شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٩

وذهب المحقق النائيني رحمه‌الله (١) إلى الثاني ، وهذا هو الصحيح ، وتوضيحه ضمن النقاط الثلاث التالية :

القول الثاني : ما ذهب إليه الميرزا النائيني وغيره من الأصوليّين كالميرزا الشيرازي قبله ، من أنّ الأمر بالضدّين بنحو يكون كلّ منهما أو أحدهما مشروطا بعدم الاشتغال بالآخر ممكن في نفسه وعلى طبق القاعدة والأصل ، بل الوجدان يشهد بذلك.

فمثلا إذا دار الأمر بين ضررين لا يمكن دفعهما معا فالمكلّف يختار الضرر الأقلّ ؛ لأنّ العرف والوجدان يقتضي عدم اختيار الضرر الأزيد ، بل لو اختاره لكان مدانا بالعرف ، وكذلك لو كان أمره دائرا بين واجبين متساويين أو أحدهما أهمّ من الآخر ولا يمكنه فعلهما معا ، فإنّه يختار الأهمّ لو كان موجودا أو أحد المتساويين ، وهذا معناه أنّه مخيّر بين الواجبين فكلّ واحد منهما مطلوب وإن لم يكن المجموع أو الجمع بينهما مطلوب لعدم القدرة عليه.

وعلى كلّ حال فقد أثبت الميرزا الترتّب ضمن نقاط خمس ، ولكن السيّد الشهيد يختصرها إلى ثلاث نقاط هي :

النقطة الأولى : أنّ الأمرين بالضدّين ليسا متضادّين بلحاظ عالم المبادئ ؛ إذ لا محذور في افتراض مصلحة ملزمة في كلّ منهما وشوق أكيد لهما معا ، ولا بلحاظ عالم الجعل كما هو واضح ، وإنّما ينشأ التضادّ بينهما بلحاظ التنافي والتزاحم بينهما في عالم الامتثال ؛ لأنّ كلاّ منهما بقدر ما يحرّك نحو امتثال نفسه يبعّد عن امتثال الآخر.

النقطة الأوّلى : في بيان المنشأ الذي يمكن تصوّر التضادّ فيه بالنسبة للضدّين فيقال : إنّ التضادّ بين شيئين لا بدّ أن يكون في أحد مراتب ثلاث ، وإلا فلا يكون هناك تضادّ بينهما ، وهي :

١ ـ عالم الملاك والمبادئ من الحبّ والبغض أو الشوق المولوي.

٢ ـ عالم الجعل والاعتبار والتكليف.

٣ ـ عالم الامتثال والتحرّك.

وفي مقامنا لا يوجد تضادّ بين الأمرين بالضدّين بلحاظ عالم الملاكات والمبادئ ؛

__________________

(١) فوائد الأصول ١ : ٣٣٦.

٦١

وذلك لأنّ الأمر بانقاذ الغريق مثلا مبادئه في نفس متعلّقه وهو الانقاذ ، والأمر بالصلاة مبادئه في نفس متعلّقه وهو الصلاة.

وهذا معناه أنّ الإنقاذ فيه مصلحة ملزمة وفيه محبوبيّة والصلاة فيها مصلحة ملزمة ومحبوبيّة أيضا ، ولا مانع من أن يحبّ المولى كلا هذين الأمرين أي الإنقاذ والصلاة ؛ لأنّ ملاكات ومبادئ كلّ منهما لها متعلّق غير الآخر ، فلا يوجد تضادّ أصلا بين الأمر بالإنقاذ وبين الأمر بالصلاة في هذا العالم ، ولذلك يمكن جعلهما معا والأمر بهما وإيجابهما على ذمّة المكلّف ؛ لأنّ عالم الجعل والإيجاب والتكليف يراد منه جعل الداعي للبعث والتحريك فلا مانع عقلا من أن يجعل المولى هذا الداعي على المكلّف ، فتكون هناك محرّكيّة وداعويّة مولويّة نحو الأمر بالإنقاذ ونحو الأمر بالصلاة.

ولا تضادّ بين هاتين الداعويّتين في مقام الجعل والإيجاب ؛ لأنّ الجعل والإيجاب في نفسه ليس إلا مجرّد صياغة لفظيّة إنشائيّة لإرادة المولى ، فالمهمّ هو الإرادة المولويّة. وقد قلنا : إنّه لا مانع من أن تنصبّ إرادتان من المولى إحداهما متعلّقة بالإنقاذ والأخرى بالصلاة ؛ لاختلاف الموضوع والمتعلّق.

يبقى تصوّر التضادّ في عالم الامتثال والتحرّك ، ففي هذا العالم هل يمكن أن يتحرّك المكلّف نحو الفعلين المتضادّين ، بحيث يكون المطلوب منه هو الجمع بين الضدّين أم لا يمكن ذلك؟

فنقول : إنّ التحرّك نحو إنقاذ الغريق لا يجتمع مع التحرّك نحو امتثال الصلاة ؛ لأنّ كلاّ منهما يستدعي متطلّبات تتنافى مع المتطلّبات التي يستدعيها الآخر في مقام الاشتغال والامتثال والتحرّك ، ولهذا فالمنشأ الذي يمكن تصوّره لاستحالة الأمر بالضدّين إنّما هو بلحاظ عالم الامتثال ؛ لأنّ كلّ أمر يقرّب نحو امتثال متعلّقه بقدر ما يبعّد عن امتثال الأمر الآخر (١).

__________________

(١) ولكن لا بدّ من الالتفات إلى فارق بين هذه اللحاظات ، فإنّ اللحاظين الأوّلين إذا فرض التضادّ فيهما فهو راجع إلى المولى ، بمعنى أنّ المولى لا يصدر منه الحبّ والبغض أو الملاكات المتضادّة ، ولا يصدر منه طلب الجمع بينهما في وقت واحد. وأمّا بلحاظ عالم الامتثال فهو راجع إلى المكلّف ، بمعنى أنّ المكلّف لا يمكنه امتثال الضدّين معا.

٦٢

النقطة الثانية : أنّ وجوب أحد الضدّين إذا كان مقيّدا بعدم امتثال التكليف بالضدّ الآخر أو بالبناء على عصيانه فهو وجوب مشروط على هذا النحو ، ويستحيل أن يكون هذا الوجوب المشروط منافيا في فاعليّته ومحرّكيّته للتكليف بالضدّ الآخر ، إذ يمتنع أن يستند إليه عدم امتثال التكليف بالضدّ الآخر ؛ لأنّ هذا العدم مقدّمة وجوب بالنسبة إليه ، وكلّ وجوب مشروط بمقدّمة وجوبيّة لا يمكن أن يكون محرّكا نحوها وداعيا إليها كما تقدّم مبرهنا في الحلقة السابقة (١) ، وإذا امتنع استناد عدم امتثال التكليف بالضدّ الآخر إلى هذا الوجوب المشروط تبرهن أنّ هذا الوجوب لا يصلح للمانعيّة المزاحمة في عالم التحريك والامتثال.

النقطة الثانية : في بيان استحالة أن يكون التكليف بالضدّ المهمّ مانعا عن المحرّكيّة أو عن امتثال التكليف بالأهمّ.

والوجه في ذلك : هو أنّ أحد الضدّين إذا كان مقيّدا ومأخوذا في وجوبه عدم الاشتغال بالضدّ الآخر أو مقيّدا بعصيان الضدّ الآخر ـ على الخلاف في كيفيّة تقييد الضدّ كما سيأتي ـ فهذا يعني أنّ وجوب الضدّ صار وجوبا مشروطا ، وشرطه هو عدم امتثال الضدّ الآخر أو عصيان الضدّ الآخر.

وحينئذ يستحيل أن يكون وجوب الضدّ المشروط مانعا ومنافيا لمحرّكيّة وفاعليّة وجوب الضدّ الآخر ؛ لأنّه لمّا كان مشروطا بعدمه فعدمه مقدّمة وجوبيّة لوجوب الضدّ المشروط ، والوجوب المشروط لا يحرّك نحو مقدّمته. إذا فوجوب الضدّ المشروط لا يحرّك نحو عدم الضدّ الآخر ؛ لأنّه مقدّمة وجوبيّة له ، فلا وجود له قبل هذه المقدّمة ليكون محرّكا نحو عدمه.

فإذا فرض وجود هذا الضدّ المشروط فهذا يفترض في رتبة سابقة انتفاء الضدّ الآخر من نفسه أو بسبب آخر ، فإذا صار الضدّ المشروط موجودا وفعليّا لم يمنع عن امتثال الضدّ الآخر ؛ لفرض انتفائه في هذه الحالة ، والشيء لا يكون مانعا عن شيء آخر معدوم ؛ لأنّ المانعيّة إنّما تكون عن الأمر الوجودي أي أنّها فرع وجود الممنوع أوّلا

__________________

(١) في بحث الدليل العقلي ، ضمن الحديث عن قاعدة تنوّع القيود وأحكامها ، تحت عنوان : أحكام القيود المتنوّعة.

٦٣

فتمنع عنه ثانيا ، وهنا الممنوع عنه يفترض انتفاؤه في نفسه لكي يتحقّق وجوب الضدّ المشروط بعدمه.

وبتعبير آخر : إنّ مانعيّة الضدّ المشروط بعدم الضدّ الآخر عن امتثال الضدّ الآخر مستحيلة لوجوه :

أوّلها : ما تقدّم من أنّ عدم الضدّ الآخر صار مقدّمة وجوبيّة ؛ ووجوب الشيء لا يدعو إلى تحقيق مقدّماته الوجوبيّة ؛ لأنّها فوق وجوبه وفي مرتبة أسبق عن وجوده ، أي أنّها توجد قبله فلا يكون هو محرّكا نحوها ؛ لأنّه إذا فرض وجوده فهذا يفترض مسبقا تحقّقها من قبل.

وثانيها : أنّ الوجوب في طول مقدّماته الوجوبيّة رتبة ، فلو كان يدعو ويحرّك نحوها لزم كونها في طوله فيلزم الدور ، أو التقدّم والتأخّر بين الوجوب ومقدّمته وهو مستحيل.

وثالثها : أنّ وجوب الضدّ المشروط بعدم امتثال الضدّ الآخر لا يمكنه أن يحقّق موضوع نفسه ؛ لأنّ الحكم في طول الموضوع ، والموضوع هنا قد أخذ فيه عدم امتثال الضدّ الآخر ليصبح فعليّا ثمّ تتبعه بعد ذلك فعليّة الموضوع. فلو كان داعيا إلى قيود موضوعه لزم الخلف أو التقدّم والتأخّر ، وهو مستحيل أيضا.

وبهذا ظهر أنّ الأمر بالمهمّ المشروط بعدم امتثال الأمر بالأهمّ يستحيل أن يكون محرّكا وداعيا إلى عدم امتثال الأمر بالأهمّ ، وحينئذ فلا تقع المنافاة بين ثبوت الأمر بالمهمّ وبين محركيّة وفاعليّة الأمر بالأهمّ ؛ لأنّ إحدى المحرّكيّتين والفاعليّتين منتفية لا محالة عند ثبوت وتحقّق الأخرى.

وهذا نظير سائر الوجوبات المشروطة كوجوب الحجّ المشروط بالاستطاعة مثلا ، فإنّ وجوب الحجّ لا يكون داعيا ومحرّكا نحو تحقيق الاستطاعة ؛ لأنّها من المقدّمات الوجوبيّة ، والوجوب لا يحرّك نحو مقدّماته الوجوبيّة ؛ لأنّها فوق الوجوب ، أي أنّها سابقة في الرتبة عن الوجوب نفسه ، ففرض وجود وتحقّق الوجوب يلزمه لا محالة فرض تحقّق مقدّماته.

ففي المثال فرض وجوب الحجّ على المكلّف إذا صار فعليّا ، فهذا معناه أنّ الاستطاعة كانت فعليّة أوّلا ؛ إذ يستحيل فعليّة وجوب الحجّ مع كون الاستطاعة غير فعليّة في رتبة سابقة.

٦٤

إذا لا منافاة ولا تضادّ ولا ممانعة بين وجوب المهمّ المشروط بعدم الأهمّ وبين امتثال الأمر بالأهمّ ، بمعنى أنّ المهمّ لا يدعو ولا يحرّك نحو عدم امتثال الأهمّ ، فمن ناحية المهمّ لا منافاة.

وأمّا بالنسبة للأهمّ فهل يمنع عن امتثال المهمّ ويحرّك نحو عدم امتثاله أم لا؟ فهذا ما نوضّحه في النقطة الثالثة :

النقطة الثالثة : أنّ التكليف بالضدّ الآخر إمّا أن يكون مشروطا بدوره أيضا بعدم امتثال هذا الوجوب المشروط ، وإمّا أن يكون مطلقا من هذه الناحية ، فعلى الأوّل يستحيل أن يكون منافيا للوجوب المشروط في مقام التحريك بنفس البيان السابق ، وعلى الثاني يستحيل ذلك أيضا ؛ لأنّ التكليف بالضدّ الآخر مع فرض إطلاقه وإن كان يبعّد عن امتثال الوجوب المشروط ، ويصلح أن يستند إليه عدم وقوع الواجب بذلك الوجوب المشروط ، ولكنّه إنّما يبعّد عن امتثال الوجوب المشروط بتقريب المكلّف نحو امتثال نفسه الذي يساوق إفناء الوجوب المشروط ونفي موضوعه ، وهذا يعني أنّه يقتضي نفي امتثال الوجوب المشروط بنفي أصل الوجوب المشروط وإعدام شرطه ، لا نفيه مع حفظ الوجوب المشروط وحفظ شرطه ، والوجوب المشروط إنّما يأبى عن نفي امتثال نفسه مع حفظ ذاته وشرطه ، ولا يأبى عن نفي ذلك بنفي ذاته وشرطه رأسا ؛ إذ يستحيل أن يكون حافظا لشرطه ومقتضيا لوجوده.

وبهذا يتبرهن أنّ الأمرين بالضدّين إذا كان أحدهما على الأقلّ مشروطا بعدم امتثال الآخر كفى ذلك في إمكان ثبوتهما معا بدون تناف بينهما.

النقطة الثالثة : في بيان أنّ الأمر بالأهمّ لا يكون مانعا عن محرّكيّة وفاعليّة الأمر بالمهمّ.

تقدّم أنّ وجوب أحد الضدّين لا يدعو ولا يحرّك نحو عدم امتثال الضدّ الآخر بالبيان السابق ، يبقى الكلام في الضدّ الآخر فهو لا يخلو إمّا أن يكون مشروطا بعدم امتثال الضدّ الأوّل ، وإمّا أن يكون مطلقا وغير مشروط بذلك.

فإن كان مشروطا بعدم امتثال الضدّ الأوّل ـ كما إذا كانا متساويين في الأهمّيّة ـ فهو أيضا يستحيل أن يكون محرّكا وداعيا نحو عدم امتثال الضدّ الأوّل بنفس البيان السابق من كونه وجوبا مشروطا وهو لا يدعو إلى تحقيق شرطه ؛ لأنّه مقدّمة وجوبيّة

٦٥

له ، والوجوب لا يدعو إلى تحقيق مقدّماته الوجوبيّة ، مضافا إلى ما ذكرناه من وجوه أخرى للاستحالة.

وأمّا إن لم يكن مشروطا بعدم امتثال الضدّ الأوّل ، بل كان مطلقا من هذه الناحية ـ كما إذا كان أهمّ من الضدّ الأوّل ـ فهنا أيضا يستحيل أن يدعو إلى عدم امتثال الضدّ الأوّل المهمّ ، وذلك بالبيان التالي :

إنّ وجوب الضدّ الآخر الأهمّ وجوبه مطلق وفعلي سواء كان المكلّف بصدد الاشتغال بالضدّ المهمّ أم لا ؛ لأنّ معنى إطلاقه هو كونه فعليّا في جميع الحالات ، وحينئذ يكون الأمر بالأهمّ داعيا ومحرّكا أوّلا وبالذات نحو تحقيق متعلّق نفسه ؛ لأنّ كلّ أمر يدعو إلى تحقيق متعلّقه أوّلا وبالذات ، وحيث إنّه وجوب مطلق غير مشروط فهو بالإضافة إلى داعويّته نحو تحقيق متعلّقه ، يدعو ثانيا وبالعرض إلى عدم التحرّك نحو الأمر بالمهمّ ، فيكون عدم امتثال الأمر بالمهمّ مستندا إلى الأمر بالأهمّ ، ولكن لا مباشرة بل على أساس الملازمة.

وتوضيحها : أنّ الأمر بالأهمّ له مدلول مطابقي وهو داعويّته إلى تحقيق متعلّق نفسه وعدم هدمه ، وله مدلول التزامي بسبب كونه مطلقا وفعليّا في كلّ الحالات ، وهو داعويّته إلى عدم تحقيق الأمر بالمهمّ ، فهو يقرّب المكلّف نحو تحقيق متعلّقه وامتثاله ، ويبعّده عن تحقيق الأمر بالمهمّ وامتثاله ، ولكن هاتان الداعويّتان ليستا في عرض واحد وفي رتبة واحدة ، بل إحداهما في طول الأخرى ، فإنّ الداعويّة الثانية كانت على أساس الملازمة المتقدّمة.

وبكلمة ثانية : أنّ الأمر بالأهمّ لمّا كان يدعو المكلّف ويقرّبه نحو امتثاله وتحقيق متعلّقه ، فهذا نفسه يساوق ويلازم التبعيد عن امتثال الأمر بالمهمّ والتحرّك نحو تحقيق متعلّقه ، ووجه هذه المساوقة هو أنّ الأمر بالأهمّ لمّا كان يدعو ويقرّب إلى تحقيق متعلّقه وامتثاله ، فهذا نفسه يعني إعدام شرط الوجوب في الأمر بالمهمّ ؛ لأنّ الأمر بالمهمّ مشروط بعدم امتثال الأمر بالأهمّ.

ففي حالة امتثال الأمر بالأهمّ يكون شرط الوجوب في المهمّ منتفيا وموضوعه غير محقّق ، والأمر بالأهمّ يدعو بالملازمة أو بالعرض إلى إفناء شرط وجوب الأمر بالمهمّ وإعدام موضوعه ، فيصحّ استناد عدم الأمر بالمهمّ إليه من هذه الناحية ، وإن

٦٦

كان هو بذاته لا يدعو ولا يقرّب إلا إلى متعلّقه وامتثاله فقط.

نعم ، لو كان الأمر بالأهمّ يدعو ويقرّب نحو عدم امتثال الأمر بالمهمّ ، مع وجود شرطه وحفظه ومع تحقّق موضوعه ، لكانت هذه المحرّكيّة والداعويّة مستحيلة ؛ لأنّه مع حفظ شرط المهمّ وتحقّق موضوعه يعني أنّ الأمر بالأهمّ منتفيا ؛ لأنّ شرط الأمر بالمهمّ هو عدم امتثال الأمر بالأهمّ ، فمع عدم امتثاله يكون وجوب الأمر بالمهمّ محفوظا ، وحينئذ يأبى عن الانتفاء والانعدام لصيرورته فعليّا لفعليّة شرطه وموضوعه ، فيقع التنافي حينئذ بين الأمرين.

إلا أنّنا لا نفترض ذلك ، بل نقول : إنّ الأمر بالأهمّ ينفي أصل وجود الأمر بالمهمّ من خلال نفيه لشرطه وموضوعه ، فهو منتف من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، لا من باب وجود المانع عنه ، أي أنّه لا يوجد المقتضي لوجود الأمر بالمهمّ مع وجود الأمر بالأهمّ ، لا أنّ المقتضي موجود وإنّما يرتفع بسبب المانع ، فإنّ ارتفاعه عندئذ مستحيل ؛ للتعارض والتضادّ بينهما.

وبتعبير آخر : إنّ الأمر بالأهمّ لمّا كان مطلقا وفعليّا فهو حين امتثاله وتحقيق متعلّقه سوف يحقّق مطلبين :

أحدهما : امتثال الأمر بالأهمّ بامتثال متعلّقه وتحقيق موضوعه ، وهذا يعني استيفاء الملاك منه بإيجاده.

والآخر : امتثال الأمر بالمهمّ وذلك بإعدام شرطه وانتفاء موضوعه ، وهذا يعني أيضا استيفاء الملاك من الأمر بالمهمّ برفع موضوعه.

والنتيجة : أنّ المكلّف يكون ممتثلا لكلا الأمرين بفعل الأهمّ ، أحدهما بإيجاده والآخر بإعدامه ورفع موضوعه (١).

__________________

(١) ويمكننا أن نضيف وجها آخر وهو ما أفاده الميرزا ، وحاصله أن يقال : إنّ مقتضى الأمر بالأهمّ هو الإتيان بمتعلّقه وامتثاله ، فهو يحرّك نحو الأهم وفعله ، ويمنع عن هدمه ، ومقتضى الأمر بالمهمّ كذلك ، فهو يحرّك نحو متعلّق نفسه ويمنع عن هدمه. فالأمر بالإزالة يحرّك نحو الإزالة ويمنع عن إعدامها وهدمها ، والأمر بالصلاة يحرّك نحو الصلاة ويمنع عن هدمها. إذا فالمقتضي في كلّ منهما مغاير ومباين للآخر ، فلا أحدهما يمنع عن الآخر ولا يحرّك نحو عدم الآخر في مقام الامتثال.

٦٧

وبهذا يظهر أنّ الأمرين بالضدّين بنحو الترتّب ممكن وليس مستحيلا ؛ لأنّه لا تنافي ولا تضادّ بينهما لا في عالم الملاكات والإرادة والمبادئ ، ولا في عالم الجعل والتكليف ، ولا في عالم الامتثال.

وهكذا نعرف أنّ العقل يحكم بأنّ كلّ وجوب مشروط ـ إضافة إلى القدرة التكوينيّة ـ بعدم الابتلاء بالتكليف بالضدّ الآخر ، بمعنى عدم الاشتغال بامتثاله ، ولكن لا أيّ تكليف آخر ، بل التكليف الذي لا يقلّ في ملاكه أهمّيّة عن ذلك الوجوب ، سواء ساواه أو كان أهمّ منه.

وأمّا إذا كان التكليف الآخر أقلّ أهميّة من ناحية الملاك فلا يكون الاشتغال بامتثاله مبرّرا شرعا لرفع اليد عن الوجوب الأهمّ ، بل يكون الوجوب الأهمّ مطلقا من هذه الناحية كما تفرضه أهمّيّته.

ومن هنا نصل إلى صيغة عامّة للتقييد يفرضها العقل على كلّ تكليف ، وهي تقييده بعدم الاشتغال بامتثال واجب آخر لا يقلّ عنه أهمّيّة.

وأمّا النتيجة فهي : أنّ العقل يقيّد التكليف بالقدرة ، بمعنى أنّه يشترط في كلّ تكليف القدرة تكوينيّا على متعلّقه وهذا ما تقدّم سابقا ، ويشترط أيضا ألاّ يكون المكلّف مبتليا بالاشتغال بالضدّ الآخر ، بحيث لا يتمكّن المكلّف من الجمع بينهما في مقام الامتثال لعدم قدرته على الجمع ، وهذا ما أثبتناه هنا من خلال النقاط الثلاث المتقدّمة.

ولكن لا بدّ أن نعرف أي نوع من التكليف هو الذي يكون مأخوذا عدم الاشتغال به قيدا في التكليف الآخر؟

والجواب : أنّ التكليف المأخوذ عدم الاشتغال به قيدا في التكليف هو التكليف الذي لا يقلّ أهمّيّة عن التكليف الآخر ، فلا بدّ أن يكون إمّا مساويا أو أهمّ من التكليف الآخر ، وليس مطلق الاشتغال بالتكليف يكون مانعا عن امتثال التكليف الآخر ، فإنّه إذا كان التكليف الذي يشتغل به مساويا أو أهمّ فإنّه يمنع من التكليف الآخر ، حيث يكون مقيّدا بعدم الاشتغال بالتكليف المساوي أو الأهمّ ، فلا تكليف فعلا به.

وأمّا إذا كان يشتغل بتكليف يقلّ في الأهمّيّة عن التكليف الآخر ، فهنا لا يكون مثل هذا الاشتغال مانعا عن التكليف بالأهمّ ؛ لأنّ قيده وهو عدم الاشتغال بالضدّ

٦٨

الأهمّ أو المساوي غير متحقّق ، فلا يكون مقيّدا ولا مشروطا في هذه الحالة ، بل يكون مطلقا ممّا يعني أنّه فعليّ على كلّ حال ، ولذلك فيجب على المكلّف أن يترك الضدّ الأقلّ أهمّيّة ويشتغل بالتكليف الأهمّ ، ولا يكون اشتغاله بالأقلّ أهمّيّة مسوّغا شرعا ومعذّرا للمكلّف في تركه للأهمّ.

ومن هنا نصل إلى الصياغة النهائيّة لشرطيّة القدرة في التكليف بالمعنى الأعمّ وهي : أنّ العقل يشترط في كلّ تكليف القدرة عليه تكوينا وعدم الاشتغال بامتثال واجب آخر لا يقلّ أهمّيّة عنه. وأمّا متى نعرف الأهم أو المساوي أو الأقلّ أهمّيّة؟

فتوضيح ذلك ضمن المثال التالي :

وعلى هذا الأساس إذا وقع التضادّ بين واجبين كالصلاة وإنقاذ الغريق ، أو الصلاة وإزالة النجاسة عن المسجد ، فالتعرّف على أنّ أيّهما وجوبه مطلق ، وأيّهما وجوبه مقيّد بعدم الاشتغال بالآخر يرتبط بمعرفة النسبة بين الملاكين.

فإن كانا متساويين كان الاشتغال بكلّ منهما مصداقا لما حكم العقل بأخذ عدمه قيدا في كلّ تكليف ، وهذا يعني أنّ كلاّ من الوجوبين مشروط بعدم امتثال الآخر ، ويسمّى بالترتّب من الجانبين.

وإن كان أحد الملاكين أهمّ كان الاشتغال بالأهمّ مصداقا لما حكم العقل بأخذ عدمه قيدا في وجوب المهمّ ، ولكن الاشتغال بالمهمّ لا يكون مصداقا لما حكم العقل بأخذ عدمه قيدا في وجوب الأهمّ. وينتج هذا أنّ الأمر بالأهمّ مطلق والأمر بالمهمّ مقيّد ، وأنّ المكلّف لا بدّ له من الاشتغال بالأهمّ لكيلا يبتلى بمعصية شيء من الأمرين ، ولو اشتغال بالمهمّ لابتلي بمعصية الأمر بالأهمّ.

ومن أجل التعرّف على كيفيّة تطبيق هذا الشرط نأخذ الأمثلة التالية :

أن يقع التضادّ والتزاحم بين وجوب إنقاذ الغريق وبين وجوب الصلاة ، أو يقع التزاحم والتضادّ في عالم الامتثال بين وجوب الصلاة وبين وجوب إزالة النجاسة عن المسجد ، فهنا إذا أردنا أن نعرف الملاك الأهمّ أو المساوي من الأقلّ أهمّيّة ، فلا بدّ لنا من معرفة النسبة بين الملاكين ، لكي يتمّ الترجيح بلحاظ الأهمّيّة ، وهذه المرجّحات سوف يأتي الكلام عنها مفصّلا في باب التزاحم.

ومن باب المثال نقول : إنّه إذا كان أحد المتزاحمين مشروطا بالقدرة العقليّة والآخر

٦٩

بالقدرة الشرعيّة كان الأوّل مقدّما على الثاني وأهمّ منه ؛ لأنّ القدرة الشرعيّة تكون دخيلة في الملاك ، بحيث لا يوجد ملاك مع انتفائها ، بخلاف القدرة العقليّة فإنّها القدرة التي يحكم باشتراطها العقل في كلّ تكليف.

وهذا يعني أنّ المقيّد بالقدرة الشرعيّة مقيّد أيضا بالقدرة العقليّة ولا عكس ، وحينئذ إذا امتثل التكليف المقيّد بالقدرة العقليّة ارتفع موضوع التكليف المقيّد بالقدرة الشرعيّة ؛ لارتفاع ملاكه بخلاف العكس.

وهكذا يعرف الأهمّ فيما لو دار التزاحم بين الضدّين ، وكان لأحدهما بدل وليس للآخر بدل ، فإنّ الأهمّ يكون ما لا بدل له.

وعلى كلّ حال فالنسبة بين الملاكين في التكليفين المتضادّين على نحوين :

الأوّل : أن يكون الملاكان متساويين ، فهنا يكون الشرط المذكور موجودا في كلّ منهما ، فمثلا لو فرض المساواة بين ملاك الإزالة وملاك الصلاة ، فيكون وجوب الإزالة مشروطا بعدم الاشتغال بالصلاة ، ويكون وجوب الصلاة مشروطا بعدم الاشتغال بالإزالة ، فوجوب كلّ منهما أخذ فيه عدم الاشتغال بامتثال التكليف الآخر ، فلو كان مشتغلا فعلا بالتكليف الآخر لكان التكليف بالضد منتفيا لارتفاع موضوعه ؛ لأنّ شرطه لم يتحقّق ، وهذا ما يسمّى بالترتّب من الجانبين ، بمعنى أنّ الشرطيّة كانت في الضدّين معا.

الثاني : أن يكون أحد الملاكين أهمّ من الآخر ، فهنا تكون الشرطيّة من جانب واحد فقط ، وهو التكليف الأقلّ أهمّيّة دون التكليف الأهمّ ، فإنّه يبقى على إطلاقه من ناحية هذه الشرطيّة.

فمثلا لو فرض أهمّيّة إنقاذ الغريق على الصلاة أو على إزالة النجاسة عن المسجد ، فهنا وجوب الإنقاذ لمّا كان هو الأهمّ فهو مطلق من ناحية الشرطيّة المذكورة ، بمعنى أنّه يجب امتثاله في جميع الحالات ، أي سواء كان مشتغلا بالأقلّ أهمّيّة أم لا ، فإنّ معنى إطلاقه كونه فعليّا في كلّ الحالات ، فحتّى لو كان مشتغلا بالأقلّ أهمّيّة يكون فعليّا ويجب امتثاله ؛ لأنّ الاشتغال بالآخر الأقلّ أهمّيّة لا يرفع موضوعه ؛ لأنّ المفروض أنّه ليس مقيّدا بعدم الاشتغال به ، إذ قد فرضناه مطلقا وأهمّ ، فلا يكون لتركه أي مبرّر شرعا ، ولذلك يعاقب على تركه.

٧٠

بينما وجوب الضدّ الآخر الأقلّ أهمّيّة يكون مشروطا بعدم الاشتغال بالأهم ؛ لأنّ الشرطيّة متحقّقة هنا ؛ لأنّها تكون في كلّ تكليف يقلّ أهمّيّة أو يساوي التكليف الآخر.

فوجوب الصلاة مشروط بعدم الاشتغال بالإنقاذ ، بمعنى أنّ المكلّف لو عصى وجوب الإنقاذ لصار وجوب الصلاة فعليّا عليه ؛ لتحقّق شرطه وموضوعه. وأمّا إذا اشتغل بالأهمّ فلا فعليّة لوجوبه ؛ لعدم تحقّق موضوعه إذ المفروض انتفاء شرطه.

وهذا ما يسمّى بالترتّب من جانب واحد ؛ بمعنى أنّ الأقلّ أهمّيّة هو المشروط فقط دون الأهمّ فإنّه مطلق.

وبهذا ينتهي البحث عن أصل فكرة الترتّب ، وقد ظهر أنّها ممكنة عقلا ، وقد بيّنا شرحها مختصرا.

[ ثمرات بحث الترتّب ]

ويترتّب على ما ذكرناه من كون القدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ شرطا عامّا في التكليف بحكم العقل عدّة ثمرات مهمّة :

منها : أنّه كلّما وقع التضادّ بين واجبين بسبب عجز المكلّف عن الجمع بينهما كالصلاة والإزالة ـ وتسمّى بحالات التزاحم ـ فلا ينشأ من ذلك تعارض بين دليلي وجوب الصلاة ووجوب الإزالة ؛ لأنّ الدليل مفاده جعل الحكم على موضوعه الكلّي وضمن قيوده المقدّرة الوجود ـ كما مرّ بنا في الحلقة السابقة (١) ـ ومن جملة تلك القيود القدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ المتقدّم ، ولا يحصل تعارض بين الدليلين إلا في حالة وجود تناف بين الجعلين ، وحيث لا تنافي بين جعل وجوب الصلاة المقيّد بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ وجعل وجوب الإزالة المقيّد كذلك فلا تعارض بين الدليلين.

ثمرات بحث الترتّب : يترتّب على القول بإمكان الترتّب عدّة ثمرات مهمّة ، بعضها على مستوى البحث النظري الأصولي ، وبعضها على مستوى البحث العملي الفقهي :

__________________

(١) في بحث التعارض ، تحت عنوان : التعارض بين الأدلّة المحرزة.

٧١

الثمرة الأولى : دخول التضادّ بين الواجبين في عالم الامتثال في باب التزاحم لا التعارض.

ولتوضيح هذا الأمر المهمّ نذكر تعريف التزاحم والتعارض ؛ ليتّضح لنا أنّ التضادّ بين الواجبين هل هو من مصاديق التزاحم أو من مصاديق التعارض؟

التعارض اصطلاحا : هو التنافي بين الدليلين بلحاظ عالم الجعل بحيث لا يمكن جعلهما معا ولا يمكن أن يكونا معا حجّة ؛ لمكان التكاذب والتنافي والتعاند بينهما ، كما في ( صلّ ولا تصلّ ) ، أو كما في ( أكرم كلّ عالم ولا تكرم الفاسق ) ، فإنّ التنافي في المثال الأوّل بنحو التباين الكلّي ؛ لأنّ النسبة بينهما هي نسبة التناقض ، بينما في المثال الثاني هي نسبة العموم من وجه ؛ ففي مورد الاجتماع أي العالم الفاسق يقع التنافي والتعاند.

وأمّا التزاحم : فهو التنافي بين الدليلين بلحاظ عالم الامتثال ، بحيث لا يتمكّن المكلّف في مقام الامتثال من الإتيان بكلا المتعلّقين بسبب عجزه وعدم قدرته على الجمع بينهما ، كما في ( صلّ وأنقذ الغريق ) ، فإنّه لا تنافي بينهما لا في عالم المبادئ والملاكات ولا في عالم الجعل والتشريع والحجّيّة ، وإنّما بلحاظ عالم الامتثال حيث يكون الوقت ضيّقا لا يتّسع إلا لأحدهما ، فيقع التنافي بينهما والتعاند ؛ إذ مع ضيق الوقت لن يتمكّن المكلّف إلا من امتثال أحدهما فقط ولا يمكنه الجمع بينهما في الوقت.

وبعد ذلك نعود للإجابة عن السؤال المتقدّم فنقول : إنّ التضادّ بين الواجبين في عالم الامتثال ـ إن قلنا باستحالة الترتّب ـ سوف يدخل في باب التعارض ويكون باب التزاحم من صغريات باب التعارض ، فتطبّق عليه قواعد التعارض الآتية.

والوجه في دخوله في باب التعارض : أنّنا إذا بنينا على استحالة الترتّب فسوف يكون كلا الواجبين مطلقا وفعليّا حتّى لحالة الاشتغال بالآخر ، فوجوب الصلاة يكون فعليّا سواء اشتغل بالإزالة أم لا ، تمسّكا بإطلاق دليله ، ووجوب الإزالة كذلك.

وحينئذ يقع التنافي بين الوجوبين أنفسهما ، ممّا يعني أنّ الدليلين الدالّين على الوجوبين متنافيان ولا يمكن الأخذ بهما معا ولا القول بحجّيّتهما كذلك ؛ للتكاذب والتنافي بين الجعلين الذي يسري إلى الدليلين في مقام التشريع.

٧٢

بينما إذا قلنا بإمكان الترتّب فسوف يكون الواجبان المتضادّان داخلين في باب التزاحم ، وسوف يكون باب التزاحم بابا مستقلا عن باب التعارض ، له أحكامه وقواعده الخاصّة به والمستقلّة عن قواعد أحكام التعارض.

والوجه في ذلك : هو أنّنا إذا قلنا بإمكان الترتّب فسوف يكون وجوب الصلاة مثلا مقيّدا بعدم الاشتغال بالإزالة ، ووجوب الإزالة كذلك ـ فيما لو كانا متساويين ـ أو أحدهما مطلق والآخر مقيّد فيما لو كان أحدهما أهمّ من الآخر.

وعليه ، فإذا كان مشتغلا بالأهمّ أو المساوي سوف يرتفع موضوع الآخر فلا تكليف به فعلا ، فلا تنافي بين الوجوبين والجعلين ؛ لأنّ أحدهما ثابت والآخر مرتفع لعدم تحقّق موضوعه ، فيمكن الجمع بين الدليلين الدالّين على الوجوبين والأخذ بهما معا والقول بحجّيّتهما كذلك ، غايته كون الوجوب في كلّ منهما مقيّدا ومشروطا بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ بحكم العقل كما تقدّم.

ولا يوجد تعارض بينهما لعدم التنافي بين الجعلين كما ذكرنا ، وإنّما التنافي بينهما بلحاظ عالم الامتثال فقط ، والذي أمكن رفعه على أساس الترتّب ، وما دام لا تنافي بين الجعلين فيهما فلا تنافي بين الدليلين الدالّين على الجعلين أيضا.

فإن قيل : كيف لا يوجد تعارض بين دليلي ( صلّ ) و ( أزل ) مع أنّ الأوّل يقتضي بإطلاقه إيجاب الصلاة سواء أزال أم لا ، والثاني يقتضي بإطلاقه إيجاب الإزالة سواء صلّى أم لا ، ونتيجة ذلك أن يكون الجمع بين الضدّين مطلوبا؟

كان الجواب علي ذلك : أنّ كلاّ من الدليلين لا إطلاق فيه بحدّ ذاته لحالة الاشتغال بضدّ لا يقلّ عنه أهمّيّة ؛ لأنّه مقيّد عقلا بعدم ذلك كما تقدّم ، فإن كان الواجبان المتزاحمان متساويين في الأهمّيّة فلا إطلاق في كلّ منهما لحالة الاشتغال بالآخر ، وإن كان أحدهما أهمّ فلا إطلاق في غير الأهمّ لذلك. وعلى كلّ حال فلا يوجد إطلاقان كما ذكر ليقع التعارض بينهما ، وهذا ما يقال : من أنّ باب التزاحم مغاير لباب التعارض ولا يدخل ضمنه ولا تطبّق عليه قواعده.

قد يشكل على ما ذكر من أنّ باب التزاحم مستقلّ في نفسه ولا يدخل في باب التعارض حتّى على القول بإمكان الترتّب بالإشكال التالي : أنّ الواجبين المتضادّين يوجد تعارض بين دليليهما ؛ وذلك لأنّ مثل دليل وجوب الصلاة ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ، )

٧٣

ومثل دليل وجوب إنقاذ الغريق ( وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ) مطلق ، وإطلاقهما يشمل ما إذا كان مشتغلا بشيء آخر أم لا ، فتجب عليه الصلاة مطلقا ؛ إذ لا مقيّد في دليلها سواء اشتغل بالإزالة أو بالإنقاذ أم لم يشتغل بشيء من ذلك وكذا العكس.

وحينئذ يقع التنافي والتكاذب بين هذين الإطلاقين ؛ لأنّ المكلّف في مقام الامتثال لا يمكنه الأخذ بهما معا ، لعدم قدرته عليهما ولا بأحدهما دون الآخر لكونه ترجيحا من دون مرجّح ، فيتعيّن تساقطهما.

وهذا معناه أنّ التنافي والتضادّ في مقام الامتثال يسري إلى الدليلين أنفسهما ؛ لأنّ المطلوب من المكلّف هو الجمع بين الضدّين عملا بالإطلاق فيهما ، وحيث إنّه مستحيل فيستحيل الأخذ بهما.

والجواب عن ذلك : أنّ استحالة الجمع بين الضدّين نشأت من الحفاظ على الإطلاق في كلا الدليلين ، فإذا لم يكن فيهما إطلاق فلا مانع من الأخذ بهما معا.

وقد ذكرنا فيما تقدّم أنّ العقل يشترط القدرة التكوينية في كلّ تكليف بالمعنى الأعمّ المتقدّم ، فيكون كلّ تكليف مقيّدا بقيد لبّي متّصل وهو قيد القدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ ، وهذا معناه أنّ دليل وجوب الصلاة مقيّد فيما إذا لم يكن مشتغلا بامتثال واجب آخر أهمّ أو مساو ، وهكذا بالنسبة لدليل وجوب الإزالة أو الإنقاذ فيما إذا كان مساويا في الأهمّيّة لوجوب الصلاة ، وأمّا إذا لم يكن مساويا بل كان أهمّ فيكون مطلقا من هذه الناحية.

وحينئذ لن يقع التعارض بين الدليلين في مقام الامتثال ولن يسري منه إلى الجعلين والدليلين ؛ لأنّ اشتغاله بالأهمّ أو المساوي معناه ارتفاع موضوع الدليل المساوي أو الأقلّ أهمّيّة ؛ لعدم تحقّق شرطه وقيده وهو ألاّ يكون مشتغلا بالأهمّ أو المساوي ؛ لأنّ المفروض أنّه مشتغل به بالفعل.

ومنه يظهر أنّ باب التزاحم بين الواجبين باب مستقلّ في نفسه عن باب التعارض وله أحكامه وقواعده الخاصّة به ، وليس داخلا فيه وليس من صغرياته أيضا.

وكما يكون التزاحم بين واجبين يعجز المكلّف عن الجمع بينهما ، كذلك يكون بين واجب وحرام يعجز المكلّف عن الجمع بين إيجاد الواجب منهما وترك الحرام ،

٧٤

كما إذا ضاقت قدرة المكلّف في مورد ما عن إتيان الواجب وترك الحرام معا.

التزاحم بين الواجب والحرام : وهنا يتعرّض السيّد الشهيد لمطلب أجنبي عن بيان الثمرات عرضا ، وهو ما إذا تزاحم الواجب مع الحرام كما إذا كان إنقاذ الغريق الواجب مزاحما مع امتثال حرمة الغصب ، بأن توقّف إنقاذ الغريق على المرور بالأرض المغصوبة أو على ركوب السفينة المغصوبة ، ولا يتصوّر فرض المزاحمة بين الواجب والحرام إلا إذا كان فعل الواجب متوقّفا على ارتكاب الحرام ، بحيث كان الواجب مقدّمة للحرام.

وهنا بحث مفصّل سوف يأتي في باب المقدّمة.

وحاصله أن يقال : إنّ الواجب الذي صار مقدّمة للحرام إمّا أن يكون موصّلا أو لا يكون كذلك ، والمقدّمة إمّا أن تكون واجبة أو لا تكون كذلك.

فإن لم تكن المقدّمة واجبة أصلا وقع التزاحم بين وجوب إنقاذ الغريق وبين اجتياز الأرض المغصوبة ، وحينئذ يقدّم الأهمّ ملاكا.

وإن كانت المقدّمة واجبة وقع التعارض ؛ لأنّ اجتياز الأرض المغصوبة حرام نفسيّا بذاته ومع صيرورته مقدّمة للواجب يصبح واجبا غيريّا بالعرض ، واجتماع الحرمة والوجوب على شيء واحد يوجب التعارض بين دليل الحرمة ودليل الواجب ، فيدخل في باب التعارض ؛ لأنّ اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد يقع صغرى لباب التعارض.

وإن كانت المقدّمة الواجبة موصلة للواجب الأهمّ بحيث لا يمكن إنقاذ الغريق إلا باجتياز الأرض المغصوبة وكان إنقاذه هو الأهمّ ، فهنا سوف تسقط الحرمة عن اجتياز الأرض المغصوبة تطبيقا لقواعد التزاحم من تقديم الأهمّ على الأقلّ أهمّيّة ، بحيث يكون الأقلّ أهمّيّة مشروطا بعدم امتثال الأمر الأهمّ.

وإن لم تكن المقدّمة موصلة فإن لم نقل بوجوب مطلق المقدّمة كان اجتياز الأرض حراما ولا يوجد ما يحول دون هذه الحرمة ؛ لأنّه لن يؤدّي إلى امتثال الواجب ، وأمّا إن قلنا بوجوب مطلق المقدّمة كما هو رأي صاحب ( الكفاية ) فيكون اجتيازها وإن لم يوصل إلى الواجب الأهمّ واجبا أيضا ، فيقع التعارض بين دليل الحرمة ودليل الواجب النفسي بلحاظ الأرض المغصوبة.

٧٥

هذا بنحو مختصر وسوف يأتي التعرّض للمطلب مفصّلا ، وكان الأنسب تأجيل هذا البحث ولو بنحو الإشارة إلى محلّه.

ومنها : أنّ القانون الذي تعالج به حالات التزاحم هو تقديم الأهمّ ملاكا على غيره ؛ لأنّ الاشتغال بالأهمّ ينفي موضوع المهمّ دون العكس ، هذا إذا كان هناك أهمّ ، وأمّا مع التساوي فالمكلّف مخيّر عقلا ؛ لأنّ الاشتغال بكلّ واحد من المتزاحمين ينفي موضوع الآخر. وإذا ترك المكلّف الواجبين المتزاحمين معا استحقّ عقابين لفعليّة كلا الوجوبين في هذه الحالة.

الثمرة الثانية : التي تترتّب على القول بإمكان الترتّب ، هي أنّ التزاحم بعد أن يصير بابا مستقلاّ عن باب التعارض سوف تكون له أحكامه وقواعده الخاصّة به ، وهي :

أوّلا : تقديم الأهمّ ملاكا على غيره فيما إذا كان أحد المتزاحمين أهمّ من الآخر ، وذلك وفقا لما تقدّم سابقا من أنّه إذا كان أحد الضدّين أهمّ فسوف يكون مطلقا وفعليّا في جميع الحالات ، ويكون الضدّ الآخر المقابل له هو المقيّد فقط ؛ لأنّ الشرط غير متوفّر بالنسبة للأهمّ ؛ لأنّه كان عبارة عن عدم الاشتغال بواجب لا يقلّ عنه أهمّيّة ، والمفروض أنّ الضدّ الآخر يقلّ أهمّيّة من الأهمّ فالاشتغال به لا يرفع موضوع الأهمّ ، بخلاف الاشتغال بالأهم فإنّه يرفع موضوع المهمّ أو الأقلّ أهمّيّة.

وأمّا كيف نعرف الواجب الأهمّ من غيره فهذا ما سوف يأتي الكلام عنه مفصّلا في باب التزاحم.

وثانيا : إذا كان الضدّان متساويين في الأهمّيّة فيكون كلّ واحد منهما مشروطا بعدم الاشتغال من الآخر ؛ لأنّ الترتّب يكون من الجانبين ، وهذا يعني أنّ الاشتغال بأحدهما يرفع موضوع الآخر ، ولذلك يكون المكلّف مخيّرا بينهما ؛ إذ لا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر لكونه من دون مرجّح ، ولا يمكن تركهما معا ؛ لكون الترك معصية لكلّ منهما ، ولا يمكن الأخذ بهما معا لعجز المكلّف وعدم قدرته فيتعيّن التخيير.

وثالثا : أنّ المكلّف لو فرض أنّه ترك كلا الواجبين المتزاحمين لكان مستحقّا لعقابين ؛ وذلك لأنّه سوف يكون كلا الواجبين فعليّين ، فإنّه إن كان أحدهما أهمّ ففعليّته مطلقة ، سواء اشتغل بالآخر أم لا ، وإن كانا متساويين ففعليّة كلّ منهما

٧٦

مشروطة بترك الآخر ، والمفروض هنا أنّه تركه ، فيكون المكلّف قد ترك تكليفين فعليّين فيستحقّ عقوبتين ؛ لجمعه بين المعصيتين لا لكون المطلوب منه الجمع بين الطلبين فإنّه مستحيل كما تقدّم سابقا (١).

ومنها : أنّ تقديم أحد الواجبين في حالات التزاحم بقانون الأهمّيّة لا يعني سقوط الواجب الآخر رأسا ، كما هي الحالة في تقديم أحد المتعارضين على الآخر ، بل يبقى الآخر واجبا وجوبا منوطا بعدم الاشتغال بالأهمّ ، وهذا ما يسمّى بالوجوب الترتّبي ، ولا يحتاج إثبات هذا الوجوب الترتّبي إلى دليل خاصّ ، بل يكفيه نفس الدليل العامّ ؛ لأنّ مفاده ـ كما عرفنا ـ وجوب متعلّقه مشروطا بعدم الاشتغال بواجب لا يقلّ عنه أهمّيّة ، والوجوب الترتّبي هو تعبير آخر عن ذلك بعد افتراض أهمّيّة المزاحم الآخر.

الثمرة الثالثة : أنّه في باب التعارض إذا قدّم أحد الدليلين المتعارضين على الآخر من جهة وجود بعض المرجّحات فيه ـ إن من ناحية السند أو من ناحية الدلالة ـ كان الدليل الآخر ساقطا عن الحجّيّة رأسا ، ولا يمكن التعبّد والأخذ به مطلقا سواء اشتغل بالدليل الراجح أم لا ، فإنّ عصيانه وعدمه لا يؤثّر في الدليل المرجوح شيئا.

بينما في باب التزاحم إذا قدّم أحد الواجبين على الآخر كتقديم الأهمّ على الأقلّ أهمّيّة مثلا ، لا يعني أنّ الدليل الأقلّ أهمّيّة قد سقط عن الحجّيّة رأسا ، بحيث لم يعد ممكنا الأخذ به مطلقا ، بل يبقى على الحجّيّة المشروطة بمعنى أنّ وجوبه يبقى وجوبا مشروطا بعدم الاشتغال بالواجب الآخر الأهمّ ، كما هو مقتضى الترتّب ، ويسمّى هذا الوجوب بالوجوب الترتّبي ، ولكنّه لا يصبح وجوبا فعليّا إلا إذا ترك الاشتغال بالأهمّ ، فإنّه في حالة تركه للأهمّ يتحقّق موضوعه فيصبح فعليّا.

__________________

(١) وبهذا يجاب عن الإشكال الذي طرحه صاحب ( الكفاية ) من استحالة الترتّب ؛ لاستلزامه تعدّد العقاب حال الترك الكاشف عن تعدّد المطلوب والمأمور به ، فإنّه وإن كان العقاب متعدّدا إلا أنّه لا يكشف عن تعدّد المطلوب والمأمور به ، فيمكن أن يكون المأمور به شيئا واحدا ولكنّ العقاب متعدّد كالواجب الكفائي مثلا حال الترك ، فإنّه شيء واحد ولكنّ العقاب على الجميع الذين كانوا حاضرين وقادرين على العمل. وهنا كذلك فإنّ المطلوب أحد المتزاحمين ـ أي كلاهما مشروط بترك الآخر ـ فهما شيء واحد ، ولكنّه لو تركهما استحقّ عقابين.

٧٧

وقد يقال : إنّنا لو تصوّرنا الأمر الترتّبي بالنحو المذكور بحيث يكون مشروطا بعصيان الأمر بالأهمّ إلا أنّ جعله شرعا مستحيل ؛ لأنّ الشرط المأخوذ فيه يجعله مستحيلا فلا يمكن جعله ، فيحتاج إلى دليل خاصّ لإثباته ، ومثل هذا الدليل الخاصّ لا وجود له.

أمّا أنّه لا وجود لمثل هذا الدليل الخاصّ على الوجوب الترتّبي ، فلأنّ أدلّة الوجوب مطلقة بحسب لسانها من ناحية هذا الشرط.

وأمّا إنّه مستحيل جعله بهذا النحو المشروط فهو إمّا من جهة استحالة الشرط المأخوذ فيه ؛ لأنّه أمّا شرط مقارن فيبتلي بمحذور انتفاء الداعويّة ؛ لأنّه من طلب الحاصل. وأمّا شرط متقدّم فيبتلي بمحذور تغاير الزمان بين الشرط والواجب ، وأمّا لأنّه شرط متأخّر فيبتلي بمحذور الواجب المعلّق ، كما سيأتي توضيح ذلك كلّه عند الكلام عن الشرط المتأخّر.

وجوابه : أنّ نفس إمكان الترتّب عقلا يغنيه عن الدليل الخاصّ ، فلا يحتاج إثباته إلى دليل بل يكفيه دليل ثبوته وإمكانه ، لأنّ العقل لمّا حكم بتقييد التكليف بأن لا يكون مشتغلا بواجب آخر لا يقلّ أهمّيّة عنه صار هذا القيد اللبّي متّصلا بالخطاب ، فيصبح وجوبه ترتّبيّا أي مشروطا بعدم الاشتغال بالضدّ الأهمّ أو المساوي.

ومن نتائج هذه الثمرة : أنّ الصلاة إذا زاحمت إنقاذ الغريق الواجب الأهمّ واشتغل المكلّف بالصلاة بدلا عن الإنقاذ صحّت صلاته على ما تقدّم ؛ لأنّها مأمور بها بالأمر الترتّبي ، وهو أمر محقّق فعلا في حقّ من لا يمارس فعلا امتثال الأهمّ.

ومن النتائج العمليّة المترتّبة على القول بإمكان الترتّب والوجوب المشروط : هو أنّ المكلّف إذا دار الأمر عنده بين واجب أهمّ كإنقاذ الغريق وواجب أقلّ أهمّيّة كوجوب الصلاة أو إزالة النجاسة عن المسجد ، وفرض أنّ هذا المكلّف قد عصى التكليف الأهمّ ولم يشتغل به ، وإنّما اشتغل بالواجب الأقلّ أهمّيّة كان عمله صحيحا ؛ لأنّ هذا الواجب كان مشروطا بعدم الاشتغال بالأهمّ.

وهذا الشرط متحقّق بهذا الفرض فيكون تكليفا فعليّا بحقّه ، وامتثاله يعني امتثال المأمور به صحيحا ومجزيا ولا يحتاج إلى دليل خاصّ لإثبات صحّته وإجزائه ، بل هو

٧٨

ثابت بنفس الوجوب الترتّبي كما تقدّم ؛ إذ المفروض أنّ الوجوب الترتّبي ثابت ولا يسقط بعدم تحقّق شرطه.

وهذا بخلاف ما لو قلنا باستحالة الترتّب ، فإنّه حينئذ سوف تكون صلاته باطلة في هذا الفرض ، ولذلك قال :

وأمّا إذا أخذنا بوجهة نظر صاحب ( الكفاية ) رحمه‌الله القائل بأنّ الأمرين بالضدّين لا يجتمعان ولو على وجه الترتّب ، فمن الصعب تصحيح الصلاة المذكورة ؛ لأنّ صحّتها فرع ثبوت أمر بها ، ولا أمر بها ولو على وجه الترتّب بناء على وجهة النظر المذكورة.

فإن قيل : يكفي في صحّتها وفاؤها بالملاك وإن لم يكن هناك أمر.

كان الجواب : أنّ الكاشف عن الملاك هو الأمر ، فحيث لا أمر لا دليل على وجود الملاك.

إذا أخذنا بوجهة نظر صاحب ( الكفاية ) القائلة باستحالة الترتّب ، وأنّ الأمرين بالضدّين لا يمكن اجتماعهما ولا يمكن طلبهما ولو على وجه الترتّب ، فمن الصعب أن يحكم بصحّة الصلاة في الفرض المذكور ؛ وذلك لأنّه مع وجود الواجب الأهمّ سوف يكون الاشتغال بالصلاة الأقلّ أهمّيّة من دون أمر ؛ إذ المفروض أنّ الأمر المطلق بالصلاة مستحيل لاستلزامه طلب الجمع بين الضدّين ؛ لأنّ المفروض أيضا إنّ الإنقاذ وجوبه مطلق ، ومعنى الإطلاق كما تقدّم كونه فعليّا في جميع الحالات سواء اشتغل بغيره أم لا ، والأمر الترتّبي بالصلاة مستحيل عند صاحب ( الكفاية ) ؛ لأنّ الترتّب نفسه مستحيل عنده كما تقدّم. وحينئذ لا يبقى أمر بالصلاة ، والفعل العبادي يحتاج إلى الأمر به ليقع عباديّا ، وبالتالي ليحكم بصحّته وإجزائه.

وقد يقال : إنّه بالإمكان تصحيح الصلاة في الفرض المذكور حتّى مع القول باستحالة الترتّب ؛ وذلك لأنّ الفعل العبادي يمكن أن يقع قربيّا ومجزيا فيما إذا كان المكلّف قاصدا تحصيل الملاك الموجود فيه ، فإنّه لا يشترط دائما وقوع الفعل العبادي عن الأمر به ، بل يكفي فيه أن يكون الفعل وافيا بالملاك ؛ لأنّ كلّ أمر وراؤه ملاك فيمكنه أن يقصد الملاك كما يمكنه أن يقصد الأمر.

وفي مقامنا حيث إنّ الأمر بالصلاة يسقط لمكان التعارض بينها وبين إنقاذ الغريق ،

٧٩

إلا أنّ ملاك الصلاة يبقى ثابتا ولا موجب لسقوطه ؛ لأنّه يقتصر في موارد التساقط بالتعارض على المقدار الذي يحلّ به التعارض وهو لا يزيد هنا عن الأمر فقط ، فسقوط المقدار الزائد مئونة إضافية لا مبرّر لها.

ولكن يجاب عن ذلك : أنّ الملاك وإن كان كافيا في بعض الحالات لإثبات صحّة العبادة وإمكان التقرّب بها حتّى مع سقوط الأمر ـ كما إذا كان ممنوعا من استعمال الماء لمرض ونحوه فنسي وتوضّأ ، فإنّه وإن لم يكن فيه أمر ولكنّه استوفى الملاك منه فيقع صحيحا ومجزيا مع فرض تحقّق قصد القربة منه ـ إلا أنّه في مقامنا حيث حكمنا بالتعارض والتساقط بين الدليلين فكما يسقط الخطاب بالصلاة يسقط الملاك أيضا لنفس نكتة التعارض ، فإنّ الملاك لا يمكن الكشف عنه إلا عن طريق الأمر والخطاب ، فإذا سقط الأمر الكاشف عن الملاك سقط الملاك المنكشف به ؛ لأنّ المدلول الالتزامي تابع في الحجّيّة للمدلول المطابقي (١).

__________________

(١) يمكننا هنا إضافة تخريجين آخرين لتصحيح الصلاة مع فرض مخالفة الواجب الأهمّ :

الأوّل : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) من أنّه يوجد أمران أحدهما بالأهمّ والآخر بالجامع بين الواجبين المتضادّين ، فإذا عصى الأهمّ يكون قد عصى أحد الخطابين فيبقى الخطاب الآخر ثابتا بحقّه ، فإذا صلّى يكون قد حقّق أحد فردي الجامع المأمور به فتقع صحيحة.

وجوابه : أنّه ممكن ثبوتا إلا أنّه لا دليل عليه إثباتا ، فإنّه لا يوجد فيما عندنا من الآيات أو الروايات ما ظاهره مثل هذين الأمرين.

الثاني : ما ذكره المحقّق العراقي من أنّه يوجد أمر ونهي في موارد التزاحم بين الواجبين ، أمر بالواجب الأهمّ أو بأحد الواجبين إن كانا متساويين ، ونهي عن الجمع بين ترك كلا الضدّين الواجبين ، وفي مقامنا إذا ترك المكلّف الواجب الأهمّ يكون عاصيا لخطاب الأمر ، إلا أنّه يبقى عليه أن يمتثل لخطاب النهي ؛ وذلك بأن لا يترك الصلاة في المقام ؛ لأنّه إذا تركها مضافا إلى تركه للواجب الآخر يكون قد جمع بين ترك كلا الضدّين. وعليه ، فإذا صلى يكون قد امتثل لخطاب النهي ، فيكون مطيعا بصلاته لوجوب خطاب بها فتقع صحيحة ومجزية.

وجوابه : أنّه وإن كان ممكنا ثبوتا ، إلا أنّه لا دليل عليه إثباتا كما تقدّم في الجواب السابق ، مضافا إلى أنّ تحويل الأمرين بالواجبين إلى أمر ونهي على خلاف الظاهر جدّا.

٨٠