شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٩

مشاكل تطبيقيّة

استعرضنا فيما سبق (١) أربع خصائص وحالات للوجوب الغيري ، وتنصّ الثانية منها على أنّ امتثال الوجوب الغيري لا يستتبع ثوابا ، وتنصّ الرابعة منها على أنّ الواجب الغيري توصّلي.

وقد لوحظ أنّ ما ثبت من ترتّب الثواب على جملة من المقدّمات ـ كما دلّت عليه الروايات ـ ينافي الحالة الثانية للوجوب الغيري ، وأنّ ما ثبت من عباديّة الوضوء والغسل والتيمّم واعتبار قصد القربة فيها ينافي الحالة الرابعة له.

توجد مشكلتان في التطبيق :

الأولى : في ترتّب الثواب على جملة من المقدّمات ، حيث دلّت الروايات على ثبوت الثواب حين الإتيان بالمقدّمة وإن لم يأت بالواجب ، فإنّ هذا يتنافى مع ما تقدّم من خصائص الوجوب الغيري وأنّه لا يستتبع ثوابا زائدا عمّا في الواجب النفسي من ثواب.

فمثلا دلّت الروايات على ثبوت الثواب على من زار الحسين عليه‌السلام ماشيا ، وأنّ له بكلّ خطوة ألف حسنة و ... إلى آخره ، مع أنّ المشي مقدّمة لحصول الزيارة التي يفرض تعلّق الوجوب النفسي بها ولو بعنوان آخر كمن نذر زيارته عليه‌السلام.

الثانية : في ثبوت صفة العباديّة في بعض المقدّمات ، كالغسل والتيمّم والوضوء ، ولزوم الإتيان بها بقصد القربة ، بحيث تكون هذه الصفة جزءا دخيلا فيها ولا تتحقّق من دونها ، وهذا يتنافى مع ما تقدّم من كون الوجوب الغيري توصّليّا لا يشترط فيه أي داع آخر مضافا إلى الإتيان بذات المقدّمة ؛ لأنّ المطلوب منه الوصول به إلى الواجب والتوصّل إليه.

__________________

(١) تحت عنوان : خصائص الوجوب الغيري.

٣٠١

وهاتان المشكلتان لا بدّ من حلّهما بنحو يتناسب مع حقيقة الوجوب الغيري والمحافظة على خصائصه المتقدّمة ، وإلا لكانت نقضا على ما ذكر من خصائص للوجوب الغيري ، بل تكون دليلا على عدم صحّتها في نفسها ؛ لأنّ الواقع على خلافها.

هذا ، وقد أجيب عن هاتين المشكلتين بأجوبة عديدة ومختلفة ، والسيّد الشهيد يذكر جوابا لكلّ واحدة من المشكلتين ، ولذلك قال :

والجواب : أمّا فيما يتّصل بالحالة الثانية : فهو أنّها تنفي استتباع امتثال الوجوب الغيري بما هو امتثال له للثواب ، ولا تنفي ترتّب الثواب على المقدّمة بما هي شروع في امتثال الوجوب النفسي ؛ وذلك فيما إذا أتى بها بقصد التوصّل بها إلى امتثاله.

وما ثبت بالروايات من الثواب على المقدّمات يمكن تطبيقه على ذلك.

أمّا الجواب عن المشكلة الأولى : فقد تقدّم في خصائص الوجوب الغيري أنّه لا يستتبع ثوابا على فعله ، ولكن قلنا هناك بأنّه لا يستتبع الثواب على فعله ( بما هو امتثال له ) ، فإنّ هذا التقييد يحلّ المشكلة المذكورة ؛ وذلك لأنّنا ننفي ترتّب الثواب على فعل الواجب الغيري من جهة كونه امتثالا للواجب الغيري ، ولم ننف ترتّب الثواب على فعله ولو من جهة أخرى بأن كان قاصدا التوصّل به إلى الواجب النفسي مثلا.

ولذلك فمن يأتي بالمقدّمة بقصد التوصّل بها إلى الواجب النفسي يكون قد شرع في امتثال الواجب النفسي من حين اشتغاله بالمقدّمة ، ولذلك يبدأ الثواب من ذاك الحين ، فهنا الثواب لم يترتّب على امتثال الواجب الغيري بما هو وجوب غيري ، بل يترتّب عليه بما هو امتثال للواجب النفسي وشروع في امتثاله. إذا ترتّب الثواب على المقدّمات لا يخالف حقيقة الوجوب الغيري.

وما ورد من ترتّب الثواب على فعل بعض المقدّمات يمكن حمله على هذا المعنى ، أي على أنّه قد شرع في امتثال الواجب النفسي من حين إتيانه بالمقدّمة بقصد التوصّل بها إلى الواجب النفسي (١).

__________________

(١) هذا كلّه فيما إذا أتى بالواجب النفسي بعد المقدّمة ، وأمّا مع عدم تحقّق الواجب النفسي فلعلّ ما ذكر لا يكفي في تخريج الاستحباب ، ولذلك يوجد تخريجان آخران :

أحدهما : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) من ثبوت الاستحباب النفسي للمقدّمة ، فإنّ الدليل ..

٣٠٢

وأمّا فيما يتّصل بالحالة الرابعة فإنّها في الحقيقة إنّما تنفي دخول أيّ شيء في دائرة الوجوب الغيري زائدا على ذات المقدّمة التي يتوقّف عليها الواجب النفسي.

فإذا كان الواجب النفسي متوقّفا على ذات الفعل امتنع أخذ قصد القربة في متعلّق الوجوب الغيري ؛ لعدم توقّف الواجب النفسي عليه.

وإذا كان الواجب النفسي متوقّفا على الفعل مع قصد القربة تعيّن تعلّق الوجوب الغيري بهما معا ؛ لأنّ قصد القربة في هذه الحالة يعتبر جزءا من المقدّمة.

وفي كلّ مورد يقوم فيه الدليل على عباديّة المقدّمة نستكشف انطباق هذه الحالة [ عليه ].

وأما الجواب عن المشكلة الثانية : فقد ذكرنا في الخصوصيّة الرابعة أنّ الوجوب الغيري ملاكه المقدّميّة والتوقّف ، ولذلك فهو يتعلّق بواقع المقدّمة من دون أن يكون لأيّة خصوصيّة أخرى مدخليّة في ذلك. وعليه ، لم يكن قصد التوصّل لامتثال الواجب ولم يكن للتقرّب والعباديّة أيّة دخالة فيه ، فيتحقّق الواجب الغيري سواء قصد ذلك أم لا.

وهذا إنّما ينفي أن يكون قصد القربة والعباديّة جزءا دخيلا في الوجوب الغيري ، ووجه الانتفاء واضح ؛ لأنّه لا داعويّة ولا محرّكيّة ولا ثواب ولا عقاب ولا ملاك فيه ، إلا أنّ هذا لا ينفي إمكان وقوع الواجب الغيري مع قصد التوصّل والامتثال أو التقرّب والعباديّة.

وعليه ، فإذا كان الواجب النفسي متوقّفا على ذات الفعل فقط فلا معنى لأخذ

__________________

... الدالّ على ترتّب الثواب على المقدّمة سواء تحقّق الواجب بعدها أم لا ، يعتبر دليلا على إثبات استحبابها النفسي فيأتي بها بقصد امتثال أمرها ولذلك يثاب عليها. وهذا إخراج لها من دائرة الوجوب الغيري إلى الوجوب النفسي.

والآخر : أنّ المقدّمة شيء ، وما ورد الثواب عليه بعنوانه شيء آخر. فلو وجبت الزيارة مثلا وجبت مقدّمتها وهي السفر وطيّ المسافة ، وما ورد عليه الثواب هو المشي أي أحد مصاديق المقدّمة ، أو أحد كيفيّاتها ، فنفس المقدّمة بعنوانها الكلّي الجامع واجب غيري لا ثواب عليه ، وأمّا عنوان المشي بنفسه فهو مورد للثواب وللاستحباب النفسي بعنوانه الخاصّ.

وقد يجاب أيضا بالأشدّيّة والأحمزيّة ؛ لأنّ أفضل الأعمال أحمزها ؛ فالمشي يوجب مزيد مشقّة وتعب فيشمله الدليل المذكور.

٣٠٣

قصد القربة في الوجوب الغيري ؛ لأنّ الواجب النفسي لم يكن متوقّفا على هذا القصد ، فإذا فرضنا الواجب النفسي توصّليّا لا يشترط فيه قصد القربة وفرضناه أيضا متوقّفا على ذات الفعل أي على المقدّمة فقط ، فلا معنى لأخذ قصد القربة في الوجوب الغيري ؛ لأنّه غير مأخوذ في الوجوب النفسي الذي يكون فعل المقدّمة لأجله ، بل يمتنع أخذ هذا القصد فيه.

ووجه الامتناع هو أنّ الوجوب الغيري في نفسه لا يكون داعيا ولا محرّكا ولا مستتبعا للثواب والعقاب ولا ملاك فيه وقصد القربة ، إنّما يكون ناشئا أو تابعا لأحد هذه الأمور وكلّها منتفية فلا موضوع له أصلا ليقصد ، بل إذا قصده لزم منه المحذور العقلي وهو لزوم الخلف ؛ لأنّ قصد التوصّل والقربة إن كان بالأمر الغيري فهو خلف ؛ لأنّه لا مقربيّة ولا داعويّة فيه ، وإن كان بالأمر النفسي فهذا يعني توقّف الأمر النفسي على المقدّمة مع هذا القصد مع أنّنا قد فرضناه متوقّفا على ذات الفعل فقط.

وأما إذا كان الواجب النفسي متوقّفا على الفعل مع قصد القربة ، فهنا يتعيّن أخذ قصد القربة في الوجوب الغيري المتعلّق بالمقدّمة أيضا.

والوجه في ذلك : هو أنّ الواجب النفسي لمّا كان أمرا تعبّديّا يشترط فيه قصد القربة ، فهذا معناه أنّه يجب الإتيان بالواجب مع هذا القصد ، ولمّا كان الواجب متوقّفا على المقدّمة مع قصد القربة كان معناه أنّ الوجوب الغيري قد تعلّق بمقدّمة مركّبة من ذات الفعل ومن قصد القربة ، فكان قصد القربة جزءا من الوجوب الغيري وليس أمرا طارئا عليه وخارجا عنه.

وعليه ، فإذا أراد المكلّف التوصّل بالمقدّمة إلى الواجب النفسي كان عليه أن يأتي بالمقدّمة مع هذا القصد ؛ لأنّ إتيانه بالمقدّمة مجرّدة عن قصد القربة لا يوصله إلى الواجب ، فلكي تكون المقدّمة موصلة وبالتالي هي المطلوبة غيريّا لا بدّ من إيجاد هذا القصد.

وبتعبير آخر : إنّ قصد القربة الذي نفينا ثبوته في الوجوب الغيري هو الذي يكون خارجا عن المقدّمة وليس دخيلا فيها ، وإنّما بعد ثبوت الوجوب الغيري يراد إثبات هذا القصد ولزوم ضمّه إلى المقدّمة ، وهذا لا يمكن إثباته ؛ لأنّ الوجوب الغيري بنفسه ليس فيه مقرّبيّة ولا داعويّة كما تقدّم.

٣٠٤

فلا بدّ أن يكون هذا القصد من جهة الوجوب النفسي وهذا يفترض النظر إلى متعلّقه ، وهل أنّه يكفي فيه امتثال الفعل فقط أو هو مع قصد القربة؟ فعلى الأوّل يمتنع قصد القربة للزوم الخلف وعلى الثاني يتعيّن ؛ لأنّ الامتثال موقوف عليه.

ومن هنا نقول : إنّ الوضوء والغسل والتيمّم حيث إنّها مقدّمات للصلاة الواجبة فهي غيريّة لا يشترط فيها قصد القربة ، ولكن لمّا دلّ الدليل الخاصّ على اشتراط ذلك وعلى ترتّب الثواب عليها ، كشف هذا عن كون الواجب النفسي متوقّفا لا على ذات المقدّمة ، بل على المقدّمة مع قصد القربة ، وأنّ هذا القصد جزء دخيل في المقدّمة يعرض عليه الوجوب الغيري وليس خارجا عن المقدّمة ليكون منضمّا إليها.

فإن قيل : أليس قصد القربة معناه التحرّك عن محرّك مولوي لإيجاد الفعل؟ وقد فرضنا أنّ الأمر الغيري لا يصلح للتحريك المولوي ـ كما نصّت عليه الحالة الأولى من الحالات الأربع المتقدّمة للوجوب الغيري ـ فما هو المحرّك المولوي نحو المقدّمة؟

كان الجواب : أنّ المحرّك المولوي نحوها هو الوجوب النفسي المتعلّق بذيها ، وهذا التحريك يتمثّل في قصد التوصّل ، هذا إضافة إلى إمكان افتراض وجود أمر نفسي متعلّق بالمقدّمة أحيانا ، بقطع النظر عن مقدّميّتها كما هو الحال في الوضوء على القول باستحبابه النفسي.

إشكال وجوابه : أمّا الإشكال فهو أنّ قصد القربة يتوقّف على أن يكون الإتيان بالفعل بقصد امتثال أمره الشرعي ، بحيث يتحرّك العبد بهذا القصد من أجل امتثال أمر المولى ، وهذا يفترض أن يكون هناك أمر هو الذي حرّك المكلّف ، وحينئذ نسأل عن هذا الأمر والمحرّك ما هو؟

فإن كان هو الأمر الغيري فهو باطل ؛ لأنّه تقدّم في الخصوصيّة الأولى من خصائص الوجوب الغيري أنّه لا يصلح للتحريك ولا للداعويّة ولا للقربيّة ؛ لأنّه متعلّق بالمقدّمة ذاتها بحيث كان ملاكها هو كونها ممّا يتوقّف عليه الواجب ، وهذا الملاك يكفي في تحقيقه إيجاد واقع المقدّمة من دون أي شيء زائد عليها.

وإن كان هو الوجوب النفسي فهو لا يدعو ولا يحرّك إلا نحو إيجاد متعلّقه لا أكثر.

وبهذا يتبيّن أنّه لا يوجد محرّك مولوي ليكون هو الذي يتقرّب به بفعل المقدّمة.

٣٠٥

وأما الجواب : فهو أنّنا نختار الشقّ الثاني ، فيكون المحرّك المولوي نحو إيجاد المقدّمة هو الوجوب النفسي المتعلّق بذي المقدّمة ، فإنّ الأمر النفسي كما يحرّك ويدعو إلى إيجاد متعلّقه أي الواجب النفسي فهو يدعو أيضا إلى تحقيق كلّ ما يتوقّف عليه الواجب النفسي بالتبعيّة ، ولذلك قلنا : إنّ الوجوب الغيري ليس فيه محرّكيّة وداعويّة ومقرّبيّة زائدة على ما في الوجوب النفسي ، وهذا لا ينفي أصل المحرّكيّة والداعويّة ، والمقرّبيّة ، وإنّما ينفي كونها استقلاليّة وبمعزل عن الوجوب النفسي.

وعليه ، فنقول : إنّ التحرّك الذي هو قوام المقرّبيّة يمكن افتراضه بالنسبة للمقدّمة بأحد طريقين :

الأوّل : من خلال قصد التوصّل بالمقدّمة إلى ذيها ، فإنّ المكلّف إذا قصد التوصّل بالمقدّمة إلى ذيها حين الشروع في المقدّمة كان هذا القصد كافيا للتحرّك وبالتالي لقصد القربة ، دون ما إذا لم يقصد التوصّل بها إلى ذيها فإنّه في هذه الحالة لا يكون إتيانه بها قربيّا ؛ لعدم تحرّكه عن الأمر لا الغيري ولا النفسي ، أمّا الغيري فلأنّه لا وجود له بنحو مستقلّ ، وأمّا النفسي فلأنّه لم يقصده.

الثاني : من خلال افتراض ثبوت أمر نفسي متعلّق بالمقدّمة بقطع النظر عن كونها مقدّمة ، بحيث كان الأمر النفسي متعلّقا بها لأجل نفسها لا لكونها من أجل واجب آخر غيرها ، فهنا يمكن للمكلّف أن يتحرّك عن هذا الأمر النفسي ويكون قربيّا ، وهذا ما يمكن ادّعاؤه بالنسبة للطهارات الثلاث كالوضوء ونحوه ، حيث ثبت الأمر الاستحبابي النفسي بها فيمكن قصده والتحرّك عنه.

وكلا هذين الطريقين يحقّق القربيّة ؛ لأنّ القربيّة معناها أن يأتي المكلّف بالفعل مضافا إلى المولى ، أي أن يكون الفعل محبوبا للمولى ومن أجله ، فكلّ فعل يمكن أن يكون من أجل المولى فيكون قربيّا ويمكن التحرّك عنه بهذا القصد ؛ لأنّه يكون راجحا.

* * *

٣٠٦

دلالة الأوامر الاضطراريّة

والظاهريّة على الإجزاء

٣٠٧
٣٠٨

دلالة الأوامر

الاضطراريّة والظاهريّة على الإجزاء

لا شكّ في أنّ الأصل اللفظي ـ في كلّ واجب لدليله إطلاق ـ [ يقتضي ] أنّه لا يجزي عنه شيء آخر ؛ لأنّ إجزاءه عنه معناه كونه مسقطا ، ومرجع مسقطيّة غير الواجب للواجب أخذ عدمه قيدا في الوجوب ، وهذا التقييد منفي بإطلاق دليل الواجب. وهذا ما قد يسمّى بقاعدة عدم الإجزاء.

المراد من الإجزاء هو معناه اللغوي أي الكفاية والاكتفاء بما أتى به المكلّف ، فإنّه لا شكّ في إجزاء الأمر وسقوطه فيما إذا أتى المكلّف بمتعلّقه على الوجه الذي أمر به ، وسقوطه هنا بمعنى سقوط فاعليّته كالعصيان أيضا.

وأما إذا أتى بشيء آخر غير ما أمر به فالأصل الأوّلي يقتضي عدم إجزائه ؛ لأنّ الأمر لا يدعو إلا إلى متعلّقه لا إلى شيء آخر. نعم ، يسقط بتحقيق الغرض والملاك أيضا كما تقدّم في طي البحوث السابقة.

وأمّا إجزاء غير المتعلّق وغير الغرض والملاك فهو معناه أنّ الأمر قد قيّد بعدمه ، فيكون عدم ذاك الشيء مأخوذا قيدا في الأمر ؛ لأنّه إذا وجد سقط الأمر عن الفعليّة أو الفاعليّة.

إلا أنّ هذا التقييد في الأمر لا يمكن قبوله ؛ لأنّ دليل الأمر لمّا كان خاليا من هذا القيد أمكن نفيه بالإطلاق ومقدّمات الحكمة ، إذ لو كان الشارع يريد التقييد ثبوتا وواقعا لدلّ عليه إثباتا وذكره في لسان الدليل.

وبهذا يتبيّن أنّ الأصل اللفظي في كلّ واجب هو عدم إجزاء غيره عنه ؛ لأنّ إجزاءه يعني أخذ عدمه قيدا وبما أنّ القيد غير مذكور فهو غير مراد.

٣٠٩

وهذا ما يسمّى بقاعدة عدم الإجزاء.

نعم ، إذا دلّ دليل خاصّ من خارج دليل الأمر على الإجزاء فيؤخذ به ، كما هو الحال في إجزاء الأضحية عن العقيقة ، فإنّها تجزي بمعنى أنّ الأضحية تسقط استحباب العقيقة وتجزي عنها. وأمّا مع عدم وجود الدليل الخاصّ فالأصل هو عدم إجزاء شيء آخر عن الواجب.

ولكن يدّعى الخروج عن هذه القاعدة في بعض الحالات استنادا إلى ملازمة عقليّة ، كما في حالة الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري.

إذ قد يقال بأنّ الأمر الاضطراري أو الظاهري يدلّ دلالة التزاميّة عقليّة على إجزاء متعلّقه عن الواجب الواقعي على أساس وجود ملازمة بين جعله وبين نكتة تقتضي الإجزاء ، والتفصيل كما يلي :

قد يقال : إنّ الأصل المتقدّم وهو عدم إجزاء غير الواجب عن الواجب قد يخرج عنه في بعض الحالات لا بسبب وجود الدليل الخاصّ على الإجزاء ، فإنّ هذا لا كلام فيه ، وإنّما على أساس دعوى وجود ملازمة عقليّة تقتضي الإجزاء.

ومن هنا يقال : إنّ الأمر الاضطراري يجزي عن الأمر الاختياري ، من قبيل الصلاة من جلوس فإنّ المكلّف مأمور بالصلاة من قيام ، ولكنّه إذا اضطرّ إلى الجلوس في بعض الحالات فصلّى بهذه الحالة أجزأه عن الأمر الاختياري ، ولا يجب عليه الإعادة ولا القضاء.

وهكذا يقال بالنسبة للأمر الظاهري فإنّه يجزي عن الأمر الواقعي ، كما إذا عمل بالأمارة أو بالأصل ثمّ انكشف له الواقع فيما بعد أو انكشف خلاف ما عمل ، فإنّه يقال بالإجزاء وعدم وجوب الإعادة أو القضاء.

والإجزاء في هذين الموردين بما أنّه ليس على القاعدة والأصل اللفظي على خلافه احتاج إلى دليل ، وبما أنّ الدليل الخاصّ من آية أو رواية ليس موجودا ، فيكون المدرك لذلك هو الدليل العقلي اللبّي ، فيقال : إنّ العقل يحكم بالتلازم بين العمل بالأمر الاضطراري أو الظاهري وبين الإجزاء. وهذا ما يسمّى بقاعدة الإجزاء ، وهو ما سوف نبحث عنه في مقامنا.

٣١٠

والبحث ينصبّ في كلا المقامين عن إبراز النكتة والملاك الذي من أجله يقال بالملازمة العقليّة الدالّة على الإجزاء. ومن هنا كان لا بدّ من تفصيل البحث حول الأمرين كلّ على حدة.

* * *

٣١١
٣١٢

دلالة الأوامر

الاضطراريّة على الإجزاء عقلا

٣١٣
٣١٤

دلالة الأوامر الاضطراريّة على الإجزاء عقلا

إذا تعذّر الواجب الأصلي على المكلّف فأمر بالميسور اضطرارا ، كالعاجز عن القيام تشرّع في حقّه الصلاة من جلوس ، فتارة يكون الأمر الاضطراري مقيّدا باستمرار العذر في تمام الوقت ، وأخرى يكون ثابتا بمجرّد عدم التمكّن في أوّل الوقت.

المقام الأوّل : في دلالة الأوامر الاضطراريّة على الإجزاء عقلا.

فهل العقل يحكم بإجزاء الأمر الاضطراري عن الأمر الاختياري لتثبت الدلالة العقليّة الالتزاميّة بعد أن فرضنا كون الدليل اللفظي مطلقا وغير مقيّد بما يستفاد منه الإجزاء شرعا ، أم لا يحكم بذلك؟

فإذا فرضنا المكلّف قد عجز عن بعض أجزاء الصلاة كالركوع أو القيام فصلّى من جلوس مثلا استنادا إلى ما ورد من « إنّ الميسور لا يسقط بالمعسور » (١) أو إلى ما ورد من أنّ ( ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه أو جلّه ) فهل صلاته الاضطرارية هذه تجزيه عن الصلاة الاختياريّة سواء في الوقت أم خارجه أو لا؟ وهنا يوجد حالتان :

الأولى : أن يفرض كون الأمر الاضطراري الموجّه إلى المكلّف مقيّدا باستمرار العذر في تمام الوقت ، بمعنى أنّ العذر إذا ارتفع في الوقت فيكون موضوع الأمر الاضطراري منتفيا من أوّل الأمر ولا يكون المكلّف مخاطبا به واقعا وحقيقة ، وإن اعتقد ذلك بداية إلا أنّه ينكشف له الواقع حين ارتفاع العذر وأنّه كان مخطئا.

وأمّا إذا لم يرتفع العذر فموضوع الأمر الاضطراري ثابت حقيقة فهل يجزيه فيما لو ارتفع بعد الوقت أم لا؟ وهكذا الحال بالنسبة لما إذا ارتفع في الأثناء فهل يجزيه أم لا؟

__________________

(١) المحاسن ٢ : ٦٤٤ ، عوالي اللآلئ ١ : ٢٠ ، و ٤ : ٥٨ ، بلفظ : لا يترك الميسور بالمعسور

٣١٥

الثانية : أن يفرض أنّ الأمر الاضطراري ثابت بمجرّد طروّ العذر ولا يشترط فيه استمرار العذر إلى آخر الوقت ، فهنا إذا صلّى المكلّف في أوّل الوقت ثمّ ارتفع عذره في الأثناء أو بعد الوقت ، فهل يجزيه ما أتى به أم لا بدّ من الإعادة أو القضاء؟

ثمّ هل يجوز له البدار إلى امتثال الأمر الاضطراري ، أم يجب عليه الانتظار إلى آخر الوقت ، أو إلى حين اليأس من البرء من العذر؟

وسوف نتناول كلّ واحدة من هاتين الحالتين مع التفصيل بقدر الإمكان بين الشقوق الواردة في كلّ منهما.

ولنبدأ بالثاني فنقول : إذا بادر المريض فصلّى جالسا في أوّل الوقت ثمّ ارتفع العذر في أثناء الوقت ، فلا تجب عليه الإعادة.

والبرهان على ذلك : أنّ المفروض أنّ الصلاة من جلوس التي وقعت منه في أوّل الوقت كانت مصداقا للواجب بالأمر الاضطراري.

وحينئذ نتساءل : أنّ وجوبها هل هو تعييني أو تخييري؟

والجواب : هو أنّه تخييري ، ولا يحتمل أن يكون تعيينيّا ؛ لوضوح أنّ هذا المريض كان بإمكانه أن يؤخّر صلاته إلى آخر الوقت فيصلّي عن قيام.

وإذا كان وجوبها تخييريّا فهذا يعني وجود عدلين وبديلين يخيّر المكلّف بينهما.

الحالة الثانية : وهي ما إذا كان الأمر الاضطراري ثابتا بمجرّد طروّ العذر.

فهنا إذا أخّر الصلاة إلى آخر الوقت فصلّى الصلاة الاضطراريّة فلا إشكال في الإجزاء ، وإنّما الكلام فيما لو بادر إلى الصلاة الاضطراريّة في أوّل الوقت ـ بناء على جواز البدار ـ ثمّ ارتفع عذره في أثناء الوقت ، فهل تجب عليه الإعادة أو أنّها تجزي عن الصلاة الاختياريّة؟

والجواب عن ذلك : أنّها تجزي ولا تجب الإعادة ، والدليل على ذلك هو ما ذكره الميرزا من برهان حيث قال : إنّ الصلاة الاضطراريّة لا تخلو من أحد احتمالات أربعة :

١ ـ أن تكون وافية بتمام الغرض والملاك ، فهنا لا إشكال في الإجزاء ؛ لأنّ الإجزاء له ملاكان : أحدهما الإتيان بالمأمور به ، والآخر تحقيق الملاك ولو عن طريق آخر غير ما تعلّق به الأمر الاختياري.

٣١٦

٢ ـ أن تكون وافية بأكثر الملاك والغرض ، والباقي لا يجب تحصيله ، وهنا أيضا يحكم بالإجزاء.

٣ ـ أن تكون وافية ببعض الغرض ، ولكنّ الباقي لا يمكن تحصيله وتداركه ، وهنا يحكم بالإجزاء أيضا.

٤ ـ أن تكون وافية ببعض الغرض ، والباقي يمكن تداركه وتحصيله ، وهذه هي التي يبحث في إجزائها وعدمه.

فيقال : إنّ الصلاة الاضطراريّة التي وقعت في أوّل الوقت كانت مصداقا للأمر الاضطراري ، وحينئذ نطرح التساؤل التالي : هل هذه الصلاة الاضطراريّة المأمور بها بالأمر الاضطراري واجبة تعيينيّا أم تخييريّا؟

والجواب : أنّها واجبة تخييريّا ، ولا يمكن أن تكون واجبة تعيينيّا ؛ لوضوح أنّ المكلّف لو لم يأت بها أوّل الوقت وانتظر إلى آخره لكان فعله صحيحا وجائزا ، بل هو أولى ؛ لأنّه لو انتظر إلى آخر الوقت فإمّا أن يزول عذره فيصلّي الصلاة الاختياريّة ، أو لا يزول كذلك فيصلّي الصلاة الاضطراريّة في آخره.

فالمتعيّن إذا كونها على نحو التخيير ، وحينئذ نسأل عن الأمر التخييري وأنّه دائر بين أي شيئين؟ لأنّ التخيير يفترض ـ لا محالة ـ وجود عدلين أو أكثر يكون المكلّف مخيّرا بينهما ، وهنا يوجد احتمالان في هذا الأمر التخييري ، هما :

فإن كان هذان العدلان هما الصلاة الاضطراريّة والصلاة الاختياريّة ، فقد ثبت المطلوب ؛ لأنّ معنى ذلك أنّ الواجب هو الجامع بين الصلاتين وقد حصل فلا موجب للإعادة.

وإن كان هذان العدلان هما مجموع الصلاتين من ناحية والصلاة الاختياريّة من ناحية أخرى ، بمعنى أنّ المكلّف مخيّر بين أن يصلّي من جلوس أوّلا ومن قيام أخيرا ، وبين أن يقتصر على الصلاة من قيام في آخر الوقت ، فهذا تخيير بين الأقلّ والأكثر وهو مستحيل. وبهذا يتبرهن الإجزاء.

الاحتمال الأوّل : أن يكون الأمر التخييري دائرا بين الصلاة الاضطراريّة من جهة وبين الصلاة الاختياريّة من جهة ثانية ، فيكون المكلّف مخيّرا بين أن يصلّي الصلاة الاضطراريّة في أوّل الوقت أو أن يصبر وينتظر إلى آخر الوقت ، فإن زال عذره صلّى الصلاة الاختياريّة.

٣١٧

وعلى هذا الاحتمال يثبت المطلوب وهو الإجزاء ؛ لأنّه يكون قد أتى بأحد فردي الجامع المأمور به ، فيكون ممتثلا حقيقة فلا تجب عليه الإعادة.

الاحتمال الثاني : أن يكون المكلّف مخيّرا بين الصلاة الاضطراريّة والصلاة الاختياريّة من جهة وبين الصلاة الاختياريّة من جهة ثانية ، فيكون المكلّف مخيّرا بين أن يصلّي الصلاة الاضطراريّة في أوّل الوقت ثمّ إذا زال عذره صلّى الصلاة الاختياريّة ، وبين أن يصبر إلى آخر الوقت فيصلّي الصلاة الاختياريّة إذا زال عذره أو الصلاة الاضطراريّة إذا استمرّ عذره.

وعلى هذا الاحتمال يكون المكلّف مخيّرا بين الأقلّ والأكثر في الوجوب وهو مستحيل ؛ لأنّ فعل الأقلّ يستلزم سقوط الأمر لامتثاله ضمن أحد فرديه ، فيكون الأكثر تكليفا زائدا لا موجب له فيلغو ، أو لأنّ الأقلّ ضروري الوقوع على كلّ تقدير إمّا مستقلاّ أو ضمن الأكثر فيكون من التخيير بين المتناقضين وهو مستحيل.

ووجه الاستحالة : أنّه لا يمكن ارتفاع العدلين هنا ؛ لأنّه إمّا أن يصلّي الصلاة الاختياريّة أو الصلاة الاضطراريّة ، فالمكلّف إذا أوقع الصلاة الاضطراريّة يكون مخيّرا في إيقاع الزائد وعدم إيقاعه ، ومثل هكذا تخيير لا يكون له معنى محصّل فيلغو. وهكذا يتبرهن الإجزاء ؛ لأنّ التخيير يتعيّن في الاحتمال الأوّل دون الثاني.

هذا كلّه في الحالة الثانية.

وأما إذا كان الأمر الاضطراري مقيّدا باستيعاب العذر لتمام الوقت ، فتارة يصلّي المريض في أوّل الوقت ثمّ يرتفع عذره في الأثناء ، وأخرى يصلّي في جزء الوقت ويكون عذره مستوعبا للوقت حقّا ، ففي الحالة الأولى لا يقع ما أتى به مصداقا للواجب الاضطراري ، إذ لا أمر اضطراري في هذه الحالة ليبحث عن دلالته على الإجزاء ، وفي الحالة الثانية لا مجال للإعادة.

وأمّا الحالة الأولى : وهي ما إذا كان الأمر الاضطراري مقيّدا باستمرار العذر إلى آخر الوقت.

فهنا إذا أخّر المكلّف الصلاة إلى آخر الوقت فصلّى الصلاة الاختياريّة أو الاضطراريّة كان ما أتى به مصداقا للواجب ؛ لأنّ عذره إذا ارتفع فصلّى الصلاة

٣١٨

الاختياريّة أو لم يرتفع فصلّى الصلاة الاضطراريّة يكون قد حقّق ما هو المطلوب منه واقعا.

وأمّا إذا بادر إلى الصلاة في أوّل وقتها أو في أثنائه ـ بناء على جواز البدار ـ فصلّى الصلاة الاضطراريّة ، فهنا تارة يرتفع عذره في الأثناء وأخرى يستمرّ إلى آخر الوقت ، فهنا حالتان :

ففي الحالة الأولى لا إشكال في لزوم الإعادة والإتيان بالصلاة الاختياريّة بعد زوال العذر في الوقت ؛ وذلك لأنّ الأمر الاضطراري كان مقيّدا باستمرار العذر واستيعابه لتمام الوقت وهذا القيد لم يتحقّق ؛ إذ المفروض زوال العذر في الوقت فيكشف زوال العذر عن عدم تعلّق الأمر الاضطراري بالصلاة الاضطراريّة التي أتى بها المكلّف ، وحينئذ لا يكون ما أتى مصداقا للمأمور به ، بل لا أمر بما أتى به واقعا وإنّما كان يتوهّم وجود الأمر.

وأمّا في الحالة الثانية فلا معنى لوجوب الإعادة ؛ إذ فرض استمرار العذر إلى تمام الوقت معناه أنّ الصلاة التي أتى بها كانت مصداقا للأمر الاضطراري وكان هو ثابتا على المكلّف ؛ لتحقّق قيده وهو استيعاب العذر لتمام الوقت ، ومع كون ما أتى به مصداقا للمأمور يحكم بالإجزاء ؛ لأنّه أحد ملاكيه كما تقدّم.

نعم ، يبحث هنا عن وجوب القضاء فيما إذا زال العذر بعد الوقت ، فهل يجب عليه القضاء أم لا؟ ولذلك قال السيّد الشهيد :

ولكن يقع الكلام عن وجوب القضاء ، فقد يقال بعدم وجوب القضاء ؛ لأنّ الأمر الاضطراري يكشف عقلا عن وفاء متعلّقه بملاك الواجب الاختياري ؛ إذ لو لا ذلك لما أمر به ، ومع الوفاء لا فوت ليجب القضاء.

في وجوب القضاء : وقع الكلام في وجوب القضاء وعدمه فيما إذا زال العذر بعد الوقت ، وكان المكلّف قد أتى بوظيفة الأمر الاضطراري ، فهل يجب القضاء بعد الوقت أم لا؟

قد يقال : بعدم وجوب القضاء ؛ وذلك لأنّ ثبوت الأمر الاضطراري على المكلّف أثناء الوقت لازمه عقلا كونه وافيا بتمام الملاك والغرض الموجود في الأمر الاختياري أو بأكثر الملاك والباقي لا يجب تحصيله ، أو ببعض الملاك مع كون الباقي لا يمكن

٣١٩

تحصيله ، وإذا كان كذلك فيحكم بالإجزاء لتحقّق أحد ملاكيه ولو فرض أنّ الأمر الاضطراري لا يحصّل تمام الملاك ، بل بعضه وبعضه الآخر يمكن تحصيله لم يكن هناك معنى للأمر به تعيينا ، بل لا بدّ من ضمّ الأمر الاختياري إليه أيضا فيكون مكلّفا بالجامع بين الأقلّ والأكثر كما تقدّم وهو محال.

ولكن يرد على ذلك : أنّ الأمر الاضطراري يصحّ جعله في هذه الحالة إذا كانت الوظيفة الاضطراريّة وافية بجزء من ملاك الواقع مع بقاء جزء آخر مهم لا بدّ من استيفائه ، إذ في حالة من هذا القبيل يمكن للمولى أن يأمر بالوظيفة الاضطراريّة في الوقت إدراكا لذلك الجزء من الملاك في وقته الأصلي ثمّ يأمر بعد ذلك بالقضاء استيفاء للباقي ، فلا دلالة للأمر الاضطراري عقلا على الإجزاء في هذه الحالة.

ويجاب على ما ذكر بأن يفرض أنّ الأمر الاضطراري وافيا ببعض الملاك والغرض ، والبعض الآخر يمكن تحصيله وتداركه ويكون على نحو الإلزام ، فإنّه في هذه الحالة لا مانع من ثبوت القضاء.

وتوضيحه : أنّ الشارع لمّا لاحظ أنّ الأمر الاضطراري لا يفي إلا بجزء من الملاك الموجود في الأمر الاختياري ، وكان هناك جزء آخر من الملاك يجب تحصيله وتداركه لكونه مهمّا ويضرّ المولى فواته ، ففي هذه الحالة لن يكون هناك أي مانع عقلا من صدور أمرين : أحدهما الأمر الاضطراري من أجل أن يحصل المكلّف به جزء الملاك في الوقت ، والآخر الأمر الاختياري بعد الوقت وبعد زوال العذر من أجل تحصيل ما تبقّى من الملاك ، بحيث يفرض أن ما تبقّى من الملاك يمكن تحصيله بعد الوقت.

وحينئذ لا يكون الأمر الاضطراري دالاّ على الإجزاء عقلا بمعنى عدم ثبوت القضاء ، وإن كان دالا على الإجزاء عقلا بمعنى عدم ثبوت الإعادة ، حيث تقدّم إنّ العذر إذا ارتفع في الوقت وفرض أنّ الأمر الاضطراري كان مقيّدا بمجرّد طروّ العذر فيجزي الأمر الاضطراري ؛ لأنّ عدم الإجزاء يؤدّي إلى التخيير بين الأقلّ والأكثر وهو مستحيل.

وأمّا هنا فإنّ التخيير ليس بين الأقلّ والأكثر ، بل لا يوجد تخيير أصلا ، وإنّما هناك

٣٢٠