شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٩

ما هو الضدّ؟

٨١
٨٢

ما هو الضدّ؟

عرفنا أنّ الأمر بشيء مقيّد عقلا بعدم الاشتغال بضدّه الذي لا يقلّ عنه أهمّيّة ، وانتهينا من ذلك إلى أنّ وقوع التضادّ بين واجبين بسبب عجز المكلّف عن الجمع بينهما لا يؤدّي إلى التعارض بين دليليهما.

والآن نتساءل : ما ذا نريد بهذا التضادّ؟

والجواب : أنّنا نريد بذلك حالات عدم إمكان الاجتماع الناشئة من ضيق قدرة المكلّف ، ولكن لا ينطبق هذا على كلّ ضدّ.

تعريف الضدّ : ذكرنا سابقا أنّ كلّ تكليف مقيّد عقلا بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ ، والتي معناها كما تقدّم ألاّ يكون المكلّف مشتغلا بامتثال تكليف لا يقلّ أهمّيّة عن التكليف الآخر.

ففي كلّ حالة يكون هناك واجبان متضادّان من جهة عجز المكلّف عن الجمع بينهما ، فهذا التضادّ لا يؤدّي إلى دخول المورد في باب التعارض ، بل يقع التزاحم بينهما ، وهو يختلف عن باب التعارض من حيث القواعد والقوانين.

وأمّا الضدّ الذي أخذ عدم الاشتغال به قيدا في التكليف ، فما ذا يراد به؟

والجواب عن ذلك يظهر ضمن الأمرين التاليين ، فإنّ الضدّ لا ينطبق على أي ضدّ ، بل لا بدّ من أن يكون فيه ـ بالإضافة إلى الممانعة والمضادّة بينه وبين الواجب الآخر المضادّ له ، بحيث لا يمكن اجتماعهما معا من جهة عجز المكلّف عن الجمع بينهما ـ بعض الخصوصيّات ، وهي :

فهو أوّلا : لا ينطبق على الضدّ العامّ أي النقيض ؛ وذلك لأنّ الأمر بأحد النقيضين يستحيل أن يكون مقيّدا بعدم الاشتغال بنقيضه ؛ لأنّ فرض عدم الاشتغال بالنقيض يساوق ثبوت نقيضه ، ويكون الأمر به حينئذ تحصيلا للحاصل وهو محال.

٨٣

ومن هنا نعرف أنّ النقيضين لا يعقل جعل أمر بكلّ منهما لا مطلقا ولا مقيّدا بعدم الاشتغال بالآخر. أمّا الأوّل فلأنّه تكليف بالجمع بين النقيضين ، وأمّا الثاني فلأنّه تحصيل للحاصل ، وهذا يعني أنّه إذا دلّ دليل على وجوب فعل ، ودلّ دليل آخر على وجوب تركه أو حرمة فعله ، كان الدليلان متعارضين ؛ لأنّ التنافي بين الجعلين ذاتيهما.

الخصوصيّة الأولى : هي أنّ الضدّ المبحوث عنه في باب الترتّب لا يشمل الضدّ العامّ أي النقيضين ، فإذا كان الأمر دائرا بين النقيضين استحال الترتّب بينهما ؛ وذلك لأنّه يستحيل أن يكون أحدهما أو كلاهما مقيّدا بعدم الاشتغال بالآخر.

وبيان ذلك : أنّ المكلّف إذا دار أمره بين النقيضين كوجوب الصلاة ووجوب تركها مثلا ، فهو إذا كان مشتغلا بأحد النقيضين كان النقيض الآخر مرتفعا لا محالة ؛ إذ يستحيل اجتماع النقيضين معا.

وهكذا إذا لم يشتغل بأحد النقيضين ، فإنّ عدم اشتغاله به يساوق تماما وقوع الآخر لا محالة ؛ لاستحالة ارتفاع النقيضين.

ومن هنا كان الأمر بأحدهما مشروطا بترك الآخر مستحيلا ؛ وذلك إمّا لأنّه يؤدّي إلى اجتماع النقيضين أو إلى طلب الحاصل ، فإنّه إذا فرض تركه لأحدهما كان الآخر واقعا منه لا محالة ، فلا معنى للأمر به لكونه تحصيلا للحاصل ، وإن فرض فعله لأحدهما كان الآخر مرتفعا ولا يمكن الأمر به لا بنحو مطلق ولا بنحو مشروط ؛ لأنّ الأمر به يعني طلبه وطلب وقوعه ، والحال أنّ النقيض ثابت ، فكيف يمكن أن يطلب من المكلّف نقيضه في فرض اشتغاله بالنقيض الآخر؟! فإنّه مستحيل ؛ لاستحالة الجمع بين النقيضين المستلزم لاستحالة طلبهما معا ، وطلبه في حال عدم وجود نقيضه طلب للحاصل فيكون لغوا ؛ لأنّه إذا ارتفع أحد النقيضين كان الآخر ضروري الثبوت ، فلا معنى طلبه لا مطلقا ولا مشروطا.

ومن هنا نعرف أنّ مسألة الترتّب لا يمكن تصوّرها بين النقيضين ، فإذا فرض وجود دليلين دلّ أحدهما على فعل ودلّ الآخر على ترك هذا الفعل وقع التعارض بين الدليلين لا محالة ؛ للتنافي بين الجعلين ذاتيهما ، ولا يدخل في مسألة التزاحم لاستحالة الترتّب كما تقدّم ، بل يدخل في باب التعارض.

٨٤

وثانيا : لا ينطبق على الضدّ الخاصّ في حالة الضدّين اللذين لا ثالث لهما لنفس السبب السابق ، حيث إنّ عدم الاشتغال بأحدهما يساوق وجود الآخر حينئذ ، والحال هنا كالحال في النقيضين.

الخصوصيّة الثانية : هي أنّ الضدّ لا ينطبق على الضدّين اللذين لا ثالث لهما.

والوجه في ذلك أنّ الضدّين : وهما الأمران الوجوديّان المتنافيان اللذان يتعاقبان على موضوع واحد ، إن لم يكن لهما ثالث فهما عمليّا في نفس حكم النقيضين ، فإن عدم الثالث لهما يعني استحالة ارتفاعهما ، فإذا ارتفع أحدهما تعيّن ثبوت الآخر ، بخلاف موارد الضدّين اللذين لهما ثالث ، فإنّهما وإن كان من المستحيل اجتماعهما إلا أنّه يمكن ارتفاعهما في الثالث ، فإن لم يكن لهما ثالث صار ارتفاعهما كاجتماعهما مستحيلا ، وهذه الخصوصيّة نفس خصوصيّة النقيضين فإنّه يستحيل اجتماعهما وارتفاعهما.

وحينئذ إذا دار أمر المكلّف بين ضدّين لا ثالث لهما ، كالجهر والإخفات في القراءة حال الصلاة أو كالقصر والتمام في الركعات حال الصلاة ، فالمكلّف إمّا إن يقع منه هذا أو ذاك ، ويستحيل أن يقع منه كلا الأمرين في وقت واحد ، كما يستحيل ألاّ يقع منه أحدهما أيضا. نعم ، الاستحالة هنا عقليّة بالنسبة للجهر والإخفات ، بينما للقصر والتمام الاستحالة ثابتة بسبب المنع الشرعي عن غير القصر والتمام.

وعلى كلّ حال فإذا ترك أحد هذين الضدّين استحال تكليفه وأمره بالضدّ الآخر لا مطلقا ولا مشروطا.

أمّا الأوّل فلأنّه يعني طلب الجمع بينهما ، وهما كالنقيضين يستحيل اجتماعهما معا ، فإنّ الأمر المطلق معناه كونه فعليّا حتّى لو كان مشتغلا بالآخر ، ولا يمكن الأمر به مشروطا بترك الآخر ؛ لأنّه ضروري الوقوع حينئذ ؛ لأنّه لا يمكن ارتفاعهما.

وعلى هذا فعجز المكلّف عن الجمع بين واجبين إنّما يحقّق التزاحم لا التعارض فيما إذا لم يكونا من قبيل النقيضين أو الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، وإلا دخلت المسألة في باب التعارض.

ويمكننا أن نستنتج من ذلك أنّ ثبوت التزاحم وانتفاء التعارض مرهون بإمكان

٨٥

الترتّب الذي يعني كون كلّ من الأمرين مشروطا بعدم الاشتغال بمتعلّق الآخر ، فكلّما أمكن ذلك صحّ التزاحم ، وكلّما امتنع الترتّب كما في الحالتين المشار إليهما وقع التعارض.

والنتيجة : هي أنّ الضدّ المبحوث عنه في باب الترتّب هو أن يكون للضدّين ثالث يمكن ارتفاعهما به ، فإذا دار أمر المكلّف بين واجبين متضادّين فلكي يدخلان في باب التزاحم ويعقل الأمر الترتّبي بينهما يشترط ألاّ يكونا من النقيضين ولا من الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، كما في الأمر بالصلاة والأمر بالإزالة مثلا ، فإنّه يمكنه رفعهما بأن لا يأتي بشيء منهما ويشتغل بشيء آخر كالنوم مثلا.

وأمّا إذا كانا من النقيضين أو الضدّين اللذين لا ثالث لهما فيدخل المورد في باب التعارض ؛ للتنافي فيهما بلحاظ الجعل ، فإنّه يستحيل جعلهما معا ؛ لكونه طلبا للمستحيل ، ويستحيل جعل أحدهما أو كلاهما مشروطا بترك الآخر ؛ لكونه طلبا للحاصل وهو لغو.

ومن هنا كانت الضابطة العامّة لثبوت التزاحم هي أن يكون الترتّب ممكنا ، ففي كلّ مورد يمكن فيه الترتّب بمعنى عدم الاشتغال بالآخر دخل في باب التزاحم ، وفي المورد الذي يكون فيه الترتّب بهذا المعنى مستحيلا كان المورد من موارد التعارض.

* * *

٨٦

إطلاق

الواجب لحالة المزاحمة

٨٧
٨٨

إطلاق الواجب لحالة المزاحمة

قد تكون المزاحمة قائمة بين متعلّقي أمرين على نحو يدور الأمر بين امتثال هذا أو ذاك ، كما إذا كان وقت الصلاة ضيّقا وابتلي المكلّف بنجاسة في المسجد تفوت مع إزالتها الصلاة رأسا.

وقد لا تكون هناك مزاحمة على هذا النحو ، وإنّما تكون بين أحد الواجبين وحصّة معيّنة من حصص الواجب الآخر ، ومثاله أن يكون وقت الصلاة موسّعا وتكون الإزالة مزاحمة للصلاة في أوّل الوقت وبإمكان المكلّف أن يزيل ثمّ يصلّي.

ونحن كنّا نتكلّم عن الحالة الأولى من المزاحمة.

يعقد هذا البحث لبيان حالات المزاحمة بين الواجبين ، فهل تكون سائر حالات التزاحم بين الواجبين داخلة في بحث التزاحم أم لا؟

وللإجابة عن هذا التساؤل نقول :

تارة تكون المزاحمة بين واجبين فوريّين كوجوب إنقاذ الغريق ووجوب إزالة النجاسة عن المسجد.

وأخرى تكون المزاحمة بين واجبين أحدهما فوري والآخر موسّع ، ولكن ضاق وقته ، كما إذا فرضت المزاحمة بين وجوب إزالة النجاسة عن المسجد ووجوب الصلاة في آخر وقتها ، بحيث لا يتّسع المجال إلا لأحدهما فقط.

وثالثة تكون المزاحمة بين واجبين أحدهما فوري كوجوب الإزالة والآخر موسّع والوقت لا يزال متّسعا لهما ، كما إذا فرض المزاحمة بين وجوب الإزالة ووجوب الصلاة في أثناء الوقت الواسع ، بحيث يتمكّن المكلّف من الإزالة ثمّ الصلاة بكامل أركانها الاختياريّة.

وقد تكلّمنا عن الحالتين الأوّليّين سابقا وجعلناهما حالة واحدة ، وقلنا : إنّ التزاحم

٨٩

بين الواجبين لا بدّ فيه من ملاحظة الأهمّ وتقديمه إن كان وجوبه مطلقا وكان الآخر وجوبه مشروط بعدم الاشتغال بالأهمّ ، وإن لم يكن أحدهما أهمّ كانا معا مشروطين ، وأمّا الحالة الأخرى فالبحث هنا معقود لأجل بيان حكمها ولذلك قال :

وأمّا الحالة الثانية : فقد يقال : إنّه لا مزاحمة بين الأمرين لإمكان امتثالهما معا ، فإنّ الأمر بالصلاة متعلّق بالجامع بين الحصّة المزاحمة وغيرها ، والمكلّف قادر على إيجاد الجامع مع الإزالة ، فلا تضادّ بين الواجبين ، وهذا يعني أنّ كلاّ من الأمرين يلائم الآخر ، فإذا ترك المكلّف الإزالة وصلّى كان قد أتى بفرد من الواجب المأمور به فعلا.

وقد يقال : إنّ المزاحمة واقعة بين الأمر بالإزالة وإطلاق الأمر بالصلاة للحصّة المزاحمة ، فلا يمكن أن يتلاءم الأمر بالإزالة مع هذا الإطلاق في وقت واحد.

الحالة الثانية : ما إذا كانت المزاحمة بين وجوب الإزالة الفوري والمضيّق وبين حصّة من حصص الصلاة ، كالصلاة في أوّل وقتها ، فإنّ الأمر بالصلاة في الوقت موسّع وله حصص عديدة.

وهنا توجد أقوال : فقد يقال بعدم المزاحمة بين هذين الأمرين ـ كما هي مقالة المحقّق الكركي القائل بأنّ الجامع بين المقدور وغيره مقدور ـ وذلك لأنّ المكلّف قادر على امتثال كلا الواجبين معا ، ومن شروط التزاحم ألاّ يكون المكلّف قادرا على امتثال كلا الواجبين معا بحيث إذا اشتغل بأحدهما فاته الآخر ، وأمّا هنا فيمكن للمكلّف امتثالهما معا ، وذلك بأن يزيل النجاسة أوّلا ثمّ يصلّي بعد ذلك.

والوجه في ذلك : أنّ الأمر بالصلاة متعلّق بالجامع بين حصصها أي الحصّة المزاحمة للإزالة وغيرها ، والحصّة المزاحمة وإن لم يكن المكلّف قادرا عليها ـ لأنّ وقتها هو وقت الإزالة الفوري إلا أنّه قادر على سائر الحصص ، والتكليف بالجامع بين المقدور وغيره مقدور ، ولا مانع منه.

وحينئذ يتمكّن المكلّف من إيجاد الجامع في غير الحصّة المزاحمة ومن إيجاد الإزالة الفوري ، ولا تضادّ بين الواجبين ، بل كلّ منهما يتلاءم مع الآخر ، وإذا لم يكن هناك تضادّ فلا تزاحم أصلا.

نعم ، إذا ترك المكلّف الإزالة واشتغل بالصلاة في أوّل وقتها عصى الأمر بالإزالة ؛

٩٠

لأنّه فوريّ ، ولكن صلاته وقعت صحيحة لتعلّق الأمر بها ؛ لأنّ الأمر بالحصّة المزاحمة لا يزال موجودا وهو الأمر بالجامع.

وقد يقال بوقوع المزاحمة بين هذين الواجبين ـ كما هي مقالة الميرزا حيث ذهب إلى امتناع الأمر بالجامع بين المقدور وغيره ـ فإنّ الحصّة المزاحمة لا يتعلّق بها أمر ؛ لأنّه لا يمكن البعث والتحريك نحوها في فرض مزاحمتها للواجب الأهمّ الفوري أي الأمر بالإزالة ، ولذلك لا يكون هناك أمر مطلق بالصلاة في أوّل الوقت ؛ لعدم التلاؤم بين وجوب الإزالة ووجوب هذه الحصّة.

إلا أنّه لو عصى الأمر بالإزالة واشتغل بالصلاة لكانت صحيحة بناء على الترتّب ، فإنّه على القول به يكون المكلّف مأمورا بالصلاة فيما إذا لم يشتغل بالواجب الأهمّ أو المساوي.

وأمّا إذا قيل باستحالة الترتّب لم يكن بالإمكان تصحيح الصلاة المذكورة ؛ لوقوع التعارض بين إطلاق وجوب الإزالة وإطلاق الأمر بالصلاة الشامل لهذه الحصّة ، فيتعارضان ويتساقطان ، ومع عدم الأمر تقع العبادة باطلة ، كما هي مقالة الآخوند.

والحاصل : أنّه توجد ثلاثة أقوال في هذه الحالة ، وهي :

الأول : قول الميرزا من وقوع التزاحم في الفرض المذكور ؛ لأنّ التكليف بالجامع بين المقدور وغيره ممتنع مع إمكان الترتّب.

الثاني : قول المحقّق الكركي من عدم وقوع التزاحم ولا التعارض بين الواجبين المذكورين ؛ لأنّ المكلّف بالجامع بين المقدور وغيره ممكن ، فيكون المكلّف قادرا على امتثال الواجبين فلا موضوع للتزاحم فضلا عن التعارض.

الثالث : قول الآخوند من وقوع التعارض في هذه الحالة بناء على إنكار الترتّب وكون التكليف بالجامع بين المقدور وغيره ممتنعا أيضا ، فإنّه لا محالة يقع التعارض بين الجعلين ويسري إلى الدليلين.

وتحقيق الحال في هذه المسألة أن يقال :

والصحيح أن يقال : إنّ لهذه المسألة ارتباطا بمسألة متقدّمة وهي : أنّه هل يمكن التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور؟

فإن أخذنا في تلك المسألة بوجهة نظر المحقّق النائيني القائل بامتناع ذلك ،

٩١

وأخذنا القدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ المشتمل على عدم الاشتغال بامتثال واجب مزاحم لا يقلّ عنه أهمّيّة ، كان معنى ذلك أنّ التكليف بالجامع بين الحصّة المبتلاة بمزاحم وغيرها ممتنع أيضا ، فيقوم التزاحم بين الأمر بالجامع والأمر بالإزالة ، وحينئذ يطبّق قانون التزاحم وهو التقديم بالأهمّيّة.

والتحقيق في هذه المسألة أن يقال : إنّ هذه الحالة ترتبط بما تقدّم سابقا من إمكان أو استحالة التكليف بالجامع بين المقدور وغيره.

فإنّه إن قلنا بامتناع التكليف بهذا الجامع كما هي مقالة المحقّق النائيني ، وقلنا بإمكان الترتّب كما هو اختياره أيضا كانت النتيجة هي وقوع التزاحم.

وتوضيح ذلك : أنّنا إذا قلنا بامتناع التكليف بالجامع بين المقدور وغيره فسوف يكون الأمر بالصلاة في أوّل الوقت غير شامل للحصّة من الصلاة المزاحمة مع الأمر بالإزالة ، لأنّ المكلّف لا يمكنه التحرّك نحوها ، والحال أنّ التكليف إنّما يجعل لأجل البعث والتحريك.

وحينئذ فإن قلنا بإمكان الترتّب وكون التكليف مشروطا بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ ـ الذي يعني كون التكليف مقيّدا بعدم الاشتغال بالضدّ الذي لا يقلّ أهمّيّة عنه ـ فالنتيجة هي أنّ الأمر بالصلاة ممكن بنحو الترتّب لا مطلقا ، ولذلك لو عصى الإزالة وصلّى لصحّت صلاته.

إذا فالنتيجة هي وقوع التزاحم ولا بدّ من تطبيق قواعد التزاحم من تقديم الأهمّ على غيره (١).

__________________

(١) وأمّا إذا قلنا بإمكان التكليف بالجامع بين المقدور وغيره ـ كما هي مقالة المحقّق الكركي ـ فسوف لا يقع التزاحم ؛ لأنّه يمكن للمكلّف أن يمتثل كلا الواجبين فيزيل النجاسة ثمّ يصلّي ، ولكنّه لو عصى الأمر بالإزالة لوقعت صلاته صحيحة أيضا ؛ لبقاء الأمر بها فإنّ التكليف بالجامع يسري إليها أيضا في هذا الفرض لعدم سقوطه عنها ، لا من أجل الترتّب فإنّه لا موضوع له هنا ؛ إذ لا تضادّ ولا مزاحمة بين الواجبين هنا.

وهذا القول لم يذكره السيّد الشهيد ولكن مقتضى المقابلة مع ما ذكره من كلام الميرزا النائيني هو ذكر الشقّ الثاني ؛ لأنّه أراد هنا بيان المسألة فكان اللازم ذكر الشقوق والمباني في مسألة التكليف بالجامع بين المقدور وغيره ، ولكنّه اقتصر على مقالة الميرزا فقط.

وعلى كلّ حال فعلى مقالة الميرزا يقع التزاحم ولا بدّ من حلّ هذا التزاحم وفقا لقواعده الخاصّة ، وهي ترجيح الأهمّ على غيره.

٩٢

ولا شكّ في أنّ الأمر بالإزالة أهمّ ؛ لأنّ استيفاءه ينحصر بذلك الزمان ، بينما استيفاء الأمر بالجامع يتأتّى بحصّة أخرى ، وهذا ـ يعني وفقا لما تقدّم (١) ـ أنّ الأمر بالجامع يكون منوطا بعدم الابتلاء بالإزالة الواجبة ، فإن فسّرنا عدم الابتلاء بعدم الأمر ـ كما عليه صاحب ( الكفاية ) ـ كان معنى ذلك أنّ الحصّة المزاحمة من الصلاة لا أمر بها فلا تقع صحيحة إذا آثرها المكلّف على الإزالة ، وإن فسّرنا عدم الابتلاء بعدم الاشتغال بامتثال المزاحم ـ كما عليه النائيني ـ كان معنى ذلك أنّ الأمر بالجامع ثابت على وجه الترتّب ، فلو أتى المكلّف بالحصّة المزاحمة من الصلاة وقعت منه صحيحة.

بعد أن قلنا بوقوع التزاحم لا بدّ من تقديم الأهمّ ملاكا من الواجبين على الآخر ، وهنا لا شكّ في كون الأمر بالإزالة أهمّ من الحصّة الصلاتيّة في أوّل الوقت ؛ وذلك لأنّ الأمر بالإزالة فوري ومضيّق ، بينما الأمر بالصلاة يمكن امتثاله واستيفاء الملاك منه في حصّة أخرى غير الحصّة المزاحمة للإزالة ، فهو تكليف له بدل ، وسوف يأتي أنّ التكليف الذي لا بدل له والفوري مقدّم على ما لا بدل له وما ليس فوريّا.

ومع تقديم الأمر بالإزالة يصبح الأمر بجامع الصلاة مشروطا بعدم الابتلاء بالإزالة الواجبة ، كما هو مقتضى الأمر الترتّبي الناتج عن أخذ القدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ.

وحينئذ فنحن بين احتمالين ـ كما تقدّم سابقا ـ فإمّا أن نقول : إنّ عدم الابتلاء معناه عدم الأمر ـ كما هي مقالة صاحب ( الكفاية ) ـ فيكون التكليف بالضدّين مستحيلا سواء كانا مطلقين أو مشروطين ، فإذا ثبت أحدهما ارتفع الآخر أساسا ، وهنا حيث إنّ الأمر بالإزالة هو الثابت لكونه أهمّ من حيث الملاك فيرتفع الأمر بالصلاة في فرضه ، فلا تكليف بالصلاة في وقت الإزالة ، ولذلك لو عصى وصلّى لوقعت صلاته باطلة ؛ لعدم الأمر بها والعبادة مع عدم الأمر باطلة.

بخلاف ما إذا قلنا بأنّ عدم الابتلاء معناه عدم الاشتغال ـ كما هي مقالة الميرزا النائيني ـ فإنّه في هذه الحالة سوف يكون الأمر الترتّبي بالصلاة المزاحمة ممكنا ومشروطا بعدم الاشتغال بالإزالة ، ولذلك لو عصى واشتغل بالصلاة لوقعت صحيحة لثبوت الأمر الترتّبي بها ، وقد تحقّق شرطه في هذا الفرض.

__________________

(١) في صدر هذا البحث ، تحت عنوان : شرطيّة القدرة بالمعنى الأعمّ.

٩٣
٩٤

التقييد

بعدم المانع الشرعي

٩٥
٩٦

التقييد بعدم المانع الشرعي

قلنا : إنّ القانون المتّبع في حالات التزاحم هو قانون ترجيح الأهمّ ملاكا ، ولكن هذا فيما إذا لم يفرض تقييد زائد على ما استقلّ به العقل من اشتراط ، فقد عرفنا أنّ العقل يستقلّ باشتراط مفاد كلّ من الدليلين بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ ، فإذا فرضنا أنّ مفاد أحدهما كان مشروطا من قبل الشارع ـ إضافة إلى ذلك ـ بعدم المانع الشرعي أي بعدم وجود حكم على الخلاف دون الدليل الآخر ، قدّم الآخر عليه ، ولم ينظر إلى الأهمّيّة في الملاك.

ومثاله : وجوب الوفاء بالشرط إذا تزاحم مع وجوب الحجّ ، كما إذا اشترط على الشخص أن يزور الحسين عليه‌السلام في عرفة كلّ سنة واستطاع بعد ذلك ، فإنّ وجوب الوفاء بالشرط مقيّد في دليله بأن لا يكون هناك حكم على خلافه بلسان « أنّ شرط الله قبل شرطكم » (١) ، وأمّا دليل وجوب الحجّ فلم يقيّد بذلك فيقدّم وجوب الحجّ ولا ينظر إلى الأهمّيّة.

يتعرّض السيّد الشهيد في هذا المطلب إلى بيان قيد زائد على القدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ في أحد المتزاحمين ، فإنّ وجود هذا القيد في أحدهما يكون مانعا من الأخذ بالقاعدة الأساسيّة في الترجيح وهي ترجيح الأهمّ ملاكا على الأقلّ أهمّيّة ، وذلك فيما إذا كان الأهمّ فيه مثل هذا القيد ، فإنّه يكون مانعا من ترجيحه على الأقلّ أهمّيّة.

وتوضيحه أن يقال : إنّ القاعدة الأساس في باب التزاحم هي ترجيح الأهمّ ملاكا على غيره ـ وسيأتي لا حقا الطرق التي يعرف بها الأهمّ ملاكا من غيره ـ إلا أنّ هذه القاعدة إنّما يؤخذ بها فيما إذا لم يكن هناك قيد زائد في الأهمّ ، فإن فرض أنّ الخطاب

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢١ : ٢٩٧ ، أبواب المهور ، ب ٣٨ ، ح ١.

٩٧

الأهمّ كان مقيّدا ـ بالإضافة إلى القيد الذي استقلّ العقل به وهو ألاّ يكون مشتغلا بواجب أهمّ أو مساو ـ بعدم المانع الشرعي ، أي بعدم وجود حكم على الخلاف ، فإنّه إذا وجد الواجب الآخر على خلافه فإنّه يكون مانعا من الأخذ بالأهمّ حتّى وإن كان ذاك الواجب أقلّ أهمّيّة منه.

ومثاله : ما إذا وجب على شخص زيارة الحسين عليه‌السلام في يوم عرفة لنذر ونحوه ، ثمّ استطاع للحجّ قبل ذلك فصار الحجّ واجبا عليه ، فهنا وجوب الوفاء بالنذر وإن كان أهمّ ملاكا من وجوب الحجّ إلا أنّه مقيّد بعدم المانع الشرعي ؛ وذلك لأنّ مثل قوله عليه‌السلام : « أنّ شرط الله قبل شرطكم » يكون مقيّدا لأدلّة الشروط وكلّ ما علّق على شرط كالنذر ونحوه.

وهذا معناه أنّ وجوب الحجّ يعتبر مانعا شرعيّا من الوفاء بالنذر ، وحينئذ يمتنع تقديم الأهمّ ملاكا في هذه الحالة لوجود المانع الشرعي ، بينما يقدّم الواجب الأقلّ أهمّيّة لعدم وجود مثل هذا القيد فيه ، فهنا مطلبان ابدّ من بيانهما بالتفصيل :

أمّا الأوّل فلأنّه ينفي بنفسه موضوع الوجوب الآخر ؛ لأنّ وجوب الحجّ ذاته ـ وبقطع النظر عن امتثاله ـ مانع شرعي عن الإتيان بمتعلّق الآخر ، فهو حكم على الخلاف ، والمفروض اشتراط وجوب الوفاء بعدم ذلك ، فلا موضوع لوجوب الوفاء مع فعليّة وجوب الحجّ.

وأمّا الثاني فلأنّ أهمّيّة أحد الوجوبين ملاكا إنّما تؤثّر في التقديم في حالة وجود هذا الملاك الأهمّ ، فإذا كان مفاد أحد الدليلين مشروطا بعدم المانع الشرعي دلّ ذلك على أنّ مفاده حكما وملاكا لا يثبت مع وجود المانع الشرعي ، وحيث إنّ مفاد الآخر مانع شرعي ، فلا فعليّة للأوّل حكما ولا ملاكا مع فعليّة مفاد الآخر ، وفي هذه الحالة لا معنى لأخذ أهمّيّة ملاك الأوّل بعين الاعتبار.

أمّا المطلب الأوّل : وهو عدم تقديم الأهمّ ملاكا فيما إذا كان مقيّدا بعدم المانع الشرعي ، فلأنّ تقييده بهذا القيد معناه أنّه إذا وجد المانع الشرعي فلا يكون وجوب الأهمّ ثابتا ، وإنّما ينتفي لانتفاء موضوعه ، ومع انتفائه لا معنى لتقديمه ؛ لأنّ تقديم الأهمّ ملاكا على غيره إنّما يكون بعد فرض ثبوت وتحقّق وجوب الأهمّ. وأمّا مع عدم ثبوته فيكون الكلام عن تقديمه لغوا ولا موضوعيّة له.

٩٨

وهنا وجوب الوفاء بالنذر أو الشرط وإن كان أهمّ إلا أنّه لمّا كان مقيّدا بعدم المانع فيكون وجوب الحجّ بنفسه ـ سواء كان مشتغلا به أم لا ـ مانعا عن ثبوت وجوب الوفاء بالنذر الأهمّ ، ومع عدم ثبوته لا معنى لتقديمه ؛ لأنّ التقديم متأخّر رتبة عن ثبوت الشيء في نفسه ، بمعنى أنّ الشيء لا بدّ أن يثبت أوّلا ثمّ يأتي الكلام في تقديمه وعدمه ، وهنا وجوب الوفاء لا ثبوت له أصلا مع وجود وجوب الحجّ المانع شرعا عن ثبوته.

وأمّا المطلب الثاني : وهو تقديم وجوب الأقلّ أهمّيّة على الأهمّ ملاكا المقيّد بعدم المانع ، فلأنّه مع فرض ثبوت وجوب الحجّ بتحقّق الاستطاعة وشروطها يصبح فعليّا ، ومع صيرورته فعليّا يتحقّق بذلك فعليّة المانع الشرعي ، ومع تحقّق المانع الشرعي الفعلي يرتفع موضوع الأهمّ ملاكا ؛ لأنّه مقيّد بعدم ثبوت هذا المانع الشرعي ، فينتفي وجود الأهمّ حكما وملاكا ، ومع انتفائه كذلك يصبح وجوب الحجّ الفعلي بلا مزاحم ؛ لأنّ مزاحمه قد انتفى في رتبة سابقة لعدم تحقّق موضوعه وشرطه أو لتحقّق المانع عنه.

وبتعبير آخر : إنّ الأهمّ ملاكا من الواجبين المتزاحمين إنّما يؤخذ به في حالة وجوده وثبوته ، ومع كونه مقيّدا بعدم المانع فلا وجود ولا ثبوت له فيما إذا تحقّق المانع ، فيكون وجوب الحجّ محقّقا لهذا المانع فينتفي موضوع الأهمّ رأسا ، ومع انتفائه كذلك لا معنى للكلام عن تقديمه لأهمّيّته ؛ لأنّه لا وجود له أصلا.

ومن هنا نصل إلى النتيجة التالية : أنّ المقيّد بالقدرة العقليّة فقط يتقدّم على المقيّد بالقدرة العقليّة والشرعيّة معا ، حتّى وإن كان أقلّ أهمّيّة منه.

وقد يطلق على الحكم المقيّد بالتقييد الزائد المفروض أنّه مشروط بالقدرة الشرعيّة ، ويطلق على ما لا يكون مقيّدا بأزيد ممّا يستقلّ به العقل بأنّه مشروط بالقدرة العقليّة.

وعلى هذا الأساس يقال : إنّه في حالات التزاحم يقدّم المشروط بالقدرة العقليّة على المشروط بالقدرة الشرعيّة ، فإن كانا معا مشروطين بالقدرة العقليّة جرى قانون الترجيح بالأهمّيّة.

غير أنّ نفس مصطلح المشروط بالقدرة الشرعيّة وما يقابله قد يطلق على معنى آخر مرّ بنا في الحلقة السابقة (١) ، فلاحظ ولا تشتبه.

__________________

(١) في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور.

٩٩

وفي ختام الكلام عن المقيّد بالمانع الشرعي ينبّه السيّد الشهيد على بعض الأمور :

الأوّل : أنّ الواجب الذي يكون مقيّدا ـ بالإضافة إلى القدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ ـ بعدم المانع الشرعي ، يطلق عليه التكليف المشروط بالقدرة الشرعيّة ، ويراد بهذا أنّه مقيّد بكلا هذين المقيّدين ، أمّا الواجب الذي لا يكون مقيّدا بهذا القيد الزائد وإنّما يكون مقيّدا بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ فقط فيطلق عليه التكليف المشروط بالقدرة العقليّة ، ويراد به أنّه مقيّد بالأمر الأوّل دون المانع الشرعي.

الثاني : إذا كان هناك تزاحم بين واجبين كان أحدهما مقيّدا بالقدرة الشرعيّة بالمعنى المذكور والآخر مقيّد بالقدرة العقليّة ، قدّم المقيّد بالقدرة العقليّة على المقيّد بالقدرة الشرعيّة حتّى وإن كان الأخير أهمّ ملاكا ، فإنّه لا اعتبار حينئذ بأهمّيّة ملاكه ؛ لأنّه لا موضوع له لا حكما ولا ملاكا مع فعليّة المانع الشرعي كما تقدّم بيانه.

وأمّا إذا كانا معا مقيّدين بالقدرة العقليّة فقط ولم يكن في أحدهما تقييد زائد فيجري قانون التزاحم ويقدّم الأهمّ ملاكا على الأقلّ أهمّيّة.

الثالث : أنّ اصطلاح القدرة الشرعيّة هنا يختلف عن الاصطلاح المتقدّم للقدرة الشرعيّة ، فالقدرة الشرعيّة هنا معناها : التقييد بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ وبعدم المانع الشرعي ، ويقابلها القدرة العقليّة التي تعني التقييد بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ فقط.

وأمّا القدرة الشرعيّة المتقدّمة في الحلقة السابقة وهنا أيضا فيراد بها كون القدرة دخيلة في الملاك والمبادئ والشوق المولوي ، ويقابلها القدرة العقليّة وهي عدم دخالة القدرة في الملاك والمبادئ.

وبهذا ينتهي البحث عن الترتّب وعن اشتراط القدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ في التكليف.

١٠٠