شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٩

اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه

وقع البحث في أنّ وجوب شيء هل يقتضي حرمة ضدّه أو لا؟

ويراد بالضدّ المنافي على نحو يشمل الضدّ العامّ والضدّ الخاصّ ، ويراد بالاقتضاء استحالة ثبوت وجوب الشيء مع انتفاء حرمة ضدّه ، سواء كانت هذه الاستحالة ناشئة من أنّ أحدهما عين الآخر أو من أنّ أحدهما جزء الآخر ، أو من الملازمة بينهما.

تمهيد : من المسائل الأصوليّة المطروحة للبحث فيما إذا وجب شيء فهل يقتضي ذلك النهي عن ضدّه أو لا؟

وقبل الدخول في بحث المسألة لا بدّ من بيان المراد من الضدّ أوّلا ، ثمّ بيان المراد من الاقتضاء ثانيا.

أمّا الضدّ فالمراد به ما يعمّ النقيضين والضدّين باصطلاح المناطقة ، وليس المراد به خصوص الضدّين فقط.

أمّا النقيضان فأطلق عليهما في الأصول هنا الضدّ العامّ ، فيقال : إنّ وجوب شيء هل يقتضي النهي عن ضدّه العامّ أي نقيضه أو لا؟ والنقيض هنا هو ترك الوجوب.

وأمّا الضدّان فأطلق عليهما هنا عنوان الضدّ الخاصّ ، وهو الفعل الوجودي المضادّ للفعل الواجب ، فيقال : إنّ وجوب الصلاة مثلا هل يقتضي النهي عن الفعل الوجودي المنافي لفعل الصلاة أو لا؟

وأمّا الاقتضاء فمعناه الاستحالة ، بمعنى أنّه يستحيل أن يجتمع وجوب الشيء مع عدم حرمة الضدّ العامّ أو الخاصّ ، فإذا وجب شيء كانت حرمة ضدّه ضروريّة ويستحيل ثبوتها معه.

وهذه الاستحالة لها مناشئ ثلاثة :

٣٨١

الأوّل : أن تكون بملاك العينيّة ، بمعنى أنّ وجوب الشيء يقتضي حرمة الضدّ ؛ لأنّ الوجوب نفسه عين حرمة الضدّ ، فتكون الحرمة ثابتة بمجرّد ثبوت الوجوب وإلا للزم التفكيك بين الشيء ونفسه.

الثاني : أن تكون بملاك التضمّن والجزئيّة ، بحيث يكون وجوب الشيء مركّبا من النهي عن الضدّ ومن طلب الفعل ، فيكون الاقتضاء ثابتا لكونه مدلولا تضمّنيّا بحيث إذا ثبت وجوب الشيء تضمّن ذلك النهي عن الضدّ ؛ لأنّه جزء المدلول.

الثالث : أن يكون بملاك الملازمة والتلازم ، بحيث يكون وجوب الشيء لازمه العقلي النهي عن ضدّه العامّ أو الخاصّ ، فإذا ثبت الوجوب حكم العقل بحرمة الضدّ على أساس الملازمة بينهما.

وسوف نستعرض البحث في مقامين :

الأوّل : في الضدّ العامّ ، وأنّه هل يكون الوجوب مقتضيا للنهي عنه بأحد هذه الملاكات الثلاثة أو لا؟

الثاني : في الضدّ الخاصّ ، وأنّه هل يكون منهيّا عنه كذلك أو لا؟

والمشهور في الضدّ العامّ هو القول بالاقتضاء وإن اختلف وجهه ، فقال البعض (١) إنّه بملاك العينيّة ، وهو غريب ؛ لأنّ الوجوب غير التحريم فكيف يقال بالعينيّة؟

وقد يوجّه ذلك : تارة بأنّ وجوب الشيء عين حرمة الضدّ العامّ في مقام التأثير لا عينه في عالم الحكم والإرادة ، فكما أنّ حرمة الضدّ العامّ تبعّد عنه كذلك وجوب الشيء يبعّد عن ضدّه العامّ بنفس مقرّبيّته نحو الفعل ومحرّكيّته إليه.

وتارة أخرى بأنّ النهي عن الشيء عبارة عن طلب نقيضه ، فالنهي عن الترك عبارة عن طلب نقيضه وهو الفعل ، فصحّ أن يقال : إنّ الأمر بالفعل عين النهي عن الضدّ العامّ.

المقام الأوّل في الضدّ العامّ : المشهور أنّ وجوب الشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ ، فوجوب الصلاة مثلا يقتضي النهي عن ترك الصلاة ؛ لأنّ ترك الصلاة نقيض لفعل الصلاة ، وقد قرّب ذلك على أساس الملاكات الثلاثة للاقتضاء ، وهي :

__________________

(١) نسبه الميرزا الرشتي في بدائع الأفكار : ٣٨٧ ، إلى بعض المحقّقين.

٣٨٢

القول الأوّل : أنّ وجوب الشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ ؛ لأنّه عينه ، فالأمر معناه طلب الفعل بينما النهي معناه طلب الترك ، فإذا ثبت أحدهما ارتفع الآخر لا محالة لاستحالة اجتماع النقيضين معا ، وهذه المقالة للميرزا.

ولمّا كانت هذه المقالة غريبة ، فقد وجّهت بأحد بيانين :

أمّا وجه الغرابة فيها : فهو أنّ الوجوب مغاير للتحريم ؛ وذلك لأنّ مفهوم الوجوب عبارة عن البعث والإرسال ؛ بينما مفهوم النهي عبارة عن الزجر والإمساك ، فكيف يكون أحدهما عين الآخر؟! ولأنّ الوجوب يعبّر عن المصلحة والمحبوبيّة والتحريم يعبّر عن المفسدة والمبغوضيّة فكيف يكون أحدهما عين الآخر؟!

وأمّا توجيه هذه المقالة فهو بأحد بيانين :

البيان الأوّل : أنّ وجوب الشيء عين ضدّه العامّ في مقام التأثير لا عينه في عالم الحكم والإرادة.

أمّا إنّه ليس عينه في عالم الحكم والإرادة فواضح ؛ لأنّ الوجوب كحكم معناه البعث والتحريك بينما النهي معناه الزجر والمنع وهما متغايران مفهوما ومصداقا : أمّا مفهوما فلأنّ الصورة الذهنيّة لكلّ منهما مباينة للأخرى ، وأمّا مصداقا فلأنّ البعث والتحريك يقتضي الفعل ؛ بينما الزجر والمنع يقتضي الترك. وهكذا بالنسبة لعالم الإرادة فإنّ المولى إمّا أن يريد البعث أو يريد الزجر ، وإمّا أن يحبّ الفعل أو يحبّ الترك.

ولكنّ المدّعى أنّه عينه في مقام التأثير ؛ وذلك لأنّ وجوب الشيء يقرّب المكلّف نحو الفعل ويبعّده عن الترك ، والنهي يقرّب المكلّف نحو الترك ويبعّده عن الفعل ، فإذا وجبت الصلاة كان هذا معناه أنّ الوجوب يقرّب المكلّف نحو الفعل ويبعّده عن الترك ، وحيث إنّ وجوب الشيء عين النهي عن ضدّه العامّ فسوف يكون النهي متعلّقا بترك الصلاة ، فيكون النهي مقرّبا نحو ترك ترك الصلاة ؛ لأنّ النهي يقرّب نحو ترك متعلّقه ويكون مبعّدا عن فعل ترك الصلاة ؛ لأنّ النهي يبعّد عن فعل متعلّقه.

وحينئذ تكون النتيجة : أنّ الوجوب يقرّب نحو فعل الصلاة وهو عين ما يقرّب إليه النهي المتعلّق بضدّها العام ؛ لأنّه يقرّب إلى ترك ترك الصلاة ، ومن المعلوم أنّ ترك الترك عبارة أخرى عن الفعل ، فيكون مقرّبا إلى فعل الصلاة فيتّحدان.

٣٨٣

وهكذا بلحاظ المبعّديّة فإنّ الوجوب يبعّد عن ترك الصلاة ، والنهي يبعّد عن فعل ترك الصلاة ، وفعل الترك ليس إلا الترك فيكون النهي مبعّدا عن الترك كالوجوب فيتّحدان.

وبهذا ظهر أنّ التأثير فيهما واحد فيتّحدان بهذا اللحاظ.

البيان الثاني : أنّ وجوب الشيء عين ضدّه العامّ بلحاظ عالم المفهوم ؛ وذلك لأنّ النهي عن الشيء معناه طلب نقيضه ، فإذا قيل ( لا تشرب الخمر ) معناه أنّه يريد نقيض الشرب أي ( أريد عدم شرب الخمر ) ، فيكون النهي مركّبا من المنع والزجر عن الفعل مع طلب الترك.

وعليه ، فإذا تعلّق النهي بترك شيء كما إذا قيل : ( لا تترك الصلاة ) ، فحيث إنّ النهي عن شيء معناه طلب نقيضه فيكون معنى ( لا تترك الصلاة ) بقوّة ( أريد عدم ترك الصلاة ) ، وإرادة عدم الترك معناها إرادة الفعل فيكون المعنى ( أريد فعل الصلاة ).

والنتيجة هي : أنّ النهي المتعلّق بترك شيء عبارة أخرى عن إرادة فعله. وإرادة الفعل هي نفس الأمر بالفعل ؛ لأنّ إرادة فعل الصلاة هي نفس الأمر بفعل الصلاة ، وهذا معناه اتّحاد الأمر والنهي عن الترك في المعنى والمفهوم.

ويرد على التوجيه الأوّل أنّه لا يفي بإثبات حرمة الضدّ حقيقة.

وعلى التوجيه الثاني بأنّه يرجع إلى مجرّد التسمية ، هذا مضافا إلى أنّ النهي عن شيء معناه الزجر عنه لا طلب نقيضه.

والجواب : عن هذه المقالة أن يقال : إنّ العينيّة بين وجوب شيء والنهي عن ضدّه العامّ باطلة في نفسها كما تقدّم ، وما ذكر من التوجيه بتقريبيه غير تامّ أيضا.

أمّا التوجيه الأوّل ، فكان حاصله الاتّحاد في مقام التأثير ، وفيه أنّ الاتّحاد المذكور ليس حقيقيّا ؛ لأنّه لو كان حقيقيّا فكان اللازم تعدّد العقوبة على المخالفة ، إحداهما على مخالفة الوجوب ، والأخرى على مخالفة النهي ، وهذا اللازم واضح الفساد بداهة.

وما دام الاتّحاد ليس حقيقيّا فلا يفيد ذلك في إثبات حرمة الضدّ العامّ بما تعبّر عنه من مبادئ وملاكات ، ومجرّد ثبوت عنوان الحرمة خاليا عن المبادئ ليس إلا مجرّد صياغة لفظيّة لا أكثر ما دامت خالية عن المضمون والمحتوى.

٣٨٤

والنتيجة : أنّ هذا التوجيه وإن كان يثبت حرمة الضدّ العامّ ولكن من دون أن تكون حرمته معبّرة عن شيء من معنى الحكم وحقيقته وروحه. وهذا لا يفيد في المقام ؛ لأنّنا نبحث عن الحرمة الحقيقيّة ذات المبادئ والملاك.

وأمّا التوجيه الثاني ، فكان حاصله اتّحاد معنى النهي عن الترك والأمر بالفعل ، وفيه إيرادان :

الأوّل : أنّ هذه النتيجة ليست إلا تسمية لفظيّة لا أكثر. كما تقدّم بيانه في الإيراد على التوجيه الأوّل.

الثاني : أنّ المبنى الذي اعتمد عليه هذا التوجيه فاسد في نفسه ؛ وذلك لأنّه فرض أنّ النهي عبارة عن ( طلب النقيض ) وهذا باطل ؛ لأنّ النهي عبارة عن ( الزجر والمنع ) أو النسبة الإمساكيّة والزجريّة. مضافا إلى أنّ طلب النقيض الذي هو إرادة الفعل كما تتناسب مع الوجوب تتناسب مع الاستحباب أيضا ؛ لأنّ إرادة الفعل فيهما على نحو واحد ولكن تارة تكون الإرادة لزوميّة وأخرى لا تكون لزوميّة. ممّا يعني أنّ المدّعى أخصّ من البرهان.

وبهذا ينتهي الكلام عن القول الأوّل مع مناقشته.

وقال البعض (١) : إنّه بملاك الجزئيّة والتضمّن ؛ لأنّ الوجوب مركّب من طلب الفعل والمنع عن الترك.

وقد تقدّم في بحث دلالة الأمر على الوجوب إبطال دعوى التركّب في الوجوب على هذا النحو.

القول الثاني : وهو دعوى أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العام بملاك الجزئيّة والتضمّن.

وبيان ذلك : هو أنّ الوجوب مركّب من شيئين : أحدهما طلب الفعل والآخر المنع عن الترك. فكان المنع عن الترك والذي هو حرمة الضدّ العامّ مدلولا تضمّنيّا للأمر والوجوب. أي أنّه مأخوذ فيه.

والدليل على ذلك : هو أنّ طلب الفعل كما يكون في الوجوب يكون في الاستحباب أيضا فهو جنس لهما ، ولذلك يحتاج كلّ منهما إلى فصل يميّزه عن

__________________

(١) منهم صاحب المعالم في المعالم : ٦٣ ـ ٦٤.

٣٨٥

الآخر ، وهذا الفصل هو النهي أو المنع عن الترك وعدمه ، فإنّ هذا يميّز الوجوب عن الاستحباب ؛ لأنّ الوجوب فيه حيثيّة الإلزام فيكون طلبا للفعل مع النهي عن تركه بينما الاستحباب ليس فيه حيثيّة الإلزام ؛ لأنّه يجوز تركه فكان طلبا للفعل مع عدم النهي عن الترك.

وفيه : أنّه تقدّم سابقا في بحث دلالة الأمر على الوجوب عدم تماميّة هذا لنحو من التركيب ؛ وذلك لأنّ هذه الخصوصيّة المميّزة للوجوب وهي ( المنع عن الترك ) هي نفسها الجنس للتحريم ، فيكون الوجوب حينئذ مركّبا من جنسين وهذا مستحيل في نفسه.

والصحيح هو : أنّ الوجوب مركّب من ( طلب الفعل ) الذي هو الجنس ، ومن عدم الترخيص في الترك ، بينما الاستحباب مركّب من ( طلب الفعل ) الذي هو الجنس ، ومن الترخيص في الترك.

وقال البعض : إنّه بملاك الملازمة ؛ وذلك لأنّ المولى بعد أمره بالفعل يستحيل أن يرخّص في الترك ، وعدم الترخيص يساوق التحريم.

والجواب : أنّ عدم الترخيص في الترك يساوق ثبوت حكم إلزامي ، وهو كما يلائم تحريم الترك ، كذلك يلائم إيجاب الفعل ، فلا موجب لاستكشاف التحريم.

القول الثالث : دعوى أنّ الأمر بشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ بملاك الملازمة والتلازم بينهما.

والوجه في ذلك : هو أنّ المولى إذا أمر بفعل فيستحيل أن يرخّص في تركه ؛ لأنّه إذا أمر بالصلاة مثلا ثمّ رخّص في تركها فيلزم منه اجتماع الضدّين : هما الوجوب والترخيص ، وهما متنافيان في عالم المبادئ والملاكات كما هما متنافيان في عالم الامتثال والمتطلّبات.

وعليه ، فإذا استحال الترخيص في الترك فلازم ذلك تحريم الترك ، وهو المطلوب.

وبهذا يكون تحريم الترك أو المنع عن الترك لازم عقلي للأمر بالشيء ، ممّا يعني أنّ وجوب الشيء يستلزم تحريم تركه أو المنع من الترك أي المنع عن الضدّ العامّ.

وجوابه : أنّنا نسلّم بأنّ المولى إذا أمر بشيء فيستحيل أن يرخّص فيه ، إلا أنّنا لا

٣٨٦

نسلّم أنّ عدم الترخيص مساوق للتحريم ، بل هو أعمّ منه ؛ وذلك لأنّ عدم الترخيص كما يتناسب مع التحريم ؛ لأنّ التحريم يعني عدم الترخيص ، كذلك يتناسب مع الوجوب فإنّ الوجوب معناه عدم الترخيص أيضا.

وحينئذ يكون ترجيح أحدهما على الآخر من دون مرجّح. أو استظهار التحريم دون الوجوب يحتاج إلى دليل خاصّ. وهنا الدليل المتقدّم يثبت أنّ الوجوب مركّب من أمرين : أحدهما طلب الفعل ، والآخر عدم الترخيص في الترك وعدم الترخيص يكفي فيه ألاّ يرد الترخيص ولا يشترط فيه أن يرد ما يدلّ على حرمة الترخيص. ممّا يعني أنّ هذه الملازمة ليست ثابتة أو أنّها ليست جارية على الدوام ، وهذا يخرجها عن كونها ملازمة ؛ لأنّ التلازم العقلي معناه ثبوت أحد المتلازمين عند ثبوت الملازم الآخر حتما.

وبهذا ظهر أنّ هذا الملاك ليس تامّا أيضا. ومنه يتّضح أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه العامّ لا بنحو العينيّة ولا بنحو التضمّن ولا بنحو التلازم. وبه ينتهي الكلام عن المقام الأوّل.

وأمّا الضدّ الخاصّ : فقد يقال باقتضاء وجوب الشيء لحرمته بأحد دليلين :

الدليل الأوّل : وهو مكوّن من مقدّمات :

الأولى : أنّ الضدّ العامّ للواجب حرام.

الثانية : أنّ الضدّ الخاصّ ملازم للضدّ العامّ.

الثالثة : أنّ كلّ ما هو ملازم للحرام فهو حرام.

ويبطل هذا الدليل بإنكار مقدّمته الأولى كما تقدّم ، وبإنكار المقدّمة الثالثة إذ لا دليل عليها.

المقام الثاني : في الضدّ الخاصّ

قد يقال : إنّ وجوب الشيء يقتضي حرمة ضدّه الخاصّ ، فمثلا إذا وجبت الصلاة حرم ضدّها الخاصّ أي كلّ فعل مناف للصلاة كالإزالة مع ضيق وقت الصلاة بحيث لا يتّسع إلا لأحدهما.

واستدلّ على ذلك بدليلين :

الدليل الأوّل : ويسمّى بمسلك التلازم أو الاستلزام ، وبيانه ضمن المقدّمات التالية :

٣٨٧

المقدّمة الأولى : أن يبنى على حرمة الضدّ العامّ أي النقيض ، فإذا كانت الصلاة واجبة حرم نقيضها أي تركها.

المقدّمة الثانية : أنّ الضدّ الخاصّ ملازم للضدّ العامّ في الوجود ، بمعنى أنّه متى ما وجد الضدّ الخاصّ استلزم من ذلك تحقّق الضدّ العامّ أي النقيض ، ففي مثال وجوب الصلاة إذا اشتغل بالإزالة أي الضدّ الخاصّ كان هذا مستلزما لتحقّق الضدّ العام أيضا ؛ لأنّه بفعله الإزالة قد ترك الصلاة أيضا.

المقدّمة الثالثة : أنّ كلّ ما هو ملازم للحرام فهو حرام. وهنا الضدّ الخاصّ لمّا كان ملازما للضدّ العامّ فهو ملازم لفعل الحرام وهو ترك الصلاة ، وكلّ ما هو ملازم للحرام فهو حرام ؛ وذلك لأنّ الحرمة تسري من أحد المتلازمين إلى الآخر ؛ لأنّه لا بدّ أن يكونا متسانخين في الحكم.

والنتيجة على ضوء ذلك : هي أنّ الصلاة إذا كانت واجبة فقد حرم نقيضها أي الضدّ العامّ وهو ترك الصلاة ، ولمّا كانت الإزالة ملازمة لترك الصلاة ، والمفروض أنّ الحرمة تسري من أحد المتلازمين إلى الآخر ، فتكون الإزالة محرّمة لكونها ملازمة لما هو حرام وهو ترك الصلاة.

ويرد عليه : أوّلا : ما تقدّم من إنكار حرمة الضدّ العامّ ، فإنّه إذا لم يكن ترك الصلاة حراما فالإزالة التي هي ملازمة له لا تكون حراما أيضا ؛ لأنّ المتلازمين متسانخان في الحكم.

وثانيا : إنكار المقدّمة الثالثة ، فإنّه لا دليل على أنّ ملازم الحرام حرام وإنّما الدليل قائم على أنّ ملازم الحرام لا يمكن أن يتّصف بحكم مخالف للحرمة.

فهنا مطلبان :

أمّا المطلب الأوّل : وهو أنّ ملازم الحرام لا يمكن أن يتّصف بحكم مخالف للحرام ، فهذا واضح بداهة أنّ المتلازمين في الوجود لا يمكن للمولى أن يجعل أحدهما حراما ، بينما يجعل الآخر واجبا أو مكروها أو مستحبا أو مباحا ؛ لأنّه يعني طلب الجمع بين الحكمين المتضادّين وهو مستحيل جعله فضلا عن امتثاله.

فإذا كانت الإزالة واجبة وفرضنا أنّ ترك الصلاة ملازم لها فيستحيل أن يتّصف ترك الصلاة بحكم مخالف للوجوب ؛ لأنّ ترك الصلاة إذا كان حراما أو مستحبّا أو

٣٨٨

مكروها أو مباحا ، فهذا معناه أنّه إمّا يجب فعل الصلاة على المكلّف أو يستحب أو يكره أو يباح وكلّها لا يمكن أن تجتمع مع وجوب الإزالة ؛ لأنّ المفروض ضيق القدرة عنها ، فالمولى إذا شرّعهما معا فهذا معناه إلقاء المكلّف في العجز وعدم القدرة ، وهو تكليف مستحيل.

وأمّا المطلب الثاني : وهو أنّ ملازم الحرام لا بدّ أن يكون حراما ، فهذا لا دليل عليه ، بل يكفي فيه ألاّ يكون فيه حكم آخر مخالف ، أي يكفي ألاّ يكون واجبا ولا مستحبّا ولا مكروها ولا مباحا ، فهو خال عن الحكم تماما ، فإنّ خلوّه عن الحكم أمر ممكن في نفسه ومعقول ثبوته شرعا بأن لا يكون غرض المولى إلا في ملازمه لا في نفسه (١).

الدليل الثاني : وهو مكوّن من مقدّمات أيضا :

الأولى : أنّ ترك أحد الضدّين مقدّمة لضدّه.

الثانية : أنّ مقدّمة الواجب واجبة ، وعليه فترك الضدّ الخاصّ للواجب واجب.

الثالثة : إذا وجب ترك الضدّ الخاصّ حرم نقيضه وهو إيقاع الضدّ الخاصّ ، وبذلك يثبت المطلوب.

الدليل الثاني : وهو ما يسمّى بمسلك المقدّميّة ، وبيانه ضمن المقدّمات التالية :

المقدّمة الأولى : أنّ ترك أحد الضدّين مقدّمة لحصول أو لفعل الضدّ الآخر. فإنّه إذا وجبت الإزالة فحصولها ووجودها يتوقّف على ترك ضدّها أي على ترك الصلاة ؛

__________________

(١) ويمكن أيضا المناقشة في المقدّمة الثانية فإنّ الضدّ الخاصّ ليس ملازما للضدّ العامّ ، فإنّ فعل الصلاة ليس ملازما لترك الإزالة الذي هو الضدّ العامّ لوجوب الإزالة ؛ لأنّ ترك الإزالة كما يتحقّق بفعل الصلاة فهو أيضا يتحقّق بغيرها ممّا يعني أنّ فعل الصلاة أمر مقارن لترك الإزالة.

والوجه في ذلك : هو أنّ الملازمة تنشأ بين ذات أحد الضدّين وذات عدم ضدّه ، فالملازمة تكون بين ذات الإزالة وبين ذات عدم الإزالة لا بين فرد خاصّ من عدم الإزالة. فإنّ لعدم الإزالة أفرادا منها الصلاة أو الأكل أو اللعب أو السفر ، وهكذا.

وعليه ، فالملازمة كانت قبل فعل الصلاة وفعل الصلاة كان بعد الملازمة ، أي هو من شئون وتبعات الملازمة ومتفرّع عن الملازمة ؛ لأنّ ذات عدم الإزالة لا يتحقّق إلا بفعل مضادّ للصلاة ، ولكنّه ليس هو نفس هذا الفعل المضادّ.

٣٨٩

لأنّه إذا فعل الصلاة فلا تتحقّق الإزالة ، فيكون ترك الصلاة مقدّمة لحصول الإزالة.

المقدّمة الثانية : أنّ مقدّمة الواجب واجبة كما تقدّم ذلك في بحث الوجوب الغيري ـ بناء على القول بالملازمة بينهما شرعا ـ وعليه يكون ترك الصلاة واجبا ؛ لأنّه مقدّمة لحصول الإزالة الواجبة.

المقدّمة الثالثة : إذا وجب ترك الضدّ الخاصّ حرم نقيضه ـ بناء على أنّ وجوب الشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ ـ وعليه ، فلمّا كان ترك الصلاة واجبا فيحرم نقيضه ونقيض ترك الصلاة هو فعل الصلاة ، فيكون فعل الصلاة حراما وهو المطلوب.

هذا ويمكن صياغة الدليل المذكور بنحو آخر ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

وقد نستغني عن المقدّمة الثالثة ونكتفي بإثبات وجوب ترك الضدّ الخاصّ ؛ لأنّ هذا يحقّق الثمرة المطلوبة من القول بالاقتضاء وهي عدم إمكان الأمر بالضدّ الخاصّ ولو على وجه الترتّب. ومن الواضح أنّه كما لا يمكن الأمر به مع حرمته كذلك مع الأمر بنقيضه ؛ لاستحالة ثبوت الأمر بالنقيضين معا.

الصياغة الثانية للدليل : أن يكتفى بالمقدّمتين الأولى والثانية ، مع الاستغناء عن المقدّمة الثالثة ، فيقال : إنّ ترك أحد الضدّين مقدّمة لحصول الضدّ الآخر ، ويبنى على أنّ مقدّمة الواجب واجبة ، فتكون النتيجة هي أنّ الإزالة إذا كانت واجبة فترك الصلاة مقدّمة لحصولها ؛ لأنّه لو لم يتركها واشتغل بها لم يتحقّق منه فعل الإزالة ، وحيث إنّ المقدّمة تتّصف بالوجوب فيكون ترك الصلاة واجبا.

وإثبات وجوب ترك الصلاة التي هي الضدّ الخاصّ للإزالة يكفي لإثبات نتيجة الاقتضاء ؛ لأنّ الصلاة لمّا كان تركها واجبا فيستحيل أن يؤمر بها لا مطلقا ولا على وجه الترتّب.

أمّا أنّه لا يمكن أن يؤمر بالصلاة مطلقا فللزوم اجتماع النقيضين ؛ إذ يكون ترك الصلاة واجبا وفعل الصلاة واجبا أيضا.

وأمّا أنّه لا يمكن أن يؤمر بالصلاة مشروطا فلأنّ الشرط هو عصيان الأمر الأهمّ فتكون الصلاة مأمورا بها في حال عصيان ترك الصلاة ؛ أي في حال فعلها المحرّم ممّا يعني أنّها مأمور بها في حال حرمتها ، وهذا مستحيل أيضا ؛ للزوم التهافت والتناقض أيضا.

كما أنّ المقدّمة الثانية لا نريد بها إثبات الوجوب الغيري للمقدّمة في كلّ

٣٩٠

مراحل الحكم بما فيها عالم الجعل ، بل يكفي ثبوته بلحاظ عالم المبادئ. وعليه فهذه المقدّمة ثابتة.

والمهمّ إذا تحقيق حال المقدّمة الأولى ، وقد برهن عليها بأنّ أحد الضدّين مانع عن وجود ضدّه ، وعدم المانع أحد أجزاء العلّة ، فتثبت مقدّميّة عدم أحد الضدّين بهذا البيان.

إثبات المقدّمتين الأولى والثانية : أمّا المقدّمة الثانية : وهي إثبات أنّ مقدّمة الواجب واجبة.

فتارة يراد بها إثبات الوجوب الغيري للمقدّمة ، بمعنى أنّه في عالم الجعل والإيجاب يكون هناك وجوب شرعي مجعول على المقدّمة للملازمة بين المقدّمة وذيها.

وأخرى يراد بها إثبات الوجوب الغيري بلحاظ المبادئ ، أي أنّ حبّ ذي المقدّمة لازمه حبّ المقدّمة ، أو إرادة ذي المقدّمة يستلزم إرادة المقدّمة.

والنحو الأوّل قد تقدّم في بحث الوجوب الغيري عدم تماميّته ، ولكن النحو الثاني سلّمنا به على أساس دعوى وجدانيّة ، وهذا المقدار يكفي هنا بحيث يكون هناك إرادة متعلّقة بالمقدّمة.

فهذه المقدّمة ثابتة ولا نقاش فيها.

وأمّا المقدّمة الأولى : وهي إثبات مقدّميّة ترك أحد الضدّين للضدّ الآخر ، فقد يقال في مقام الاستدلال عليها بأنّ وجود أحد الضدّين مانع عن وجود الضدّ الآخر ؛ لاستحالة وجود الضدّين معا ، فإذا وجد أحدهما كان الآخر مرتفعا لا محالة. وهذا معناه أنّ وجود أحد الضدّين مانع عن وجود الضدّ الآخر ؛ لأنّه لو لم يكن مانعا عن وجوده لزم اجتماع الضدّين معا وهو مستحيل.

وعليه ، فحيث إنّ عدم المانع من أجزاء العلّة ، فلكي يتحقّق وجود الضدّ لا بدّ من توفّر أمرين : أحدهما وجود المقتضي له ، والآخر عدم المانع ، ولمّا كان المانع هو وجود ضدّه فيكون عدم الضدّ من أجزاء العلّة ؛ لأنّه يحقّق عدم المانع.

وحينئذ يثبت أنّ عدم الضدّ ـ بوصفه من أجزاء العلّة ـ يكون مقدّمة لحصول ووجود الضدّ الآخر ؛ لأنّ المقدّميّة معناها العلّة التامّة أو الجزء الأخير من العلّة التامّة ، فيثبت المطلوب.

٣٩١

هذا هو عمدة البرهان على إثبات مقدّميّة عدم الضدّ ؛ لحصول الضدّ الآخر.

ونجيب على هذا البرهان بجوابين :

الجواب الأوّل : يتكفّل حلّ الشبهة التي صيغ بها البرهان.

وبيانه : أنّ العلّة مركّبة من المقتضي والشرط وعدم المانع. فالمقتضي هو السبب الذي يترشّح منه الأثر. والشرط دخيل في ترشّح الأثر في مقتضيه. والمانع هو الذي يمنع المقتضي من التأثير.

ومن هنا يتوقّف وجود الأثر على المقتضي والشرط وعدم المانع.

وينشأ عدم الأثر من عدم المقتضي أو عدم الشرط أو وجود المانع ، ولكنّه لا ينشأ من وجود المانع إلا في حالة وجود المقتضي ؛ لأنّ تأثير المانع إنّما هو بمنعه للمقتضي عن التأثير ، ومع عدم وجود المقتضي لا معنى لهذا المنع ، وهذا يعني أنّ المانع إنّما يكون مانعا إذا أمكن أن يعاصر المقتضي لكي يمنعه عن التأثير ، وأمّا إذا استحال أن يعاصره استحالت مانعيّته له ، وبالتالي لا يكون عدمه من أجزاء العلّة.

الجواب الأوّل عن برهان إثبات المقدّميّة : وهذا الجواب يراد به دفع الشبهة التي على أساسها صيغ البرهان على إثبات المقدّميّة ، فإنّه كان يبتني على أنّ أحد الضدّين بوجوده مانع عن الضدّ الآخر ، فإنّ هذه المانعيّة غير صحيحة إذا توضّح ما يلي :

أوّلا : أنّ العلّة مركّبة من المقتضي والشرط وعدم المانع.

والمراد من المقتضي : هو السبب الذي يترشّح منه الأثر أي المسبّب.

والمراد من الشرط : هو ما يكون دخيلا في ترتّب أو ترشّح الأثر على المقتضي أي المسبّب على السبب.

والمراد من المانع : الذي يكون عدمه شرطا في العلّة ، هو ما يمنع من تأثير المقتضي في ترتّب السبب.

ومن هنا يقال بأنّ ترتّب الأثر أو المعلول أو السبب يتوقّف على وجود المقتضي ووجود الشرط وانتفاء المانع ، فمثلا إذا أردنا إحراق ورقة فلا بدّ أوّلا من وجود المقتضي وهو السبب الذي يولّد الإحراق كالنار مثلا.

ثانيا : لا بدّ من وجود الشرط للإحراق كأن توضع الورقة في النار ؛ لأنّها ما دامت

٣٩٢

بعيدة عنها فلن تحترق ، فالمماسّة أو الاتّصال بين النار والورقة شرط لحصول الأثر أي الإحراق.

ثالثا : لا بدّ من انتفاء المانع عن الاحتراق ، فإذا كانت الورقة رطبة مثلا رطوبة كثيفة جدّا ، أو وضع عليها مائع معيّن كثيف فسوف لن تحترق رغم وجود النار ، ورغم المماسّة بين الورقة والنار ، وهذا معناه أنّ عدم المانع من أجزاء العلّة ، فإذا انتفت الموانع فسوف يتحقّق الاحتراق ونحصل على الأثر المطلوب.

وبهذا يتّضح أنّ انتفاء الأثر أو عدم ترتّب المسبّب له أحد أسباب ثلاثة :

الأوّل : عدم وجود المقتضي ، فإنّه إذا لم يكن لدينا ما يسبّب الإحراق كالنار ونحوها لم يتحقّق المسبّب أو الأثر المطلوب.

الثاني : عدم وجود الشرط ، فإنّه إذا لم يحصل الاتّصال والمماسّة بين النار والورقة فلن يحصل الاحتراق الذي هو المسبّب والأثر.

الثالث : وجود المانع ، فإنّه إذا كان المانع موجودا كالسائل اللزج الكثيف على الورقة المانع من احتراقها فلن يتحقّق الأثر والمسبب.

ونحن إذا لاحظنا وجود المانع نجد أنّه يمنع من حصول المسبّب والأثر بعد فرض وجود المقتضي والشرط ؛ لأنّ المانع هو الذي يمنع المقتضي من التأثير ، وهذا يفترض مسبقا وجود المقتضي لكي يمنعه.

وأمّا إذا افترضنا أنّ المقتضي غير موجود من أوّل الأمر ، فهذا المانع لا يسمّى مانعا ولا يكون عدمه من أجزاء العلّة ؛ لأنّه سواء كان المانع موجودا أم منتفيا فالأثر أو المسبّب لن يتحقّق ؛ لأنّ المقتضي له غير موجود لا لأنّ المانع موجود.

إذا ففرض مانعيّة المانع هي فرض وجود المقتضي ممّا يعني أنّ المقتضي والمانع لا بدّ من تعاصرهما في الوجود ، فإذا كانا متعاصرين وجودا كان المانع مانعا عن تأثير المقتضي وكان عدمه من أجزاء العلّة.

وأمّا إذا لم يكونا متعاصرين بأن كان وجود المقتضي لا يجتمع مع المانع فلن تحصل المانعيّة ، والنتيجة ستكون عدم مانعيّة هذا المانع وعدم كونه من أجزاء العلّة.

وعلى هذا الأساس إذا لاحظنا الصلاة بوصفها ضدّا لإزالة النجاسة عن المسجد نجد أنّ المقتضي لها هو إرادة المكلّف ، ويستحيل أن تجتمع الإزالة مع إرادة

٣٩٣

المكلّف للصلاة. وهذا معناه أنّ مانعيّة الإزالة عن الصلاة مستحيلة ، فلا يمكن أن يكون عدمها أحد أجزاء العلّة.

وإن شئت قلت : إنّه مع وجود الإرادة للصلاة لا حالة منتظرة ، ومع عدمها لا مقتضي للصلاة ليفرض كون الإزالة مانعة عن تأثيره.

وممّا ذكرنا يظهر لنا أنّ عدم الضدّ ليس مقدّمة للضدّ الآخر.

فمثلا إذا أخذنا الصلاة والإزالة فنقول إنّهما ضدّان وجوديّان ، ولكن عدم الإزالة لا يمكن فرضه مانعا ؛ وذلك لأنّ فرض المانع هو فرض وجود المقتضي أيضا لاشتراط التعاصر بينهما ، والمقتضي للصلاة هو إرادة المكلّف للصلاة فإنّه إذا لم يرد الصلاة فلا مقتضي لوجودها أصلا.

وعليه ، فإذا أراد المكلّف الصلاة استحال أن يكون المانع وهو الإزالة موجودا ؛ لأنّ الضدّين لا يمكن اجتماعهما معا ، وهو هنا يريد الصلاة فالإزالة منتفية لا محالة ، ومع انتفاء الإزالة لا يمكن أن يفرض عدمها من أجزاء العلّة ؛ لأنّ المانع لا يجتمع مع المقتضي أي الإزالة لا تجتمع مع إرادة الصلاة.

نعم ، المانع لإرادة المكلّف الصلاة هو عدم إرادته لها أي عدم وجود المقتضي لها أو وجود المقتضي للضدّ الآخر ، أي إرادة الإزالة فإنّ إرادة الإزالة تمنع من وجود الصلاة ، وهذا معناه أنّ المانع للصلاة ليس هو الإزالة ، بل هو إمّا عدم إرادتها وإمّا إرادة الإزالة.

وبتعبير آخر : أنّ المكلّف إمّا أن يريد الصلاة أو لا يريدها ، فإن أراد الصلاة فليس هناك شيء آخر إلا وجود الصلاة. وإذا لم يرد الصلاة فلا يكون المقتضي لها موجودا فهي منتفية لانتفاء المقتضي ، ولا مدخليّة للإزالة في ذلك ليقال بأنّ وجودها مانع فعدمها من أجزاء العلّة.

وبهذا ظهر أنّ وجه الشبهة هي صياغة كون أحد الضدّين مانعا بوجوده عن وجود الضدّ الآخر ، مع أنّنا أثبتنا بهذا البيان والبرهان العقلي أنّ أحد الضدّين لا يمكن فرضه مانعا ، وإنّما المانع هو إمّا عدم إرادة الضدّ أو إرادة الضدّ الآخر لا نفس الضدّ الآخر.

فإن قيل : كيف تنكرون أنّ الإزالة مانعة مع أنّها لو لم تكن مانعة لاجتمعت مع الصلاة ، والمفروض عدم إمكان ذلك؟

٣٩٤

كان الجواب : أنّ المانعيّة التي تجعل المانع علّة لعدم الأثر ، وتجعل عدم المانع أحد أجزاء العلّة للأثر إنّما هي مانعيّة الشيء عن تأثير المقتضي في توليد الأثر.

وقد عرفت أنّ هذه المانعيّة إنّما تثبت لشيء بالإمكان معاصرته للمقتضي ، وأمّا المانعيّة بمعنى مجرّد التمانع وعدم إمكان الاجتماع في الوجود ـ كما في الضدّين ـ فلا دخل لها في التأثير ، إذ متى ما تمّ المقتضي لأحد المتمانعين بهذا المعنى مع الشرط ، وانتفى المانع عن تأثير المقتضي أثّر أثره لا محالة في وجود أحد المتمانعين ونفي الآخر.

ونتيجة ذلك : أنّ وجود أحد الضدّين مع عدم ضدّه في رتبة واحدة ، ولا مقدّميّة بينهما.

الفرق بين المانعيّة والتمانع :

وهذا الفارق يتّضح من خلال إشكال وجوابه :

أمّا الإشكال فحاصله : أنّ الجواب المتقدّم من السيّد الشهيد على برهان المقدّميّة ، يثبت فيه إنكار كون أحد الضدّين مانعا من وجود الضدّ الآخر ليكون عدمه من أجزاء العلّة.

وعليه ، فلو فرض أنّ عدم الضدّ ليس من أجزاء العلّة ولا يعتبر وجوده مانعا فيلزم من ذلك إمكان اجتماع الضدّين معا ، وهو مستحيل.

فمثلا لو قلنا بأنّ الإزالة ليست بوجودها مانعة من وجود الصلاة فاللازم إمكان اجتماعهما ، والحال أنّ اجتماع الضدّين غير ممكن في نفسه. فلما كان اجتماعهما مستحيلا دلّ ذلك على أنّ الإزالة لا بدّ أن تكون معدومة حين الصلاة ، وهذا معناه أنّ عدم الإزالة ممّا يتوقّف عليه وجود الصلاة فهو مقدّمة له أو جزء العلّة له.

وأمّا الجواب : فإنّ المانعيّة على نحوين :

أحدهما : المانعيّة بمعنى أنّ المانع عدمه من أجزاء العلّة ، بحيث يكون دخيلا في ترتيب الأثر للمقتضي. وهذا يشترط فيه أن يكون المانع معاصرا للمقتضي في الوجود ؛ لأنّه لو لم يكن معاصرا له في الوجود لم يتّصف بأنّ عدمه مانع من التأثير ، إذ سوف يكون عدم التأثير في هذه الحالة نتيجة عدم وجود المقتضي أو عدم وجود الشرط. وهذا ما بيّناه في جوابنا السابق.

٣٩٥

والآخر : المانعيّة بمعنى التمانع والتضادّ في الوجود ، وهذا التمانع ليس دخيلا عدمه في العلّيّة ؛ وذلك لأنّ التمانع بين الضدّين إنّما هو لأجل عدم إمكان الاجتماع في الوجود.

ففي مثال الإزالة والصلاة يوجد بينهما تمانع في الوجود بحيث لا يمكن اجتماعهما. ولكن إذا فرضنا وجود المقتضي لأحدهما كما إذا أراد المكلّف الصلاة ، فإنّ هذا المقتضي مع توفّر الشرط يكون هو المانع من وجود الضدّ الآخر أي الإزالة ، لا أنّ نفس الصلاة هي التي تمنع من وجود الإزالة بحيث تكون دخيلة في عدم تأثير المقتضي للإزالة مع وجوده ؛ لأنّه مع وجود المقتضي للإزالة تكون الصلاة منتفية بسبب عدم وجود المقتضي لها كذلك.

وبهذا نعرف أنّ المانع لوجود الضدّ إنّما هو وجود المقتضي لضدّه ، فانتفاء المقتضي للضدّ يعتبر من أجزاء العلّة ؛ لوجود الضدّ الآخر.

وهذا معناه أنّ الضدّين في رتبة واحدة بحيث لا طوليّة ولا تقدّم ولا تأخّر ولا توقّف لأحدهما على الآخر. وإنّما هما في رتبة واحدة عرضيّة ، وما يكون مقدّمة وفي طول الآخر إنّما هو المقتضي فإنّه مقدّمة لوجود الضدّ ، وعدمه من أجزاء العلّة لوجود الضدّ الآخر.

والجواب الثاني : أنّ افتراض المقدّميّة يستلزم الدور ، كما أشرنا إليه في الحلقة السابقة (١) ، فلاحظ.

الجواب الثاني على ما تقدّم من برهان إثبات المقدّميّة هو لزوم الدور.

وبيانه : أنّه لو كان عدم الضدّ مقدّمة للضدّ الآخر ، فحيث إنّ المقدّميّة من الطرفين فيكون عدم الضدّ الآخر مقدّمة للضدّ الأوّل ، فيلزم أن يكون الضدّ الأوّل معلولا لعدم الضدّ الثاني ، بينما يكون الضدّ الثاني معلولا للضدّ الأوّل.

وهذا معناه أنّ الشيء في نفسه يكون علّة ومعلولا ومتقدّما ومتأخّرا ، ومن ذلك يلزم الدور ؛ لأنّ الضدّ الأوّل لمّا كان موقوفا على عدم الضدّ الثاني ، والضدّ الثاني لمّا كان موقوفا على عدم الضدّ الأوّل فيكون الضدّ الأوّل موقوفا على عدم ( عدم الضدّ الأوّل ) ، أي على وجود الضدّ الأوّل فيتوقّف على نفسه ، وهو دور.

فمثلا لو كان عدم الإزالة علّة ومقدّمة للصلاة ، وحيث إنّ التمانع والمقدّميّة من

__________________

(١) في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه.

٣٩٦

الطرفين ، فيكون عدم الصلاة علّة ومقدّمة للإزالة ، وهذا لازمه أنّ وجود الصلاة متوقّف على عدم الإزالة ، وهذا بدوره متوقّف على فعل الصلاة ؛ لأنّه بفعل الصلاة يتحقّق عدم الإزالة فيكون وجود الصلاة متوقّفا على وجود الصلاة ، وهذا دور.

وعليه ، فالصحيح أنّ وجوب شيء لا يقتضي حرمة ضدّه الخاصّ.

وبهذا ظهر أنّه لا دليل على حرمة الضدّ الخاصّ ، كما لم يتمّ الدليل على حرمة الضدّ العامّ أيضا. والنتيجة : هي أنّ وجوب شيء لا يقتضي النهي عن الضدّ الخاصّ ولا العامّ.

وأمّا ثمرة هذا البحث فهي ـ كما أشرنا في الحلقة السابقة (١) ـ تشخيص حكم الصلاة المضادّة لواجب أهمّ إذا اشتغل بها المكلّف وترك الأهمّ ، وكذلك أي واجب آخر مزاحم من هذا القبيل.

فإذا قلنا بالاقتضاء تعذّر ثبوت الأمر بالصلاة ولو على وجه الترتّب ، فلا تصحّ.

وإذا لم نقل بالاقتضاء صحّت بالأمر الترتّبي.

وبصيغة أشمل في صياغة هذه الثمرة :

إنّه على القول بالاقتضاء يقع التعارض بين دليلي الواجبين المتزاحمين ؛ لأنّ كلاّ من الدليلين يدلّ بالالتزام على تحريم مورد الآخر ، فيكون التنافي في أصل الجعل ، وهذا ملاك التعارض كما مرّ بنا.

وأمّا على القول بعدم الاقتضاء فلا تعارض ؛ لأنّ مفاد كلّ من الدليلين ليس إلا وجوب مورده وهو مشروط بالقدرة وعدم الاشتغال بالمزاحم كما تقدّم ، ولا تنافي بين وجوبين من هذا القبيل في عالم الجعل.

ثمرة البحث : توجد ثمرتان للقول باقتضاء وجوب الشيء النهي عن ضدّه الخاصّ أو عدمه.

الثمرة الأولى : فيما إذا كان هناك واجبان متضادّان أحدهما مضيّق والآخر موسّع ، فمثلا إذا وجبت إزالة النجاسة عن المسجد فهي واجب فوري والواجب الفوري مضيّق ، وفرضنا أنّ الصلاة قد دخل وقتها وهو لا يزال واسعا فهي ليست مضيّقة ؛ لإمكان فعلها بعد الإزالة مع سعة الوقت كما هو المفروض.

__________________

(١) في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه.

٣٩٧

فهنا يكون وجوب الإزالة أهمّ ، ولكنّه لو عصاه وصلّى فهل تكون صلاته صحيحة أم باطلة؟

فإن قلنا بأنّ وجوب شيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ ، فوجوب الإزالة الأهمّ يقتضي النهي عن الصلاة فتحرم ، فمع الإتيان بها تقع باطلة ؛ لأنّها منهي عنها فلا يتعلّق الأمر بها في هذه الحالة ، ومع عدم كونها مأمورا بها فلا تقع مصداقا للواجب لعدم الأمر.

وأمّا إن قلنا بأنّ وجوب الشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ ، فالأمر بوجوب الإزالة وإن كان أهمّ إلا أنّه ليس فيه دلالة على حرمة الصلاة ، فلو عصى الإزالة وصلّى لكانت صلاته صحيحة لكونها مأمورا بها فتقع مصداقا للواجب المأمور به وتكون مجزية وصحيحة. وإن كان بلحاظ عدم امتثاله للإزالة عاصيا ويستحقّ العقوبة.

الثمرة الثانية : فيما إذا كان هناك واجبان متزاحمان كما في وجوب الإزالة الفوري ووجوب الصلاة في آخر وقتها فإنّه مضيّق ، بحيث لو اشتغل بأحدهما لفاته الآخر.

فهنا تظهر بين القولين كما يلي : أنّنا إذا قلنا بأنّ وجوب شيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ ، فسوف يقع التعارض بين الدليلين الدالّين على وجوب الصلاة وعلى وجوب الإزالة ، والوجه في ذلك هو أنّ الأمر بالإزالة كما يدلّ بالمطابقة على وجوبها يدلّ أيضا ـ إمّا بدلالة مطابقيّة أو تضمّنيّة أو التزاميّة ـ على حرمة الصلاة بوصفها ضدّا خاصّا.

ومن جهة الأمر بالصلاة له دلالتان أيضا دلالة على وجوب الصلاة بالمطابقة ، ودلالة على حرمة الإزالة بإحدى الدلالات الثلاث.

وعليه ، فسوف يقع التكاذب والتنافي بين المدلول الدالّ على الوجوب في أحدهما مع المدلول الآخر الدالّ على الحرمة ، وهذا التنافي ناشئ من نفس الأمرين والجعلين ، والتنافي بين الجعلين والدليلين هو ملاك التعارض.

وحينئذ لا بدّ من تطبيق قواعد التعارض من الجمع أو الترجيح أو التخيير أو التساقط.

٣٩٨

وأمّا إذا قلنا بأنّ وجوب شيء لا يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ ، فسوف لا يقع التعارض بين الدليلين ؛ وذلك لأنّ الدليل في كلّ منهما لا يثبت أكثر من وجوب متعلّقه من دون أن يكون له دلالة أخرى على التحريم. ولكن حيث إنّ كلّ تكليف يشترط فيه القدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ أي بمعنى عدم الاشتغال بالواجب الأهمّ أو المساوي ، فسوف يكون كلا الدليلين ـ في حالة تساويهما في الأهمّيّة ـ مشروطا بترك الآخر ، فهو مأمور به على نحو الترتّب من الجانبين ، وسوف يكون أحدهما ـ في حالة كونه أهمّ من الآخر ـ مطلقا ، والآخر ـ الأقلّ أهمّيّة ـ مشروط بعصيان الأهمّ.

وهذا معناه أنّ مبحث الترتّب المتقدّم يرتبط بمبحث الضدّ ومتفرّع عليه ، فإنّنا إذا قلنا بالاقتضاء دخل المتزاحمان في باب التعارض ، وإذا قلنا بعدم الاقتضاء كان للتزاحم أحكامه الخاصّة به من تقديم الأهمّ أو كون الواجبين معا مشروطا كلّ منهما بعصيان الآخر.

وبهذا ينتهي الكلام عن مبحث الضدّ. وقد عرفنا أنّه لا يقتضي الحرمة.

* * *

٣٩٩
٤٠٠