شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٩

مقيّد بشيء من القيود والمقدّمات ، وإمّا أن يكون قد أخذ فيه بعض القيود والمقدّمات ، فمع أخذها فيه تكون دخيلة في الوجوب الفعلي المجعول ، بخلاف ما إذا لم يقيّد الحكم بشيء فإنّه يكون فعليّا بنحو مطلق.

مثال ذلك : تقييد وجوب الحجّ بالاستطاعة ، فإنّ هذا الوجوب لا يصبح فعليّا ولا مجعولا على ذمّة المكلّف ولا داخلا في عهدته ومسئوليّته إلا إذا تحقّقت الاستطاعة.

وأمّا قبل تحقّقها فلا يكون لدينا إلا وجوب الحجّ بنحو الوجوب الجعلي والشأني فقط ، بخلاف ما إذا لم يكن هذا القيد مأخوذا في الوجوب ، فإنّه لا يكون الوجوب مقيّدا ولا مشروطا ، بل هو وجوب مطلق من هذه الناحية.

الثاني : المقدّمات التي يتوقّف عليها امتثال الأمر الشرعي بسبب أخذ الشارع لها قيدا في الواجب وتسمّى بالمقدّمات الشرعيّة الوجوديّة ، كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة.

القسم الثاني : المقدّمات الوجوديّة ، أي مقدّمات الواجب.

وهي المقدّمات التي يتوقّف عليها امتثال الأمر الشرعي ، أي متعلّق الوجوب وهو الواجب ، وأمّا الوجوب فيفترض أنّه فعلي ومطلق من ناحية هذه المقدّمات ، بمعنى أنّه سواء وجدت هذه المقدّمات والقيود أم لم توجد فالوجوب فعلي ، ومقدّمات الواجب هذه أو المقدّمات الوجوديّة تنقسم إلى قسمين : أحدهما المقدّمات الوجوديّة أو مقدّمات الواجب التي أخذت قيدا في الواجب من قبل الشارع ، بحيث لو لم يأخذها الشارع كذلك لكان المكلّف مختارا في تطبيق المأمور به على أي نحو أراد ، ولكن بسبب أخذ الشارع لهذه القيود صار المطلوب من المكلّف حصّة خاصّة من الواجب لا مطلق الواجب ، ولذلك كان أخذ الشارع لهذه القيود في الواجب يعني تحصيص الواجب إلى حصص والأمر بالحصّة الخاصّة وهي الحصّة الواجدة للقيد دون غيرها.

ومثاله : الأمر بالصلاة عن طهارة ، فإنّ وجوب الصلاة تامّ وفعلي عند زوال الشمس ، بحيث إنّ المكلّف سواء كان على طهارة أم لا فهو مطالب بوجوب الصلاة.

نعم ، حينما يريد امتثال الأمر الشرعي يجب عليه أن يصلّي عن طهارة لا مطلق

١٢١

الصلاة ولو من دون طهارة ، أي الحصّة الخاصّة من الصلاة وهي الصلاة المقيّدة بالطهارة ، فيجب عليه تحصيل الطهارة لكون هذا القيد مطلوبا منه شرعا.

الثالث : المقدّمات التي يتوقّف عليها امتثال الأمر الشرعي بدون أخذها قيدا من قبل الشارع ، كقطع المسافة إلى الميقات بالنسبة إلى الحجّ الواجب على البعيد ، ونصب السلّم بالنسبة إلى من وجب عليه المكث في الطابق الأعلى ، وتسمّى بالمقدّمات العقليّة الوجوديّة.

القسم الثالث : هو المقدّمات الوجوديّة أو مقدّمات الواجب التي يحكم بها العقل ، وهي القسم الثاني من مقدّمات الواجب ، وهذه المقدّمات أيضا غير مأخوذة في الوجوب ، وإنّما هي مقدّمات لامتثال متعلّق الوجوب أي الواجب ، إلا أنّها لم تؤخذ في لسان الدليل الشرعي ، فالشارع لم يأخذ هذه القيود والمقدّمات في دليل الحكم ، وإنّما يحكم بها العقل من جهة توقّف امتثال الأمر الشرعي عليها.

وهذا التوقّف إمّا أن يكون كذلك دائما وإمّا أن يكون عادة ، مع كون كلا النحوين من هذه القيود والمقدّمات ثابتا بلحاظ الواقع والتكوين والخارج.

فمثلا إذا وجب الحجّ على المستطيع وصار فعليّا عليه وكان منزله بعيدا ، فامتثال الحجّ الواجب في وقته يتوقّف على وجوده في الميقات ، ممّا يعني أنّ الكون في الميقات أو الذهاب والسفر إلى الميقات مقدّمة وجوديّة ، بحيث لا يتمكّن من امتثال الواجب ولا من إيجاده إلا بالسفر إلى الميقات.

وهكذا إذا وجب على شخص المكث في مكان عال فإنّ الصعود إلى هذا المكان على السلّم أو أي شيء آخر واجب ؛ لأنّه مقدّمة وجوديّة لهذا الواجب بحيث لو لم يصعد لم يتحقّق منه الواجب أصلا.

وإنّما سمّيت بالمقدّمات الفعليّة الوجوديّة تمييزا لها عن المقدّمات الشرعيّة الوجوديّة ، وإلا فالعقل يحكم بوجوب تحقيق هذه القيود في كلا النحوين كما هو واضح.

وبالمقارنة بين هذين القسمين من المقدّمات الوجوديّة نلاحظ : أنّه في مورد المقدّمة الشرعيّة الوجوديّة قد تعلّق الأمر بالمقيّد ، والمقيّد عبارة عن ذات المقيّد والتقيّد ، وأنّ المقدّمة المذكورة مقدّمة عقليّة للتقيّد ، بينما نجد أنّ المقدّمة العقليّة الوجوديّة هي مقدّمة لذات الفعل.

١٢٢

الفرق بين القسمين الأخيرين : يظهر الفرق بين القسمين بلحاظ كيفيّة الأمر الشرعي ، ففي مورد المقدّمات الشرعيّة الوجوديّة كالطهارة التي أخذت قيدا في الصلاة ، نجد أنّ الأمر قد تعلّق بالمقيّد أي بالصلاة عن طهارة لا بذات الفعل ، والمقيّد بالتحليل يرجع إلى الأمر بذات المقيّد أي بذات الصلاة وإلى الأمر بالتقيّد ، أي بكون هذه الصلاة عن طهارة ، وليس هناك أمر تعلّق بالقيد أي بالطهارة ابتداء.

ومن هنا كان المطلوب من المكلّف إيجاد التقيّد إلى ذات الفعل ، فإنّه لو جاء بالمقيّد وحده أي بذات الصلاة لم يكن ممتثلا للمأمور به ، ولذلك يجب عليه إيجاد التقيّد ولكن هذا التقيّد لا يحصل إلا بالإتيان بالطهارة ( من وضوء أو غسل أو تيمّم ) ، فيكون الإتيان بالطهارة مقدّمة ولكن لا لذات المقيّد ولا لكونه قيدا مأمورا به ، بل لكونه مقدّمة لتحصيل التقيّد ، فإنّ تقيّد الصلاة بكونها صلاة عن طهارة لا يتمّ ولا يتحقّق إلا إذا جاء المكلّف بالطهارة ، فالطهارة ليست علّة أو بمثابة العلّة للصلاة ، وإنّما هي علّة أو بمثابة العلّة لإيجاد التقيّد المأمور به شرعا.

والحاصل : أنّ المقدّمات الشرعيّة الوجوديّة لمّا كانت عبارة عن تحصيص الواجب والأمر بالحصّة الخاصّة منه كان ذلك معناه أنّ المطلوب هو الفعل الخاصّ أي المقيّد ، والمقيّد عبارة عن ذات الفعل مع التقيّد بحسب التحليل ، فيكون المكلّف مسئولا عن إيجاد التقيّد مضافا إلى الفعل والمفروض أنّ التقيّد لا يحصل إلا بإيجاد القيد فيكون إيجاد القيد مقدّمة لحصول التقيّد والتقيّد هو المقدّمة لحصول الواجب المأمور به.

بينما في موارد المقدّمات العقليّة الوجوديّة لا يكون هناك إلا أمر بذات الفعل فقط ، والمقدّمة ترجع مباشرة إلى الفعل ذاته ، فالسفر إلى الميقات قيد للحجّ الواجب أي ذات الفعل ، والصعود إلى المكان العالي عند طريق السلّم أو غيره مقدّمة للواجب نفسه وهو نفس الكون والمكث في ذاك المكان ، وليس هناك شيء آخر يتوسّط بينهما.

وبهذا ينتهي الكلام حول تقسيم المقدّمات والقيود ، وبعد ذلك يدخل السيّد الشهيد في صلب البحث والموضوع الأساس ، وهو الإجابة عن التساؤل المتقدّم ، وهو أنّ المكلّف متى يكون مسئولا عن تحصيل المقدّمات؟ ولذلك قال :

والكلام تارة يقع في تحديد مسئوليّة المكلّف تجاه هذه الأقسام من المقدّمات ،

١٢٣

وأخرى في تحديد الضابط الذي يسير عليه المولى في جعل المقدّمة من هذا القسم أو ذاك.

الكلام يقع في مقامين :

المقام الأوّل : في تحديد مسئوليّة المكلّف تجاه هذه الأقسام من المقدّمات ، بمعنى أنّه في أي نوع من المقدّمات يكون مسئولا عن إيجاده وتحصيله؟ ومتى لا يجب عليه تحصيله ولا يكون مسئولا عنه؟

وهذا معناه أنّه يوجد ضابط وملاك على أساسه تتحدّد مسئوليّته وعدمها.

المقام الثاني : في تحديد الضابط الذي على أساسه يجعل الشارع المقدّمة وجوبيّة أو وجوديّة شرعيّة أو وجوديّة عقليّة ، في محاولة لاستكشاف الملاك الذي يسير عليه الشارع.

أمّا تحديد مسئوليّة المكلّف تجاه المقدّمات فحاصله : أنّ الوجوب ـ وكذلك كلّ طلب ـ لا يكون محرّكا نحو المقدّمات الوجوبيّة ، ولا مدينا للمكلّف بها ؛ لأنّه لا يوجد إلا بعد تحقّقها فكيف يكون باعثا على إيجادها؟! وإنّما يكون محرّكا نحو المقدّمات الوجوديّة بكلا قسميها ؛ لأنّه فعلي قبل وجودها فيحرّك لا محالة نحو إيجادها تبعا لتحريكه نحو متعلّقه ، بمعنى أنّ المكلّف مسئول عقلا من قبل ذلك التكليف عن إيجاد تلك المقدّمات ، وهذا التحريك يبدأ من حين فعليّة التكليف المجعول ، فقبل أن يصبح التكليف فعليّا لا محركيّة له نحو المقدّمات تبعا لعدم محرّكيّته نحو متعلّقه ؛ لأنّ المحرّكيّة من شئون الفعليّة.

أمّا المقام الأوّل : فمسئوليّة المكلّف تجاه القيود والمقدّمات إنّما تكون فيما إذا كانت من المقدّمات الوجوديّة بكلا قسميها ، دون ما إذا كانت من المقدّمات الوجوبيّة.

وبيان ذلك : أنّ المقدّمات الوجوبيّة إنّما يجب تحصيلها على المكلّف فيما إذا كان هناك ما يحرّك ويدعو إلى ذلك ، وهذا المحرّك ليس هو إلا الأمر والوجوب ، ولذلك فيفترض وجود الأمر والوجوب ليحرّك نحو هذه المقدّمات ، ويكون داعيا للمكلّف نحو إيجادها وتحصيلها ، وفي هذه الحالة لو فرض ثبوت الوجوب وكونه فعليّا فهذا معناه أنّ هذه المقدّمات ليس مقدّمات وجوبيّة ؛ لأنّ المقدّمات الوجوبيّة هي ما يتوقّف

١٢٤

عليه الأمر الشرعي ، والمفروض أنّه ثابت من دونها ، فهذا الافتراض خلف حقيقة المقدّمات الوجوبيّة.

وأمّا إذا لم يكن الوجوب ثابتا ولا فعليّا فهذه المقدّمات وإن كانت مقدّمات وجوبيّة إلا أنّه لا يوجد ما يحرّك المكلّف نحو إيجادها وتحصيلها ؛ لعدم وجود الأمر والوجوب ، فكيف يمكن أن يكون الوجوب باعثا ومحرّكا نحوها وهو غير موجود بعد؟! فإنّ هذا الافتراض معناه تأثير المعدوم في الموجود وهو مستحيل عقلا ؛ إذ فرض عدم ثبوت الوجوب يعني افتراض عدمه ومعه فلا يكون له أي تأثير على المقدّمات من تحريك وباعثيّة.

وبهذا يظهر أنّ المقدّمات الوجوبيّة لا يمكن أن يكون المكلّف مسئولا عنها ولا يحكم العقل بوجوب تحصيلها ؛ لأنّها قبل الوجوب والأمر لا يوجد الداعي والمحرّك نحوها ، وبعده يفترض فعليّة الوجوب ومعه لا يكون متوقّفا عليها ، وتخرج عن كونها مقدّمات وجوبيّة ، وهو خلف.

وأمّا المقدّمات الوجوديّة ـ سواء العقليّة كقطع المسافة أو الشرعيّة كالطهارة ـ فيكون المكلّف مسئولا عن إيجادها وتحصيلها ؛ لأنّ الوجوب يفترض كونه ثابتا وفعليّا لتحقّق موضوعه وما هو دخيل فيه وبعد فعليّته فهو يدعو إلى إيجاد متعلّقه ؛ لأنّ كلّ وجوب وكلّ طلب يدعو إلى إيجاد متعلّقه ، والمتعلّق للوجوب هو الواجب ، فيكون المكلّف مسئولا عن إيجاد الواجب ومطالبا به ويستحقّ الإدانة والعقاب على تركه ، ولمّا كان هذا الواجب متوقّفا على تلك المقدّمات فالعقل يحكم بلزوم تحصيلها وإيجادها ؛ وذلك لوجود المحرّك والباعث نحو ذلك ، وهو الوجوب والأمر الشرعي الثابت والفعلي.

فالأمر بوجوب الصلاة المقيّدة بالوضوء والمقيّد بالزوال يصبح فعليّا إذا زالت الشمس ، وبعد زوالها يصبح المكلّف مسئولا عن إيجاد متعلّق الوجوب أي الصلاة المقيّدة لا ذات الصلاة كما تقدّم ، ومن أجل إيجاد هذا التقيّد لا بدّ من تحصيل القيد وهو الوضوء فيكون المكلّف مسئولا عن إيجاد هذه المقدّمة الوجوديّة للواجب ومطالبا بها ، والمحرّك لذلك هو وجوب الصلاة الذي صار فعليّا بالزوال.

إلا أنّ الوجوب إنّما يحرّك نحو إيجاد المقدّمات الوجوديّة فيما إذا صار فعليّا كما

١٢٥

ذكرنا ، وفعليّته إنّما تبدأ فيما إذا تحقّقت سائر الشروط والقيود والمقدّمات المأخوذة فيه ، ومن جملتها الزمان كالزوال مثلا ، فإذا تحقّقت سائر الشروط باستثناء قيد الزمان لم يكن المكلّف مسئولا عن إيجاد مقدّمات الواجب قبل فعليّة زمان الوجوب ، وذلك لعدم وجود المحرّك والباعث لذلك فلا يحكم العقل بلزوم تحصيلها وإيجادها ، فالوضوء مثلا لا يجب على المكلّف إيجاده قبل الزوال ؛ لأنّه قبل الزوال لا يكون الوجوب فعليّا فلا تكون المحرّكيّة والباعثيّة موجودة ؛ لأنّهما من شئون الفعليّة.

وبهذا اتّضح أنّ المكلّف مسئول بحكم العقل عن إيجاد مقدّمات الواجب سواء كانت شرعيّة أم عقليّة.

والوجه في ذلك : هو أنّ الوجوب فعلي فيكون محرّكا نحو إيجاد متعلّقه ، والمفروض أنّ هذه المقدّمات راجعة إلى المتعلّق الذي هو الواجب ، بخلاف مقدّمات الوجوب فإنّ المكلّف ليس مسئولا عنها ؛ لأنّه قبل الوجوب لا يوجد المحرّك والباعث نحوها ، وبعده فيفترض حصولها وتحقّقها وإلا لم تكن مقدّمات وجوبيّة.

نعم ، هناك حالة وهي فيما إذا كانت المقدّمات مشتركة بين الوجوب والواجب فهل يجب تحصيلها أم لا؟ والجواب :

وإذا اتّفق أنّ قيدا ما كان مقدّمة وجوبيّة ووجوديّة معا امتنع تحريك التكليف نحوه ؛ لتفرّعه على وجوده ، وإنّما يكون محرّكا ـ بعد وجود ذلك القيد ـ نحو التقيّد وإيقاع الفعل مقيّدا به.

وهنا مطلب : إذا فرض أنّ بعض المقدّمات كانت مشتركة بين الوجوب والواجب فكانت مقدّمات وجوبيّة ومقدّمات وجوديّة أيضا ، فهل يجب على المكلّف إيجادها وتحصيلها أم لا؟

والجواب : أنّ هذا الفرض ملحق بالمقدّمات الوجوبيّة بمعنى أنّ المكلّف ليس مسئولا عن إيجاد هذه المقدّمات المشتركة.

والوجه في ذلك واضح إذ فرض كونها مقدّمة للوجوب يعني أنّ الوجوب متوقّف عليها في وجوده وفعليّته ، فقبل وجوده لا محرّك نحو إيجادها وتحصيلها ، وبعد وجوده يفترض حصولها وتحقّقها وإلا لم تكن مقدّمة له ؛ لأنّه يستحيل وجود ذي المقدّمة من دون المقدّمة الموقوف عليها وجوده.

١٢٦

نعم ، بعد تحقّق هذه المقدّمات يصبح الوجوب فعليّا فيحرّك نحو إيجاد المتعلّق ، والمفروض أنّه مقيّد بتلك المقدّمة ممّا يعني أنّ المكلّف مسئول عن إبقاء تلك المقدّمة وإيقاع الواجب مقيّدا بها لا بعد زوالها.

فمثلا مقدّميّة الزوال قد أخذت قيدا للوجوب وللواجب معا ، فوجوب الصلاة لا يكون ثابتا ولا فعليّا إلا بعد زوال الشمس ، فإذا زالت الشمس صار الوجوب فعليّا ووجبت الصلاة ، وهذه الصلاة مقيّدة أيضا بالزوال ، فإنّه لا يصحّ إيقاعها قبل الزوال ولا يكون امتثالها كذلك امتثالا للواجب الأدائي المأمور به شرعا. فالمكلّف مطالب بعد الزوال بأن يوقع الصلاة مع هذا القيد ، أي مطالب بالتقيّد أي بالصلاة عن زوال لا بالصلاة مطلقا.

وأمّا تحديد الضابط الذي يسير عليه المولى فهو : أنّ كلّ ما كان من شروط الاتّصاف في مرحلة الملاك فيأخذه قيدا للوجوب لا للواجب ، فيصبح مقدّمة وجوبيّة.

والوجه في ذلك واضح ؛ لأنّه لمّا كان شرطا في الاتّصاف فلا يهتمّ المولى بتحصيله ، بينما لو جعله قيدا للواجب وكان الوجوب فعليّا قبله لأصبح مقدّمة وجوديّة ، ولكان التكليف محرّكا نحو تحصيله ، فيتعيّن جعله مقدّمة وجوبيّة.

وأمّا المقام الثاني : فتحديد الضابط لجعل المقدّمات وجوبيّة تارة ووجوديّة أخرى هو أن يقال : هناك نوعان من القيود والشروط ، أحدهما شروط الاتّصاف والآخر شروط الترتّب.

فشروط الاتّصاف تكون مأخوذة في أصل وجود المصلحة والإرادة ، ولذلك فهي تجعل مقدّرة الوجود حين جعل الحكم ، بينما شروط الترتّب تكون مأخوذة لأجل استيفاء المصلحة وتحصيلها وهي دخيلة في المراد ، ولذلك فهي شروط خارجيّة للحكم المجعول.

وبناء على ذلك نقول : إنّ ما كان من المقدّمات والقيود راجعا إلى شروط الاتّصاف في مرحلة الملاك والمصلحة أو الإرادة تكون مأخوذة في الوجوب ، وتعتبر مقدّمات وجوبيّة لا وجوديّة.

والوجه في ذلك : هو أنّ شروط الاتّصاف معناها أنّ المصلحة والملاك متوقّفة على

١٢٧

وجود تلك الشروط في رتبة سابقة ولو بنحو الفرض والتقدير ، فما لم تكن هذه المقدّمات والقيود موجودة ومأخوذة في عالم الجعل والتشريع فلا مصلحة ولا إرادة ، وبالتالي لا وجوب أصلا ، وما دام الوجوب متوقّفا عليها فقبل وجودها لا يكون المولى مهتمّا بتحصيل هذه القيود ؛ لأنّه لا يوجد ما يحرّك المكلّف نحو إيجادها وتحصيلها ، وإنّما على فرض وجودها وتحصيلها يكون الوجوب ، وبتبعه المصلحة والإرادة ثابتا وفعليّا.

وبكلمة أخرى : إنّه قبل وجود هذه القيود لا توجد مصلحة ولا إرادة للمولى ، ومع عدمهما لا يكون المولى مهتمّا بوجودها وتحصيلها في الخارج من المكلّف ؛ لأنّه لا يوجد ما يدعوه إلى ذلك ؛ لأنّه لا إرادة له ومع عدم الإرادة لا يحصل الشوق المولوي تجاهها.

بخلاف ما لو كانت هذه القيود راجعة إلى الواجب ، فإنّها في هذه الحالة تكون من المقدّمات الوجوديّة ، ممّا يعني أنّ الوجوب ثابت وفعلي في رتبة سابقة لثبوت وفعليّة موضوعه ، فيكون محرّكا وباعثا نحو تحصيلها ، ويكون المكلّف مسئولا ومطالبا بها ومدانا على عدم الإتيان بها ، إلا أنّ هذا يعني خروجها عن الفرض المذكور ؛ لأنّها سوف تصبح من شروط الترتّب إذ المفروض أنّ شروط الاتّصاف لا ترجع إلى الواجب وإنّما ترجع إلى الوجوب كما تقدّم.

والحاصل : أنّ فرض القيود والمقدّمات من شروط الاتّصاف يلزم منه لا محالة أن تكون من المقدّمات الوجوبيّة ؛ لأنّه قبل وجودها لا وجوب ولا مصلحة ولا إرادة فلا تكون هناك مسئوليّة على المكلّف نحو إيجادها وتحصيلها.

وأمّا ما كان من شروط الترتّب فهو على نحوين :

أحدهما : أن يكون اختياريّا للمكلّف ، وفي هذه الحالة يأخذه المولى قيدا للواجب ؛ لأنّه يهتمّ بتحصيله.

والآخر : أن يكون غير اختياري ، وفي هذه الحالة يتعيّن أخذه قيدا للوجوب إضافة إلى أخذه قيدا للواجب ، ولا يمكن الاقتصار على تقييد الواجب به ؛ إذ مع الاقتصار كذلك يكون التكليف محرّكا نحوه ومدينا للمكلّف به ، وهو غير معقول ؛ لعدم كونه اختياريّا.

١٢٨

ذكرنا أنّ قيود الاتّصاف تكون من المقدّمات الوجوبيّة ؛ لأنّ المولى لا يهتمّ بتحصيلها.

وأمّا إن كانت القيود والمقدّمات من شروط الترتّب أي راجعة إلى الواجب والمراد والحكم المجعول الفعلي ، فهذه لا تخلو من أحد أمرين :

أحدهما : أن تكون هذه المقدّمات والقيود اختياريّة للمكلّف وداخلة ضمن قدرته ، بحيث يكون مختارا وقادرا على تحصيلها أو على تركها وإعدامها ، ففي هذه الحالة لن يكون هناك ما يمنع المولى من جعلها قيودا وجوديّة ؛ لأنّه يهتمّ بتحصيلها.

والوجه في ذلك : هو أنّ هذه القيود لمّا كانت من شروط الترتّب فهذا معناه أنّ الوجوب فعلي في رتبة سابقة ، والمكلّف صار مسئولا عن إيجاد متعلّق الوجوب أي الواجب ، وهو متوقّف على هذه المقدّمات.

والمفروض أنّ المكلّف قادر على إيجادها لكونها اختياريّة ومقدورة له ، وحينئذ يكون المولى مهتمّا بتحصيل المكلّف لها ؛ لأنّ المقتضي للتحرّك وهو الوجوب موجود وهو ثابت وفعلي ولا يوجد ما يمنع من هذا التحرّك ؛ لكون المطلوب التحرّك نحوه مقدور وواقع تحت سلطة واختيار المكلّف ، ومع عدم التحرّك سوف يترك المكلّف المصلحة ؛ لأنّها لا تستوفى إلا بالإتيان بالواجب ومقدّماته ، وترك المصلحة مع كونها فعليّة ومنجّزة ممّا لا يرضى المولى به ، بل يكون مدانا على ذلك ومستحقّا للعقاب.

والآخر : أن تكون المقدّمات والقيود غير اختياريّة للمكلّف ، فهنا يقع التضادّ بين المقتضي والمانع ؛ وذلك لأنّ فرض هذه القيود من شروط الترتّب معناه أنّ الوجوب فعلي سابقا ، ممّا يعني وجود المحرّك والباعث للمكلّف نحو تحصيل هذه القيود والمقدّمات.

ولكن لمّا كانت هذه القيود والمقدّمات غير اختياريّة للمكلّف فهو غير قادر على إيجادها وتحصيلها ، ومع عدم القدرة لا يكون المكلّف مخاطبا ولا مسئولا ولا مدانا على الترك ؛ لأنّه لا يمكن التكليف بما لا يطاق وبما لا يقدر عليه ، وهذا معناه عمليّا أنّ المكلّف لن يتحرّك نحو تحصيل هذه القيود والمقدّمات بسبب وجود المانع العقلي التكويني من تحصيلها ، وهو عدم القدرة لكونها غير اختياريّة.

ومن أجل ذلك يجمع المولى بين هذين الأمرين ـ المقتضي والمانع ـ. فبلحاظ وجود

١٢٩

المقتضي للتحرّك وهو الوجوب الفعلي لكون هذه القيود من شروط الترتّب تكون هذه المقدّمات مقدّمات وجوديّة ، ولكن بلحاظ المانع من تحصيلها وإيجادها ـ وهو عدم قدرته ؛ لكونها غير اختياريّة ـ تكون مقدّمات وجوبيّة في النتيجة العمليّة والأثر ، ولذلك تكون هذه المقدّمات وجوبيّة ووجوديّة معا.

ولا يمكن أن تكون مقدّمات وجوبيّة فقط ؛ لأنّها ليست دخيلة في المصلحة ولا في الإرادة وإنّما هي شروط لترتّب المصلحة ولتحقّق المراد ، ولا يمكن أن تكون مقدّمات وجوديّة فقط ؛ لأنّ هذا معناه تكليف المكلّف بها وجعله مسئولا عن إيجادها وتحصيلها ، والمفروض أنّه غير قادر على ذلك ؛ لعدم قدرته ولكونها خارجة عن اختياره وسلطنته.

وبهذا يتّضح أنّ الضابط في جعل شيء قيدا للوجوب أحد أمرين : إمّا كونه شرط الاتّصاف ، وإمّا كونه شرط الترتّب مع عدم كونه مقدورا.

والنتيجة النهائيّة على ضوء ما تقدّم : هي أنّ الضابط لجعل القيود والمقدّمات من المقدّمات الوجوبيّة هو كونها من شروط الاتّصاف بالتوضيح المتقدّم ، أو كونها من شروط الترتّب ولكنّها غير مقدورة للمكلّف وخارجة عن اختياره.

وأمّا إذا كانت من شروط الترتّب وكانت مقدورة للمكلّف فهي من المقدّمات الوجوديّة للواجب.

* * *

١٣٠

القيود

المتأخّرة زمانا عن المقيّد

١٣١
١٣٢

القيود المتأخّرة زمانا عن المقيّد

[ أو مبحث الشرط المتأخّر ]

القيد ـ سواء كان قيدا للحكم المجعول أو للواجب الذي تعلّق به الحكم ـ قد يكون سابقا زمانا على المقيّد به ، وقد يكون مقارنا.

فالقيد المتقدّم للحكم من قبيل هلال شهر رمضان الذي هو قيد لوجوب الصيام ، مع أنّ هذا الوجوب يبدأ عند طلوع الفجر. والقيد المقارن للحكم من قبيل الزوال بالنسبة إلى الصلاة. والقيد المتقدّم للواجب من قبيل الوضوء بناء على كون الصلاة مقيّدة بالوضوء لا بحالة مسبّبة عنه مستمرّة. والقيد المقارن له من قبيل الاستقبال بالنسبة إلى الصلاة.

مقدّمة البحث : القيود والشروط والمقدّمات تقدّم أنّها إمّا قيود للوجوب وإمّا قيود للواجب.

وبتعبير آخر : إمّا أن تكون راجعة إلى الحكم المجعول ، أو راجعة إلى المتعلّق الذي انصبّ عليه الحكم. ومن الواضح أنّ الشروط في كلا النحوين بمثابة العلّة أو جزء العلّة.

أمّا قيود الوجوب فهي بمثابة العلّة ؛ لأنّ الوجوب متوقّف ثبوته في عالم الجعل والتقدير على افتراضها وتقديرها ، وفي عالم المجعول والفعليّة على تحقّقها ووجودها في الخارج.

وأمّا قيود الواجب فهي شروط للصحّة وللامتثال وسقوط الأمر وبراءة الذمّة ، والخروج عن العهدة والمسئوليّة ، ولذلك فهي إن تحقّقت سقط الأمر وتحقّق الامتثال ، وحكم بصحّة ما جاء به فهي بمثابة الجزء الأخير من العلّة وليست هي تمام العلّة ؛ لأنّ المطلوب والمأمور به مركّب من الواجب ومن الشرط أي من المقيّد والتقيّد.

١٣٣

ثمّ إنّ هذه القيود ـ الراجعة إلى الحكم أو إلى الواجب ـ إمّا أن تكون متقدّمة أو تكون مقارنة ، فالقيد المتقدّم على الحكم والوجوب من قبيل هلال شهر رمضان فإنّه قيد متقدّم على وجوب الصوم ؛ لأنّه قبل تحقّق الهلال بإحدى الطرق الشرعيّة كالرؤية والبيّنة والشياع ... إلى آخره لا وجوب للصوم ، ممّا يعني أنّ هذا القيد بمثابة العلّة للوجوب ، فإذا تحقّق الهلال صار الصوم واجبا ، ولكنّه لا يبدأ من حين ثبوت الهلال ، بل من حيث طلوع الفجر ، وهكذا الحال بالنسبة لقيديّة الاستطاعة بالنسبة لوجوب الحجّ ، فإنّها قيد متقدّم للوجوب ، والوجوب لا يبدأ إلا من حين اليوم الثامن من ذي الحجّة.

وأمّا القيد المقارن للحكم : فهو من قبيل زوال الشمس بالنسبة إلى الصلاة ، فإنّه لا وجوب للصلاة قبل الزوال ، فإذا زالت الشمس تحقّق الوجوب في نفس الآن الذي يحدث به الزوال ، فبالزوال يتحقّق القيد والمقيّد معا ولا تفاوت بينها من ناحية الزمان وإن كان هناك اختلاف بينهما في الرتبة ؛ لأنّ القيد متقدّم في الرتبة على المقيّد ، وإن كانا متّحدين في الزمان أو متقارنين معا ، كما هو الحال في تحقّق الانفتاح عند فتح الباب بالمفتاح ، فإنّ عمليّة إدارة المفتاح باليد مقارنة لانفتاح الباب.

وهكذا أيضا بالنسبة لطلوع الفجر وصلاة الصبح ، فإنّ طلوع الفجر قيد مقارن للوجوب أي لوجوب صلاة الصبح.

وأمّا القيد المتقدّم على الواجب فهو من قبيل الوضوء بناء على كون الصلاة مقيّدة بالوضوء لا بحالة مسبّبة عن الطهارة ، فإنّه بناء على كون الصلاة مقيّدة بالوضوء فيكون الوضوء قيدا متقدّما على الواجب ؛ لأنّه يحصل قبل الصلاة وينتهي قبلها أيضا ؛ لأنّ الوضوء عبارة عن الغسلات والمسحات وهي أفعال تحدث وتنتهي ، وليس الوضوء هنا قيدا للوجوب ؛ لأنّ وجوب الصلاة يبدأ من حين الزوال كما هو واضح.

نعم ، لو قلنا بأنّ الصلاة مقيّدة بالحالة المسبّبة عن الوضوء وهي الطهارة فهنا تكون الطهارة شرطا مقارنا للواجب ؛ لأنّ هذه الحالة التي تحدث عن الوضوء تبقى موجودة حال الصلاة ؛ لأنّه لا تجوز الصلاة مع الحدث ولا تصحّ إلا مع الطهارة.

ومن قبيل قيديّة الوضوء أو الغسل بالنسبة للطواف ؛ لأنّه كالصلاة ، ومن قبيل

١٣٤

قيديّة الختان في صحّة الحجّ ؛ فإنّه قيد متقدّم على الحجّ بمعنى أنّه يجب تحقّقه قبل الحجّ الواجب.

وأمّا القيد المقارن للواجب : فهو من قبيل الاستقبال حال الصلاة ، فإنّه يشترط في الصلاة استقبال القبلة ، وهذا القيد يجب تحقّقه من حين الشروع في الصلاة الواجبة إلى حين الفراغ منها ، فهو شرط وقيد مقارن لها ، وهكذا بالنسبة للطهارة التي تحصل بالوضوء أو الغسل أو التيمّم فيما إذا قلنا بأنّ الشرط هو الطهارة لا نفس الأفعال.

وهذان النوعان من القيود ـ المقارنة والمتقدّمة ـ سواء كانت راجعة إلى الحكم أو إلى متعلّق الحكم لا إشكال في إمكانهما ووقوعهما أيضا.

أمّا القيود المقارنة للوجوب أو للواجب فالأمر فيها واضح ؛ لأنّ القيد لمّا كان بمثابة العلّة أو جزء العلّة فلا بدّ أن يكون شيء منها مقارنا ومعاصرا لزمان المعلول.

وأمّا القيود المتقدّمة على الوجوب أو الواجب فلم يستشكل فيها أحد سوى صاحب ( الكفاية ) حيث ذهب إلى استحالتها ؛ لأنّ تقدّم العلّة بتمامها على المعلول غير معقول.

وأجيب على ذلك بأنّ هذه القيود قيود معدّة أي أنّها تعدّ لحصول الشيء المترتّب عليها ، وهذه لا يشترط معاصرتها.

والصحيح : أنّ القيود المتقدّمة هي قيود مقارنة أيضا ، ولكن بلحاظ البقاء لا الحدوث ، فهي تحدث قبل الوجوب ولكنّ استمرارها وبقاءها إلى زمان الوجوب أو الواجب ضروري ، وإلا فلو زالت بعد حدوثها انتفى الوجوب أو الواجب.

هذا كلّه مقدّمة لأصل البحث وهو الشرط المتأخّر ، فهل هو معقول أم لا؟ ولذلك قال :

وقد افترض في الفقه أحيانا كون القيد متأخّرا زمانا عن المقيّد ، ومثاله في قيود الحكم قيديّة الإجازة لنفوذ عقد الفضولي ، بناء على القول بالكشف ، ومثاله في قيود الواجب غسل المستحاضة في الليل الدخيل في صحّة صيام النهار المتقدّم ، على قول بعض الفقهاء (١).

ومن هنا وقع البحث في إمكان الشرط المتأخّر وعدمه ، ومنشأ الاستشكال هو :

__________________

(١) منهم الشيخ الطوسي وابن إدريس ، كما ذكر ذلك في الجواهر ١٦ : ٢٤٧.

١٣٥

أنّ الشرط والقيد بمثابة العلّة أو جزء العلّة للمشروط والمقيّد ، ولا يعقل أن تتأخّر العلّة أو شيء من أجزائها زمانا عن المعلول ، وإلا يلزم تأثير المعدوم في الموجود ؛ لأنّ المتأخّر معدوم في الزمان السابق فكيف يؤثّر في وقت سابق على وجوده؟!

الشرط المتأخّر : هناك بعض الموارد الفقهيّة التي افترض فيها كون القيد أو الشرط متأخّرا زمانا عن المقيّد والمشروط ، وتصويره تارة يكون بلحاظ الوجوب والحكم ، وأخرى بلحاظ الواجب والمتعلّق.

أمّا تصوير الشرط المتأخّر الراجع إلى الوجوب والحكم فهو ما يقال : من أنّ عقد الفضولي لا ينفذ ولا يترتّب عليه الأثر المطلوب منه ، وهو الملكيّة والنقل والانتقال إلا إذا أجيز من قبل المالك أو وكيله ، فهنا قيديّة الإجازة اعتبرت شرطا متأخّرا زمانا على عقد الفضولي ، بناء على القول بالكشف لا النقل.

وتوضيحه : أنّنا إذا قلنا بأنّ الإجازة كاشفة كان معنى ذلك أنّ العقد يكون مؤثّرا في ترتيب الأثر ، ويعتبر نافذا من حين صدور العقد فيما إذا تعقّبته الإجازة ، فهي كاشفة عن ذلك ، وهي بهذا اللحاظ تكون شرطا متأخّرا.

وأمّا إذا قلنا بأنّ الإجازة ناقلة فهذا يعني أنّ ترتّب الأثر يبدأ من حين صدور الإجازة لا من حين صدور العقد ، ولذلك فهي تكون شرطا مقارنا للنفوذ والصحّة وترتّب الأثر ، أي أنّه من حين الإجازة يؤثّر العقد لا قبلها.

وهكذا أيضا بالنسبة لوجوب الصوم على المستحاضة فإنّه مقيّد بالغسل الليلي ، فإذا اغتسلت المستحاضة في الليل كشف ذلك عن أنّ الصوم لليوم السابق كان واجبا عليها من حين طلوع الفجر ، فيكون وجوب الصوم في اليوم السابق مشروطا بالغسل في الليل ، وهذا لا يكون إلا بعد انتهاء الزمان للصوم.

وأمّا تصوير الشرط المتأخّر الراجع إلى الواجب والمتعلّق ، فهو ما يقال : من أنّ صحّة صوم المستحاضة في اليوم السابق مشروط بالغسل في الليل على قول بعض الفقهاء ؛ لأنّه هنا يوجد قولان :

أحدهما : أنّ غسل الاستحاضة الليلي شرط في صحّة صوم اليوم السابق ، وعلى هذا يكون الغسل الليلي شرطا متأخّرا ؛ لأنّ الواجب وهو الصوم من الفجر إلى الليل قد تحقّق وانتهى زمانه قبل الغسل.

١٣٦

والآخر : أنّ غسل المستحاضة الليلي شرط لصحّة الصوم الآتي لا السابق ، وعليه فيكون الغسل شرطا متقدّما لا متأخّرا.

وعلى كلّ حال فقد وقع البحث في إمكانيّة ومعقوليّة الشرط المتأخّر ، سواء كان راجعا إلى الحكم أم إلى الواجب.

ووجه الاستشكال فيه هو : أنّ الشرط أو القيد بمثابة العلّة للمشروط والمقيّد أو على أقلّ تقدير بمثابة جزء العلّة. ومن الواضح أنّ العلّة لا بدّ وأن تكون متقدّمة ومعاصرة للمعلول ، فإذا كانت العلّة متأخّرة عن المعلول بتمامها أو بجزء من أجزائها فهذا معناه أنّ المعلول قد وجد في زمان لم تكن فيه العلّة موجودة ، وهذا مستحيل ؛ وذلك لأحد أمرين :

الأوّل : استحالة تأثير المعدوم في الموجود ، فإنّ العلّة حال وجود المعلول كانت معدومة ، فإذا كانت بعد فرض تحقّق وجودها المتأخّر زمانا عن المعلول قد أثّرت في المعلول من حينه ، فهذا معناه أنّ الشرط أو العلّة قد أثر في إيجاد المعلول من حين وجوده ، والحال أنّها معدومة والمعدوم لا يؤثّر حال انعدامه بشيء.

وإذا كانت مؤثّرة في وجود المعلول لا من حين زمان وجوده ، بل من حين زمان وجودها فهذا يعني الانقلاب ؛ لأنّ المعلول قد وقع وتحقّق غير مشروط ولا مقيّد بشيء ، فكيف يكون متأثّرا ومسبّبا عن شيء لاحق؟!

وبتعبير آخر : إنّ الشرط المتأخّر إمّا أن يؤثّر في المشروط أو لا يؤثّر ، فإن لم يكن مؤثّرا فيه فهو خلف كونه شرطا ، فيتعيّن الأوّل ، وحينئذ فهو إمّا أن يكون مؤثّرا في المشروط من حين تحقّق المشروط أو من حين تحقّق الشرط ، وكلاهما مستحيل ؛ لأنّ تأثير الشرط في المشروط من حين تحقّق المشروط معناه أنّ المعدوم قد أثّر في الموجود ؛ لأنّ الشرط معدوم حين تحقّق المشروط ؛ ولأنّ تأثير الشرط في المشروط من حين تحقّق الشرط معناه أنّ المشروط الذي تحقّق قبله متأثّر بشيء آخر وهو الشرط وهذا مستحيل ؛ لأنّه لو كان متأثّرا بالشرط ومسبّبا عن الشرط فكيف تحقّق قبل الشرط؟!

وقد أجيب على هذا البرهان : أمّا فيما يتعلّق بالشرط المتأخّر للواجب فبأنّ كون شيء قيدا للواجب مرجعه إلى تحصيص الفعل بحصّة خاصّة ، وليس القيد علّة أو

١٣٧

جزء العلّة للفعل ، والتحصيص كما يمكن أن يكون بإضافته إلى أمر مقارن أو متقدّم كذلك يمكن أن يكون بأمر متأخّر.

وأمّا فيما يتعلّق بالشرط المتأخّر للحكم فبأنّ الحكم تارة يراد به الجعل وأخرى يراد به المجعول ، أمّا الجعل فهو منوط بقيود الحكم بوجودها التقديري اللحاظي لا بوجودها الخارجي كما تقدّم (١) ، ووجودها اللحاظي مقارن للجعل.

وأمّا المجعول فهو وإن كان منوطا بالوجود الخارجي لقيود الحكم ، ولكنّه مجرّد افتراض وليس وجودا حقيقيّا خارجيّا ، فلا محذور في إناطته بأمر متأخّر.

وقد أجيب عن إشكال الاستحالة في الموردين :

أمّا بالنسبة للإشكال على الشرط المتأخّر الراجع إلى الواجب ، كغسل المستحاضة الذي هو شرط متأخّر لصحّة صوم اليوم السابق ، فجوابه أنّ قيود الواجب ترجع إلى التحصيص.

فالفعل الواجب حينما يقيّد بشيء فهذا معناه تحصيص الفعل إلى حصّتين : الحصّة الواجدة للقيد والحصّة الفاقدة له ، والأمر بالحصّة الخاصّة دون سواها.

ومن الواضح أنّ تحصيص الفعل لا يختلف الحال فيه بين أن يكون بقيد متقدّم أو بقيد مقارن أو بقيد متأخّر ؛ لأنّ العلاقة بين القيد والفعل أو بين الشرط والمشروط هنا ليست هي علاقة العلّة والمعلول أو المؤثّر مع الأثر ، ولذلك لا يرد الإشكال المتقدّم من لزوم تأثير المعدوم في الموجود ، كما إذا فرض أنّ المولى يريد الصلاة مع التصدّق ، فإنّه يمكنه أن يقول : تصدّق ثمّ صلّ أو تصدّق حال الصلاة أو تصدّق بعد الصلاة.

والوجه في ذلك : أنّه يريد الحصّة الخاصّة من الصلاة وهي المقيّدة بالتصدّق ، ممّا يعني تحصيص الصلاة إلى حصّتين الحصّة الواجدة للتصدّق والحصّة الفاقدة له ، والأمر بالحصّة الخاصّة وليس للتصدّق تأثير في تحقّق الصلاة وفي إيجادها أصلا.

وأمّا بالنسبة للإشكال على الشرط المتأخّر الراجع إلى الحكم ، كالإجازة للعقد الفضولي التي هي شرط في صحّة ونفوذ العقد من حينه ، أي من حين صدور العقد على القول بالكشف.

فجوابه : أنّ الحكم تارة يراد به الجعل أي الحكم الإنشائي في عالم الجعل والتشريع

__________________

(١) تحت عنوان : قاعدة إمكان الوجوب المشروط.

١٣٨

الذي يصاغ على موضوعه المفترض والمقدّر الوجود ، وأخرى يراد به المجعول الفعلي أي الحكم الذي صار فعليّا في الخارج بسبب فعليّة موضوعه وقيوده في الخارج.

وعليه ، فإن أريد من الحكم عالم الجعل فهنا لا يكون الشرط المتأخّر متأخّرا في الحقيقة ، بل هو شرط مقارن ؛ وذلك لأنّ الحكم في عالم الجعل إنّما يصاغ وينصبّ على موضوعه المفترض والمقدّر الوجود ، ممّا يعني أنّ كلّ ما هو دخيل في الموضوع من قيود وشروط قد لوحظت وافترض وجودها ، فكان الشرط المتأخّر مفترضا وملحوظا في الموضوع حينما جعل الحكم عليه ، وهذا يعني أنّه مقارن للجعل لا متأخّر عن الجعل ، نعم هو متأخّر في الوجود الخارجي إلا أنّ هذا الوجود لا علاقة له بالجعل ؛ لأنّ الجعل عبارة عن الوجود التقديري واللحاظي للحكم مع موضوعه وسائر قيوده وشروطه ، وهي موجودة بالفعل في عالم اللحاظ والتقدير ، وليس شيء منها غير ملحوظ.

وأمّا إن أريد من الحكم عالم المجعول والفعليّة فهنا يكون الشرط المتأخّر متأخّرا حقيقة ؛ وذلك لأنّ الحكم في عالم المجعول لا يصبح فعليّا إلا إذا تحقّقت سائر قيود وشروط موضوعه ، والمفروض أنّ هناك شرطا متأخّرا لم يتحقّق بعد فكيف يكون الحكم فعليّا مع عدم تحقّق ذاك الشرط المتأخّر؟!

والمفروض أنّ الحكم معلول للموضوع وما يرتبط به من قيود وشروط فيأتي الإشكال ، إلا أنّه مع ذلك يمكن دفع الإشكال على أساس أنّ الحكم المجعول ليس حكما حقيقيّا ، وإنّما هو مجرّد أمر اعتباري محض ، وما دام أمرا اعتباريّا لا حقيقة له فلا محذور في إناطته بأمر متأخّر عنه ؛ لأنّ باب التأثير والمؤثّر أو العلّة والمعلول إنّما هو بلحاظ الأمور الحقيقيّة الواقعيّة ، سواء كان عالم واقعها الخارج والتكوين أم عالم الجعل والتشريع ، وكلا هذين الأمرين منتف هنا ؛ لأنّ المجعول أمر افتراضي وهمي اعتباري لا حقيقة ولا واقعيّة له.

والوجه في ذلك أن يقال : إنّ المجعول هو نفس الجعل وليس زائدا عنه ؛ لأنّ القضيّة الشرعيّة المؤلّفة من الحكم والموضوع قضيّة واحدة ، ولكن تارة ينظر إليها على أساس الحمل الشائع وأخرى ينظر إليها بالحمل الأوّلي.

فإذا نظر إليها بالحمل الشائع سمّيت بالجعل ، وهي بهذا النظر أمر حقيقي واقعي

١٣٩

في عالم الجعل والتشريع ، وإذا نظر إليها بالحمل الأوّلي سمّيت بالمجعول وهي بهذا النظر أمر اعتباري ؛ لأنّه عبارة عن رؤية الحكم في الخارج على أساس أنّه يجب امتثاله وإطاعته من المكلّف.

وهذا نظير الوجود والإيجاد فإنّهما شيء واحد ، وإنّما الاختلاف بينهما على أساس ملاحظة الفاعل تارة وعدم ملاحظته أخرى.

وعليه ، فالمجعول ليس إلا تطبيق الجعل حينما يتحقّق موضوعه في الخارج ، فبابه باب التطبيق والامتثال وليس باب التأثير والعلّيّة (١).

والتحقيق : أنّ هذا الجواب وحده ليس كافيا ؛ وذلك لأنّ كون شرط قيدا للحكم والوجوب أو للواجب ليس جزافا ، وإنّما هو تابع للضابط المتقدّم ، وحاصله : أنّ ما كان دخيلا وشرطا في اتّصاف الفعل بكونه ذا مصلحة يؤخذ قيدا للوجوب ، وما كان دخيلا وشرطا في ترتّب المصلحة على الفعل يؤخذ قيدا للواجب.

والجواب المذكور إنّما نظر إلى دخل الشرط بحسب عالم الجعل في تحصيص الواجب أو في الوجوب المجعول ، وأغفل ما يكشف عنه ذلك من دخل قيد الواجب في ترتّب المصلحة ووجودها ودخل قيد الوجوب في اتّصاف الفعل بكونه ذا مصلحة ، وترتّب المصلحة أمر تكويني ، واتّصاف الفعل بكونه ذا مصلحة أمر تكويني أيضا ، فكيف يعقل أن يكون الأمر المتأخّر ـ كغسل المستحاضة في ليلة الأحد ـ مؤثّرا في ترتّب المصلحة على الصوم في نهار السبت السابق إذا أخذ قيدا للواجب؟ وكيف يعقل أن يكون الأمر المتأخّر ـ كالغسل المذكور ـ مؤثّرا في اتّصاف الصوم في يوم السبت بكونه ذا مصلحة إذا أخذ قيدا للوجوب؟

__________________

(١) نعم ، بناء على مسلك المحقّق النائيني القائل بالفرق بين الجعل والمجعول ، وأنّ المجعول أمر حقيقي غير الجعل فإنّه يتمّ الإشكال ؛ لأنّ الحكم المجعول في الخارج صار مناطا ومشروطا بقيد متأخّر عنه ، فيلزم منه محذور تأثير المتأخّر في المتقدّم أو محذور تأثير المعدوم في الموجود.

ومن هنا أنكر الميرزا الشرط المتأخّر لاستحالته في عالم المجعول وإن قبله في عالم الجعل ، ومن ثمّ التزم بإرجاع الشرط المتأخّر إلى الشرط المقارن في كلّ الموارد التي ظاهرها كون الشرط متأخّرا.

١٤٠