شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٩

اقتضاء الحرمة للبطلان

٤٠١
٤٠٢

اقتضاء الحرمة للبطلان

لا شكّ في أنّ النهي المتعلّق بالعبادة أو بالمعاملة إرشادا إلى شرط أو مانع ، يكشف عن البطلان بفقد الشرط أو وجود المانع.

وإنّما الكلام في الحرمة التكليفيّة واقتضائها لبطلان العبادة بمعنى عدم جواز الاكتفاء بها في مقام الامتثال ، وبطلان المعاملة بمعنى عدم ترتيب الأثر عليها. فهنا مبحثان :

موضوع البحث :

أوّلا : المراد من النهي المتعلّق بالعبادة هو النهي التحريمي التكليفي (١) أي الحرمة النفسيّة التي تنشأ من المبادئ والملاكات أي من المفسدة والمبغوضيّة.

وليس المراد من النهي هنا النهي الإرشادي ؛ لأنّه لا إشكال في دلالته على البطلان سواء تعلّق بالعبادة أم بالمعاملة ؛ وذلك لأنّ النهي الإرشادي تارة يكون إرشادا لشرطيّة شيء ، وأخرى يكون إرشادا إلى مانعيّة شيء.

فمثلا قولنا : ( لا تصلّ لغير القبلة ) مفاده الإرشاد إلى شرطيّة الاستقبال في الصلاة.

وقولنا : ( لا تصلّ في النجس ) إرشاد إلى مانعيّة النجاسة من صحّة الصلاة ، وكذا قولنا : ( لا تصلّ بالمغصوب ).

وفي هاتين الحالتين إذا فقد الشرط أو وجد المانع كشف ذلك عن عدم تحقّق

__________________

(١) وأمّا النهي الكراهتي فإن كان معنى الكراهة قلّة الثواب فلا مانع من اجتماعها مع الأمر ؛ لأنّ النتيجة تكون النقص من المحبوبيّة ، وإن كان معناها المفسدة والمبغوضيّة فإذا بني على جواز الاجتماع فلا محذور في اجتماع الأمر بالعبادة والنهي عنها.

وأمّا إذا بني على الامتناع فيلزم محذور اجتماع المفسدة والمبغوضيّة مع المصلحة والمحبوبيّة ، فيدخل هذا المورد في موضوع البحث.

٤٠٣

المأمور به على الوجه المطلوب شرعا ، فمثلا إذا صلّى لغير القبلة أو صلّى في النجاسة أو المكان المغصوب فيكشف ذلك عن البطلان ؛ لأنّ المأتي به ليس مصداقا للمأمور به فلا يجزي عنه ولا يكون امتثالا ، وهذا واضح ؛ لأنّه على القاعدة لأنّ إجزاء غير المأمور به على وجهه والحكم بصحّته على خلاف القاعدة.

وعليه ، فمفاد النهي الإرشادي هو البطلان عند فقدان الشرط أو وجود المانع ، وهذا ممّا لا خلاف فيه.

وثانيا : أنّ الاقتضاء معناه الملازمة ، فيبحث في أنّ النهي التحريمي ، هل يستلزم الفساد فيما إذا تعلّق بالعبادة أو المعاملة أم لا؟ ولذلك يكون البحث أصوليّا ؛ لأنّه داخل في المستلزمات العقليّة.

وثالثا : أنّ الصحّة هنا بمعنى الإجزاء في العبادة ، وترتّب الأثر في المعاملة ، والفساد بمعنى عدم الإجزاء في العبادة ولزوم الإعادة ، وعدم ترتّب الأثر المطلوب من المعاملة.

ورابعا : أنّ البحث ينقسم إلى قسمين ؛ لأنّ النهي تارة يتعلّق بالعبادة وأخرى يتعلّق بالمعاملة ، فهنا بحثان :

الأوّل : اقتضاء النهي أي الحرمة لبطلان العبادة.

الثاني : اقتضاء النهي أي الحرمة لبطلان المعاملة.

* * *

٤٠٤

اقتضاء

الحرمة لبطلان العبادة

٤٠٥
٤٠٦

اقتضاء الحرمة لبطلان العبادة

والمعروف بينهم أنّ الحرمة تقتضي بطلان العبادة ، ويمكن أن يكون ذلك لأحد الملاكات التالية :

الأوّل : أنّها تمنع عن إطلاق الأمر خطابا ودليلا لمتعلّقها لامتناع الاجتماع ، ومع خروجه عن كونه مصداقا للواجب لا يجزي عنه ، وهو معنى البطلان.

الثاني : أنّها تكشف عن كون العبادة مبغوضة للمولى ، ومع كونها مبغوضة يستحيل التقرّب بها.

الثالث : أنّها تستوجب حكم العقل بقبح الإتيان بمتعلّقها لكونه معصية مبعّدة عن المولى ، ومعه يستحيل التقرّب بالعبادة.

المبحث الأوّل : في اقتضاء النهي عن العبادة للبطلان.

إذا تعلّق النهي بعبادة ما كما إذا قيل : ( لا تصلّ في الحمّام ) أو ( لا تصم يوم عاشوراء ) ، فهل هذا النهي يقتضي ويستلزم بطلان العبادة فيما لو أتى بها المكلّف أو لا؟

المشهور بينهم أنّ النهي عن العبادة يقتضي فسادها وبطلانها ، وذكر لذلك أدلّة ترجع إلى ملاكات ثلاثة :

الملاك الأوّل : أنّ الحرمة عن العبادة تمنع من إطلاق الأمر وشموله للعبادة ، فيسقط الأمر عن العبادة ؛ لأنّه لو ظلّ شاملا لها للزم اجتماع الأمر والنهي وهو ممتنع. ومع سقوط الأمر عن العبادة تخرج العبادة المأتي بها في حال تعلّق الحرمة بها عن كونها مصداقا للواجب ؛ لأنّ ما يكون مصداقا للواجب هو ما يكون مصداقا للمأمور به ، والمفروض أنّه لا يوجد أمر بالعبادة لسقوطه ، وحينئذ تقع باطلة ؛ لأنّ إجزائها عن الواجب يحتاج إلى دليل خاصّ ؛ لأنّه يكون من باب إجزاء غير المأمور به عن المأمور

٤٠٧

به. وكذا لا يمكن إثبات إجزائها ببقاء الملاك فيها ؛ لأنّه مدلول التزامي ومع سقوط المدلول المطابقي يسقط الالتزامي للتبعيّة بينهما.

وهكذا يتعيّن الإعادة أو القضاء ؛ لأنّ الذمّة مشغولة يقينا بالتكليف ويشكّ في فراغها حين الإتيان بهذه العبادة المنهي عنها.

الملاك الثاني : أنّ الحرمة المتعلّقة بالعبادة تكشف عن كون العبادة مبغوضة للمولى ؛ وذلك لأنّ النهي التحريمي معناه وجود المفسدة والمبغوضيّة في متعلّقه ، وحيث إنّه متعلّق بالعبادة فتكون مبغوضة للمولى ، والحال أنّ الشيء المبغوض للمولى لا يمكن التقرّب به إليه ؛ لأنّ التقرّب بالمأتي به معناه إضافته للمولى والفعل المبغوض للمولى كيف يمكن إضافته إليه؟!

وهذا معناه أنّ العبادة فيها قصور لا من حيث ذاتها ، بل من ناحية عدم إمكان التقرّب بها فتبطل ؛ لأنّ قصد القربة من شروط تحقّق العباديّة ، فمع عدمه لا يكون ما وقع عبادة.

الملاك الثالث : أنّ الحرمة المتعلّقة بالعبادة تستلزم حكم العقل بقبح الإتيان بها ؛ لأنّ الحرمة إذا تعلّقت بشيء حكم العقل بقبح الإتيان بمتعلّق الحرمة ؛ لكونه معصية قبيحة من جهة حكم العقل بلزوم إطاعة تكاليف المولى ، وهنا تكليف المولى يستلزم ترك ما تعلّق به النهي ، ففعله يكون مخالفة فيحكم العقل بقبح ذلك.

وعليه ، فإذا أتى المكلّف بالعبادة في هذه الحالة لم يمكنه التقرّب بها إلى المولى من جهة كون الإتيان بها معصية قبيحة ، والمعصية لا يمكن أن تكون مقرّبة للمولى أو لا يمكن أن يقصد القربة حال فعل المعصية.

وهذا نتيجته القصور من جهة عدم إمكان تحقّق قصد القربة فتبطل العبادة ؛ لأنّ قصد القربة شرط في تحقّقها.

وهذا الوجه يبتني على أنّه لا يمكن اجتماع الحسن والقبح على شيء واحد.

والمعصية والطاعة لا يمكن اجتماعهما معا ؛ لأنّه لا يمكن اجتماع المقرّبيّة مع المبعّديّة.

وهذه الملاكات على تقدير تماميّتها تختلف نتائجها :

٤٠٨

فنتيجة الملاك الأوّل لا تختصّ بالعبادة ، بل تشمل الواجب التوصّلي أيضا ، ولا تختصّ بالعالم بالحرمة ، بل تشمل حالة الجهل أيضا ، ولا تختصّ بالحرمة النفسيّة ، بل تشمل [ الحرمة ] الغيريّة أيضا.

ونتيجة الملاك الثاني تختصّ بالعبادة ؛ إذ لا يعتبر قصد القربة في غيرها ، وبالعالم بالحرمة ؛ لأنّ من يجهل كونها مبغوضة يمكنه التقرّب.

ونتيجة الملاك الثالث تختصّ بالعبادة وبفرض تنجّز الحرمة ، وأيضا تختصّ بالنهي النفسي ؛ لأنّ الغيري ليس موضوعا مستقلا لحكم العقل بقبح المخالفة ، كما تقدّم في مبحث الوجوب الغيري (١).

الفارق بين الملاكات الثلاثة :

أمّا الملاك الأوّل : فهو يتمّ في العبادات والمعاملات ، وفي حالتي العلم بالحرمة والجهل بها ، وفي الحرمة النفسيّة والغيريّة.

أمّا تماميّته في العبادات والمعاملات ، فلأنّ هذا الملاك يبتني على سقوط الأمر وإذا سقط الأمر لم يكن ما أتى به مصداقا للواجب المأمور به ، سواء كان هذا الواجب عبادة أم معاملة.

وأمّا تماميّته في صورتي العلم والجهل ، فلأنّه يبتني على امتناع اجتماع الأمر والنهي ، ومسألة الامتناع أمر واقعي لا يختلف الحال فيه بين العالم والجاهل بالحرمة ؛ لأنّه مع الامتناع يسقط الأمر واقعا فلا أمر بالعبادة ولا المعاملة.

وأمّا تماميّته في الوجوب النفسي والغيري معا ، فلأنّ الواجب الغيري ما يكون مقدّمة ، فإذا تعلّق النهي بالمقدّمة لزم من ذلك تقيّد الأمر بالفرد المباح ؛ لأنّ الحرمة الغيريّة معناها العلّة التامّة أو الجزء الأخير منها للحرام فيحرم ؛ لأنّه سبب توليدي للحرمة وهذا يوجب مبغوضيّة المقدّمة ، ومعها لا يشملها الأمر وإلا للزم اجتماع المحبوبيّة والمبغوضيّة معا وهو مستحيل.

وأمّا الملاك الثاني : فهو يتمّ في العبادات دون التوصّليّات ، ويتمّ في صورة العلم دون الجهل ، ولكنّه يتمّ في الحرمة النفسيّة والحرمة الغيريّة معا.

أمّا عدم تماميّته في التوصّليّات ، فلأنّه يبتني على عدم إمكان التقرّب بالمبغوض.

__________________

(١) تحت عنوان : خصائص الوجوب الغيري.

٤٠٩

ومن الواضح أنّ قصد القربة إنّما هو في خصوص العبادات دون التوصّليّات ؛ لأنّه لا يشترط فيها قصد القربة.

وأمّا عدم تماميّته في حال الجهل بالحرمة ، فلأنّ عدم إمكان التقرّب بالمبغوض فيما إذا كان يعلم بأنّ العبادة مبغوضة للمولى ، وهذا فرع تنجّزها عليه وهذا لا يكون إلا بوصولها والعلم بها ، فمع الجهل بها لا تكون الحرمة متنجّزة عليه ، ولذلك يمكن أن يتأتّى منه قصد القربة ؛ لأنّه لا يعتقد بوجود المبغوضيّة بالعبادة التي يأتي بها ؛ لعدم علمه بحرمتها.

وأمّا تماميّته في الحرمة النفسيّة والغيريّة معا ، فلأنّ الحرمة الغيريّة معناها حرمة المقدّمة التي تكون علّة أو جزء العلّة للحرام ، فيكون الحرام النفسي المبغوض للمولى مستلزما لمبغوضيّة مقدّمته ، ومع كون المقدّمة مبغوضة لا يمكن ثبوت الأمر بها ؛ لأنّ لازمه كونها محبوبة أيضا ، فيلزم اجتماع المبغوضيّة والمحبوبيّة على شيء واحد ، وهو مستحيل.

وأمّا الملاك الثالث : فهو يختصّ بالعبادات دون التوصّليّات ، ويختصّ أيضا بفرض تنجّز الحرمة والعلم بها دون حالة الجهل ، ويختصّ أيضا بالحرمة النفسيّة لا الغيريّة.

أمّا اختصاصه بالعبادات دون التوصّليّات ، فلأنّه يبتني على أنّ التقرّب لا يمكن أن يكون بما هو معصية قبيحة ، وهذا فرع اشتراط قصد القربة ، وفي التوصّليّات لا يشترط قصد القربة. إذا فمجرّد كونها معصية قبيحة عقلا لا يمنع من صحّتها.

وأمّا اختصاصه بصورة العلم دون الجهل ، فلأنّ عدم إمكان قصد التقرّب بالمعصية القبيحة إنّما هو فرع وصولها وتنجّزها ، وأمّا مع عدم وصول الحرمة وعدم تنجّزها على المكلّف فلا تكون فعليّة ، ولذلك فهو لا يعتقد بحرمة ما يأتي به ويمكنه أن يتأتّى منه قصد القربة به.

وأمّا عدم شموله للحرمة الغيريّة ، فلأنّ الحرمة الغيريّة كما تقدّم في بحث الوجوب الغيري ، ليس فيها عقوبة زائدة على العقوبة الموجودة في الحرام النفسي ، فإذا فعل المقدّمة التي تؤدّي إلى الحرام لا يكون قد فعل معصيتين ليستحقّ

٤١٠

عقوبتين ، ومع عدم العقوبة والمعصية فيها لا يكون فعلها مانعا من التقرّب.

وبهذا يتبيّن لنا أنّ الملاك الأوّل أعمّ من الملاكين الآخرين. والثاني أعمّ من الثالث أيضا (١).

ثمّ إذا افترضنا أنّ حرمة العبادة تقتضي بطلانها ، فإن تعلّقت بالعبادة بكاملها فهو ما تقدّم ، وإن تعلّقت بجزئها بطل هذا الجزء ؛ لأنّ جزء العبادة عبادة ، وبطل الكلّ إذا اقتصر على ذلك الفرد من الجزء. وأمّا إذا أتى بفرد آخر غير محرّم من الجزء صحّ المركّب إذا لم يلزم من هذا التكرار للجزء محذور آخر ، من قبيل الزيادة المبطلة لبعض العبادات.

وإن تعلّقت الحرمة بالشرط نظر إلى الشرط ، فإن كان في نفسه عبادة كالوضوء بطل ، وبطل المشروط بتبعه ، وإلا لم يكن هناك موجب لبطلانه ولا لبطلان المشروط ، أمّا الأوّل فلعدم كونه عبادة ، وأمّا الثاني فلأنّ عباديّة المشروط لا تقتضي بنفسها عباديّة الشرط ولزوم الإتيان به على وجه قربي ؛ لأنّ الشرط والقيد ليس داخلا تحت الأمر النفسي المتعلّق بالمشروط والمقيّد ، كما تقدّم (٢) في محلّه.

كيفيّة تعلّق النهي بالعبادة : تارة يتعلّق النهي بالعبادة بكاملها ، وأخرى يتعلّق بجزء منها ، وثالثة يتعلّق بشرط من شروطها ، فهنا ثلاث حالات :

الحالة الأولى : أن يتعلّق النهي بالعبادة بكاملها ، كما في النهي عن صوم يوم عاشوراء ، أو عن الصلاة في الحمّام ، فإنّ النهي متعلّق بأصل الصوم وبأصل الصلاة بتمامها.

وهذه الحالة هي التي كان البحث السابق معقودا لأجلها ، فإن قيل باقتضاء الحرمة

__________________

(١) هذا كلّه على تقدير تماميّة هذه الملاكات هنا ، إلا أنّ الصحيح هو عدم تماميّتها وذلك : أمّا الملاك الأوّل فلأنّه مبني على امتناع اجتماع الأمر والنهي ، ونحن قد ذكرنا سابقا أنّ الصحيح هو جواز الاجتماع.

وأمّا الملاكان الثاني والثالث فلأنّهما يبتنيان على عدم إمكان التقرّب بما هو مبغوض أو بما هو معصية ، وهذا متوقّف ليس فقط على الفعل الخارجي ، بل على ضمّ الداعي إليه ، فلو كان الفعل مبغوضا ولم يكن الداعي هو المعصية بل الطاعة لأمكن التقرّب به.

(٢) الحلقة الثانية ، ضمن بحوث الدليل العقلي ، تحت عنوان : قاعدة تنوّع القيود وأحكامها.

٤١١

للبطلان كان المصداق الأبرز والأهمّ هو النهي المتعلّق بالعبادة بكاملها ، فتقع باطلة.

الحالة الثانية : أن يتعلّق النهي بجزء من أجزاء العبادة ، كما في النهي عن قراءة السور العزائم الأربع في الصلاة ، فهنا هل يقتضي النهي المتعلّق بالجزء البطلان للجزء فقط ، أم له وللمركّب أيضا؟

والجواب : أنّ حرمة الجزء ـ على القول باقتضاء الحرمة للبطلان ـ تقتضي بطلان الجزء ؛ لأنّ جزء العبادة عبادة أيضا ، فالصلاة المركّبة من ركوع وسجود وقراءة وذكر وتشهّد وتسليم وتكبير كلّها أجزاء لها وكلّ جزء منها عبادة. ومع بطلان الجزء العبادي يبطل المركّب العبادي أيضا ؛ لأنّ الاقتصار على الإتيان بالفرد المحرّم من الجزء لمّا كان يوجب بطلان الجزء فلا يتحقّق المركّب ؛ لأنّ المركّب لا يتحقّق إلا بتمام أجزائه وينتفي بانتفاء جزء منها ، ولذلك ينتفي المركّب.

وأمّا إذا أعاد الجزئيّة ضمن فرد آخر مباح كأن قرأ سورة أخرى غير العزائم بعد أن قرأ إحدى العزائم فهنا يفصّل :

فإن كانت هذه الزيادة موجبة للبطلان كما في زيادة الركن فإنّ زيادته مطلقا موجبة للبطلان ، فلا يفيد التكرار والإعادة ضمن الفرد المباح.

وإن لم تكن هذه الزيادة موجبة للبطلان بأن لم يكن الزائد ركنا مثلا فهنا تقع العبادة صحيحة لتحقّق المركّب ضمن أجزائه المباحة.

الحالة الثالثة : أن يتعلّق النهي والحرمة بالشرط ، كالوضوء مثلا فإنّه شرط في الصلاة ، فإذا كان الإنسان مريضا وكان الماء يضرّ به فهو منهي عن الوضوء ، فإذا توضّأ وصلّى فهل تقع صلاته صحيحة أم لا؟

فهنا فصّل صاحب ( الكفاية ) بين أن يكون الشرط عبادة في نفسه وبين ألاّ يكون عبادة.

فإن كان الشرط عبادة كالوضوء بطل الشرط وبتبعه يبطل المشروط ؛ لعدم تحقّق شرطه ، إذ مع عدم تحقّق الشرط لا يقع المشروط على الوجه المطلوب والمأمور به.

وإن لم يكن الشرط عبادة كالتستّر باللباس المغصوب حال الصلاة ، فإنّ التستّر شرط ولكنّه ليس عبادة ؛ لأنّه لا يشترط فيه قصد القربة ، فهنا لا يبطل الشرط ولا يبطل المشروط به أيضا.

٤١٢

أمّا عدم بطلان الشرط فلأنّه ليس عبادة فلا تشمله الملاكات المتقدّمة ؛ لأنّها مختصّة بالنهي عمّا يكون عبادة. نعم ، الملاك الأوّل كان شاملا لغير العبادات أيضا ، إلا أنّه مبني على القول بالامتناع ونحن قد اخترنا القول بجواز الاجتماع كما تقدّم.

وأمّا عدم بطلان المشروط فلأنّ المركّب وإن كان في نفسه عباديّا إلا أنّه لا ملازمة بين كونه عبادة وبين عباديّة شرطه. فيمكن أن يكون عباديّا ولكن شرطه ليس عبادة ولا يشترط فيه قصد القربة ، بل يكفي حصوله وتحقّقه.

مضافا إلى أنّ الأمر بالمركّب المشروط بشيء ينحلّ إلى الأمر بذات الفعل وإلى تقيّده بالشرط ، بحيث يكون المقيّد والتقيّد داخلين تحت الأمر مع كون القيد خارجا عن الأمر ، فالمأمور به هو كون الصلاة عن ستر أي مقيّدة بكونها عن ستر فالتقيّد جزء منها ، وأمّا القيد وهو التستّر فهو مقدّمة لحصول التقيّد ؛ لأنّه لا يمكن حصول الصلاة عن ستر إلا بوجود ما يكون ساترا ، والمقدّمة إذا لم تكن عبادة في نفسها فلا يقتضي النهي عنها بطلانها ولا بطلان ما هو مشروط بها أيضا ؛ لأنّه يمكن أن يجتمع الأمر النفسي مع النهي الغيري عن المقدّمة غير العباديّة.

* * *

٤١٣
٤١٤

اقتضاء

الحرمة لبطلان المعاملة

٤١٥
٤١٦

اقتضاء الحرمة لبطلان المعاملة

وتحلّل المعاملة إلى السبب والمسبّب ، والحرمة تارة تتعلّق بالسبب وأخرى بالمسبّب.

فإن تعلّقت بالسبب فالمعروف بين الأصوليّين أنّها لا تقتضي البطلان ، إذ لا منافاة بين أن يكون الإنشاء والعقد مبغوضا وأن يترتّب عليه مسبّبه ومضمونه.

المبحث الثاني : في اقتضاء النهي عن المعاملة للبطلان.

وهنا المعاملة يمكن تحليلها وتقسيمها عقلا إلى السبب والمسبّب. وعليه ، فالنهي تارة يتعلّق بالسبب وأخرى يتعلّق بالمسبّب.

والمراد من السبب هو الإنشاء والعقد وما يكون سببا شرعيّا لترتّب الأثر الشرعي المطلوب من المعاملة. والمراد من المسبّب هو الأثر الشرعي المطلوب ترتّبه على السبب ، فهنا مطلبان :

المطلب الأوّل : فيما إذا تعلّق النهي عن السبب ، كما إذا قيل بحرمة البيع يوم الجمعة وقت النداء للصلاة ؛ استنادا إلى قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ )(١). فهنا النهي متعلّق بالإنشاء وإيجاد السبب وهو عقد البيع ، فهل يقتضي هذا النهي ـ على فرض كونه تحريميّا ـ فساد المعاملة لو أنشأها حال النداء أم لا؟

المشهور بين الأصوليّين وهو الصحيح أيضا أنّ النهي عن السبب لا يقتضي بطلان المعاملة ؛ لأنّه يمكن أن يكون السبب مبغوضا ، ومع ذلك يحكم بصحّته ونفوذه وترتّب الأثر الشرعي المطلوب منه ؛ إذ لا ملازمة بين مبغوضيّة السبب ومبغوضيّة المسبّب لإمكان التفكيك بينهما.

__________________

(١) الجمعة : ٩.

٤١٧

وهذا له نظائر كثيرة في الفقه من قبيل تطهير الثوب المتنجّس بماء مغصوب ، فإنّه يطهر به وإن كان سبب حصول الطهارة مبغوضا لكونه غصبا محرّما ، وهكذا الحال في موارد الاضطرار إلى إجراء المعاملة فإنّ المكلّف وإن كان لا يحبّ إجراء المعاملة ولكنّه مضطرّ إليها ؛ لما في الأثر المطلوب منها من فائدة له.

ومثاله في الإيقاعات الظهار ، فإنّه محرّم ولكن لو تحقّق لترتّب عليه أثره وهو الانفصال بين الزوجين فيما إذا لم يكفّر عن ذلك.

وإن تعلّقت بالمسبّب ـ أي بمضمون المعاملة الذي يراد التوصّل إليه بالعقد باعتباره فعلا بالواسطة للمكلّف وأثرا تسبيبيّا له ـ فقد يقال بأنّ ذلك يقتضي البطلان لوجهين :

الأوّل : أنّ هذا التحريم يعني مبغوضيّة المسبّب ، أي التمليك بعوض في مورد البيع مثلا ، ومن الواضح أنّ الشارع إذا كان يبغض أن تنتقل ملكيّة السلعة للمشتري فلا يعقل أن يحكم بذلك ، وعدم الحكم بذلك عبارة أخرى عن البطلان.

المطلب الثاني : فيما إذا تعلّق النهي عن المسبّب ، كما في النهي الوارد عن عدم تملّك الكافر للعبد المسلم ، وكذا النهي المتعلّق ببيع المصحف للكافر ، فإنّ مراده من ذلك هو عدم تملّكه له.

وعليه ، فهل النهي المتعلّق بالمسبّب أي بالأثر والمضمون الذي يراد تحقّقه من السبب يقتضي فساد المعاملة أم لا؟

قد يقال : أنّ النهي عن المسبّب يقتضي بطلان السبب أي المعاملة ؛ وذلك لوجهين :

الوجه الأوّل : أنّ التحريم المتعلّق بالمسبّب معناه مبغوضيّة المولى لهذه المسبّب ، فالشارع يبغض ترتّب الأثر وحصول التملّك والنقل والانتقال ، وإذا كان مبغوضا فيستحيل أن يحكم الشارع بتحقّق الأثر المترتّب على العقد والسبب ؛ لأنّه لو حكم بنفوذه وصحّته لكشف ذلك عن كونه مرادا ومطلوبا له وأنّه ليس مبغوضا ، فيلزم اجتماع المبغوضيّة وعدمها. فلا بدّ حينئذ أن يحكم ببطلان السبب ؛ لأنّه هو الذي يحقّق هذا الأثر الذي يبغضه ولا يريد تحقّقه.

وبتعبير آخر : لمّا كان الشارع يبغض المسبّب وهو لا يحصل إلا بواسطة السبب

٤١٨

فسوف تسري المبغوضيّة إلى السبب أيضا ، ومع كونه مبغوضا يكون باطلا ؛ لأنّ معنى مبغوضيّتها له أنّه لا يعتبرها ولا يجعلها وعدم جعلها يعني بطلانها.

ثمّ إنّ السيّد الشهيد قد أشار بقوله : ( أي بمضمون المعاملة التي يراد التوصّل إليه بالعقد باعتباره فعلا بالواسطة للمكلّف وأثرا تسبيبيا له ) إلى وجود شبهة في أصل إمكانيّة تعلّق النهي بالمسبّب.

وحاصل هذه الشبهة هو أنّ المسبّب ـ أي الأثر ـ فعل للمولى فكيف يتعلّق النهي بما هو فعل للمولى؟! مع أنّ الأحكام كلّها يضعها ويجعلها الشارع على المكلّف وعلى أفعالهم لا على أفعاله هو نفسه.

والجواب : أنّ الأثر وإن كان مجعولا شرعيّا إلا أنّه ينسب إلى المكلّف بالواسطة باعتباره السبب في حصوله ؛ لأنّ المكلّف بإيجاده للسبب يوجد المسبّب أيضا ، فصحّ انتسابه إليه بالتسبيب وبالواسطة وإن كان المسبّب مباشرة فعل المولى.

والجواب : أنّ تملّك المشتري للسلعة يتوقّف على أمرين :

أحدهما : إيجاد المتعاملين للسبب وهو العقد.

والآخر : جعل الشارع للمضمون ، وقد يكون غرض المولى متعلّقا بإعدام المسبّب من ناحية الأمر الأوّل خاصّة ، لا بإعدامه من ناحية الأمر الثاني ، فلا مانع من أن يحرّم المسبّب على المتعاملين ويجعل بنفسه المضمون على تقدير تحقّق السبب.

والجواب عن هذا الوجه أن يقال : إن تملّك المشتري للسلعة الذي هو الأثر المطلوب ترتّبه من البيع مثلا ، يتوقّف على أمرين :

الأوّل : وجود السبب في الخارج ، وهذا يتحقّق بإنشاء المعاملة من الطرفين المتوقّف على الإيجاب والقبول.

الثاني : حكم الشارع بتحقّق المضمون والأثر والمسبّب على المعاملة.

فإنّه إذا حصل الإيجاب والقبول وتحقّق العقد بكامل شروطه وكان الشارع قد رتّب الأثر وجعله على هذا العقد ، فسوف يترتّب الأثر الوضعي المطلوب وهو حصول الملكيّة.

وأمّا إذا انتفى أحدهما بأن لم يتحقّق السبب في الخارج أو لم يوجد العقد ، أو لم

٤١٩

يكن الشارع قد رتّب الأثر على العقد كما إذا وقع العقد عن إكراه مثلا ، فإنّ الشارع لم يجعل المضمون والأثر مترتّبا على هكذا عقد. فحينئذ سوف لن تتحقّق الملكيّة.

وعليه ، فنقول : تارة يكون غرض المولى بإعدام المسبّب من ناحية الأمر الأوّل وأخرى يكون من ناحية الأمر الثاني.

فإن تعلّق غرضه بإعدام المسبّب من ناحية الأمر الثاني ، فهذا لازمه ألاّ يجعل المولى المسبّب على العقد الواقع من الطرفين في الخارج ، وذلك كما في العقد المكره عليه ، فإنّ الشارع هنا أعدم المسبّب بمعنى أنّه لم يجعله شرعا على هذا العقد.

وإن تعلّق غرضه في إعدام المسبّب من ناحية الأمر الأوّل ، فهذا معناه أنّ الشارع لا يريد إيجاد السبب من الطرفين لمبغوضيّة ومفسدة في إيجاده ، ولكنّه مع ذلك يرتّب المسبّب ويجعله على تقدير حصول هذا العقد في الخارج ولو عصيانا ؛ لأنّ المانع ليس من طرفه فإنّه لم يعدم المسبّب كما هو الفرض ، وهذا معناه أنّ المسبّب مجعول من قبله وجعله من قبله مع بغضه لحصول السبب إنّما يكون مشروطا وعلى تقدير حصول السبب ولو عصيانا ، فإنّه إذا وجد رتّب المسبّب عليه.

وهذا لازمه أن يكون هناك مبغوضيّة في ترتّب المسبّب على السبب ، ولكنّه على تقدير وقوع السبب تحصل هناك محبوبيّة ومصلحة في ترتيب المسبّب. وهذا نظير ما تقدّم من أنّ الدخول إلى الأرض المغصوبة فيه مبغوضيّة ومفسدة ، ولكن لو دخل الإنسان إلى الأرض المغصوبة ولو عصيانا فسوف تنشأ محبوبيّة للخروج مع كونه غصبا أيضا ، ولكن مفسدته هذه ليست بأقوى من محبوبيّة التخلّص من الغصب الزائد.

وهكذا الحال هنا فإنّ المولى يبغض حصول المسبّب فيمنع من إيجاد سببه ولكنّه لو تحقّق سببه في الخارج ولو عصيانا فسوف يحبّ ترتّب المسبّب ؛ لوجود مصلحة أقوى من مفسدة إيجاد السبب.

الثاني : ما ذكره المحقّق النائيني رحمه‌الله (١) من أنّ هذا التحريم يساوق الحجر على المالك وسلب سلطنته على نقل المال ، فيصبح حاله حال الصغير ، ومع الحجر لا تصحّ المعاملة.

__________________

(١) فوائد الأصول ١ : ٤٧٢.

٤٢٠