شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٩

قاعدة

إمكان الوجوب المشروط

١٠١
١٠٢

قاعدة إمكان الوجوب المشروط

للوجوب ثلاث مراحل ، وهي :

الملاك ، والإرادة ، وجعل الحكم. وفي كلّ من هذه المراحل الثلاث قد تؤخذ قيود معيّنة ، فاستعمال الدواء للمريض واجب مثلا ، فإذا أخذنا هذا الواجب في مرحلة الملاك نجد أنّ المصلحة القائمة به هي حاجة الجسم إليه ليسترجع وضعه الطبيعي ، وهذه الحاجة منوطة بالمرض ، فإنّ الإنسان الصحيح لا حاجة به إلى الدواء ، وبدون المرض لا يتّصف الدواء بأنّه ذو مصلحة ، ومن هنا يعبّر عن المرض بأنّه شرط في اتّصاف الفعل بالملاك ، وكلّ ما كان من هذا القبيل يسمّى بشرط الاتّصاف.

مقدّمة البحث : القيود والشروط تارة تكون راجعة إلى الوجوب فيكون الوجوب مشروطا ، وأخرى تكون راجعة إلى الواجب فيكون الواجب معلّقا.

فالاستطاعة مثلا شرط في وجوب الحجّ بحيث لا يكون الحجّ واجبا على المكلّف فيما إذا لم يكن مستطيعا ، والوضوء شرط في الصلاة الواجبة ، بحيث تكون الصلاة من دون وضوء أو طهارة باطلة وغير صحيحة.

وقد وقع الإشكال في إمكانيّة جعل الوجوب المشروط ، وقيل بإرجاع الشروط كلّها إلى الواجب ، ولذلك عقد السيّد الشهيد هذا البحث من أجل إثبات إمكانيّة الوجوب المشروط ، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى فإنّ القيود والشروط نفسها تقسّم إلى قسمين : فمنها ما يسمّى بشروط وقيود الاتّصاف ، ومنها ما يسمّى بشروط وقيود الترتّب.

ولذلك أيضا بيّن السيّد الشهيد حقيقة هذه القيود وكيف يمكن أخذها في التكليف في مراحله الثلاث ؛ أي الملاك ، والإرادة ، وجعل الحكم.

١٠٣

والمراد من شروط الاتّصاف هو أنّ الفعل لا يتّصف بالمصلحة إلا إذا تحقّق الشرط ، فلا تكون المصلحة فعليّة إلا بعد وجود هذا الشرط.

بينما المراد من شروط الترتّب هو أنّ استيفاء المصلحة من الفعل على الوجه المطلوب منه لا يتحقّق إلا بوجود الشرط ، ومن دون هذا الشرط لا تستوفى ولا تترتّب المصلحة المرجوّة من الفعل.

وبيان هذا الأمر يستدعي البحث عن كلّ مرحلة من مراحل الوجوب ، لنرى كيف تكون القيود المأخوذة فيها ، وأنّها قيود وشروط للاتّصاف أم للترتّب؟ وبعد ذلك بحث حول إمكانيّة واستحالة الوجوب المشروط ، فنقول :

المرحلة الأولى : مرحلة الملاك ، والشروط فيها تارة تكون للاتّصاف وأخرى للترتّب.

ونطبّق الفكرة ضمن المثال التالي : استعمال الدواء واجب للمريض. ففي مرحلة الملاك نلاحظ أنّ استعمال المريض للدواء ناتج عن حاجة الجسم للشفاء من المرض لكي يعود إلى وضعه الطبيعي ، وحاجة الجسم هذه لا تتحقّق فيما إذا كان سليما من المرض ، بل تتحقّق مع وجود المرض ، بحيث لو لا وجود المرض لم يكن الجسم محتاجا إلى الدواء أصلا ، ولذلك يكون الإنسان الصحيح والسليم غير محتاج إلى الدواء ، بينما الإنسان المريض محتاج إلى الدواء ، ومن هنا كان الدواء ذا مصلحة للمريض دون الصحيح ، ممّا يعني أنّ المرض شرط وقيد لاتّصاف الدواء بالمصلحة ولولاه لم يكن فيه مصلحة أصلا.

والحاصل : وأنّ المرض شرط للاتّصاف بالمصلحة ، أي أنّه لا ملاك من دون هذا الشرط.

ثمّ إنّنا قد نفترض الشرط في هذه المرحلة للترتّب ، بمعنى أنّ المصلحة والملاك لا يستوفيان من الفعل إلا إذا تحقّق الشرط ، ومن دونه لا تستوفى المصلحة وإن كانت موجودة بالفعل ، ولذلك يقول السيّد الشهيد :

ثمّ قد نفرض أنّ الطبيب يأمر بأن يكون استعمال الدواء بعد الطعام ، فالطعام هنا شرط أيضا ولكنّه ليس شرطا في اتّصاف الفعل بالمصلحة ، إذ من الواضح أنّ المريض مصلحته في استعمال الدواء منذ يمرض ، وإنّما الطعام شرط في ترتّب تلك

١٠٤

المصلحة وكيفيّة استيفائها بعد اتّصاف الفعل بها ، فالطبيب بأمره المذكور يريد أن يوضح أنّ المصلحة القائمة بالدواء لا تستوفى إلا بحصّة خاصّة من الاستعمال ، وهي استعماله بعد الطعام ، وكلّ ما كان من هذا القبيل يسمّى بشرط الترتّب تمييزا له عن شرط الاتّصاف ، وشرب الدواء ـ سواء كان مطلوبا تشريعيّا من قبل الآمر أو مطلوبا تكوينيّا لنفس المريض ـ له هذان النحوان من الشروط.

وأمّا تطبيق شروط الترتّب في مرحلة الملاك فتتوضّح ضمن المثال التالي :

استعمال الدواء للمريض واجب بعد تناوله الطعام أو في المساء مثلا. فهنا نلاحظ أنّ تقييد الاستعمال بكيفيّة خاصّة منه أو بفترة زمنيّة معيّنة لا ترجع إلى قيود الاتّصاف ؛ لأنّه من الواضح أنّ المريض يحتاج إلى الدواء ومصلحته فعليّة في استعمال الدواء لأجل الشفاء من المرض ؛ لأنّه ما دام المرض موجودا فالمصلحة متحقّقة في استعمال الدواء ، ولكن حيث إنّ استعمال الدواء له حصص كثيرة إن من جهة الكيف أو الكم أو الزمان ، فإذا اشترط استعماله في زمان أو كيفيّة أو كميّة معيّنة معلومة ، فهذا معناه أنّ ترتّب المصلحة المرجوّة من استعمال الدواء من أجل الشفاء من المرض لا تتحقّق ولا تترتّب ولا تستوفى إلا بعد توفّر القيد والشرط المذكور.

ممّا يعني أنّ استيفاء المصلحة من الدواء لا يكون مطلقا ، بل الاستعمال الخاصّ هو الموجب لترتّب هذه المصلحة ، بحيث لو استعمل المريض الدواء من دون هذا الشرط لم تترتّب المصلحة المرجوّة من الدواء ولم يتحقّق الشفاء أصلا.

ومن هنا كان التقييد المذكور شرطا للاستيفاء والترتّب لا للاتّصاف ؛ لأنّ الدواء يتّصف بأنّه ذو مصلحة للإنسان ما دام مريضا ؛ لأنّ المرض هو الذي يحقّق الاتّصاف بالمصلحة ، بينما كيفيّة ونوعيّة الاستعمال تحقّق الاستيفاء لهذه المصلحة.

وبهذا يتبيّن أنّ الشروط في مرحلة الملاك تارة تكون راجعة إلى اتّصاف الفعل بالمصلحة فتسمّى بشروط الاتّصاف ، وأخرى تكون راجعة إلى كيفيّة استيفاء وترتّب هذه المصلحة فتسمّى بشروط الترتّب.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون الفعل المطلوب فعلا تشريعيّا كطلب الآمر من مأموره ذلك ، أو أن يكون فعلا تكوينيّا كسعي الإنسان بنفسه لتحصيل الفعل ، فشرب الدواء مثلا له هذان النحوان من القيود ( الاتّصاف والترتّب ) ، سواء كان طلبه

١٠٥

من الآمر ـ والذي هو الطلب التشريعي ـ كأن يأمر المولى عبده بتناول الدواء ، أو كان طلبه من المكلّف نفسه ـ والذي هو الطلب التكويني ـ كأن يسعى المريض بنفسه لتناول الدواء من دون طلب من أحد.

وشروط الاتّصاف تكون شروطا لنفس الإرادة في المرحلة الثانية ، خلافا لشروط الترتّب فإنّها شروط للمراد لا للإرادة ، من دون فرق في ذلك كلّه بين الإرادة التكوينيّة والتشريعيّة.

فالإنسان لا يريد أن يشرب الدواء إلا إذا رأى نفسه مريضا ، ولا يريد من مأموره أن يشرب الدواء إلا إذا كان كذلك ، ولكنّ إرادة شرب الدواء للمريض أو لمن يوجّهه فعليّة قبل أن يتناول الطعام. ولهذا فإنّ المريض قد يتناول الطعام لا لشيء إلا حرصا منه على أن يشرب الدواء بعده وفقا لتعليمات الطبيب ، وهذا يوضّح أنّ تناول الطعام ليس قيدا للإرادة بل هو قيد للمراد ، بمعنى أنّ الإرادة فعليّة ومتعلّقة بالحصّة الخاصّة ، وهي شرب الدواء المقيّد بالطعام ، ومن أجل فعليّتها كانت محرّكة نحو إيجاد القيد نفسه.

المرحلة الثانية : مرحلة الإرادة ، وفي هذه المرحلة يمكننا أيضا أن نفترض شروط الاتّصاف وشروط الترتّب ، ولكن شروط الاتّصاف تكون راجعة إلى الإرادة نفسها ، بينما شروط الترتّب تكون راجعة إلى المراد لا إلى الإرادة. سواء كانت الإرادة تكوينيّة أم تشريعيّة.

وتوضيح ذلك : نأخذ المثال السابق : ( استعمال الدواء واجب للمريض بعد الطعام ). فهنا قيد الاتّصاف هو المرض كما تقدّم ، وقيد الترتّب هو بعد الطعام ، فالإنسان تحصل له إرادة لشرب الدواء فيما إذا كان مريضا فعلا ، وأمّا إذا لم يكن مريضا فلا تحصل له إرادة لذلك ، سواء كانت الإرادة تكوينيّة فيما إذا كان هو نفسه رأى أنّه مريض ، أو كانت تشريعيّة فيما إذا رأى أنّ مأموره مريض فعلا. فالمرض قيد للإرادة نفسها ، وهو من شروط الاتّصاف كما تقدّم.

وأمّا قيد الترتّب أي بعد الطعام فهو ليس شرطا للإرادة نفسها ؛ لوضوح أنّ المريض فعلا له إرادة لتناول الدواء سواء تناول الطعام أم لم يتناوله. نعم ، قيد بعد الطعام شرط لترتّب المراد ، فإنّ ترتّب الشفاء مقيّد بأن يكون شرب الدواء بعد الطعام ، فيكون تناوله

١٠٦

للطعام شرطا في ذلك ، والمريض يريد أن يتناول الطعام لا لشيء سوى لحصول هذا المراد ، فكان هذا القيد شرطا في تحقّق المراد لا الإرادة.

وبتعبير آخر : إنّ الإرادة الفعليّة لتناول الدواء المتحقّقة بوجود المرض فعلا ثابتة وفعليّة قبل تناول الطعام ، وهي التي تحرّك المريض نحو تناول الطعام لأجل استيفاء المراد من شرب الدواء وهو الشفاء ، فلأجل أنّ الإرادة فعليّة في رتبة سابقة تحدث للمريض فعليّة ومحرّكيّة نحو تحقيق القيد وهو بعد الطعام ، لأجل الحصول على المراد الذي لا يتحقّق إلا بهذا القيد الذي هو الحصّة الخاصّة الذي تعلّقت به الإرادة ؛ لأنّ المريض له إرادة فعليّة لإيجاد الحصّة الخاصّة من شرب الدواء لا شربه مطلقا ، بل شربه المقيّد بتناول الطعام والذي به يتحقّق المراد.

والحاصل : نّ قيود الاتّصاف ترجع إلى الإرادة فهي لا تكون فعليّة إلا بوجود هذه القيود ، بينما قيود الترتّب ترجع إلى المراد ؛ لأنّ الإرادة تكون فعليّة قبلها وهي التي تدعو إلى إيجادها وتحقيقها من أجل استيفاء وحصول المراد بالفعل بعد تحقّقها.

غير أنّ الإرادة التي ذكرنا أنّها مقيّدة بشروط الاتّصاف ليست منوطة بالوجود الخارجي لهذه الشروط ، بل بوجودها التقديري اللحاظي ؛ لأنّ الإرادة معلولة دائما لإدراك المصلحة ولحاظ ما له دخل في اتّصاف الفعل بها لا لواقع تلك المصلحة مباشرة ، وما أكثر المصالح التي لا تؤثّر في إرادة الإنسان لعدم إدراكه ولحاظه لها.

وهنا تساؤل يجيب عنه السيّد الشهيد ، وحاصله : أنّ الإرادة المنوطة بشروط الاتّصاف هل هي منوطة بها بوجودها الخارجي أم بوجودها اللحاظي التقديري؟

والجواب : أنّ قيود الاتّصاف الراجعة إلى الإرادة تكون بوجودها التقديري اللحاظي شروطا في تحقّق الإرادة لا بوجودها الخارجي ، فالمرض مثلا بوجوده التقديري اللحاظي يكون سببا لحدوث الإرادة لشرب الدواء سواء كان الإنسان مريضا فعلا وحقيقة أم لا ؛ لأنّه يكفي أن يتصوّر نفسه مريضا ويعتقد بذلك حتّى تحدث في نفسه الإرادة.

والوجه في ذلك : هو أنّ الإرادة معلولة لإدراك المصلحة ، فما دام المكلّف يرى أنّ المصلحة في تناول الدواء فيما إذا كان مريضا فسوف تحدث له إرادة تناول الدواء بمجرّد أن يعتقد ويتصوّر أنّه مريض ولو كان اعتقادا مخطئا ؛ لأنّه ما دام تصوّر أنّه

١٠٧

مريض وكان يعلم بأنّ تناول الدواء فيه مصلحة للشفاء فسوف تنقدح في نفسه إرادة تناوله حتما وقهرا ؛ لأنّ المعلول يتحقّق قهرا فيما إذا تحقّقت علّته ، وهنا المصلحة معلومة ومتصوّرة فيتّبعها جزما الإرادة.

ولا يمكن أن تكون الإرادة تابعة لقيود الاتّصاف بوجودها الخارجي ؛ إذ من الواضح أنّ الإنسان المريض واقعا وحقيقة ولكنّه لا يعلم بأنّه مريض سوف لا تنقدح في نفسه إرادة شرب الدواء ، ممّا يعني أنّ الوجود الواقعي والخارجي لقيود الاتّصاف ليست هي المؤثّرة في حصول الإرادة ، وإلا للزم أن تحصل له الإرادة حتّى مع جهله بأنّه مريض ، وهذا واضح البطلان وجدانا.

بل إنّ كثيرا من المصالح تفوّت على الإنسان لا لشيء سوى لجهله وعدم إدراكه ولحاظه لها مع كونها موجودة بالفعل خارجا.

نعم ، تختلف شروط الاتّصاف الراجعة إلى الملاك عن تلك الراجعة إلى الإرادة ، ولذلك قال :

فشروط الاتّصاف بوجودها الخارجي دخيلة في الملاك ، وبوجودها التقديري اللحاظي دخيلة في الإرادة فلا مصلحة في الدواء إلا إذا كان الإنسان مريضا حقّا ، ولا إرادة للدواء إلا إذا لاحظ الإنسان المرض وافترضه في نفسه أو فيمن يتولّى توجيهه.

وفي ختام البحث حول هذه النقطة يظهر الفرق بين شروط الاتّصاف الراجعة إلى الملاك والتي تكون بوجودها الخارجي الحقيقي قيدا في اتّصاف الفعل بالملاك والمصلحة ، فإنّ الإنسان لا يكون شرب الدواء ذا مصلحة وملاك له إلا إذا كان مريضا حقيقة وفعلا ، ولا يكفي مجرّد تصوّره وافتراضه ولحاظه للمرض في اتّصاف الفعل بالملاك ؛ لأنّ الملاك والمصلحة من الأمور التكوينيّة الحقيقيّة ، فلا بدّ أن يكون سببها موجودا حقيقيّا أيضا.

وهذا بخلاف قيود الاتّصاف الراجعة إلى الإرادة ، فإنّها بوجودها التقديري اللحاظي الافتراضي تكون سببا لحدوث الإرادة ، فإنّ الإنسان إذا اعتقد بأنّه مريض تحدث في نفسه إرادة شرب الدواء سواء كان مريضا حقيقة أم لا ، وأمّا إذا كان مريضا حقيقة ولكنّه لم يعلم بذلك فسوف لا تحدث له الإرادة المذكورة.

١٠٨

ولذلك صحّ القول بأنّ قيود الاتّصاف بوجودها الواقعي الحقيقي تكون دخيلة في الملاك ، وبوجودها اللحاظي التقديري تكون دخيلة في الإرادة سواء كانت إرادة تكوينيّة أم إرادة تشريعيّة.

ونفس الفارق بين شروط الاتّصاف وشروط الترتّب ينعكس على المرحلة الثالثة ، وهي مرحلة جعل الحكم ، فقد علمنا سابقا أنّ جعل الحكم عبارة عن إنشائه على موضوعه الموجود ، فكلّ شروط الاتّصاف تؤخذ مقدّرة الوجود في موضوع الحكم ، وتعتبر شروطا للوجوب المجعول ، وأمّا شروط الترتّب فتكون مأخوذة قيودا للواجب.

المرحلة الثالثة : مرحلة جعل الحكم ، وفي هذه المرحلة أيضا يمكننا أن نفترض شروط الاتّصاف وشروط الترتّب ، ولكن شروط الاتّصاف تكون راجعة للوجوب المجعول بنحو الفرض والتقدير ، بينما شروط الترتّب تكون راجعة إلى الواجب نفسه.

وتوضيحه أن يقال : نأخذ المثال السابق : ( استعمال الدواء واجب على المريض بعد الطعام ). فهنا المرض شرط لاتّصاف استعمال الدواء بالوجوب ، فالإنسان إذا كان مريضا يجب عليه استعمال الدواء ، بخلاف الإنسان الصحيح والمعافى فإنّه لا يجب عليه ذلك ، فلو لا وجود المرض لم يتّصف استعمال الدواء بالوجوب.

ولكن حيث إنّ للوجوب مرحلتين : إحداهما مرحلة جعل الحكم على موضوعه المفترض والمقدّر الوجود ، والأخرى مرحلة الحكم المجعول والوجوب الفعلي بعد تحقّق موضوعه في الخارج ، فتكون شروط الاتّصاف مأخوذة في الوجوب بلحاظ المرحلة الأولى ، أي الحكم المفترض على موضوعه المقدّر ، وهو ما يسمّى بالجعل أو بالحكم الإنشائي.

وهذا معناه أنّ هذه الشروط مأخوذة في موضوع الوجوب بنحو الفرض والتقدير ، ويكون المراد أنّ الوجوب ثابت في فرض ثبوت المرض ، فلا يصبح الوجوب فعليّا في المرحلة الثانية إلا إذا صار المرض فعليّا ، أي اعتقد المكلّف بأنّه مريض فعلا ، سواء كان مريضا حقيقة وواقعا أم كان مخطئا في تشخيصه.

ومع فعليّة المرض يصبح الوجوب فعليّا على المكلّف ، ويخرج من مرحلة الجعل إلى مرحلة الحكم المجعول ؛ ولذلك تكون شروط الاتّصاف شروطا للوجوب المجعول

١٠٩

أيضا ، بمعنى أنّ فعليّة الوجوب لا تتحقّق إلا بعد أن تصبح شروط الاتّصاف فعليّة أيضا.

والحاصل : أنّ شروط الاتّصاف تؤخذ مقدّرة الوجود بلحاظ الحكم والوجوب الإنشائي ـ أي مرحلة الجعل ـ فلا وجوب أصلا إذا لم يكن هذا الشرط مفترضا ، ولكن هذا الوجوب لا يصبح فعليّا ولا يخرج إلى مرحلة الحكم المجعول ، إلا إذا صارت شروط الاتّصاف فعليّة أيضا ، بأن رأى الإنسان نفسه مريضا مثلا.

تماما كما هو الحال في أخذ الاستطاعة في وجوب الحجّ ، فإنّ وجوب الحجّ بمعنى الوجوب الإنشائي في مرحلة الجعل قد أخذ فيه الاستطاعة ، بحيث لو لا الاستطاعة لم يكن الحجّ واجبا أصلا ، ولكن وجوب الحجّ الفعلي وخروجه من مرحلة الجعل إلى مرحلة المجعول والفعليّة تتوقّف على فعليّة الاستطاعة بأن يرى المكلّف نفسه مستطيعا بالفعل ، ولا يكفي افتراض الاستطاعة وتقديرها هنا.

وأمّا شروط الترتّب ، ففي المثال المذكور يكون قيد بعد الطعام من شروط الواجب نفسه لا الوجوب ؛ وذلك لأنّ الوجوب ثابت وفعلي عند حدوث المرض ، وأمّا تناول الطعام فهو قيد لتحصيل الغرض من استعمال الدواء وهو الشفاء ، فلأجل أن يترتّب الشفاء من استعمال الدواء الواجب على المريض لا بدّ أن يكون هذا الاستعمال بعد الطعام لا مطلقا ، فبعديّة الطعام قيد للاستعمال من أجل أن يترتّب الغرض منه وهو الشفاء وليست قيدا لأصل وجوب تناول الدواء ، فإنّه فعلي لفعليّة المرض.

وحينئذ يكون المراد أنّ تناول الدواء بعد الطعام هو الواجب على المريض ، فالوجوب مطلق من جهة هذا القيد ، ولكنّ التناول هو المقيّد به ، بحيث يكون الوجوب منصبّا على الحصّة الخاصّة من التناول لا مطلقه.

وبهذا اتّضح أنّ شروط الاتّصاف راجعة إلى الوجوب ، بينما شروط الترتّب راجعة إلى الواجب أي متعلّق الوجوب.

ولتوضيح المطلب أكثر قال السيّد الشهيد :

وإذا لاحظنا المرحلة الثالثة بدقّة ، وميّزنا بين الجعل والمجعول ـ كما مرّ بنا في الحلقة السابقة (١) ـ نجد أنّ الجعل باعتباره أمرا نفسانيّا منوط ومرتبط بشروط

__________________

(١) في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : قاعدة إمكان التكليف المشروط.

١١٠

الاتّصاف بوجودها التقديري اللحاظي ـ كالإرادة تماما ـ لا بوجودها الخارجي ، ولهذا كثيرا ما يتحقّق الجعل قبل أن توجد شروط الاتّصاف خارجا.

وأمّا فعليّة المجعول فهي منوطة بفعليّة شروط الاتّصاف بوجودها الخارجي ، فما لم توجد خارجا كلّ القيود المأخوذة في موضوع الحكم لا يكون المجعول فعليّا.

وأمّا شروط الترتّب فتؤخذ قيودا في الواجب تبعا لأخذها قيودا في المراد.

وبهذا نعرف أنّ الوجوب المجعول لا ثبوت له قبل وجود شروط الاتّصاف ؛ لأنّه مشروط بها في عالم الجعل.

في هذه النقطة يبيّن السيّد الشهيد الفرق بين الجعل والمجعول في كيفيّة أخذ القيود فيهما ، وعلى ضوء ذلك سوف تندفع الإشكالات الواردة حول إمكانيّة الوجوب المشروط كما سيأتي. ولذلك يقول : إنّ جعل الحكم له مرحلتان هما : الجعل والمجعول كما تقدّم في الحلقة الثانية.

فالجعل : عبارة عن الحكم الإنشائي على الموضوع المفترض والمقدّر الوجود ، فالشارع يفترض الموضوع مع ما فيه من قيود وشروط وخصوصيّات ثمّ يجعل الحكم عليه ، فيكون الحكم منوطا ومرتبطا بها.

بينما المجعول : عبارة عن الحكم الفعلي الثابت على موضوعه الموجود فعلا في الخارج ، فما لم يوجد الموضوع في الخارج لا يكون الوجوب فعليّا.

وعلى هذا الأساس نقول : إنّ الحكم في مرحلة الجعل عبارة عن الأمر الإنشائي النفساني ؛ لأنّه موجود فعلا في عالم اللحاظ وفي ذهن المولى ، أي في عالم الجعل والتشريع ، وهو بهذا الاعتبار منوط ومرتبط ومقيّد بشروط الاتّصاف كما تقدّم ، ولكن بوجودها التقديري اللحاظي أيضا ؛ لأنّ ما هو في الذهن وفي عالم الفرض والتقدير لا يكون مرتبطا إلا بما هو موجود في نفس ذاك العالم واللحاظ ، ممّا يعني أنّ شروط الاتّصاف تؤخذ مفترضة الوجود ومقدّرة ثمّ يناط بها الوجوب ، ولو لا افتراضها وتقديرها لم يكن الوجوب ثابتا أصلا.

تماما كما هو الحال بالنسبة لشروط الاتّصاف المأخوذة في الإرادة ، فإنّ الإرادة لمّا كانت أمرا نفسانيّا فهي لا تناط إلا بما يكون موجودا في النفس أيضا.

ممّا يعني أنّ شروط الاتّصاف لا بدّ أن تكون مقدّرة ومفترضة الوجود في النفس

١١١

لتحصل الإرادة ؛ ولو لا ذلك لا تحدث الإرادة أصلا ، حتّى لو كانت تلك الشروط موجودة فعلا في الخارج ، ولكن ما لم تكن موجودة في النفس أيضا فلا أثر لها ؛ لأنّ الوجود الواقعي للشرط لا يسبّب حصول ما هو منوط به ما لم تكن معلومة وموجودة في الذهن أو النفس ، ولذلك يكون الوجوب ثابتا وموجودا عند افتراض وتقدير شروط الاتّصاف ، أي بوجودها اللحاظي والذهني سواء وجدت في الخارج أم لا.

بل إنّ الوجوب في مرحلة الجعل يكون ثابتا حتّى لو لم تتحقّق شروط الاتّصاف في الخارج أصلا ؛ لأنّه ليس مرتبطا بها.

فوجوب الحجّ مثلا ثابت على فرض تحقّق الاستطاعة ، وهذا الوجوب ثابت في عالم الجعل والتشريع على المكلّف المستطيع بنحو تكون الاستطاعة مفترضة ومقدّرة الوجود ، وهذا الوجوب الثابت لا يتأثّر بوجود الاستطاعة في الخارج أو عدم وجودها كذلك ؛ لأنّه ليس مرتبطا بالخارج أصلا ، وإنّما هو مرتبط بما هو موجود في الذهن والنفس واللحاظ فقط ، والاستطاعة قد أخذت في موضوع الحكم مفترضة ومقدّرة الوجود ، فهي موجودة فعلا في عالم اللحاظ والتقدير ، ولذلك فالجعل ثابت.

نعم ، الحكم المجعول الفعلي لا يتحقّق ولا يثبت إلا إذا صارت شروط الاتّصاف فعليّة في الخارج ؛ لأنّ الحكم المجعول هو الوجوب الذي يصبح فعليّا على المكلّف وهو لا يكون كذلك إلا إذا صار موضوعه فعليّا أيضا ، فلا بدّ إذا من أن توجد شروط الاتّصاف في الخارج أو أن تصبح فعليّة على المكلّف ليصبح الحكم فعليّا.

ولذلك لا حكم فعلي ولا وجوب مجعول على المكلّف ما دامت شروط الاتّصاف لم تتحقّق في الخارج.

وبهذا يتّضح أنّ الحكم في مرحلة الجعل ثابت لثبوت شروط الاتّصاف معه في عالم اللحاظ والفرض والتقدير أو عالم الجعل والتشريع ، وهو لا يتأثّر بوجود الشروط في الخارج أو عدم وجودها كذلك ، بينما الحكم في مرحلة المجعول لا ثبوت له إلا إذا تحقّقت شروط الاتّصاف في الخارج وصارت فعليّة ، فإنّه حينئذ يصبح فعليّا. هذا كلّه بالنسبة لشروط الاتّصاف.

١١٢

وأمّا شروط الترتّب فهي كما تقدّم مأخوذة في الواجب تماما كما هي مأخوذة في المراد ، ممّا يعني أنّ الوجوب ثابت وفعلي ولا يتأثّر أصلا بوجود شروط الترتّب أو عدم وجودها. نعم هو يدعو إلى إيجادها.

فإنّ تناول الدواء إذا صار واجبا على المكلّف بسبب مرضه ، وكان التناول مقيّدا بتناول الطعام أوّلا ، كان هذا الوجوب الفعلي داعيا ومحرّكا إلى إيجاد هذا القيد ، ولذلك يجب على المريض أن يتناول الطعام أوّلا من أجل أن تترتّب المصلحة والغرض من استعمال الدواء الواجب عليه في رتبة سابقة.

وهذا يعني أن شروط الترتب لا علاقة لها بالوجوب أصلا ، لا على مستوى الجعل ولا على مستوى المجعول ، كما هو الحال في المراد فإنّ القيود الراجعة إليه لا مدخليّة لها في الإرادة لا سلبا ولا إيجابا كما تقدّم سابقا.

وعلى أساس التفرقة بين الوجوب في مرحلة الجعل والوجوب في مرحلة المجعول ، نقول : إنّ الوجوب المجعول لا ثبوت له قبل أن تتحقّق شروط الاتّصاف في الخارج وتصبح فعليّة ، فهو مقيّد بها ثبوتا وانتفاء ، فإذا تحقّقت شروط الاتّصاف وصارت فعليّة كان الوجوب المجعول ثابتا وفعليّا ، وإذا لم تتحقّق فلا وجوب مجعول على المكلّف وإن كان الوجوب في عالم الجعل ثابتا ؛ إذ لا يكفي للفعليّة والتنجيز والتكليف كما تقدّم في محلّه.

وبهذا يعرف أنّ الوجوب المشروط ممكن ؛ لأنّ المقصود به هو أنّ الوجوب المجعول الفعلي مشروط بتحقّق شروط الاتّصاف وصيرورتها فعليّة في الخارج ، وما يقال من استحالته غير صحيح ، ولذلك قال :

وأمّا ما يقال : من أنّ الوجوب المشروط غير معقول ؛ لأنّ المولى يجعل الحكم قبل أن تتحقّق الشروط خارجا فكيف يكون مشروطا؟ فهو مندفع بالتمييز بين الجعل والمجعول ، والالتفات إلى ما ذكرناه من إناطة الجعل بالوجود التقديري للشرط ، وإناطة المجعول بالوجود الخارجي له.

إشكال ودفعه : استشكل على إمكان الوجوب المشروط بأنّ الوجوب فعل للمولى ؛ لأنّ الوجوب من الأمور الاعتباريّة الشرعيّة التي بيد الشارع جعلها ، وحينئذ فالمولى إمّا أن يجعل

١١٣

الوجوب أو لا ، فإذا جعل الحكم فهو ثابت في عالم التشريع ، فكيف يكون مشروطا بتحقّق القيود والشروط في الخارج؟

وبتعبير آخر : إنّ المولى إذا أراد الوجوب فإرادته فعليّة فلا معنى لإناطته بالشرط ؛ لأنّ ذلك يعني أنّ الوجوب ليس مرادا للمولى بعد ، وهو خلف.

والجواب : أنّ التمييز المتقدّم بين الجعل والمجعول يوضّح وجه المغالطة في الإشكال ، فإنّ ما هو فعل للمولى هو الوجوب في مرحلة الجعل ، وهناك يكون الجعل ثابتا ومتحقّقا لافتراض موضوعه وتقديره ، والتي منها شروط الاتّصاف أيضا ، وهذا الحكم والوجوب ثابت سواء وجدت الشروط في الخارج أم لا.

بينما الحكم والوجوب المجعول هو المتوقّف على تحقّق القيود والشروط في الخارج ، فإذا تحقّقت في الخارج كان الوجوب فعليّا ومجعولا وإلا فلا وجود للوجوب الفعلي المجعول ، وهذا الوجوب المجعول الفعلي تابع وجودا وانتفاء لتحقّق قيوده ، والمفروض أنّه منوط بها بلحاظ وجودها الخارجي كما تقدّم ، ولكن سواء تحقّقت هذه القيود أم لا فالوجوب في مرحلة الجعل لا يتأثّر بوجود المجعول أو بعدم وجوده.

والحاصل : أنّ الوجوب في مرحلة الجعل ثابت دائما ، ولا يتأثّر بالقيود والشروط في الخارج وجودا وعدما ، وأمّا الوجوب في مرحلة المجعول فهو الذي يتأثّر بالقيود وجودا وعدما في الخارج ، وما هو فعل للمولى هو الأوّل دون الثاني (١).

__________________

(١) إلا أنّه يمكن أن يقال هنا بأنّ الوجوب المشروط وإن كان ممكنا في نفسه ولكن لا على أساس التفرقة بين الجعل والمجعول ؛ إذ لا يوجد بالدقّة هذان النحوان من الجعل للحكم ، بل لا يوجد إلا جعل واحد وحكم واحد ، وهذا الحكم والجعل الواحد المنصبّ على موضوعه المقدّر الوجود إذا تحقّقت قيوده في الخارج صار فعليّا على ذمّة المكلّف ، وإذا لم تتحقّق قيوده في الخارج فلا يكون فعليّا على المكلّف ولا يطالب به ولا يكون مسئولا عنه.

وحينئذ نقول : إنّ هذا الحكم والجعل الواحد إمّا أن يكون مطلقا أي منصبّا على موضوع من دون أخذ قيود أخرى فيه ، وإمّا أن يكون مأخوذا فيه مضافا إلى الموضوع بعض القيود والخصوصيّات ، ففي الحالة الأولى يكون الوجوب مطلقا كوجوب الصلاة على كلّ مكلّف بالغ عاقل مثلا ، وفي الحالة الثانية يكون الوجوب مشروطا كوجوب الحجّ على المستطيع مثلا ، ولا فرق بين الحالتين في كون الوجوب أو الجعل واحدا وثابتا في عالم الجعل والتشريع ، وفي كونه لا يصبح فعليّا إلا إذا تحقّقت قيوده وشروطه وموضوعه في الخارج.

١١٤

وبهذا ينتهي البحث عن إمكان الوجوب المشروط ، وقد ظهر ممّا تقدّم أنّه ممكن.

وأمّا ثمرة البحث عن إمكان الوجوب المشروط وامتناعه فتظهر في بحث مقبل (١) إن شاء الله تعالى.

حاصل الثمرة أن يقال : إنّ من ينكر الوجوب المشروط ويقول بامتناعه يرجع القيود كلّها إلى الواجب ، فيكون الوجوب فعليّا من أوّل الأمر ويكون المكلّف مسئولا عن إيجاد المقدّمات التي يفوت الواجب لو لا وجودها ، والمحرّك لذلك هو الوجوب الفعلي ، بينما من يؤمن بالوجوب المشروط لا يرى المكلّف مسئولا عن المقدّمات التي ترجع إلى الوجوب ؛ لأنّه قبل وجودها لا فعليّة للوجوب فلا يكون محرّكا نحو إيجادها وتحقيقها ، إلا إذا كانت مفوّتة دائما كما في بعض الحالات (٢).

__________________

(١) تحت عنوان : المسئوليّة عن المقدّمات قبل الوقت.

(٢) وتوضيح ذلك ضمن المثال التالي :

وجوب الغسل على الجنب قبل طلوع الفجر في شهر رمضان ، فعلى إنكار الوجوب المشروط فالوجوب فعلي من حين هلال شهر رمضان ، فيحرّك نحو الغسل. بينما على القول بإمكان الوجوب المشروط قد يقال بأنّ وجوب الصوم للغد يبدأ من حين طلوع الفجر لا قبله ، فلما ذا يجب الاغتسال قبله؟

ولكن يجاب بأنّه يوجد وجوبان : وجوب لصوم الشهر من حين طلوع الهلال ، ووجوب لصوم كلّ يوم يوم وهو يبدأ من حين طلوع الفجر إلى الغروب ، أو يقال : إنّ هذا الشرط للواجب أي للصوم الواجب فيجب تحصيله ؛ لأنّ الوجوب يكون منصبّا على صوم اليوم من شهر رمضان مع الطهارة من الحدث الأكبر.

وسوف يأتي مزيد توضيح وبيان لهذه الثمرة في الأبحاث اللاحقة.

١١٥
١١٦

المسئوليّة

تجاه القيود والمقدّمات

١١٧
١١٨

المسئوليّة تجاه القيود والمقدّمات

تنقسم المقدّمات الدخيلة في الواجب الشرعي إلى ثلاثة أقسام :

هناك عدّة تقسيمات للمقدّمة :

منها : تقسيم المقدّمات إلى وجوبيّة ووجوديّة.

فمقدّمات الوجوب هي المقدّمات التي يكون الوجوب مشروطا ومقيّدا بها بحيث قبل حصولها لا وجوب ، بخلاف المقدّمات الوجوديّة فإنّها ممّا يتوقّف عليه وجود المأمور به في الخارج بعد ثبوت الوجوب في مرتبة سابقة.

ومنها : تقسيم المقدّمات إلى عقليّة وشرعيّة وعاديّة.

فالمقدّمات التي لم تؤخذ في لسان الدليل الشرعي بل كان العقل يحكم بها فهي مقدّمات عقليّة ، كقطع المسافة بالنسبة للسفر إلى الحجّ الواجب. وأمّا إذا أخذت في لسان الدليل الشرعي فهي مقدّمات شرعيّة كالاستطاعة والطهارة ، وإذا لم تكن من هذين النوعين بل كان هناك ارتباط بحسب العادة والعرف بين الشيء والمقدّمة سمّيت المقدّمة عاديّة ، أي أنّ هذا الفعل عادة يتحقّق عن طريق المقدّمة مع إمكان الانفكاك بينها ، كنصب السلّم للصعود على السطح مثلا ، فإنّه بالإمكان الصعود من دونه.

ومنها : تقسيم المقدّمات إلى داخليّة وخارجيّة.

فالمقدّمات الداخليّة هي الأجزاء المأخوذة في الماهيّة المأمور بها كأجزاء الصلاة من ركوع وسجود ونحوها ، والمقدّمات الخارجيّة هي الأمور الخارجة عن الماهيّة المأمور بها ، ولكنّها متوقّفة عليها فتكون واجبا غيريّا كما سيأتي.

ومنها : تقسيم المقدّمات إلى مقدّمة الوجوب ومقدّمة الوجود ومقدّمة الصحّة ، فالأولى هي نفسها مقدّمات الوجوب والثانية والثالثة مرادفة لمقدّمات الواجب.

١١٩

ومنها : تقسيم المقدّمات إلى الشرط المتقدّم والمتأخّر والمقارن.

فالغسل الليلي الذي هو شرط لصحّة صوم المستحاضة شرط متأخّر ، وكذا الإجازة بالنسبة لصحّة عقد الفضولي بناء على الكشف أيضا ، والاستقبال شرط مقارن لصحّة الصلاة. بينما الشرط المتقدّم هو سائر القيود المأخوذة التي يتوقّف على وجودها وجود الواجب.

وعلى كلّ حال فالبحث هنا معقود من أجل الإجابة عن السؤال التالي ، وهو : متى يكون المكلّف مسئولا عن إيجاد وتحصيل القيود والمقدّمات؟

ومن أجل الإجابة عن هذا التساؤل يقسّم السيّد الشهيد المقدّمات والقيود إلى أقسام ثلاثة ، ثمّ يذكر الفرق بينها ، ثمّ يعود ليبيّن مسئوليّة المكلّف حول هذه القيود.

وأمّا أقسام المقدّمات ، فهي :

الأوّل : المقدّمات التي تتوقّف عليها فعليّة الوجوب ، وهي إنّما تكون كذلك بالتقييد الشرعي ، وأخذها مقدّرة الوجود في مقام جعل الحكم على نهج القضيّة الحقيقيّة ؛ لأنّ الوجوب حكم مجعول تابع لجعله ، فما لم يقيّد جعلا بشيء لا يكون ذلك الشيء دخيلا في فعليّته ، وتسمّى هذه المقدّمات بالمقدّمات الوجوبيّة ، كالاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحجّ.

القسم الأوّل : المقدّمات الوجوبيّة :

وهي المقدّمات التي يتوقّف عليها فعليّة الوجوب ، بحيث إذا تحقّقت فيصبح الوجوب فعليّا ، وأمّا قبل تحقّقها فالوجوب وإن كان ثابتا في عالم الجعل والتشريع إلا أنّه لا يكون فعليّا ولا داخلا في عهدة المكلّف.

وهذه المقدّمات الوجوبيّة إنّما تكون كذلك بسبب أخذ الشارع لها في مقام الجعل والتشريع ، فيأخذ هذه القيود والمقدّمات بنحو الفرض والتقدير ثمّ يجعل الحكم على موضوعه مقيّدا بها ؛ لأنّ جعل الحكم إنّما هو على أساس القضيّة الحقيقيّة التي يكون الموضوع فيها مفترضا ومقدّر الوجود.

وما دام قد أخذ في موضوع الحكم بعض القيود والمقدّمات في عالم الجعل ، فإنّ الحكم في عالم الفعليّة يكون تابعا لتحقّق هذه القيود ؛ لأنّ الحكم في عالم المجعول تابع في وجوده لما هو مأخوذ فيه بلحاظ عالم الجعل ، وهو إمّا أن يكون مطلقا غير

١٢٠