شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٩

والتحقيق أن يقال : إنّ الجواب المذكور وإن كان تامّا إلا أنّه لا يحلّ تمام المشكلة ؛ وذلك لأنّ إشكال استحالة الشرط المتأخّر يمكن أن يثار على ثلاثة مستويات :

الأوّل : بلحاظ عالم الحكم والوجوب ، فيقال في تقريب الإشكال : إنّ الوجوب كيف يمكن أن يتحقّق مع كونه مشروطا بأمر متأخّر ، والحال أنّ الوجوب لا يثبت ولا يتحقّق إلا بعد تحقّق موضوعه وسائر القيود والشروط المأخوذة في الموضوع؟

وهذا جوابه ما تقدّم من التفرقة في الحكم بين عالم الجعل الذي هو أمر حقيقي وبين عالم المجعول الذي هو أمر اعتباري ، وإرجاع الشرط المتأخّر إلى كونه مقارنا بلحاظ عالم الجعل ، والالتزام بكونه شرطا متأخّرا بلحاظ عالم المجعول ، ولكنّه لا يضرّ ما دام أمرا اعتباريّا ؛ لأنّه سهل المئونة.

الثاني : بلحاظ الواجب : فيقال في تقريب الإشكال : إنّ الواجب معلول للوجوب بمعنى أنّ الوجوب هو المؤثّر في إيجاد الواجب ، فلو كان هناك شرط متأخّر عنه لزم كون المتأخّر مؤثّرا في المتقدّم ، فيلزم منه تأثير المعدوم في الموجود وهو محال.

وهذا جوابه ما تقدّم من أنّ أخذ شرط أو قيد بلحاظ الواجب مرجعه إلى تحصيص الفعل الواجب إلى حصّتين ، والأمر متعلّق بالحصّة الخاصّة ، وحينئذ لا استحالة في كون القيد متقدّما أو مقارنا أو متأخّرا ؛ لأنّ التحصيص ليس بابه باب التأثير والعلّيّة.

الثالث : بلحاظ عالم الملاك والمصلحة : فإنّه تقدّم فيما سبق أنّ أخذ قيد في الواجب أو في الوجوب ليس جزافا ، وإنّما هو تابع للضابط المتقدّم من أنّه إذا كان القيد أو الشرط راجعا إلى أصل اتّصاف الفعل بالمصلحة فيكون قيدا في الوجوب ؛ لأنّه من دون القيد لا مصلحة ولا ملاك ومع عدم المصلحة والملاك لا وجوب ، وإذا كان القيد أو الشرط راجعا إلى ترتّب المصلحة واستيفائها فيكون قيدا للواجب ، بمعنى أنّ المصلحة الموجودة لا يمكن تحقّقها ولا يمكن استيفاؤها إلا مع تحقّق هذا القيد أو الشرط ؛ ممّا يعني أنّ الوجوب ثابت والمصلحة موجودة ولكن ترتّبها على الفعل مشروط بذاك الأمر والقيد.

وبناء على ذلك يقال : إنّ ثبوت أصل المصلحة أو ترتّب استيفاء المصلحة من الأمور التكوينيّة الحقيقيّة وليست أمرا اعتباريّا وهميّا ، فكيف يعلّق ذلك على قيد أو شرط متأخّر؟ إذ تعليق أصل المصلحة أو ترتّبها على أمر متأخّر يلزم منه أن يكون هذا

١٤١

الشيء المتأخّر مؤثّرا في الأمر المتقدّم ، ممّا يعني تأثير المعدوم في الموجود وهو مستحيل؟

وهذا الإشكال لم ينظر إليه الجواب المتقدّم ، وإنّما اقتصر النظر على حلّ الإشكال على المستويين الأوّليّين ، أي على مستوى دخالة الشرط في الوجوب أو الواجب ، مع أنّه قد ظهر ممّا بيّناه أنّ الشرط إنّما يؤخذ في الوجوب باعتباره شرطا من شروط الاتّصاف ، وإنّما يؤخذ في الواجب باعتباره شرطا من شروط الترتّب. وعليه ، فيمكننا صياغة الإشكال على مستوى الملاك والمصلحة بلحاظ شروط الاتّصاف تارة وشروط الترتّب أخرى.

فنقول ـ مع أخذ غسل المستحاضة تارة قيدا للواجب وأخرى قيدا للوجوب ـ : إنّ غسل المستحاضة في ليلة الأحد مثلا إذا كان شرطا في ترتّب المصلحة على الصوم في نهار السبت المتقدّم ـ فيما إذا كان شرطا للواجب ـ فهذا معناه أنّ ترتّب المصلحة ـ والتي هي من الأمور التكوينيّة الواقعيّة على الصوم المتقدّم والذي انتهى ـ مشروط بالغسل المتأخّر ، فكان الغسل المتأخّر مؤثّرا في ترتّب هذه المصلحة مع كون الفعل الذي تترتّب عليه المصلحة قد تمّ وانتهى ، فيؤدّي لا محالة إلى أنّ المعدوم قد أثّر في الموجود ، أو إلى أنّ العلّة متأخّرة عن المعلول وهو غير معقول.

وهكذا فيما لو كان غسل المستحاضة المذكور شرطا في اتّصاف الفعل بالمصلحة ـ فيما إذا كان شرطا للوجوب ـ فإنّه يعني أنّ الصوم يوم السبت لا يتّصف بالمصلحة إلا بعد الغسل المتأخّر ، مع أنّ المصلحة أمر تكويني واقعي مترتّب على الصوم الذي تمّ وانتهى ، فكيف تناط المصلحة بالأمر المتأخّر؟ إذ يلزم منه أن يكون الأمر المتأخّر مؤثّرا في أصل الاتّصاف في السابق مع كونه معدوما حال الفعل ، فيلزم تأثير المعدوم في الموجود ، أو يلزم منه تأخّر العلّة عن المعلول وهو مستحيل.

ومن هنا قد يقال باستحالة الشرط المتأخّر ، ويلتزم بتأويل الموارد التي توهم ذلك ، بتحويل الشرطيّة من أمر متأخّر إلى أمر مقارن ، فيقال مثلا : إنّ الشرط في نفوذ عقد الفضول ـ على الكشف ـ ليس هو الإجازة المتأخّرة ، بل كون العقد ملحوقا بالإجازة. والشرط في صوم المستحاضة يوم السبت كونه ملحوقا بالغسل ، وهذه صفة فعليّة قائمة بالأمر المتقدّم.

١٤٢

تقدّم أنّ الإشكال يمكن إثارته على مستوى الملاك والمصلحة لأنّه الأساس ، وبما أنّ شيئا من الجواب المتقدّم لا يفي بحلّه فيقال باستحالة الشرط المتأخّر ؛ لأنّ الاتّصاف أو الترتّب الراجعين إلى أصل المصلحة أو إلى ترتّبها يرتبطان بأمر واقعي حقيقي هو لا يمكن أن يكون منوطا ومسبّبا عن أمر متأخّر ؛ لأنّه يلزم منه تأثير المعدوم في الموجود أو تأخّر العلّة عن المعلول.

ومن هنا التزموا باستحالة الشرط المتأخّر ، وأوّلوا الموارد التي ظاهرها إناطة الوجوب أو الواجب بأمر متأخّر بما يرجع إلى أمر مقارن ، من قبيل عنوان التعقّب أو اللحوق.

فمثلا يقال في اشتراط صحّة ونفوذ عقد الفضولي وترتّب الأثر عليه ـ وهو الملكيّة والنقل والانتقال بالإجازة المتأخّرة ـ : إنّ ما هو شرط ليس نفس الإجازة وإنّما الشرط في الحقيقة هو عنوان التعقّب واللحوق ، بمعنى أنّ عقد الفضولي الملحوق والمتعقّب بالإجازة يترتّب عليه أثره وينفذ ، وعنوان اللحوق والتعقّب مقارن لصدور العقد من الفضولي يكشف عنه بالإجازة.

وهكذا الحال بالنسبة لشرطيّة الغسل الليلي لصحّة صوم المستحاضة في اليوم السابق ، فإنّ الشرط ليس هو عنوان الغسل بنفسه ، وإنّما الشرط هو لحوق الصوم بالغسل أو تعقّب الصوم بالغسل ، وهذا الشرط أي اللحوق أو التعقّب مقارن للصوم والغسل كاشف عنه فقط (١).

__________________

(١) هذا ، ولكنّ الصحيح هو أنّ الإشكال هنا غير وارد أيضا ، ويمكن دفعه بأحد أمور ثلاثة :

الأوّل : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) : من أنّ الإشكال هنا نشأ من أخذ الملاك على أساس أنّه المصلحة ، والتي هي أمر تكويني ، ولكن يمكننا أن نفترض الملاك شيئا آخر وهو عنوان الحسن والقبح ، وهما أمران عقليّان وليسا أمرين تكوينيّين خارجيّين ليرد الإشكال.

وحينئذ فالعقل ينتزع عنوان الحسن والقبح عن الشيء وشرطه ، وهذا الانتزاع العقلي لا فرق فيه بين أن يكون الشرط متقدّما أو مقارنا أو متأخّرا ، فإنّ المكلّف إذا حقّق الشرط المطلوب منه كان فعله حسنا ، وإذا تخلّف عنه كان قبيحا.

الثاني : ما يذكره السيّد الشهيد من أنّ القيود والشروط ليست دائما سببا وعلّة ومؤثّرة في إيجاد أصل المصلحة ، أو في ترتّب استيفاء المصلحة من الفعل ليلزم الإشكال ، بل يمكن أن تكون بأحد نحوين آخرين : أحدهما : أن يكون القيد أو الشرط من المقدّمات المعدّة .....

١٤٣

وثمرة البحث في الشرط المتأخّر إمكانا وامتناعا تظهر من ناحية في إمكان الواجب المعلّق وامتناعه ، فقد تقدّم في الحلقة السابقة (١) أنّ إمكان الواجب المعلّق يرتبط بإمكان الشرط المتأخّر.

هناك ثمرتان يمكن ترتّبهما على هذا البحث :

الثمرة الأولى : ثمرة أصوليّة تظهر في الواجب المعلّق ويتّبعه في المقدّمات المفوّتة ، فإنّنا إذا قلنا بإمكان الشرط المتأخّر فسوف يكون الواجب المعلّق ممكنا أيضا ، وبه تحلّ مشكلة المقدّمات المفوّتة ، وأمّا إذا قلنا باستحالته فسوف يكون الواجب المعلّق مستحيلا أيضا ، وتوضيح ذلك ضمن المثال التالي :

إذا استطاع المكلّف للحجّ فقد صار الوقوف بعرفات واجبا عليها أيضا ، إلا أنّ زمان الوقوف بعرفات يبدأ من حين حلول ظهر اليوم التاسع من ذي الحجّة ، فكان وجوب الوقوف ثابتا في زمان متقدّم ، بينما زمان الواجب متأخّر وهذا ما يسمّى بالواجب المعلّق.

وحينئذ فإن قلنا بإمكان الشرط المتأخّر كان الواجب المعلّق ممكنا أيضا ، والوجه في

__________________

والمهيّئة كتحضير الماء من أجل الشرب عند العطش. والآخر : أن يكون القيد أو الشرط من المقدّمات التي تحقّق وجود العلّة وعدمها يوجب انعدام العلّة ، كشرطيّة عدم التعرّض للبرد بعد تناول الدواء للمريض ، فإنّ المصلحة تترتّب بتناول الدواء والشرط المتأخّر كان لأجل أنّ عدمه يوجب انعدام العلّة أو وجود المانع منها.

الثالث : ما يذكره السيّد الأستاذ من أنّ شروط الوجوب ليست دائما عبارة عن شروط الاتّصاف ، بل قد تكون من شروط الترتّب ولكن غير الاختياريّة وغير المقدورة ، كما تقدّم سابقا ، كما إذا أخذت القدرة على الصوم في كلّ آن آن من آنات النهار شرطا في وجوب الصوم في الآن الأوّل ، فإنّها شرط متأخّر ولكنّها ليست من شروط الاتّصاف ، وإنّما هي من شروط التحقّق والترتّب ولكنّها راجعة إلى الوجوب ؛ لأنّها غير مقدورة وغير اختياريّة ، فإنّ عنوان القدرة ليس اختياريّا للمكلّف ؛ لأنّ الوجوب من الآن مشروط بالقدرة على الصوم في الآن الآتي وهذا غير اختياري له من الآن ولكنّه كان شرطا للوجوب ، وهذا معناه أنّ شروط الوجوب لا يتحتّم إرجاعها إلى المصلحة دائما.

وبهذا يظهر أنّ الشرط المتأخّر ممكن ولا إشكال فيه لا على مستوى الحكم ولا على مستوى الواجب ولا على مستوى المصلحة والملاك.

(١) في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : زمان الوجوب والواجب.

١٤٤

هذا الترابط بينهما هو أنّ وجوب الحجّ على المستطيع مشروط بأمر متأخّر وهو مجيء يوم التاسع من ذي الحجّة مع توفّر سائر الشروط المعتبرة.

فإذا توفّرت هذه الشروط وجاء اليوم المذكور كشف ذلك عن كون الحجّ ثابتا على المكلّف من حين الاستطاعة.

وإذا اختلّت تلك الشروط كلاّ أو بعضا كشف ذلك عن عدم وجوب الحجّ عليه من أوّل الأمر ، فإذا كان الشرط المتأخّر للوجوب ممكنا كان القول بوجوب الحجّ على المستطيع المشروط بالشرط المتأخّر وهو مجيء يوم التاسع من ذي الحجّة مع توفّر سائر الشروط الأخرى ممكنا ، ممّا يعني أنّ الوجوب ثابت في السابق ولكن زمان الواجب لا يثبت إلا بعد مجيء اليوم التاسع فكان معلّقا على ذلك.

وأمّا إذا قلنا باستحالة الشرط المتأخّر للوجوب فسوف لن يكون وجوب الحجّ على المستطيع واجبا من حين حدوث الاستطاعة ، بل من حين مجيء اليوم التاسع أيضا ، فإذا حلّ اليوم التاسع وكان لا يزال مستطيعا فقد وجب عليه الحجّ من الآن ، فيتقارن وجوب الحج ، زمانا مع زمان الواجب ، وبالتالي لا يكون الواجب معلّقا.

وتظهر الثمرة بينهما في لزوم تهيئة المقدّمات من السفر والكون في الميقات والإحرام وسائر ما يرتبط بالحجّ قبل زوال اليوم التاسع من ذي الحجّة ، فإنّه على القول بإمكان الشرط المتأخّر وبالتالي إمكان الواجب المعلّق فسوف يكون المكلّف مسئولا عن تلك المقدّمات ؛ لأنّ الوجوب ثابت قبل زمان الواجب.

وأمّا على القول بالاستحالة فسوف لا يكون مسئولا عنها قبل ذلك الزمان إلا ما كان منها داخلا في عنوان المقدّمات المفوّتة كما سيأتي.

وتظهر من ناحية أخرى فيما إذا دلّ الدليل على شرطيّة شيء ـ كرضا المالك الذي دلّ الدليل على شرطيّته في نفوذ البيع ـ وتردّد الأمر بين كونه شرطا متقدّما أو متأخّرا ، فإنّه على القول بامتناع الشرط المتأخّر يتعيّن الالتزام بكونه شرطا مقارنا ، فيقال في المثال بصحّة عقد الفضولي على نحو النقل ؛ لأنّ الحمل على الشرط المتأخّر إن كان بالمعنى الحقيقي للشرط المتأخّر فهو غير معقول ، وإن كان بالتأويل فهو خلاف ظاهر الدليل ؛ لأنّ ظاهره شرطيّة نفس الرضا لا كون العقد ملحوقا به.

١٤٥

وأمّا على الثاني فلا بدّ من اتّباع ما يقتضيه ظاهر الأدلّة أي شيء كان.

الثمرة الثانية : ثمرة فقهيّة تظهر فيما إذا دلّ الدليل الشرعي على أخذ شيء شرطا في الوجوب أو في الواجب ، وتردّد أمر هذا الشرط بين كونه شرطا متأخّرا أو شرطا متقدّما أو مقارنا ، كما هو الحال في صحّة ونفوذ عقد الفضولي المشروط برضا المالك وإجازته ، فإنّ الإجازة هنا شرط لترتّب الحكم وهو الملكيّة والنقل والانتقال ، وكما في صحّة صوم المستحاضة المشروط بالغسل الليلي فإنّ الغسل المتأخّر شرط لصحّة الواجب وهو الصوم المتقدّم.

ففي مثل هذه الموارد الفقهيّة وما شابهها تظهر الثمرة العمليّة على القول بالامتناع أو بالإمكان.

وتوضيحه : إنّنا إذا بنينا على استحالة الشرط المتأخّر ففي مثال عقد الفضولي وإجازة المالك أو رضاه سوف يبنى على كون الإجازة ناقلة لا كاشفة ، وبالتالي سوف يكون الشرط مقارنا لا متأخّرا.

والوجه في ذلك : أنّ البناء على استحالة الشرط المتأخّر لا يتناسب إلا مع القول بكون الإجازة ناقلة ؛ لأنّ معنى النقل كون الإجازة من حين صدورها يترتّب عليها الملكيّة والنقل والانتقال ، فهي تنقل العقد الذي صدر في الزمان السابق إلى زمان صدورها ، وبالتالي يترتّب الأثر المطلوب من العقد من حين الإجازة لا من حين صدوره في الزمان السابق.

وأمّا لو أردنا القول بأنّ الإجازة كاشفة مع البناء على استحالة الشرط المتأخّر فهذا لا يمكن الالتزام به ؛ لأنّ معنى الكشف هو أنّ الإجازة تكشف عن كون الأثر وهو الملكيّة مترتّب على العقد من حين صدور العقد ، أي في الزمان السابق لا من حين الإجازة ، وهذا معناه أنّ ترتّب الملكيّة في الزمان السابق كان مشروطا بشرط متأخّر وهو الإجازة التي يتأخّر زمانها عن زمان العقد ، والحال أنّ الشرط المتأخّر قد بنينا على استحالته.

ولا يقال : إنّنا بالإمكان التوفيق بين القول بكاشفيّة الإجازة مع البناء على استحالة الشرط المتأخّر ، وذلك بأن يلتزم بالتأويل فيقال : إنّ الشرط ليس هو الإجازة والتي هي شرط متأخّر ، بل الشرط هو لحوق العقد بالإجازة أو تعقّبه بها ، واللحوق والتعقّب

١٤٦

عنوانان انتزاعيّان ينتزعهما العقل من الطرفين ، أي العقد والإجازة ، فهما عنوانان مقارنان لا متأخّران ، فيكون العقد مؤثّرا في ترتّب الملكيّة من حين صدوره ، وشرطه ليس متأخّرا بل هو مقارن ؛ لأنّه عند ما تصدر الإجازة سوف يحكم العقل بثبوت وصف اللحوق أو التعقّب ، إلا أنّ هذا الوصف يتّصف به العقد من حين صدوره ؛ لأنّ العقل يحكم بأنّ العقد الملحوق أو المتعقّب بالإجازة يترتّب عليه أثره ، وهذا اللحوق قد ثبت بصدور الإجازة فعلا.

فإنّ هذا القول وإن كان نظريّا ممكنا إلا أنّه لا يمكن الالتزام به عمليّا ؛ لأنّه مخالف لظواهر الأدلّة التي دلّت على مثل هذا الشرط ؛ فإنّ ظاهرها أخذ نفس عنوان الشرط شرطا لا أخذ شيء آخر.

هذا كلّه إذا بنينا على استحالة الشرط المتأخّر ، وأمّا إذا قلنا بإمكانه ـ كما هو الصحيح ـ فإنّ الإجازة المتأخّرة عن صدور العقد كما يمكن أن تكون كاشفة يمكن أيضا أن تكون ناقلة ؛ إذ لا استحالة في شيء منهما ، وترجيح أحدهما على الآخر يحتاج إلى إثبات نكات فنيّة أو استظهارات فقهيّة من الأدلّة.

* * *

١٤٧
١٤٨

زمان الوجوب والواجب

١٤٩
١٥٠

زمان الوجوب والواجب

[ أو الواجب المعلّق ]

لا شكّ في أنّ زمان الوجوب لا يمكن أن يتقدّم بكامله على زمان الواجب ، ولكن وقع الكلام في أنّه هل يمكن أن يبدأ قبله أو لا؟

ومثاله : أن يفترض أنّ وجوب صيام شهر رمضان يبدأ من حين طلوع هلاله ، غير أنّ زمان الواجب يبدأ بعد ذلك عند طلوع الفجر.

تمهيد : يمكن بالتحليل العقلي افتراض زمان الوجوب وزمان الواجب على أقسام :

الأول : أن يكون زمان الوجوب متقدّما بكامله على زمان الواجب ، وهذا مستحيل وقوعه ؛ لأنّ المحرّك والباعث على الامتثال إنّما هو الوجوب ، فإذا كان الوجوب فعليّا في زمان سابق ففي الزمان اللاحق يكون قد انتهت فعليّته ، فلا محرّكيّة ولا باعثيّة للمكلّف نحو إيجاد الفعل ، كما إذا فرضنا أنّ زمان الوجوب كان في الساعة الواحدة بينما زمان الواجب هو في الساعة الثانية ، والمفروض أنّه ينتهي قبل مجيء الساعة الثانية.

الثاني : أن يكون زمان الوجوب متأخّرا بكامله عن زمان الواجب ، وهذا مستحيل وقوعه أيضا لنفس ما ذكر في القسم الأوّل ، ومثاله عكس ما افترضناه في المثال السابق.

الثالث : أن يكون زمان الوجوب متطابقا مع زمان الواجب ، وهذا لا إشكال في إمكانه ووقوعه وهو ما يسمّى بالمنجّز ، ومثاله زوال الشمس فإنّه زمان الوجوب وزمان الواجب أيضا ، فإذا زالت الشمس صار الوجوب فعليّا وصار الواجب فعليّا أيضا.

١٥١

الرابع : أن يكون زمان الوجوب متقدّما على زمان الواجب ولكنّه يستمرّ إلى حين حلول زمان الواجب أيضا ، بمعنى أنّ حدوثه متقدّم ولكنّه مستمرّ بقاء ، وهذا ما يسمّى بالواجب المعلّق ، وقد وقع الكلام في إمكانه ووقوعه.

ومثاله ما إذا فرض أنّ وجوب صيام شهر رمضان زمانه هو ثبوت الهلال بينما زمان الصوم الواجب إنّما هو من حين طلوع الفجر ، ومثاله أيضا وجوب الحجّ فإنّه يبدأ من حين الاستطاعة في أشهر الحجّ ، ولكنّ زمان الواجب أي الإتيان بالمناسك إنّما هو اليوم التاسع من ذي الحجّة.

والحاصل : أنّه يوجد قسمان من الواجب :

أحدهما : الواجب المنجّز : وهو ما كان الواجب فعليّا عند فعليّة وجوبه.

والآخر : هو الواجب المعلّق : وهو ما كان متأخّرا زمانا عن زمان فعليّة وجوبه حدوثا ، وإن كان يعاصره ويقارنه بقاء.

وقد ذهب جملة من الأصوليّين كصاحب ( الفصول ) (١) إلى إمكان ذلك ، وسمّي هذا النحو من الوجوب بالمعلّق تمييزا له عن الوجوب المشروط ، فكلّ منهما ليس ناجزا بتمام المعنى ، غير أنّ ذلك في المشروط ينشأ من إناطة الوجوب بشرط ، وفي المعلّق من عدم مجيء زمان الواجب.

أوّل من قال بفكرة الواجب المعلّق وإمكانه هو صاحب ( الفصول ) ، حيث قسّم الواجب إلى أقسام ثلاثة :

١ ـ أن يكون القيد راجعا إلى الوجوب فيكون الوجوب مشروطا ، وهو ما يسمّى بالواجب المشروط ، وقد تقدّم بيانه سابقا.

٢ ـ أن يكون القيد راجعا للواجب بنحو يجب تحصيله عند فعليّة الوجوب ، وهو ما يسمّى بالواجب المنجّز ، كما في قيد الطهارة الراجع إلى الصلاة ، فإنّه يصبح فعليّا عند فعليّة الوجوب أي عند زوال الشمس مثلا.

٣ ـ أن يكون القيد راجعا للواجب ولكن لا يجب تحصيله ، إمّا لكونه غير اختياري للمكلّف ، وإمّا لأنّ التقييد به هو أنّه إذا حصل هذا القيد فيكون الواجب فعليّا ، وهذا ما يسمّى بالواجب المعلّق.

__________________

(١) الفصول : ٧٩.

١٥٢

ومثاله كما تقدّم من وجوب الإتيان بالمناسك على من وجب عليه الحجّ لكونه مستطيعا ، ولكن هذا الواجب مقيّد بحلول يوم التاسع من ذي الحجّة وهو غير اختياري للمكلّف ، فإنّ هذا الزمان وإن كان حصوله حتميّا إلا أنّه ليس بيد المكلّف.

ثمّ إنّ صاحب ( الفصول ) قد ميّز بين الواجب المعلّق والوجوب المشروط ، فقال : إنّ هذين النحوين وإن كانا يشتركان في عدم التنجيز والفعليّة إلا أنّهما يختلفان في منشأ ذلك ، ففي الوجوب المشروط لا تكون هناك فعليّة من جهة أنّ الوجوب نفسه قد أنيط بقيد ، فما لم يتحقّق القيد لا يكون الوجوب فعليّا وبالتالي لا فعليّة للواجب ؛ بينما في الواجب المعلّق تكون فعليّة الواجب منتفية بسبب عدم مجيء زمانه مع كون الوجوب فعليّا فيه.

فوجوب الحجّ مثلا لا يتحقّق ولا يكون فعليّا إلا بتحقّق الاستطاعة ، وأمّا قبل الاستطاعة فكما لا فعليّة للوجوب لا فعليّة للواجب ولا يكون منجّزا على المكلّف ، بينما إذا تحقّقت الاستطاعة صار وجوب الحجّ فعليّا إلا أنّ الإتيان بالأعمال والمناسك موقوف على حلول اليوم التاسع من ذي الحجّة ، فالواجب معلّق وليس فعليّا وإن كان وجوبه فعليّا (١).

فإن قيل : إذا كان زمان الواجب متأخّرا ولا يبدأ إلا عند طلوع الفجر فما الداعي للمولى إلى جعل الوجوب يبدأ من حين طلوع الهلال ما دام وجوبا معطّلا عن الامتثال؟ أو ليس ذلك لغوا؟!

أشكل على القول بإمكان الواجب المعلّق باللغويّة ؛ وذلك لأنّ جعل الوجوب فعليّا قبل زمان الواجب لا فائدة منه ولا أثر عملي له ؛ لأنّه سواء كان مجعولا وفعليّا قبله أم من حين حلول زمان الواجب ، فالمكلّف ليس مسئولا عن الإتيان بالواجب ولا مطالبا بالامتثال إلا بعد مجيء زمان الواجب لا قبله.

__________________

(١) هذا ، وينبغي التنبيه هنا على أنّ مصطلح الواجب المشروط والواجب المعلّق هنا يختلفان عنهما عند الشيخ الأنصاري ، فإنّه لمّا أنكر الوجوب المشروط ذهب إلى أنّ القيود والشروط كلّها ترجع إلى المادّة ، أي إلى متعلّق الوجوب وهو الواجب ، فالواجب يكون مشروطا بينما الوجوب فعلي ، ولكنّه بدلا من أن يسمّيه الواجب المعلّق سمّاه الواجب المشروط ، فاصطلاح الواجب المشروط عنده هو نفسه الواجب المعلّق عندنا ، بينما اصطلاح الواجب المشروط عندنا هو عبارة عن الوجوب المشروط الذي أنكره الشيخ.

١٥٣

ففي المثال المذكور ما دام الصوم لا يبدأ إلا من حين طلوع الفجر فما هي الفائدة من جعل وجوبه من حين رؤية الهلال؟ لأنّه ما دام لا يطالب بالصوم من حين رؤية الهلال فليكن الوجوب من حين طلوع الفجر.

كان الجواب : أنّ فعليّة الوجوب تابعة لفعليّة الملاك ، أي لاتّصاف الفعل بكونه ذا مصلحة ، فمتى اتّصف الفعل بذلك استحقّ الوجوب الفعلي ، فإذا افترضنا أنّ طلوع الفجر ليس من شروط الاتّصاف بل من شروط الترتّب وأنّ ما هو من شروط الاتّصاف طلوع هلال الشهر فقط ، فهذا يعني أنّه حين طلوع الهلال يتّصف صوم النهار بكونه ذا مصلحة فيكون الوجوب فعليّا وإن كان زمان الواجب مرهونا بطلوع الفجر ؛ لأنّ طلوع الفجر دخيل في ترتّب المصلحة.

ولفعليّة الوجوب عند طلوع الهلال آثار عمليّة على الرغم من عدم إمكان امتثاله ؛ وذلك لأنّه من حين يصبح فعليّا تبدأ محرّكيّته نحو المقدّمات ، وتبدأ مسئوليّة المكلّف عن تهيئة مقدّمات الواجب.

والجواب عن الإشكال المتقدّم يرجع إلى أمرين :

الأوّل : ما ذكر في الإشكال من أنّ المولى لما ذا يجعل الوجوب فعليّا قبل زمان الواجب ، مع أنّه لا امتثال له في حينه ، وإنّما يبقى معطّلا إلى حين مجيء زمان الواجب؟

وهذا جوابه مرتبط بالملاك ، فمتى كان الملاك فعليّا صار الوجوب فعليّا؟!

والوجه في هذا الارتباط هو ما تقدّم سابقا من أنّ مبادئ الحكم عبارة عن الملاك والإرادة ، فإذا كان في الفعل مصلحة أكيدة ملزمة فسوف يحصل شوق ومحبوبيّة وإرادة مولويّة لجعله على ذمّة المكلّف ، ولذلك يتّصف بالوجوب هذا في عالم الثبوت ، ثمّ المولى يبرز هذا إلى عالم الإثبات فيعتبر الفعل على ذمّة المكلّف عن طريق صياغة إنشائيّة تقنينيّة.

وعليه ، فإذا كان الفعل ذا مصلحة اتّصف بالوجوب فعلا واستحقّ ذلك.

ففي مقامنا إذا قلنا بأنّ طلوع هلال شهر رمضان من شروط الاتّصاف وأنّ طلوع الفجر من شروط الترتّب ، كان معنى ذلك أنّ طلوع الهلال قيد في الوجوب بينما طلوع الفجر قيد في الواجب ، كما تقدّم سابقا من أنّ كلّ شروط الاتّصاف تكون

١٥٤

شروطا وقيودا في الوجوب بخلاف قيود الترتّب ، فإنّ ما كان منها اختياريّا فهو من شروط الترتّب وما لم يكن اختياريّا كان من قيود الواجب والوجوب معا.

ومن هنا فإذا أهلّ هلال شهر رمضان فهذا معناه أنّ قيد الاتّصاف والوجوب صار فعليّا في الخارج ، ممّا يعني أنّ الملاك والمصلحة صارت فعليّة في الخارج أيضا ، وحينئذ لن يكون هناك ما يمنع من اتّصاف الفعل أي الصوم في النهار بالوجوب من حين طلوع الهلال ، وإن كان زمانه لا يبدأ إلا من حين طلوع الفجر باعتبار أنّ طلوع الفجر من شروط الترتّب ، أي من شروط ترتّب الملاك والمصلحة على الفعل واستيفائها.

والحاصل : أنّ الداعي الذي يجعل المولى هذا الفعل واجبا وإن كان زمان الواجب لم يتحقّق بعد هو كون الفعل قد اتّصف بالمصلحة والملاك بالفعل ؛ لأنّ قيودهما وشروطهما قد تحقّقت في الخارج ، ومع كون الملاك فعليّا سوف يكون الوجوب فعليّا ؛ للارتباط والتلازم بينهما ثبوتا في عالم الجعل والشوق والإرادة والمحبوبيّة.

الثاني : ما ذكر في الإشكال من لغويّة جعل الوجوب فعليّا قبل زمان الواجب.

وهذا جوابه : أنّ الواجب وإن كان معطّلا حين فعليّة الوجوب ومرهونا بمجيء زمانه إلا أنّه مع ذلك لا لغويّة من جعل الوجوب ، بل هناك فائدة وثمرة عمليّة مهمّة عليه ، وهي تخريج وجوب الإتيان بالمقدّمات المفوّتة ولزوم تهيئة المقدّمات التي يحتاجها الواجب عند حلول زمانه ، بحيث إنّه لو لم تكن موجودة قبله لم يتمكّن المكلّف من امتثال الواجب.

فإنّنا إذا قلنا بفعليّة الوجوب قبل زمان الواجب ، وكان للواجب مقدّمات يفوت بتركها وعدم تحصيلها قبله كان المكلّف مسئولا عن إيجادها وتوفيرها ، وهذه المسئوليّة ناشئة من الوجوب الفعلي الثابت من قبل ، بينما إذا لم نقل بفعليّة الوجوب من حينه وإنّما يكون فعليّا عند مجيء زمان الواجب ، فهذه المقدّمات التي يفوت الواجب بتركها كيف يمكننا إلزام المكلّف بها؟ وكيف يمكننا إدخالها في عهدته ومسئوليّته قبل الوجوب؟ إذ المفروض أنّ المحرّك نحوها إنّما هو الوجوب وهو غير موجود وليس فعليّا قبلها.

إذا فهناك ثمرة علميّة وهي تخريج وجوب المقدّمات المفوّتة ؛ لأنّه لا إشكال في لزوم تحصيلها ، وأمّا الإشكال فيما هو المحرّك والداعي والباعث لذلك ، فإنّه على القول

١٥٥

بالواجب المعلّق كان الجواب واضحا ، وهو أنّ الوجوب الفعلي الثابت قبل زمان الواجب هو المحرّك نحوها ، بينما على إنكار الواجب المعلّق يحتاج تخريجها إلى حلّ آخر وقد لا يكون موجودا أو مقبولا.

وقد اعترض على إمكان الواجب المعلّق باعتراضين :

الأوّل : أنّ الوجوب حقيقته البعث والتحريك نحو متعلّقه ، ولكن لا بمعنى البعث الفعلي وإلا لكان الانبعاث والامتثال ملازما له ؛ لأنّ البعث ملازم للانبعاث ، بل بمعنى البعث الشأني أي أنّه حكم قابل للباعثيّة ، وقابليّة البعث تلازم قابليّة الانبعاث ، فحيث لا قابليّة للانبعاث لا قابليّة للبعث فلا وجوب. ومن الواضح أنّه في الفترة السابقة على زمان الواجب لا قابليّة للانبعاث فلا بعث شأني ، وبالتالي لا وجوب.

وهنا يوجد اعتراضان على القول بإمكان الواجب المعلّق :

الاعتراض الأوّل : أنّ حقيقة الوجوب هي البعث والتحريك نحو متعلّقه ، فالشارع عند ما يجعل الوجوب على فعل ويعتبر ذاك الفعل واجبا على المكلّف فهو في الحقيقة يريد أن ينشأ ويجعل ما يحرّك المكلّف نحو الامتثال والإطاعة ، فبجعله للوجوب يكون قد جعل الباعث والمحرّك حقيقة.

والوجه في هذا هو أنّ الشخص عند ما يريد شيئا فإمّا أن يقوم بنفسه ويتحرّك نحو تحصيله وإيجاده وهذا ما يسمّى بالإرادة التكوينيّة ، وإمّا أن يحرّك غيره ويبعثه نحو تحصيل مراده وذلك بأمره والطلب منه وهذا ما يسمّى بالإرادة التشريعيّة ، فإذا أراد شرب الماء فإمّا أن يذهب بنفسه لتحصيل الماء ، وإمّا أن يأمر عبده ويطلب منه تحضير الماء ، فهو بأمره هذا قد حرّك عبده وبعثه وأرسله نحو تحقيق المطلوب ، ولذلك قيل أنّ الطلب سعي نحو المقصود.

وعليه ، فبما أنّ حقيقة الوجوب هي البعث والتحريك نحو المتعلّق والمطلوب ، فحيث لا توجد المحرّكيّة والباعثيّة لا يكون هناك وجوب ، ولكن هناك بعث فعلي وهناك بعث شأني أي قابليّة للبعث ، والتلازم بين البعث والتحريك وبين الوجوب إنّما هي في البعث والتحريك الشأني لا الفعلي.

وتوضيح ذلك : أنّه إذا ثبت الوجوب وصار فعليّا فهو يحدث ويسبّب البعث

١٥٦

والتحرّك الشأني أي يحدث في نفس المكلّف المأمور القابليّة للتحرّك والبعث ، لا أنّه يحدث التحرّك والبعث الفعلي وإلا لصار المكلّف مجبرا على التحرّك مع أنّنا نراه مختارا إن شاء فعل وإن شاء ترك.

ممّا يعني أنّ المقتضي للتحرّك يوجد بصيرورة الوجوب فعليّا ، وأمّا فعليّة التحرّك والانبعاث فهي راجعة إلى اختيار وإرادة المكلّف نفسه ، ومن هنا استحقّ الثواب أو العقاب على الفعل أو الترك.

وعليه ، فإذا كانت هناك قابليّة للتحرّك والانبعاث نحو الفعل كان البعث والتحريك ثابتا ، وإذا لم تكن هناك قابليّة للتحرّك والانبعاث كان البعث والتحريك منتفيا ؛ إذ لا معنى ولا فائدة من ثبوت البعث في مورد لا يقبل الانبعاث ؛ لأنّه ضرب من اللغو والعبث وإذا انتفى البعث والتحريك انتفى الوجوب ؛ لأنّه لا معنى لبقاء الوجوب فاقدا لروحه وحقيقته.

وفي مقامنا نقول : إنّ الفترة الواقعة بين زمان الوجوب وزمان الواجب ليست فيها قابليّة للانبعاث والتحرّك ؛ لوضوح أنّ المكلّف ليس مسئولا ولا مطالبا بالواجب في هذه الفترة ، ممّا يعني أنّ الوجوب ليس فيه بعث ولا تحريك نحو متعلّقه في هذه الفترة ، فلا معنى لثبوته إذا ؛ لأنّه فاقد لحقيقته وروحه.

ويرد عليه : أنّ الوجوب حقيقته في عالم الحكم أمر اعتباري وليس متقوّما بالبعث الفعلي أو الشأني ، وإنّما المستظهر من دليل جعل الوجوب أنّه قد جعل بداعي البعث والتحريك ، والمقدار المستظهر من الدليل ليس بأزيد من أنّ المقصود من جعل الحكم إعداده لكي يكون محرّكا شأنيّا خلال ثبوته ، ولا دليل على أنّ المقصود جعله كذلك من بداية ثبوته.

والجواب عن هذا الاعتراض هو أن يقال : إنّ حقيقة الوجوب وروحه ليست هي البعث والتحريك سواء الشأني أم الفعلي ، وإنّما حقيقة الوجوب هي ذلك الأمر الاعتباري الذي يعتبره الشارع في عالم الجعل والتشريع والثبوت ، أي جعل الفعل على ذمّة المكلّف ، فإنّه تقدّم في الحديث عن مبادئ الحكم أنّ الفعل إذا كان ذا مصلحة وملاك فسوف يحدث شوق وإرادة مولويّة متناسبة مع تلك المصلحة ، وبعد ذلك يجعل الشارع هذا الفعل على ذمّة المكلّف ويدخله في عهدته فيما إذا كانت

١٥٧

المصلحة ملزمة ، وهذا الاعتبار يبرزه الشارع ويصوغه في عالم الإثبات والدلالة بنحو الوجوب بالمادّة أو بالصيغة. إذا فحقيقة الوجوب هي ذاك الأمر الاعتباري.

نعم ، البعث والتحريك من شئون الوجوب بمعنى أنّ الغرض من جعل الوجوب على المكلّف هو أن يتحرّك نحو الفعل وينبعث نحوه ، إلا أنّ الغرض والداعي شيء وحقيقة الشيء شيء آخر.

وعليه ، فإذا لم يكن هناك بعث ولا تحريك في زمان فعليّة الوجوب ، فإن كان البعث والتحريك منتفيا مطلقا في تمام مدّة الفعليّة فسوف يكون الوجوب لغوا إذ لا فائدة منه ، ولكن إذا كان البعث ممكنا بلحاظ الفترات اللاحقة فسوف لن يكون هناك لغويّة من فعليّة الوجوب ؛ لأنّ الانبعاث والتحرّك سوف يتحقّقان في تلك الفترات.

والمستظهر من الأدلّة التي يوجد فيها ما يدلّ على الوجوب هو أنّ الداعي والغرض من جعل الوجوب هو كونه محرّكا وباعثا نحو الفعل ، وهذا يتحقّق وإن كان الانبعاث والتحرّك في بعض الفترات من زمان الوجوب لا في تمام الفترات ؛ إذ لا دليل على اعتبار لزوم الانبعاث والتحرّك في تمام الفترات ، والقدر المتيقّن هو أن يحصل التحرّك ، والأزيد من ذلك يحتاج إلى دليل ؛ لأنّه مئونة زائدة.

الثاني : أنّ طلوع الفجر إمّا أن يؤخذ قيدا في الواجب فقط ، أو يؤخذ قيدا في الوجوب أيضا.

فعلى الأوّل يلزم كون الوجوب محرّكا نحوه ؛ لما تقدّم من أنّ كلّ قيد يؤخذ في الواجب دون الوجوب يشمله التحريك المولوي الناشئ من ذلك الوجوب ، وهذا غير معقول ؛ لأنّ طلوع الفجر غير اختياري.

وعلى الثاني يصبح طلوع الفجر شرطا للوجوب ، فإذا كان شرطا مقارنا فهذا معناه عدم تقدّم الوجوب على زمان الواجب ، وإذا كان شرطا متأخّرا يلزم محذور الشرط المتأخّر.

والشيء نفسه نقوله عن القدرة على الصيام عند طلوع الفجر ، فإنّها كطلوع الفجر في الشقوق المذكورة.

الاعتراض الثاني : ما لعلّه يظهر من كلمات الميرزا النائيني وحاصله أن يقال : إنّ المقدّمات غير الاختياريّة فوق الطلب والوجوب بمعنى أنّها لا تدخل في الطلب

١٥٨

والوجوب ، ولا يمكن إيجابها أو طلبها ؛ لأنّ فرض كونها غير اختياريّة يعني عدم قدرة المكلّف على إيجادها ، فيكون طلب إيجادها من التكليف بغير المقدور وهو محال. وعليه ، فكلّ المقدّمات غير الاختياريّة تكون قيودا للوجوب بمعنى أنّ الوجوب متوقّف على تحقّقها ووجودها ، من دون أن يكون للمكلّف مدخليّة فيها.

وأمّا المقدّمات الاختياريّة فكما يمكن أن تكون قيودا للوجوب كذلك يمكن أن تكون قيودا للواجب ، فتدخل في الطلب والوجوب لقدرة المكلّف على إيجادها وتحصيلها.

وفي مقامنا نقول : إنّ طلوع الفجر بالنسبة للصوم الواجب : إمّا أن يكون قيدا في الوجوب ، أو في الواجب ، أو في الوجوب والواجب معا.

فإن فرض كونه قيدا في الوجوب فهذا معناه أنّ وجوب الصوم لا يكون فعليّا إلا عند طلوع الفجر فيتطابق زمان الوجوب مع زمان الواجب ، ويخرج الفرض عن محلّ الكلام ؛ لأنّه يصبح من الواجب المنجّز.

وإن فرض كونه قيدا في الواجب فهذا معناه أنّه داخل تحت الإيجاب والطلب ؛ لأنّ مقدّمات الواجب الوجوديّة كلّها تدخل في عهدة المكلّف ويكون مطالبا بها كما تقدّم ؛ لأنّ الوجوب يفترض كونه فعليّا في رتبة سابقة ، ولذلك فهو يدعو إلى إيجاد متعلّقه ، والمفروض أنّه مقيّد أو موقوف على تحقّق هذه المقدّمات والقيود فيجب على المكلّف إيجادها وتحقيقها ؛ ليتمكّن من تحقيق الواجب الذي اشتغلت ذمّته به ، وهذا واضح ولا كلام فيه.

إلا أنّه في مقامنا لمّا كان طلوع الفجر من الأمور الزمانيّة أي أنّه قيد زماني وهو غير اختياري للمكلّف ؛ لوضوح عدم قدرة المكلّف على الإتيان به متى شاء وكيف أراد ، فهذا معناه تكليف المكلّف بقيد خارج عن اختياره وقدرته ، فيكون تكليفا بغير المقدور وهو مستحيل.

وإن فرض كونه قيدا للواجب والوجوب معا ، فهذا وإن كان معقولا في نفسه ، إلا أنّه يلزم منه أنّه لمّا صار من قيود الوجوب أيضا فهو إمّا متقدّم أو مقارن أو متأخّر ، والكلّ لا يمكن الالتزام به ؛ وذلك إمّا كونه شرطا أو قيدا متقدّما على الوجوب ، فهذا معناه أنّه لا فعليّة للوجوب قبله ، وإنّما تبدأ فعليّة الوجوب بعد طلوع الفجر ، وهذا لا

١٥٩

يمكن الالتزام به إذ لا يقول قائل بأنّ وجوب الصوم يبدأ بعد طلوع الفجر ، مضافا إلى خروج الفرض عن مورد النزاع ؛ لأنّ القائل بالواجب المعلّق يفترض الوجوب الفعلي قبل طلوع الفجر ، فهذا الفرض يلغي الواجب المعلّق.

وأمّا كونه قيدا أو شرطا مقارنا فهو وإن كان معقولا ومقبولا في نفسه ، إلا أنّه يجعل الوجوب الفعلي مقارنا في حدوثه لطلوع الفجر ، ممّا يعني أنّه لا فعليّة للوجوب قبله ، وهذا أيضا يلغي الواجب المعلّق ؛ لأنّه يفترض فيه فعليّة الوجوب من قبل.

وأمّا كونه قيدا أو شرطا متأخّرا ، فهذا معناه أنّ الوجوب يصبح فعليّا من أوّل الأمر حين تحقّق هذا الشرط ، ويكون الواجب فعليّا عند تحقّق هذا الشرط أو القيد أيضا ، وهذا يؤدّي إلى القول بالواجب المعلّق لا محالة ؛ لأنّه يفترض فيه فعليّة الوجوب في الآن السابق مع كون فعليّة الواجب في الآن اللاحق ، إلا أنّ الشرط المتأخّر مستحيل في نفسه ؛ لأنّه يؤدّي إلى تأثير المعدوم في الموجود وإلى وجود المعلول قبل علّته كما تقدّم ، وما دام مستحيلا فيستحيل أيضا القول بالواجب المعلّق.

وما ذكرناه بالنسبة للقيد الزماني هو نفسه يقال بالنسبة لسائر القيود الأخرى التي تشترط في موضوعات الأحكام من البلوغ والعقل والقدرة ، فالقدرة على الصيام كطلوع الفجر شرط في الصوم الواجب ، بمعنى أنّه عند ما يثبت الهلال إنّما يجب الصوم على الإنسان إذا طلع عليه الفجر وكان أيضا قادرا على الصوم أو بالغا أو عاقلا أو غير مريض ، فإنّ هذه القيود كلّها قيود للموضوع أي للفعل الواجب ، فالكلام المذكور بتمامه يجري فيها.

وبهذا ظهر أنّه لا يمكن القول بالواجب المعلّق إلا بناء على افتراض الشرط المتأخّر وهو مستحيل.

ومن هنا كنّا نقول في الحلقة السابقة (١) : إنّ إمكان الواجب المعلّق يتوقّف على افتراض إمكان الشرط المتأخّر وذلك باختيار الشقّ الأخير.

وأمّا الجواب عن هذا الاعتراض : فهو أنّنا نختار الشقّ الأخير ، وهو أن يكون قيد طلوع الفجر قيدا للوجوب والواجب معا على نحو الشرط المتأخّر ، وحيث إنّنا قلنا بإمكان الشرط المتأخّر فيما سبق فلا محذور في القول بالواجب المعلّق بناء عليه ،

__________________

(١) في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : زمان الوجوب والواجب.

١٦٠