شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٩

وأمّا عدم تعلّق النهي بالخروج قبل أن يدخل إلى المغصوب فلأنّ النهي لا يكون فعليّا في هذا الظرف ، فلا يوجد إذا إلا الأمر بالصلاة فقط.

وأمّا إذا كان دخوله إلى الأرض المغصوبة بسوء اختياره ، فهنا قد يقال : إنّ الصلاة مأمور بها حال الخروج ومنهي عنها أيضا ؛ لأنّها في المغصوب ، ولكنّ الأمر والنهي ليسا متعاصرين في الفعليّة زمانا ، فإنّ زمان الأمر هو حال الخروج ؛ لأنّه في هذه الحالة يتوجّه إليه الأمر بالصلاة التي لا تستلزم المكث الزائد ، بينما زمان النهي عن الصلاة في المغصوب من حين الدخول إلى الأرض المغصوبة ، ولكنّه بعد أن دخل إلى المغصوب بسوء اختياره سقط هذا النهي عن الفعليّة وإن كان مدانا ويستحقّ العقاب على ذلك. فزمان النهي متقدّم على زمان الأمر ؛ لأنّه ثابت حين الدخول لا بعده ، وأمّا زمان الأمر فهو متأخّر عن زمان النهي ؛ لأنّه ثابت حال الخروج.

والنتيجة على ضوء ذلك : أنّه في حال الخروج لم يتعاصر الأمر والنهي ؛ إذ لا يوجد إلا الأمر فقط ، ومع عدم التعاصر بين الأمر والنهي في الزمان لا يلزم محذور الاجتماع ؛ لأنّ من شروط التضادّ وحدة الزمان أيضا ـ كما هو واضح ـ ولذلك تقع صلاته صحيحة أيضا وإن استحقّ العقاب بسبب دخوله بسوء اختياره ، ولكنّ السيّد الشهيد لا يرتضي هذا القول ، ولذلك علّق عليه بقوله :

ولكنّ التحقيق : أنّ ذلك لا يدفع التنافي بين الأمر والنهي ؛ لأنّ سقوط النهي لو كان لنسخ وتبدّل في تقدير الملاكات لأمكن أن يطرأ الأمر بعد ذلك ، وأمّا إذا كان بسبب الاضطرار بسوء الاختيار الذي هو نحو من العصيان ، فهذا إنّما يقضي سقوط الخطاب لا المبادئ ، فالتنافي بلحاظ المبادئ ثابت على كلّ حال. هذا إذا أخذنا بالقول السابق الذي يقول بأنّ الاضطرار بسوء الاختيار ينافي الاختيار خطابا ، وإذا أنكرنا هذه المنافاة فالأمر أوضح.

والتحقيق : أنّ عدم التعاصر الزماني بين الأمر والنهي لا يكفي لدفع غائلة التنافي بين الأمر والنهي ؛ وذلك لأنّ التنافي بينهما إنّما هو بلحاظ المبادئ والملاكات والمفسدة والمصلحة والمحبوبيّة والمبغوضيّة ، وليس مختصّا بلحاظ عدم القدرة على الامتثال في مقام المتطلّبات فقط.

٣٦١

وحينئذ نقول : إنّ سقوط النهي تارة يكون تكليفا وملاكا ، وأخرى يكون بلحاظ التكليف دون الملاك.

فإن كان النهي ساقطا خطابا وملاكا تمّ ما ذكر ، وأمّا إن كان ساقطا خطابا فقط مع بقاء ملاكه فلا يتمّ القول المذكور.

وفي مقامنا النهي ساقط خطابا فقط ، ممّا يعني أنّ ملاكاته بما تتضمّن من المفسدة والمبغوضيّة لا تزال موجودة ، ولذلك استحقّ العقوبة بدخوله بسوء اختياره ؛ إذ لو كانت ساقطة لم يكن معنى لبقاء العقوبة. ومع بقاء المبادئ والملاك سوف تكون الصلاة حال الخروج فيها مبادئ الأمر من مصلحة ومحبوبيّة ، وفيها مبادئ النهي من مفسدة ومبغوضيّة فيلزم المحذور.

نعم ، لو كان النهي ساقطا خطابا وملاكا فلا محذور ، ولكن سقوط النهي كذلك لا يكون إلا بالنسخ أو بتبدّل الملاكات وكلاهما باطل ؛ لأنّ النسخ الحقيقي مستحيل وبمعناه الممكن يحتاج إلى دليل ؛ ولأنّ التبدّل معناه البداء وهو يستلزم الجهل وهو ممتنع.

وبهذا يظهر أنّنا حتّى لو قلنا بأنّ سوء الاختيار ينافي التكليف خطابا فلا يكفي عدم التعاصر الزماني لدفع المحذور ؛ لأنّ الملاكات والمبادئ لا تزال باقية على حالها.

وأمّا إذا أنكرنا هذا المبنى وقلنا بأنّ سوء الاختيار لا ينافي التكليف فضلا عن العقوبة ، فالنهي موجود بخطابه أيضا لا بملاكاته ومبادئه فقط ، فيكون محذور الاجتماع أوضح.

وبهذا ينتهي الكلام حول حكم الصلاة حال الخروج.

وقد واجه الأصوليّون هنا مشكلة اجتماع الأمر والنهي من ناحية أخرى في المقام ، وحاصلها : أنّه قد افترض كون الخروج مقدّمة للتخلّص الواجب من الغصب ، ومقدّمة الواجب واجبة ، فيكون الخروج واجبا فعلا مع كونه منهيّا عنه بالنهي السابق الذي لا يزال فعليّا بخطابه وروحه معا أو بروحه وملاكه فقط على الأقلّ.

فهل يلتزم بأنّ الخروج ليس مقدّمة للواجب ، أو بتخصيص في دليل حرمة التصرّف في المغصوب على نحو ينفي وجود نهي من أوّل الأمر عن هذه الحصّة من التصرّف ، أو بانخرام في قاعدة وجوب المقدّمة؟ وجوه بل أقوال :

٣٦٢

حكم الخروج في نفسه :

إنّنا إذا افترضنا دخول الإنسان إلى الأرض المغصوبة ـ سواء كان دخوله بسوء اختياره أم لا ـ فهنا يتوجّه إليه أمر نفسي بوجوب تخليص نفسه من الغصب ، إلا أنّ هذا الواجب يتوقّف على مقدّمة وهي الخروج من الأرض المغصوبة ؛ إذ لا يمكن أن يتحقّق التخليص الواجب إلا بالخروج كما هو واضح ، فالخروج إذا مقدّمة وجوديّة للواجب يحكم بها العقل ، فهو واجب ولازم بحكم العقل.

ولكنّ السؤال هنا أنّه بناء على القول بالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته شرعا ، فهل يمكن أن يكون الخروج واجبا شرعيّا من باب المقدّميّة أو لا يمكن ذلك؟

فإن قيل بأنّه ما دام مقدّمة للواجب فعلى الملازمة لا بدّ أن يتّصف بالوجوب الغيري أيضا.

فيقال : إنّ اتّصافه بالوجوب يستلزم اجتماع الأمر والنهي على عنوان واحد ؛ وذلك لأنّ الخروج عبارة عن التصرّف في المغصوب أيضا بما يستلزمه من التحرّك والتنقّل من المكان الذي هو فيه إلى خارج المغصوب فيكون أيضا تصرّفا غصبيّا ، وحيث إنّ حرمة الغصب انحلاليّة وشموليّة فهي تشمل هذه الحصّة من الغصب ، وتكون النتيجة اجتماع الأمر والنهي على عنوان الخروج :

إمّا بلحاظ المبادئ والملاكات فقط ، فيما إذا قيل بأنّ الدخول بسوء الاختيار ينافي التكليف خطابا ، ولكنّه لا ينافيه عقابا المستلزم لبقاء الملاك فيه.

وإمّا بلحاظ المبادئ والملاكات والإيجاب والتحريم والمفسدة والمصلحة ، فيما إذا قيل بأنّ الدخول بسوء الاختيار لا ينافي التكليف لا خطابا ولا عقابا.

وحينئذ فعلى القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي فهذه المشكلة لا بدّ من حلّ لها بأحد الوجوه التالية :

أوّلا : أن يلتزم بأنّ الخروج ليس مقدّمة للواجب فلا يتّصف بالوجوب ، بل هو محرّم فقط.

ثانيا : أن يلتزم بتخصيص دليل الحرمة والنهي في غير هذه الحصّة من الغصب المستلزمة للخروج ، فيكون الخروج واجبا فقط.

٣٦٣

ثالثا : أن يلتزم بانخرام قاعدة وجوب المقدّمة ، فيقال بوجوب المقدّمة في غير هذه الحالة مع التسليم بكونها مقدّمة ، فيكون الخروج محرّما فقط.

فهنا أقوال ثلاثة :

أمّا الوجه الأوّل فحاصله : أنّ الخروج والبقاء متضادّان ، والواجب هو ترك البقاء ، وفعل أحد الضدّين ليس مقدّمة لترك ضدّه ؛ كما تقدّم في الحلقة السابقة (١).

وهذا الوجه حتّى إذا تمّ لا يحلّ المشكلة على العموم ؛ لأنّ هذه المشكلة لا نواجهها في هذا المثال فقط ، بل في حالات أخرى لا يمكن إنكار المقدّميّة فيها من قبيل من سبّب بسوء اختياره إلى الوقوع في مرض مهلك ينحصر علاجه بشرب الشراب المحرّم ، فإنّ مقدّميّة الشرب في هذه الحالة واضحة.

الوجه الأوّل : ما ذكره المحقّق الأصفهاني من أنّ الخروج لا يمكن أن يتّصف بكونه مقدّمة للواجب ؛ وذلك لأنّ الواجب وهو تخليص نفسه من الغصب ليس إلا عنوانا مشيرا لترك الحرام ، وهو هنا البقاء في المغصوب فيكون الواجب هو ترك البقاء في المغصوب.

وحيث إنّ الخروج والبقاء ضدّان لكونهما فعلين وجوديين ، فلو كان الخروج مقدّمة لترك البقاء للزم من ذلك أن يكون أحد الضدّين وهو الخروج مقدّمة لعدم الضدّ الآخر أي لعدم البقاء أو لترك البقاء.

ومن الواضح : أنّ الضدّين كما لا يمكن أن يكون أحدهما علّة للآخر ، كذلك لا يمكن أن يكون أحدهما علّة لعدم الآخر ، ولذلك يمتنع اتّصاف الخروج بكونه مقدّمة.

والوجه في أنّ أحد الضدّين لا يكون علّة للآخر أو علّة لعدم الآخر ، ما تقدّم منّا سابقا في الحلقة الثانية ، وملخّصه : أنّ المقدّمة تكون بمثابة العلّة أو الجزء الأخير من العلّة ، وفعل أحد الضدّين أو تركه ليست علّته فعل أو ترك الضدّ الآخر ، بل علّته إرادة المكلّف الفعل أو الترك ، فإن أراد فعل هذا الضدّ كان لازم ذلك تركه للضدّ الآخر وإن أراد ترك هذا الضدّ كان لازمه فعل الضدّ الآخر ، فترك الضدّ أو فعله

__________________

(١) في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه.

٣٦٤

يلازم العلّة أو الجزء الأخير من العلّة وليس هو نفسهما ، وما دام كذلك فلا يتّصف بكونه مقدّمة.

وفي مقامنا الخروج ليس هو العلّة أو جزءها الأخير ، بل العلّة هي إرادة المكلّف البقاء أو ترك البقاء ، والخروج وعدمه ملازم لذلك فقط. وهذا معناه أنّ الخروج لا يتّصف بالوجوب ، وإنّما يتّصف بالحرمة فقط لكونها انحلاليّة وتشمل كلّ حصص وأفراد الغصب والتي منها الغصب حال الخروج.

ويرد عليه :

أوّلا : أنّ هذا الوجه غير تامّ في نفسه ؛ وذلك لأنّنا وإن قبلنا كون أحد الضدّين لا يكون علّة لفعل الضدّ الآخر أو لعدمه ، إلا أنّ هذا المعنى غير متحقّق في مقامنا ؛ وذلك لأنّ الخروج ليس علّة لترك البقاء في الغصب في نفس آن الخروج ، وإنّما هو علّة لترك البقاء في الغصب بلحاظ الآنات اللاحقة ، ممّا يعني أنّ الزمان مختلف.

ومن الواضح : أنّ من شروط امتناع كون أحد الضدّين علّة لعدم الآخر أو لفعله هو وحدة الزمان بأن يكون الضدّ علّة لعدم ضدّه مثلا في نفس الآن الذي يثبت فيه الضدّ ، وأمّا إذا كان علّة لعدمه في الآن اللاحق فلا مانع منه ؛ لأنّه مع اختلاف الزمان ينحلّ التناقض فضلا عن التضادّ.

فمثلا إذا قلنا بأنّ الإزالة والصلاة متضادّان ، فلا يكون فعل أحدهما علّة لعدم الآخر ، ففعل الصلاة ليس هو علّة عدم الإزالة في نفس زمان وجود الصلاة ، إلا أنّ هذا لا يمنع أن يكون فعل الصلاة علّة لعدم الإزالة في الآن اللاحق عن الصلاة ؛ لأنّه بعد الفراغ من الصلاة سوف يكون قد سبّب عدم الإزالة فيكون فعلها ملازما لعدم الصلاة لا علّة لها ، والتلازم غير العلّيّة ؛ لأنّه يمكن أن يكونا معا معلولين لعلّة ثالثة ، وهي اختيار وإرادة المكلّف ، فإنّه لمّا لم يرد الإزالة قام بفعل الصلاة.

وهنا كذلك فهو لمّا أراد ترك البقاء في الآن اللاحق في الغصب قام بالخروج ، فيكون الخروج ملازما لترك البقاء في الغصب في الآن اللاحق ، وهذا أمر معقول في نفسه.

وثانيا : لو سلّمنا بمقالة المحقّق الأصفهاني وانطباقها على مقامنا ، إلا أنّها ليست مطّردة في سائر الأحوال ، ممّا يعني أنّ ما ذكره ليس قاعدة عامّة وكلّيّة ، بل هي تختلف من مورد لآخر.

٣٦٥

فمثلا من سبّب لنفسه المرض الشديد بسوء اختياره بأن شرب السمّ مثلا ، وتوقّف علاجه على تناول المحرّم ، فلا إشكال في كون تناول المحرّم مقدّمة للشفاء من المرض أو الموت ، فيتّصف بالوجوب مع كونه محرّما في نفسه.

إذا فما ذكره من إنكار المقدّميّة إنّما هو مختصّ في حالات كون الفعلين متضادّين. وأمّا في غيرهما من الحالات كالمثال المذكور فإنّ شرب الدواء ليس ضدّا للشفاء أو لعدم الشفاء ، فلا يتمّ ما ذكره ، ممّا يعني أنّ مشكلة اجتماع الأمر والنهي لا تزال قائمة ونحتاج إلى حلّ آخر غير ما ذكره.

وأمّا الوجه الثاني : فلا يمكن الأخذ به إلا مع قيام برهان على التخصيص المذكور ، بتعذّر أي حلّ آخر للمشكلة.

الوجه الثاني : ما يقال : من كون الخروج يتّصف بالوجوب العقلي وبالوجوب الشرعي الغيري أيضا ؛ لكونه مقدّمة للواجب ، إلا أنّ الحرمة ساقطة خطابا وملاكا في ذاك الفرض ، أمّا سقوطها خطابا فهو واضح وتامّ على جميع المسالك والمباني ؛ وذلك لفرض الاضطرار الرافع للتكليف ، وأمّا ارتفاعها ملاكا حال الخروج فلأنّ الخروج محبوب للشارع فلا يكون مبغوضا كذلك.

وهذا لازمه تخصيص دليل حرمة الغصب في غير الحصّة المقارنة مع الخروج ، فإنّها لا تكون محرّمة لا خطابا ولا ملاكا.

وفيه : أنّه إنّما يتمّ لو كان هناك دليل تام على التخصيص ، ولذلك يحتاج إلى قيام برهان على ذلك ، فمع عدمه لا يمكن المصير إليه ، مضافا إلى أنّ المصير إلى هذا الوجه إنّما يتّجه لو فرض عدم تماميّة الوجه الثالث الآتي مضافا إلى عدم تماميّة الوجه الأوّل أيضا. وسوف يأتي في الوجه الثالث أنّ البرهان قائم على بقاء الحرمة ولو بلحاظ مبادئها على الأقلّ.

وأمّا الوجه الثالث فهو المتعيّن ، وذلك بأن يقال : إنّ المقدّمة من ناحية انقسامها إلى فرد مباح وفرد محرّم على أقسام :

أحدها : أن تكون منقسمة إلى فردين من هذا القبيل فعلا ، وفي هذه الحالة يتّجه الوجوب الغيري نحو غير المحرّم خاصّة ؛ لأنّ الملازمة التي يدركها العقل لا تقتضي أكثر من ذلك.

٣٦٦

ثانيها : أن تكون منحصرة أساسا ـ وبدون دخل للمكلّف في ذلك ـ في الفرد المحرّم ، وفي هذه الحالة يتّجه الوجوب الغيري نحو الفرد المحرّم إذا كان الوجوب النفسي أهمّ من حرمته ، وتسقط الحرمة حينئذ.

ثالثها : أن تكون منقسمة أساسا إلى فرد مباح وفرد محرّم غير أنّ المكلّف عجّز نفسه بسوء اختياره عن الفرد المباح.

الوجه الثالث : وهو ما يختاره السيّد الشهيد من انخرام قاعدة وجوب المقدّمة في مقامنا ، مع الإيمان بها في سائر الموارد ـ على القول بها طبعا ولو بلحاظ المبادئ ـ فيكون الخروج غير متّصف بالوجوب فلا يوجد إلا الحرمة.

وبيانه أن يقال : إنّ المقدّمة تنقسم بلحاظ أفرادها إلى أقسام ثلاثة :

الأوّل : أن تكون منقسمة إلى فردين مباح ومحرّم ، كما إذا وجب إنقاذ الغريق وكان لإنقاذه وسيلتان : إحداهما اجتياز الأرض المباحة ، والأخرى اجتياز الأرض المغصوبة ، فهنا يتعلّق الوجوب الغيري بالمقدّمة المباحة أي بالفرد المباح منها ، ولا يتعلّق بالفرد المحرّم.

والدليل على ذلك هو العقل فإنّه هو الحاكم بالملازمة وهو يحكم أيضا بلزوم امتثال الواجب في الفرد المباح ، وأمّا الفرد المحرّم ففيه مئونة زائدة وهي الحرمة ولا يوجد أيّ داع لارتكابها ؛ لأنّ العقل يحكم أيضا بلزوم إطاعة تكاليف المولى ، فيمكن للمكلّف أن يحصّل كلا الغرضين والملاكين فينقذ الغريق ولا يرتكب الحرام. وهذا واضح ، وهو خارج عن محلّ كلامنا.

الثاني : أن يكون للمقدّمة فرد واحد فقط ، وهو الفرد المحرّم خاصّة ، كما إذا وجب إنقاذ الغريق وتوقّف على اجتياز الأرض المغصوبة أو على إتلاف مال الغير ، فإنّ انحصار المقدّمة بالفرد المحرّم لا مدخليّة للمكلّف فيه ، وفي هذه الحالة تارة يكون الأهمّ هو الحرام ، وأخرى يكون الأهمّ هو الواجب.

فإذا كان الأهمّ هو الحرام سوف يكون الوجوب ساقطا عن الفعليّة ؛ لأنّ كلّ تكليف مشروط بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ الشاملة لعدم وجود المانع الشرعي ، وهنا يوجد مانع شرعي أهمّ. فتكون المقدّمة محرّمة لا غير.

وإذا كان الأهمّ هو الواجب فسوف يكون دليل الحرمة مختصّا بغير هذه الحصّة ؛

٣٦٧

لأنّه مشروط أيضا بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ الشاملة لعدم وجود واجب آخر أهمّ ، فتكون المقدّمة واجبة غيريّا لوجوب ذيها الأهمّ ، وتسقط عنها الحرمة. وهذا الفرض خارج عن محلّ الكلام أيضا.

الثالث : أن يكون للمقدّمة فردان أحدهما مباح والآخر محرّم ، غير أنّ المكلّف بسبب سوء اختياره يحصر المقدّمة بالفرد المحرّم دون المباح ، وهذا الانحصار ناشئ من تعجيز المكلّف نفسه عن اختيار الفرد المباح ، وهذه الحالة هي محلّ بحثنا وكلامنا ، فنقول :

وفي هذه الحالة يدرك العقل أنّ الانحصار في الفرد المحرّم غير مسوّغ لتوجّه الوجوب الغيري نحوه ما دام بسوء الاختيار ، فالفرد المحرّم يظلّ على ما هو عليه من الحرمة ، ويكون تعجيز المكلّف نفسه عن الفرد المباح من المقدّمة مع بقاء الفرد المحرّم على حرمته تعجيزا له شرعا عن الإتيان بذي المقدّمة ؛ لأنّ المنع شرعا عن مقدّمة الواجب تعجيز شرعي عن الواجب ، ولمّا كان هذا التعجيز حاصلا بسوء اختيار المكلّف فيسقط الخطاب المتكفّل للأمر بذي المقدّمة على القول المشهور دون العقاب والإدانة ، غير أنّ العقل يحكم بلزوم تحصيل ذي المقدّمة ولو بارتكاب المقدّمة المحرّمة ؛ لأنّ ذلك أهون الأمرين ، وهذا يؤدّي إلى اضطراره إلى ارتكاب الفرد المحرّم من المقدّمة ، غير أنّه لمّا كان منشأ هذا الاضطرار أساسا سوء الاختيار فيسقط الخطاب على القول المشهور دون العقاب.

وينتج عن ذلك : أنّ الخطابات كلّها ساقطة فعلا ، وأنّ روحها بما تستتبعه من إدانة ومسئوليّة ثابت.

ذكرنا أنّ القسم الثالث من أقسام المقدّمة ما إذا كان لها فردان أحدهما مباح والآخر محرّم ، ولكنّ المكلّف بسوء اختياره أوقع نفسه في العجز فانحصرت المقدّمة بالفرد المحرّم دون المباح ، كما هو الحال في محلّ بحثنا فإنّ المكلّف يجب عليه تخليص نفسه من الغصب أو يجب عليه أن يترك البقاء في الغصب ، وهذا الواجب له فردان :

أحدهما : ألاّ يرتكب المعصية ولا يدخل إلى المكان المغصوب ، فإنّه إذا لم يدخل إلى المكان المغصوب يكون قد حقّق الواجب المطلوب منه وهو تخليص نفسه من الغصب ،

٣٦٨

أو عدم بقائه في المغصوب من باب السالبة بانتفاء الموضوع. وهذا الفرد مباح.

والآخر : أن يدخل إلى المكان المغصوب ويرتكب المعصية فعلا ، فإنّه لا يمكنه تخليص نفسه من ذلك إلا بالخروج وهو يستلزم التصرّف في الحرام أيضا ، ولذلك يكون هذا الفعل مقدّمة محرّمة للواجب. ولكن هذه المقدّمة هي الطريق الوحيد لهذا الواجب ؛ لأنّ المكلّف لمّا دخل الأرض المغصوبة فهو بسوء اختياره قد عجّز نفسه عن الفرد المباح وحصر المقدّمة بالفرد المحرّم.

وحينئذ فهل يكون الفرد المحرّم واجبا لصيرورته مقدّمة للواجب ، أو يبقى على حرمته فقط من دون اتّصافه بالوجوب ، أو يتّصف بالوجوب والحرمة معا؟

الصحيح هو أنّ العقل لا يحكم بتوجّه الوجوب الغيري على الفرد المحرّم بسبب انحصار المقدّمة فيه بسوء اختيار المكلّف ؛ لأنّ العجز غير التعجيز ، وهذا معناه أنّ الفرد المحرّم لا ينصبّ عليه الوجوب الغيري ، وإنّما يبقى على حرمته شرعا ، فيكون المكلّف ممنوعا شرعا من ارتكاب هذه المقدّمة المحرمة لتعلّق الحرمة بها بوصفها حصّة من الغصب. وهذا سوف يؤدّي إلى أنّ المكلّف سوف يعجز عن امتثال الواجب أي ذي المقدّمة ، فإنّ منعه شرعا عن التوصّل بالفرد المحرّم إلى الواجب يعني تعجيزه شرعا من الإتيان بالواجب ؛ لأنّ المفروض انحصار فعل الواجب بالفرد المحرم وقد فرضنا أنّه ممنوع من ارتكابه شرعا.

وتكون النتيجة إلى هنا أنّ المكلّف لن يمتثل الواجب ؛ لأنّه ممنوع من الخروج لتعلّق النهي به شرعا ، ولكن هذا التعجيز الشرعي حصل بسوء اختيار المكلّف ؛ لأنّه دخل إلى المغصوب باختياره ، ولذلك سوف يسقط التكليف والأمر بذي المقدّمة خطابا فقط ، وأمّا عقابا وإدانة فيبقى ، وهذا معناه أنّ المكلّف يحرم عليه الخروج لتعلّق النهي به ولا يجب عليه تخليص نفسه ؛ لأنّه ممنوع شرعا عن مقدّمته المحرّمة المنحصرة ولكن مع ذلك يعاقب على تركه التخليص.

وإذا لاحظنا هذه الحالة نجد أنّه يوجد محذوران :

أحدهما : البقاء في المغصوب والمستلزم لحرمة الغصب في كل آن آن من البقاء.

والآخر : التخلّص من الغصب وذلك بارتكاب مقدّمته المحرّمة وهي الخروج ؛ لأنّه متعلّق للنهي دون الوجوب الغيري.

٣٦٩

وحينئذ يحكم العقل باختيار المحذور الثاني ؛ لأنّه أهون وأخفّ مئونة من المحذور الأوّل ، فيحكم العقل بوجوب تخليص نفسه من المغصوب ولو بارتكاب الخروج المحرّم ، فيكون مضطرّا إلى ارتكاب الفرد المحرّم ولكن ، لمّا كان هذا الاضطرار ناشئا عن سوء اختياره ؛ لأنّه هو الذي أوقع نفسه في ذلك بسبب دخوله الأرض المغصوبة باختياره فسوف تسقط حرمته خطابا بسبب الاضطرار ولكن تبقى الحرمة عقابا وإدانة.

وتكون النتيجة النهائيّة هي سقوط الحرمة عن الخروج تكليفا ، فقد تقدّم أنّ التكليف بتخليص نفسه وهو الواجب النفسي قد سقط تكليفا أيضا ، والخروج نفسه لا يشمله الوجوب الغيري من أوّل الأمر لكونه أحد فردي المقدّمة المتّصف بالحرمة ، فيكون الوجوب الغيري منصرفا عنه ، والمفروض أيضا سقوط حرمة الغصب فعلا بعد الدخول لصيرورته مضطرّا إلى الغصب.

وهذا معناه أنّ كلّ التكاليف وهي أربعة ساقطة تكليفا أي عن الفعليّة ، ولكنّها ثابتة بروحها أي من حيث استتباعها للإدانة والعقوبة.

وبهذا يظهر أنّ الوجه الثالث يحلّ المشكلة ؛ لأنّ جميع التكاليف ساقطة ، فالخروج لا يتّصف لا بالوجوب ولا بالحرمة ، ولكنّه يستحقّ العقوبة على فعله وإن وجب عليه بحكم العقل لكونه أهون المحذورين ، فيكون حكم الخروج هو كونه واجبا بحكم العقل من باب أهون المحذورين من دون أن يتّصف بالوجوب أو الحرمة شرعا ، ولكنّه يستحقّ العقوبة على فعله ؛ لأنّه كان بسوء اختياره.

وفي كلّ حالة يثبت فيها امتناع اجتماع الأمر والنهي لا يختلف الحال في ذلك بين الأمر والنهي النفسيّين أو الغيريين أو الغيري مع النفسي ؛ لأنّ ملاك الامتناع مشترك ، فكما لا يمكن أن يكون شيء واحد محبوبا ومبغوضا لنفسه ، كذلك لا يمكن أن يكون محبوبا لغيره ومبغوضا لنفسه مثلا ؛ لأنّ الحبّ والبغض متنافيان بسائر أنحائهما.

ونحن وإن كنّا ذهبنا إلى إنكار الوجوب الغيري في مرحلة الجعل والحكم ولكنّا اعترفنا به في مرحلة المبادئ ، وهذا كاف في تحقيق ملاك الامتناع ؛ لأنّ نكتة الامتناع تنشأ من ناحية المبادئ وليست قائمة بالوجود الجعلي للحكمين.

٣٧٠

حدود امتناع اجتماع الأمر والنهي :

في كلّ حالة يثبت فيها امتناع اجتماع الأمر والنهي ، أي إذا بنينا على امتناع الاجتماع بينهما ، فهذا لا يختلف حاله بين أن يكون الأمر والنهي نفسيّين أو يكونا غيريّين أو يكون أحدهما نفسيّا والآخر غيريّا. فهنا شقوق أربعة :

الأوّل : أن يكون الأمر والنهي نفسيّين ، كما في ( صلّ ) و ( لا تصلّ في الحمام ) أو ( لا تغصب ) ، فهنا الأمر بالصلاة نفسي والأمر بالغصب نفسي أيضا. فعلى القول بالامتناع فيكون الامتناع لجهة اجتماع المبادئ المتضادّة على شيء واحد.

الثاني : أن يكون الأمر والنهي غيريّين ، كما في السفر من أجل الحجّ الواجب فإنّه واجب غيري لكونه مقدّمة للواجب ، وفرض أنّ السفر يسبّب الأذيّة للوالدين فيكون محرّما غيريّا لكونه سببا لحصول الحرام وهو التأذّي.

فعلى القول بالامتناع يكون السفر قد اجتمعت فيه المحبوبيّة الغيريّة والمبغوضيّة الغيريّة معا.

الثالث : أن يكون الأمر نفسيّا والنهي غيريّا ، كما إذا وجب إنقاذ الغريق وكان الإنقاذ سببا توليديّا لإتلاف مال الغير ، فإنّه واجب نفسي من جهة وحرام غيري من جهة ثانية ، لكونه مقدّمة للحرام وهو إتلاف مال الغير. وهنا على القول بالامتناع سوف تجتمع المحبوبيّة النفسيّة مع المبغوضيّة الغيريّة على شيء واحد.

الرابع : أن يكون الأمر غيريّا والنهي نفسيّا ، كما إذا دخل إلى مكان مغصوب ، فإنّ الخروج منه لكونه مقدّمة للتخلّص الواجب يتّصف بالوجوب الغيري ، وبما أنّه مصداق للغصب يتّصف بالحرمة النفسيّة ، فيلزم اجتماع المبغوضيّة النفسيّة والمحبوبيّة الغيريّة على شيء واحد.

وفي هذه الشقوق كلّها على القول بالامتناع سوف يكون ملاك الامتناع متحقّقا وموجودا فيها. ولا بدّ من علاج المسألة.

ونحن حيث أنكرنا الوجوب الغيري كما تقدّم فقد يشكل علينا بأنّ ملاك الامتناع ينتفي في حالة كون الأمر والنهي أو أحدهما على الأقلّ غيريّا ؛ لأنّه لا محرّكيّة ولا داعويّة ولا مقرّبيّة ولا محبوبيّة ولا مبادئ ولا ملاكات فيه.

ولكن نجيب عن ذلك بأنّنا وإن أنكرنا الوجوب الغيري كما تقدّم ، إلا أنّنا إنّما

٣٧١

أنكرناه بلحاظ الجعل والإيجاب والمحرّكيّة والداعويّة والمحبوبيّة والملاكات المستقلّة ، ولكنّنا اعترفنا بالوجوب الغيري في مرحلة الحبّ والشوق والإرادة وقلنا : إنّ حبّ شيء يستلزم حبّ مقدّمته وبغض شيء يستلزم بغض مقدّمته أيضا.

وعليه فعلى القول بالامتناع فيكون ملاكه تامّا بهذا اللحاظ ؛ لأنّ نكتة الامتناع لا تختصّ بما إذا لم يمكن جعل الحكمين من ناحية المتطلّبات من تحرّك ونحوه ، وإنّما يشمل ما إذا لم يمكن تعلّق الحبّ والبغض على شيء واحد أيضا للزوم التهافت في ذلك.

وأمّا ثمرة البحث في مسألة الاجتماع

فهي أنّه على الامتناع يدخل الدليلان المتكفّلان للأمر والنهي في باب التعارض ، ويقدّم دليل النهي على دليل الأمر ؛ لأنّ النهي إطلاقه شمولي ودليل الأمر إطلاقه بدلي ، والإطلاق الشمولي أقوى.

وأمّا على القول بالجواز فلا تعارض بين الدليلين ، وحينئذ فإن لم ينحصر امتثال الواجب بالفعل المشتمل على الحرام وكانت للمكلّف مندوحة في مقام الامتثال فلا تزاحم أيضا ، وإلا وقع التزاحم بين الواجب والحرام.

الثمرة من بحث الاجتماع : يذكر السيّد الشهيد ثمرتين :

الثمرة الأولى : أنّه على القول بالامتناع سوف يدخل بحث الاجتماع في باب التعارض ، بينما على القول بالجواز فسوف يكون من موارد التزاحم الامتثالي. وتوضيح ذلك أن يقال : إنّ دليل الأمر بالصلاة ودليل النهي عن الغصب إذا فرض اجتماعهما في مورد واحد كالصلاة في المكان المغصوب ، وقلنا بأنّ الاجتماع مستحيل وممتنع فسوف يقع التعارض والتنافي بين الدليلين بلحاظ هذا المجمع ؛ لأنّه سوف يكون مشمولا لكلا الدليلين فتكون مبادئ النهي ومبادئ الأمر قد اجتمعت على شيء واحد.

وحينئذ لا بدّ من تطبيق قواعد التعارض من الجمع أو الترجيح أو التساقط ، وهنا يقدّم دليل النهي ؛ وذلك لأنّ الإطلاق فيه شمولي ؛ لأنّ الحرمة انحلاليّة بينما إطلاق الأمر بدلي ؛ لأنّ الواجب هو الطبيعة وهي تتحقّق بفرد منها. فيكون دليل النهي أقوى فيرجّح على دليل الأمر. ويحكم ببطلان الصلاة لو صلّى في المكان المغصوب.

٣٧٢

وأمّا إذا قلنا بأنّ الاجتماع ممكن وجائز فسوف يدخل المورد في باب التزاحم ؛ وذلك لأنّ دليل الأمر ودليل النهي بلحاظ الامتثال سوف يحصل بينهما التدافع ؛ لأنّ كلاّ منهما يستدعي في مقام العمل والمتطلّبات غير ما يستدعيه الآخر.

وحينئذ يفصّل بين ما إذا كان هناك مندوحة للمكلّف وبين ما إذا لم يكن لديه مندوحة.

فإن كان لديه مندوحة بأن كان يمكنه الصلاة خارج المكان المغصوب مع بقاء الوقت ، فهنا كما لا تعارض لا تزاحم أيضا ؛ وذلك لأنّ المكلّف يمكنه الخروج من المغصوب والصلاة خارجه ، فيكون ممتثلا لكلا الدليلين.

وإن لم يكن لديه مندوحة بأن انحصر فعل الصلاة في المكان المغصوب لضيق الوقت عن الإتيان بها خارجه ، فهنا يدخل المورد في باب التزاحم وتطبّق عليه قاعدته وهي ترجيح الأهمّ ملاكا فيكون فعليّا ، بينما يكون الأقلّ أهمّيّة مشروطا بترك أو بعصيان الأهمّ.

وعليه ، فإذا كان دليل الصلاة هو الأهمّ فصلّى في المكان المغصوب كان ما فعله واجبا وصحيحا ومجزيا ولا يتّصف بالحرمة ؛ لأنّ دليل النهي ليس فعليّا. وإذا كان دليل النهي هو الأهمّ كان فعله حراما ولكنّه لو عصى وصلّى كانت صلاته صحيحة ومجزية أيضا ؛ لأنّه في حالة عصيان دليل النهي الأهمّ يكون دليل الأمر فعليّا لتحقّق شرطه وهو عدم امتثال الأهمّ.

وأمّا صحّة امتثال الواجب بالفعل المشتمل على الحرام فترتبط بما ذكرنا من التعارض والتزاحم بأن يقال : إنّه إذا بني على التعارض بين الدليلين وقدّم دليل النهي ، فلا يصحّ امتثال الواجب بالفعل المذكور سواء كان واجبا توصّليّا أو عباديّا ؛ لأنّ مقتضى تقديم دليل النهي سقوط إطلاق الأمر وعدم شموله له فلا يكون مصداقا للواجب ، وإجزاء غير الواجب عن الواجب على خلاف القاعدة كما تقدّم (١).

الثمرة الثانية : في صحّة أو فساد امتثال الواجب في المجمع. فهنا يفصّل بين القول بامتناع الاجتماع ، وبين القول بجوازه :

__________________

(١) في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : دلالة الأوامر الاضطراريّة والظاهريّة على الإجزاء.

٣٧٣

فإن قيل بالامتناع ووقوع التعارض بين الدليلين ، قدّم دليل النهي كما قلنا ؛ لأنّه أقوى بسبب إطلاقه الشمولي ، وحينئذ يكون الإتيان بالصلاة في المكان المغصوب باطلا وليس امتثالا للمأمور به.

والوجه في ذلك : هو أنّ دليل الأمر قد سقط بسبب وجود المعارض الأقوى ، ومع سقوطه لا يكون ما أتى به المكلّف مصداقا للمأمور به ؛ لأنّه ليس مشمولا لإطلاق الأمر البدلي عندئذ ، من دون فرق في ذلك بين أن يكون الواجب عباديّا أو توصّليّا.

ووجه عدم الإجزاء هو أنّ الإجزاء إنّما يكون بأحد أمرين كلاهما منتف هنا :

الأوّل : الإتيان بالمأمور به بحيث يكون ما أتى به مصداقا للواجب المأمور به. وهذا واضح الانتفاء هنا ؛ لأنّ الأمر لمّا كان ساقطا إطلاقه عن المجمع فلا يكون فعل الصلاة في المكان المغصوب امتثالا للواجب المأمور به ؛ إذ لا أمر بالصلاة في هذه الحالة.

الثاني : الإتيان بالملاك ، وحيث إنّ الملاك لا يعرف إلا من قبل إطلاق الدليل أو إطلاق المدلول ، ولكن حيث تقدّم سابقا أنّ الإطلاق في كلا النحوين لا يكفي لاستفادة وجود الملاك ، فلا يكون هناك دليل على ثبوت الملاك.

أمّا إطلاق الدليل فالمفروض سقوطه لوجود المعارض الأقوى ، وأمّا إطلاق المدلول فهو لا يدلّ إلا على إطلاق الحكم ، وإطلاق الحكم لا يبقى مع فرض سقوط إطلاق الدليل ؛ لأنّه يستفاد من الدليل ، والحال أنّ الملاك مدلول التزامي فيسقط تبعا لسقوط المدلول المطابقي.

وإذا انتفى كلا الملاكين للإجزاء احتاج الإجزاء إلى دليل خاصّ وهو منتف في المقام أيضا.

هذا كلّه على الامتناع.

وإذا بني على عدم التعارض فينبغي التفصيل بين أن يكون الواجب توصّليّا أو عباديّا.

فإن كان توصّليّا صحّ وأجزأ سواء وقع التزاحم لعدم المندوحة أو لا ؛ لأنّه مصداق للواجب ، والأمر ثابت به على وجه الترتّب في حالة التزاحم وعلى الإطلاق في حالة عدم التزاحم ووجود المندوحة.

٣٧٤

وأمّا إذا بني على جواز الاجتماع وعدم التعارض بين الدليلين ، فهنا يوجد تفصيل بين الواجب التعبّدي والواجب التوصّلي :

فإن كان الواجب توصّليّا كما إذا أمره بإحدى المعاملات كالبيع أو الشراء ونهاه عن أذيّة الوالدين ، وفرضنا أنّ المعاملة التي أجراها كانت موجبة لأذيّة الوالدين فهنا يحكم بصحّة المعاملة سواء كان هناك مندوحة أم لا ، وسواء وقع التزاحم مع عدم المندوحة أم لا ؛ وذلك لأنّ ما أتى به من المعاملة يكون مصداقا للواجب المأمور به.

فإن كان هناك مندوحة بأن كان بإمكانه إجراء المعاملة في المورد الذي لا يوجب أذيّة الوالدين ، فهنا لا يتحقّق التزاحم أصلا ، فيكون دليل الأمر مطلقا وبإطلاقه يشمل المورد الذي فعله فيكون ما أتى به مصداقا للواجب.

وإن لم يكن هناك مندوحة ، وانحصر فعل الواجب بالفرد الموجب للأذيّة فهنا يقع التزاحم ، والمفروض أنّ دليل النهي أهمّ ملاكا فيكون مطلقا وفعليّا ، بينما دليل الواجب يكون مشروطا بعصيان الأهمّ ، فإذا عصى الأهمّ وأتى بالواجب صحّ أيضا لصيرورته فعليّا عندئذ.

وبتعبير آخر : إنّ الأمر إمّا أن يكون مطلقا وفعليّا ، وهذا فيما إذا كان هناك مندوحة ، وإمّا أن يكون مشروطا على وجه الترتّب فيما إذا لم يكن هناك مندوحة ، ففي الحالة الأولى يكون ما أتى به مصداقا لإطلاق الواجب الفعلي. وفي الحالة الثانية يكون مصداقا للواجب الذي يصبح فعليّا بترك الأهمّ. ففي الحالتين يكون المأتي به مصداقا للواجب فيجزي عنه طبقا للقاعدة.

وإن كان عباديّا صحّ وأجزأ كذلك إذا كان مبنى عدم التعارض هو القول بالجواز بملاك تعدّد المعنون.

وأمّا إذا كان مبناه القول بالجواز بملاك الاكتفاء بتعدّد العنوان مع وحدة المعنون ، فقد يستشكل في الصحّة والإجزاء ؛ لأنّ المفروض حينئذ أنّ الوجود الخارجي واحد وإنّه حرام ، ومع حرمته لا يمكن التقرّب به نحو المولى فتقع العبادة باطلة لأجل عدم تأتّي قصد القربة ، لا لمحذور في إطلاق دليل الأمر.

وأمّا إن كان الواجب عباديّا وقلنا بالجواز وعدم التعارض ، فهل يقع صحيحا أم لا؟ وهنا يفصّل :

٣٧٥

فتارة نبني الجواز وعدم التعارض على أساس تعدّد المعنون ، فهنا إذا أوقع الصلاة في المكان المغصوب وقلنا بأنّ ما هو موجود في الخارج متعدّد ، فلا إشكال في صحّة صلاته وكونها مجزية عن المأمور به ؛ لأنّه يمكنه أن يأتي بالصلاة قاصدا التقرّب بها إلى المولى ، وإن كان من جهة أخرى يعتبر عاصيا لكونه موجودا في المكان المغصوب ، فيكون ما أتى به في الخارج مصداقا للمأمور به غاية الأمر كونه قد انضمّ إليه مصداق آخر وهو الغصب.

وأخرى نبني الجواز وعدم التعارض على أساس كفاية تعدّد العنوان وإن كان المعنون واحدا.

فهنا يشكل صحّة الصلاة ؛ لأنّ الموجود الخارجي لمّا كان شيئا واحدا وفعلا واحدا فقط ، فهو يتّصف بعنوان الحرمة لكونه مصداقا للنهي فيكون مبغوضا للمولى ، فإذا أراد أن يمتثل بهذا الفعل المبغوض للمولى للأمر الصلاتي كان معناه أنّه يريد التقرّب بالفعل المبغوض.

ومن المعلوم أنّ العبادة يشترط فيها قصد القربة بمعنى كون الفعل مطلوبا ومحبوبا للمولى ويمكن التقرّب به إليه ، وفي مقامنا وإن كان فعل الصلاة مطلوبا حتّى لو كان في المكان المغصوب بناء على الجواز ، إلا أنّه ليس محبوبا للمولى ؛ لتعلّق المبغوضيّة فيه لكونه غصبا.

وبتعبير آخر : إنّ الفعل الصلاتي الغصبي فيه المقتضي ؛ وذلك لأنّ إطلاق الواجب يشمله بناء على كفاية تعدّد العنوان ، فهو من هذه الجهة يسمّى صلاتا ويعتبر مصداقا للصلاة ، إلا أنّه يوجد ما يمنع من صحّة هذه الصلاة وهذا المانع هو كون هذا الفعل واحدا في الحقيقة والوجود ، والمفروض أنّ النهي متعلّق به فهو مبغوض في نفسه ، وحينئذ يمتنع التقرّب بالفعل المبغوض للمولى.

فالإشكال هنا ليس من ناحية كونه صلاة ، فإنّ الإطلاق في الأمر يشمله ولكن الإشكال من ناحية قصد القربة ، فإنّه لا يتحقّق في هذه الفرضيّة فلا تقع الصلاة صحيحة ؛ لأنّ قصد القربة شرط فيها والمفروض أنّه غير ممكن فتقع الصلاة باطلة (١).

__________________

(١) وهذا الإشكال قد يجاب عنه بأنّه إذا كان تعدّد العنوان كافيا للجواز فلن يجتمع الأمر والنهي على شيء واحد لا في الذهن ولا في الخارج.

٣٧٦

وفي كلّ حالة حكمنا فيها بعدم صحّة العمل من أجل افتراض التعارض ، فلا يختلف الحال في ذلك بين الجاهل والعالم بها ؛ لأنّ التعارض تابع للتنافي بين الوجوب والحرمة ، وهذا التنافي قائم بين وجوديهما الواقعيّين بقطع النظر عن علم المكلّف وجهله.

وفي كلّ حالة حكمنا فيها بعدم صحّة العمل من أجل كونه عبادة وتعذّر قصد التقرّب به فينبغي أن يخصّص البطلان بصورة تنجّز الحرمة ، وأمّا مع الجهل بها وعدم تنجّزها فالتقرّب بالفعل ممكن فيقع عبادة ، ولا موجب للبطلان حينئذ.

وهنا تنبيه يعقده السيّد الشهيد للتنبيه على أمرين :

أحدهما : أنّنا إذا حكمنا بعدم صحّة العمل بملاك التعارض بين الدليلين فهذا لا يختلف الحال فيه بين العالم والجاهل.

والآخر : أننا إذا حكمنا بعدم صحّة العمل بملاك عدم إمكان التقرّب فهذا يفصّل فيه بين العالم والجاهل.

أمّا الأمر الأوّل : فإذا قيل بالامتناع ووقوع التعارض بين الدليلين ، فهذا يؤدّي إلى بطلان العمل وعدم كونه مصداقا للمأمور به سواء كان المكلّف عالما بالحرمة أم جاهلا بها ، وسواء كان الواجب عباديّا أم توصّليّا.

والدليل على ذلك : هو أنّ التعارض بين الدليلين معناه التنافي بينهما سواء في عالم المبادئ أم في عالم الجعل ، فهناك تناف بينهما لأجل التنافي بين المحبوبيّة والمبغوضيّة ، ولأجل التنافي بين الإيجاب والتحريم أيضا ، وهذا التنافي موجود بلحاظ الواقع ، أي أنّه يوجد تضادّ وتناف واقعي ؛ لأنّه تابع للوجود الواقعي للأمر والنهي أو للإيجاب والتحريم ، ووجودهما الواقعي هو عالم الجعل والتشريع ، بمعنى أنّه يستحيل وجودهما معا في عالم الجعل والتشريع.

__________________

أمّا عدم اجتماعهما في الذهن فلأنّ مفهوم الصلاة شيء مباين لمفهوم الغصب.

وأمّا عدم اجتماعهما في الخارج فلأنّ امتثال الصلاة بالفعل المتّحد إنّما يكون من جهة انطباق عنوان الصلاة عليه ، فهو يقصد التقرّب بالعنوان المنطبق على هذا الفعل لا بالفعل بما هو كذلك. ولذلك لا مانع من أن يتقرّب بما أتى به بعنوان كونه صلاة ، فإنّه بهذا العنوان لم يتعلّق به النهي ولا مبادئه.

٣٧٧

وحينئذ لا يكون لعلم المكلّف أو جهله أي مدخليّة في ثبوت هذا التنافي أو ارتفاعه ، بمعنى أنّه إذا علم بالتنافي فليس علمه هو الذي يحقّق التنافي ، وإذا جهل بالتنافي فجهله لا يرفع هذا التنافي ، فالتنافي موجود في عالمه وواقع وجوده وهو الجعل والتشريع ، وليس مرتبطا بعلم المكلّف أو بجهله.

وهذا نظير اجتماع الضدّين أو النقيضين فإنّهما ممتنعان سواء علم المكلّف باجتماعهما أم جهل به. وعليه ، فيحكم ببطلان عمله سواء كان عباديّا أم توصّليّا ؛ لأنّه ما أتى به ليس مأمورا به ؛ لأنّ الأمر يسقط في حالة التعارض مع النهي لكون النهي أقوى ؛ لأنّ الإطلاق فيه شمولي انحلالي.

وأمّا الأمر الثاني : فإن قيل بعدم صحّة العمل وبطلانه لأجل عدم تحقّق قصد القربة فيه ، فهذا مضافا إلى اختصاصه بالواجبات التعبّديّة وعدم شموله للواجبات التوصّليّة ؛ لأنّه لا يشترط فيها قصد القربة ، فهو أيضا يفصّل فيه بين العالم والجاهل.

والوجه في هذا التفصيل : هو أنّ المانع من صحّة العمل العبادي هو عدم إمكان تأتّي قصد القربة من المكلّف حال علمه بالحرمة ؛ لأنّه مع علمه بالحرمة فسوف يكون الفعل الحرام منجّزا عليه ، ومع تنجّزه تكون حرمته فعليّة ومع كونها فعليّة تكون مبغوضة للمولى ، والفعل المبغوض للمولى لا يمكن التقرّب به إليه.

إلا أنّ هذا كلّه فرع الفعليّة ، والفعليّة متوقّفة على التنجّز والتنجّز موقوف على الوصول والوصول موقوف على العلم ، إذا مع عدم علم المكلّف بالحرمة لا تكون الحرمة واصلة إليه ، ومع عدم وصولها إليه لا تكون منجّزة وبالتالي لا تكون فعليّة بحقّه ، ومع عدم فعليّتها لا يكون الفعل مبغوضا بالفعل ، فيمكنه أن يقصد التقرّب بالفعل الحرام واقعا مع جهله به ؛ لأنّ قصد القربة يمكن أن يتأتّى منه في هذه الحالة ؛ لأنّه لا يقصد التقرّب بالمبغوض إلى المولى ، بل يقصد التقرّب بهذا العمل الذي يعتقد أنّه مباح وليس بمحرّم.

ومن هنا يظهر لنا السرّ في فتوى المشهور من الحكم بصحّة العبادة المأتي بها في المجمع فيما إذا كان جاهلا أو ناسيا للحرمة ، فإنّ التخريج الصحيح لها هو ما تقدّم ذكره.

وبهذا ينتهي البحث عن اجتماع الأمر والنهي.

* * *

٣٧٨

اقتضاء وجوب

الشيء لحرمة ضدّه

٣٧٩
٣٨٠