقل فإنّه أحد طرفي الملازمة ؛ لأنّه من خلال القطع والجزم بما أدركه العقل نريد أن نحكم بأنّ الشارع له حكم مطابق ، وإذا لم نجزم ونقطع بل كنّا نحتمل أو نظنّ بتحقّق الإدراك العقلي فلن يتيسّر لنا الحكم بالملازمة ، وبالتالي لن نستكشف حكم الشارع.

ومن هنا أنكر صاحب ( الفصول ) الملازمة مدّعيا أنّ العقل قد يدرك المصلحة والمفسدة ، ولكنّ الموانع والشروط المعتبرة قد لا يصل إليها الإدراك العقلي ؛ لعدم إحاطته بالواقعيّات على ما هي عليه.

* * *

٤٣٣
٤٣٤

الملازمة بين الحكم

العملي وحكم الشارع

٤٣٥
٤٣٦

الملازمة بين الحكم العملي وحكم الشارع

عرفنا أنّ مرجع الحكم العملي إلى الحسن والقبح ، وأنّهما أمران واقعيّان يدركهما العقل ، وقبل الدخول في الحديث عن الملازمة ينبغي أن نقول كلمة عن واقعيّة هذين الأمرين ، فإنّ جملة من الباحثين فسّر الحسن والقبح بوصفهما حكمين عقلائيّين أي مجعولين من قبل العقلاء تبعا لما يدركون من مصالح ومفاسد للنوع البشري ، فما يرونه مصلحة كذلك يجعلونه حسنا ، وما يرونه مفسدة كذلك يجعلونه قبيحا. ويميّزهما عن غيرهما من التشريعات العقلائيّة اتّفاق العقلاء عليهما وتطابقهم على تشريعهما ؛ لوضوح المصالح والمفاسد التي تدعو إلى جعلهما.

المقام الثاني : في تحقيق حال الملازمة بين حكم العقل العملي وحكم الشارع.

قبل الدخول في تحقيق حال الملازمة يذكر الشهيد أنّ الحسن والقبح من الأمور الواقعيّة وليسا من الأمور الجعليّة الاعتباريّة ، فهنا أمران :

الأوّل : في واقعيّة الحسن والقبح ، ذكرنا سابقا أنّ العقل يدرك الحسن والقبح بما يستتبعان من موقف وسلوك عملي معيّن على طبقهما ؛ نظير إدراكه للقضايا العقليّة الواقعيّة الأخرى ، غاية الأمر أنّ إدراكه لمثل اجتماع النقيضين واستحالته واستحالة الدور ونحوهما لا يستتبع سلوكا وموقفا عمليّا ، ولذلك كان النحو الأوّل من مدركات العقل العملي بينما الثاني من مدركات العقل النظري.

فالعقل يدرك حسن العدل وقبح الظلم ، وهذا معناه أنّ الظلم بواقعه وبما يستتبعه من موقف وسلوك قبيح بنظر العقل ، بخلاف العدل فإنّه بواقعه وبما يقتضيه من سلوك عملي حسن.

وهكذا حسن الطاعة وقبح المعصية فإنّ الطاعة والمعصية بما يستتبعان من موقف

٤٣٧

وسلوك عملي يتّصفان بالحسن والقبح ، فهما من الأمور الواقعيّة التي لها ثبوت في عالم الواقع واللوح ونفس الأمر.

وهكذا الحال بالنسبة للكذب والصدق فإنّهما بذاتهما وبقطع النظر عن الموانع وحالات التزاحم يتّصفان بالحسن والقبح.

والوجدان خير دليل وشاهد على ذلك فإنّ العقل السليم يدرك حسن أو قبح هذه الأشياء ونظائرها. وإذا كان هناك تشكيك فهو في تحقّق الصغرى والمصداق ، بمعنى أنّ الفعل الفلاني هل هو صدق أم لا؟ وليس التشكيك في أنّ الصدق حسن وإنّما في تطبيقه على مصاديقه في الخارج ، وهذا ليس محلّ الكلام ؛ لأنّه خلاف في الصغريات ، وكلامنا نحن في أصل ثبوت الكبرى أي حكم العقل بحسن الصدق مثلا فهذا ممّا لا يختلف فيه عاقل.

بل إنكار واقعيّة الحسن والقبح يؤدّي إلى عدم الإيمان بالشريعة وبالنبوّة وعدم وجوب الطاعة ؛ لأنّه إذا لم يكونا واقعيّين فما هو الدليل على صدق نبوّة النبي الذي يأتي بالمعجزة؟ ولما ذا يصدّق لو لم يكن ذلك من الكاذب قبيحا ومن الصادق حسنا؟ وما هو الدليل على وجوب الإطاعة وحرمة المعصية ما لم يكن الأوّل حسنا بذاته والآخر قبيحا؟!

الثاني : ذهب البعض إلى أنّ الحسن والقبح من الأمور الاعتباريّة الجعليّة العقلائيّة ، فالعقلاء يحكمون بالحسن والقبح وليسا ذاتيّين للأشياء أو للأفعال بواقعها ؛ بل هما حكمان مجعولان من قبل العقلاء ؛ بمعنى أنّ العقلاء اتّفقوا فيما بينهم على حسن هذا وقبح ذاك تبعا لوجود المصلحة أو المفسدة بلحاظ النوع البشري ، فما يرونه فيه مصلحة يحكمون بكون فعله حسنا وما يرون فيه المفسدة فيحكمون بقبح فعله.

فمثلا يحكمون بقبح الضرب للصبي إذا كان للتشفّي ؛ لأنّ فيه مفسدة. بينما لو كان الضرب للتأديب فيحكمون بحسنه ؛ لأنّ فيه المصلحة ، وأمّا ذات الضرب فهو لا يتّصف بالحسن ولا بالقبح بواقعه ، وإنّما الحسن والقبح عنوانان أو وصفان يجعلهما العقلاء على الفعل الواجد للمصلحة أو الواجد للمفسدة.

والمصلحة والمفسدة التي يحكم العقلاء بالحسن والقبح في الأفعال هي مصلحة النوع البشري ، كحفظ النظام مثلا وبقاء النوع.

٤٣٨

والحاصل : أنّ العقلاء يحكمون بمدح من يفعل الإحسان أو الصدق ، وبذمّ من يفعل الخيانة والكذب ، فالعدل حسن ؛ لأنّ فاعله ممدوح عند العقلاء ، والظلم قبيح ؛ لأنّ فاعله مذموم لدى العقلاء. ووجه الذمّ والمدح هو رعاية المصلحة في حفظ النظام ، أو النوع البشري ، أو وجود المفسدة على النظام والنوع البشري.

وهذان الحكمان العقلائيّان كغيرهما من الأحكام العقلائيّة الأخرى من حيث الجعل الاعتباري ، ولكن هذان الأمران متّفق عليهما من العقلاء كافّة في كلّ زمان ومكان ، بينما بقيّة الأحكام العقلائيّة قد يختلف حالها وحكمها باختلاف أحوال الناس واختلاف العصور والأمكنة والعادات والتقاليد ، ممّا يؤثّر على الاختلاف في تشخيص المصالح والمفاسد بنظر العقلاء أو في خفائها أيضا.

وهذا التفسير خاطئ وجدانا وتجربة.

أمّا الوجدان فهو قاض بأنّ قبح الظلم ثابت بقطع النظر عن جعل أيّ جاعل كإمكان الممكن.

وأمّا التجربة فلأنّ الملحوظ خارجيّا عدم تبعيّة الحسن والقبح للمصالح والمفاسد ، فقد تكون المصلحة في القبيح أكثر من المفسدة فيه ، ومع هذا يتّفق العقلاء على قبحه ، فقتل إنسان لأجل استخراج دواء مخصوص من قلبه يتمّ به إنقاذ إنسانين من الموت إذا لوحظ من زاوية المصالح والمفاسد فقط فالمصلحة أكبر من المفسدة ، ومع هذا لا يشكّ أحد في أنّ هذا ظلم وقبيح عقلا.

فالحسن والقبح إذا ليسا تابعين للمصالح والمفاسد بصورة بحتة ، بل لهما واقعيّة تلتقي مع المصالح والمفاسد في كثير من الأحيان وتختلف معها أحيانا.

الردّ على القول بأنّ الحسن والقبح مجعولان عقلائيّان :

أوّلا بالوجدان ، فإنّ العقل يحكم بحسن العدل وقبح الظلم بقطع النظر عن وجودهما في الخارج وصدورهما من الإنسان ، فإنّه بأدنى تأمّل فيهما يدرك حسن الأوّل وقبح الثاني ، ولا يحتاج ذلك إلى برهان ولا إلى تعلّم ولا إلى عادات وتقاليد ؛ نظير إمكان الممكن ، فإنّ العقل بمجرّد أن يلتفت إلى كونه ممكنا يحكم بإمكانه سواء صدر ووقع في الخارج أم لا ، بل هذا الحكم ثابت حتّى لو لم يوجد إنسان في الخارج أصلا ، وليس ذاك إلا لأنّه موجود في الواقع وعالم الأمر.

٤٣٩

نعم ، دور العقلاء هنا هو إدراك ما هو واقع وكائن بعقولهم لا باتّفاقهم وعاداتهم ونحوها.

وثانيا بالتجربة ، فإنّنا نستقرئ عدّة مفردات موجودة وواقعيّة ويحكم العقل بحسنها أو بقبحها من دون أن يكون ذلك تابعا لمصلحة أو مفسدة فيها. فلو كان الحسن والقبح تابعين للمصالح والمفاسد لم يكن سبيل للحكم بحسنها وقبحها أصلا ، مع أنّ العقلاء يحكمون بذلك بلا إشكال ، وهذا يدلّ على أنّ الحسن والقبح يتجرّدان عن المصالح والمفاسد ، فهما ليسا تابعين لها بل هما صفتان للفعل في نفسه وذاته ، ممّا يعني أنّهما وصفان واقعيّان يحكم بهما العقل.

فمثلا : قد تفرض المصلحة في القبيح أكثر من المفسدة الموجودة فيه ، ومع ذلك يحكم العقل والعقلاء بقبحه لا بحسنه.

فإذا كان قتل إنسان واحد فيه مصلحة إنقاذ شخصين من الموت ، فهنا المصلحة في قتله أكبر من المفسدة ، ولكن مع ذلك يحكم بكون قتله قبيحا بقطع النظر عن أي شيء آخر ، وحكمهم بالقبح هنا لا يتناسب مع ما قيل : من أنّ القبح تابع للمفاسد التي يراها العقلاء ، فإنّهم هنا يرون المصلحة الكبيرة ولكنّهم يحكمون بالقبح ، وليس ذاك إلا لأنّ القتل للنفس المحترمة في نفسه ظلم وهو قبيح ذاتا.

نعم ، في كثير من الأحيان يكون القبيح ناشئا من المفسدة ، والحسن ناشئا من المصلحة ، ولكنّهما ليسا تابعين للمصالح والمفاسد دائما ، وهذا يكفي للردّ على ما ذكر من كونهما مجعولين عقلائيّين.

والمشهور بين علمائنا الملازمة بين الحكم العملي العقلي والحكم الشرعي.

وهناك من ذهب (١) إلى استحالة حكم الشارع في موارد الحكم العملي العقلي بالحسن والقبح ، فهذان اتّجاهان :

أمّا الاتّجاه الأوّل : فقد قرّب بأنّ الشارع أحد العقلاء وسيّدهم ، فإذا كان العقلاء متطابقين بما هم عقلاء على حسن شيء وقبحه فلا بدّ أن يكون الشارع داخلا ضمن ذلك أيضا.

__________________

(١) كصاحب الفصول في الفصول : ٣٣٧ ، ونسبه المحقّق النائيني في فوائد الأصول ٣ : ٦٠ إلى بعض الأخباريّين أيضا.

٤٤٠