شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٩

ذهب المحقّق النائيني وغيره إلى إنكار تعلّق الوجوب الغيري بالمقدّمة الشرعيّة.

واستدلوا على ذلك بأنّ المقدّمة الشرعيّة هي ما أخذه الشارع قيدا في الواجب ، ومع أخذ الشارع لها قيدا في الواجب يكون الوجوب منصبّا على الواجب وعلى القيد ، فينحلّ الأمر إلى أمرين ضمنيّين نفسيّين أحدهما متعلّق بذات الواجب والآخر متعلّق بالقيد ، ومع كونها متّصفة بالوجوب الضمني النفسي يستحيل أن تتّصف بالوجوب الغيري تماما كما قيل في الجزء ؛ إمّا لعدم المقتضي وإمّا لوجود المانع.

وبعبارة ثانية : أنّ مقدّميّة المقدّمة الشرعيّة إنّما جاءت بسبب أخذ الشارع لهذه المقدّمة قيدا في الواجب ، ومع أخذها كذلك يكون الوجوب النفسي متعلّقا بالواجب مع هذا القيد ، وهذا الوجوب ينحلّ إلى وجوبين ضمنيّين أحدهما متعلّق بذات الواجب والآخر متعلّق بالقيد ، فيكون القيد واجبا نفسيّا ضمنيّا ومعه يستحيل اتّصافه بالوجوب الغيري ؛ لوجود المانع من ذلك.

فإنّ الواجب والقيد وإن كانا متغايرين وكان القيد مقدّمة لوجود الواجب ، إلا أنّ اتّصافه بالوجوب الضمني النفسي يمنع من اتّصافه بالوجوب الغيري ، وإلا للزم اجتماع المثلين وهو مستحيل.

ويجاب عن ذلك : أنّ أخذ المقدّمة الشرعيّة قيدا في الواجب معناه تحصيص الواجب إلى حصّتين ، الحصّة الواجدة للقيد والحصّة الفاقدة له ، ويكون الأمر منصبّا على الحصّة الواجدة للقيد أي على الصلاة المقيّدة بالوضوء. وبالتحليل نلاحظ أنّ الوجوب الضمني النفسي يتعلّق بذات المقيّد ، أي بالصلاة وبالتقيّد بالقيد أي كونها عن وضوء لا بنفس القيد ، بل يكون القيد خارجا عن متعلّق الوجوب ، وإنّما هو مقدّمة لحصول التقيّد المأمور به ضمنيّا.

وبعبارة أخرى : المطلوب من المكلّف هو إيجاد الصلاة المقيّدة ، فالواجب هو ذات المقيّد والتقيّد لا القيد. نعم ، القيد مقدّمة لحصول التقيّد ؛ لأنّ الصلاة عن وضوء لا تحصل إلا بالإتيان بالوضوء.

فإن قيل : إنّ التقيّد منتزع من القيد ، فالأمر به أمر بالقيد.

كان الجواب : أنّ القيد وإن كان دخيلا في حصول التقيّد ؛ لأنّه طرف له ، لكنّ هذا لا يعني كونه عينه ، بل التقيّد بما هو معنى حرفي له حظّ من الوجود والواقعيّة

٢٨١

مغاير لوجود طرفيه ، وذلك هو متعلّق الأمر النفسي ضمنا ، فالمقدّمة الشرعيّة إذن تتّصف بالوجوب الغيري كالمقدّمة العقليّة إذا تمّت الملازمة.

وقد يشكل على ما ذكرناه من كون الأمر بالصلاة المقيّدة ينحلّ إلى أمرين : أمر بذات المقيّد أي بالصلاة ، وأمر بالتقيّد أي بكونها عن وضوء دون القيد فإنّه خارج ، فيقال : إنّ التقيّد عنوان انتزاعي من القيد نفسه ، بمعنى أنّ الصلاة عن وضوء أو الصلاة المقيّدة بالوضوء لا يمكن أن يتحقّق تقيّدها بذلك إلا بالإتيان بالوضوء ، فيكون الأمر بالتقيّد أمرا بالقيد لا محالة ؛ لأنّه منشأ انتزاعه ، ومعه يتّصف القيد بالوجوب الضمني النفسي فيمتنع اتّصافه بالوجوب الغيري.

ولكن يجاب عن ذلك بأنّ القيد وإن كان دخيلا في حصول التقيّد ؛ لأنّ الصلاة عن وضوء لا يمكن أن تتحقّق إلا بالإتيان بالوضوء ، فيكون الوضوء طرفا لانتزاع التقيّد والطرف الآخر هو الصلاة ، وبحصول هذين الطرفين ينتزع منهما عنوان التقيّد. إلا أنّ هذا لا يعني أنّ القيد صار عين التقيّد ونفسه ، بل هما أمران متغايران.

والوجه في ذلك : هو أنّ التقيّد وصف انتزاعي فهو من الأمور الانتزاعيّة الواقعيّة ، بمعنى أنّ له ثبوتا وتحقّقا في عالم انتزاعه ممّا يعني أنّ له وجودا خاصّا به مستقلا عن طرفيه ( الصلاة والوضوء ) ؛ لأنّ الأمور الانتزاعيّة الواقعيّة كالجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة لها وجود في عالم انتزاعها يختلف عن نفس وجود الشرط والمشروط أو الجزء والمركّب أو المانع والممنوع ، وهنا التقيّد نسبة بين الصلاة والوضوء منتزعة منهما فهي معنى حرفي وهو له وجود مستقلّ عن نفس الطرفين اللذين هما منشأ انتزاعه ، ووجوده يكون في عالم الذهن.

وعليه ، فالتقيّد ليس هو نفس القيد والمقيّد بل هو مغاير لهما. نعم ، لا يحصل التقيّد إلا بطرفيه ولكن هذا لا يجعله منطبقا عليهما ، ولذلك يكون الأمر النفسي الضمني متعلّقا بالتقيّد وبالمقيّد فهما داخلان بينما القيد خارج عن الأمر.

ولذلك لا مانع من اتّصافه بالوجوب الغيري على القول بالملازمة ؛ لأنّه ليس متّصفا بالوجوب النفسي الضمني.

* * *

٢٨٢

تحقيق حال الملازمة

٢٨٣
٢٨٤

تحقيق حال الملازمة

والصحيح إنكار الوجوب الغيري في مرحلة الجعل والإيجاب مع التسليم بالشوق الغيري في مرحلة الإرادة.

أمّا الأوّل : فلأنّ الوجوب الغيري إن أريد به الوجوب المترشّح بصورة قهريّة من قبل الوجوب النفسي ، فهذا غير معقول ؛ لأنّ الوجوب جعل واعتبار ، والجعل فعل اختياري للجاعل ، ولا يمكن ترشّحه بصورة قهريّة.

وإن أريد به وجوب يجعل بصورة اختياريّة من قبل المولى ، فهذا يحتاج إلى مبرّر ومصحّح لجعله ، مع أنّ الوجوب الغيري لا مصحّح لجعله ؛ لأنّ المصحّح للجعل ـ كما تقدّم في محلّه ـ إمّا إبراز الملاك بهذا اللسان التشريعي ، وإمّا تحديد مركز حقّ الطاعة والإدانة ، وكلا الأمرين لا معنى له في المقام ؛ لأنّ الملاك مبرز بنفس الوجوب النفسي ، والوجوب الغيري لا يستتبع إدانة ولا يصلح للتحريك ـ كما مرّ بنا ـ فيلغو جعله.

والصحيح إنكار الوجوب الغيري في مرحلة الجعل والإيجاب والتسليم بالشوق الغيري في مرحلة الإرادة. فهنا مطلبان :

المطلب الأوّل : إنكار الوجوب الغيري ، أي إنكار الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته شرعا ، وأمّا وجوب المقدّمة عقلا فهذا غير قابل للإنكار لفرض توقّف امتثال الواجب عليها ، فالملازمة ثابتة عقلا لا شرعا.

والوجه في عدم ثبوت الملازمة شرعا هو أنّ الوجوب الغيري المدّعى ثبوته شرعا ما ذا يراد به؟

فإن أريد به الوجوب المترشّح قهرا من قبل الوجوب النفسي ، بمعنى أنّ الوجوب الغيري يثبت شرعا بمجرّد ثبوت الوجوب النفسي من دون أنّ يتدخّل الشارع في

٢٨٥

جعل هذا الوجوب أو بصورة قهريّة فوق الإرادة المولويّة. فمثل هذا الوجوب الغيري مستحيل ؛ لأنّ الوجوب والإيجاب فعل اختياري للمولى بمعنى أنّه جعل بيد الجاعل وضعه أو رفعه ، وليس بيد أحد غيره ولا يكون رغم إرادته ، ولا يمكن أن يترشّح قهرا بمجرّد جعله للوجوب النفسي.

وبتعبير آخر : إذا أوجب الشارع شيئا فليس بالضرورة أن يوجب مقدّمته ، بل قد يوجبها وقد لا يوجبها ؛ لأنّ الإيجاب فعله وباختياره ، ولا يكون قهرا عليه أو رغم إرادته ؛ ليقال : إنّ الوجوب الغيري يترشّح قهرا من الوجوب النفسي ، فإنّ هذا الكلام لا معنى ولا محصّل له.

وإن أريد به الوجوب الغيري الذي يجعله الشارع باختياره وإرادته ، فهذا وإن كان معقولا في نفسه إلا أنّ الجعل والإيجاب الشرعي لا يكون عبثا ومن دون أي مبرّر وغرض ، ولذلك نسأل ما هو الغرض والداعي والمبرّر الذي أدّى إلى جعل مثل هذا الوجوب الغيري؟

والجواب على ذلك أحد أمرين ، كلاهما باطل في المقام ، وهما :

الأوّل : أن يكون الغرض من جعل الوجوب الغيري إبراز الملاك ـ فإنّ إبراز الملاك غرض مصحّح للجعل والإيجاب المولوي ـ بمعنى أنّ الشارع قد تعلّق غرضه بإبراز الملاك بهذا الوجوب الغيري.

فهنا تارة يكون الملاك الذي أراد إبرازه هو الملاك الموجود في الوجوب النفسي ، وهذا المفروض أنّ الشارع قد أبرزه بجعل الوجوب النفسي فإبرازه مجدّدا تحصيلا للحاصل فيلغو ، وأخرى يكون المراد إبرازه هو ملاك الوجوب الغيري ، وهذا غير معقول ؛ لما تقدّم من أنّ الوجوب الغيري ليس فيه ملاك زائد على الملاك الموجود في الوجوب النفسي ، وإلا لصار وجوبا نفسيّا لا غيريّا وهو خلف.

الثاني : أن يكون الغرض من جعل الوجوب الغيري إثبات المنجّزيّة والمحرّكيّة والباعثيّة ، وتحديد مركز حقّ الطاعة من أجل تسجيل الثواب على الامتثال والعقاب على المخالفة ، فإنّ هذا غرض مصحّح للإيجاب أيضا ، فيكون غرض المولى إثبات المحرّكيّة والمنجّزيّة والثواب والعقاب بجعله الوجوب الغيري ، وهذا غير معقول في المقام ؛ لما تقدّم من أنّ الوجوب الغيري ليس فيه منجّزيّة ولا محرّكيّة ولا

٢٨٦

ثواب ولا عقاب زائدا على ما في الوجوب النفسي من ذلك.

وبهذا يظهر أنّه لا يوجد أي مبرّر ولا غرض للمولى في جعل الإيجاب الغيري فلا معنى لجعله ؛ لأنّه يكون ضرب من اللغو والعبث ، وهو مستحيل تصوّره بحقّ المولى عزّ وجلّ.

وأما الثاني : فمن أجل التلازم بين حبّ شيء وحبّ مقدّمته ، وهو تلازم لا برهان عليه ، وإنّما نؤمن به لشهادة الوجدان ، وبذلك صحّ افتراض الحبّ في جلّ الواجبات النفسيّة التي تكون محبوبة بما هي مقدّمات لمصالحها وفوائدها المترتّبة عليها.

ولو أنكرنا الملازمة بين حبّ الشيء وحبّ مقدّمته لما أمكن التسليم بمحبوبيّة هذه الواجبات النفسيّة.

المطلب الثاني : هو الإيمان والتسليم بالملازمة بين حبّ شيء وحبّ مقدّمته ، فتكون هناك محبوبيّة غيريّة للمقدّمة تبعا للمحبوبيّة النفسيّة للواجب.

وهذه الدعوى لا يمكن البرهان عليها وإنّما هي ثابتة وجدانا ، والوجه في ذلك هو أنّ الوجدان يقضي بأنّه كلّما تحقّقت الإرادة والشوق والحبّ في شيء استلزم ذلك نشوء الإرادة والشوق والحبّ الغيري نحو المقدّمات ، فمن يريد أن يفعل شيئا وتكون المبادئ موجودة فيه فإنّ هذه المبادئ سوف تسري إلى مقدّماته ؛ إذ لو لم يحبّ مقدّماته ولم يردها فلن يستطيع التوصّل إلى محبوبه النفسي ، فمن يريد شرب الماء مثلا فهو يبحث عنه ويحصّله ويهيّئه وهذه كلّها مقدّمات له.

ومن هنا كانت سائر الواجبات النفسيّة محبوبة تبعا لمحبوبيّة الملاكات والمصالح المترتّبة عليها ، إذ لو لم تكن هناك ملازمة بين حبّ شيء وحبّ مقدّماته لم يمكن القول بمحبوبيّة الواجبات النفسيّة ، وهو واضح البطلان.

والفرق بين ثبوت الملازمة هنا وعدم ثبوتها هناك أنّ الشوق والحبّ أثر تكويني فيعقل أن يستلزم حبّ شيء آخر بخلافه هناك ، فإنّ الجعل فعل اختياري للمولى (١).

__________________

(١) وعلّق السيّد الأستاذ على ذلك بقوله : إنّ الشوق والإرادة على نحوين :

الأوّل : تحريك العضلات ، والآخر : الحبّ وهو فعل اختياري للإنسان.

والوجدان يقضي بأنّ الإنسان إذا أراد شيئا فإنّه يتحرّك نحوه ، فهنا التلازم ثابت بين الإرادة والشوق وتحريك العضلات إلا أنّ ذلك خارج عن محلّ الكلام.

٢٨٧

.......................................

__________________

وأمّا التلازم بين إرادة شيء والشوق إليه وحبّ مقدّماته فهذا لا يقضي به الوجدان ، بل الوجدان على خلافه ، فإنّ من يضطرّ لبيع داره من أجل تأمين معيشته لا يتعلّق الحبّ ببيع الدار وإن كانت مقدّمة للوصول إلى المحبوب ، وهو تأمين المال للمعيشة.

ولذلك لا يمكن إثبات الملازمة بلحاظ المحبوبيّة والشوق والإرادة ؛ لأنّ ذلك يختلف باختلاف الموارد.

٢٨٨

حدود الواجب الغيري

٢٨٩
٢٩٠

حدود الواجب الغيري

وفي حالة التسليم بالواجب الغيري في مرحلتي الجعل والحبّ معا ، أو في إحدى المرحلتين على الأقلّ ، يقع الكلام في أنّ متعلّق الوجوب الغيري هل هو الحصّة الموصلة من المقدّمة أو طبيعي المقدّمة؟

في وجوب المقدّمة الموصلة أو مطلق المقدّمة : بعد التسليم بأنّ الملازمة ثابتة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته شرعا ، أو على الأقلّ بين حبّ شيء وحبّ مقدّمته ، يقع الكلام في متعلّق الوجوب الغيري ، فهل الوجوب الغيري متعلّق بمطلق المقدّمة أو بخصوص المقدّمة الموصلة؟ قولان في المسألة ، ولكلّ منهما أدلّته وبراهينه.

فذهب صاحب ( الكفاية ) إلى أنّ الوجوب الغيري يتعلّق بمطلق المقدّمة لا خصوص الموصلة ، ونسبه للمشهور.

وذهب صاحب ( الفصول ) إلى وجوب المقدّمة الموصلة بالخصوص.

وذهب صاحب ( المعالم ) إلى أنّ الوجوب الغيري يتعلّق بالمقدّمة التي يقصد المكلّف بها الإتيان بالواجب.

وذهب الشيخ الأنصاري إلى أنّ الوجوب الغيري يتعلّق بالمقدّمة بقصد التوصّل بها إلى الواجب النفسي.

والمهمّ هو القولان الأوّلان.

قد يقال بأنّ المسألة مبنيّة على تعيين الملاك والغرض من الواجب الغيري.

فإن كان الغرض هو التمكّن من الواجب النفسي فمن الواضح أنّ هذا الغرض يحصل بطبيعي المقدّمة ، ولا يختصّ بالحصّة الموصلة ، فيتعيّن أن يكون الوجوب الغيري تبعا لغرضه متعلّقا بالطبيعي أيضا.

وإن كان الغرض حصول الواجب النفسي فهو يختصّ بالمقدّمة الموصلة ،

٢٩١

ويثبت حينئذ اختصاص الوجوب بها أيضا تبعا للغرض.

وفي المسألة قولان ، فقد ذهب صاحب ( الكفاية ) (١) وجماعة (٢) إلى الأوّل ، وذهب صاحب ( الفصول ) (٣) وجماعة إلى الثاني.

قد يقال : إنّ تعلّق الوجوب الغيري بالمقدّمة الموصلة أو بطبيعي المقدّمة مرتبط بالملاك والغرض الذي من أجله جعل الوجوب الغيري على المقدّمة ، فإنّ تحديد الملاك والغرض هو الضابط والملاك الذي على أساسه يتحدّد ما هو متعلّق الوجوب الغيري ، وهنا يوجد احتمالان في تعيين هذا الملاك ، وعلى أساس كلّ احتمال يبتني القول بوجوب مطلق المقدّمة أو خصوص المقدّمة الموصلة فقط ، والاحتمالان هما :

الاحتمال الأوّل : أن يكون الغرض والملاك من جعل الوجوب الغيري على المقدّمة هو التمكّن من الإتيان بالواجب ؛ لأنّه من دون هذه المقدّمة سوف لن يتمكّن المكلّف من الإتيان بالواجب النفسي ، فإن كان هذا هو الملاك والغرض فهذا لازمه أن يكون مطلق المقدّمة هو الواجب لا خصوص المقدّمة الموصلة ؛ لأنّ جعل الإيجاب على مطلق المقدّمة يجعل المكلّف متمكّنا من الإتيان بالواجب النفسي.

الاحتمال الثاني : أن يكون الغرض والملاك من جعل الوجوب الغيري على المقدّمة هو حصول وترتّب الواجب النفسي على المقدّمة ؛ لأنّه إذا لم يتوصّل بالمقدّمة إلى الواجب النفسي أو لم يترتّب الواجب النفسي على المقدّمة فيكون جعل الإيجاب على المقدّمة لغوا ولا فائدة منه ، وهذا لازمه أن يكون الوجوب الغيري متعلّقا بالمقدّمة الموصلة فقط دون غيرها ؛ لأنّ الواجب النفسي إنّما يحصل ويترتّب فيما إذا كانت المقدّمة موصلة إليه فقط.

ولذلك ذهب صاحب ( الكفاية ) وجماعة إلى تعيين الاحتمال الأوّل ، بينما ذهب صاحب ( الفصول ) وجماعة إلى تعيين الاحتمال الثاني ، ولكلّ من القولين أدلّته.

ويمكن أن يبرهن على الأوّل بأنّ الوجوب الغيري لو كان متعلّقا بالحصّة الموصلة إلى الواجب النفسي خاصّة لزم أن يكون الواجب النفسي قيدا في متعلّق

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٤٢.

(٢) منهم المحقّق النائيني في فوائد الأصول ١ : ٢٨٦ ، وأجود التقريرات ١ : ٢٣٧.

(٣) الفصول الغروية : ٨٦.

٢٩٢

الوجوب الغيري ، والقيد مقدّمة للمقيّد ، وهذا يؤدّي إلى أن يصبح الواجب النفسي مقدّمة للواجب الغيري.

الدليل على وجوب مطلق المقدّمة : أنّ الوجوب الغيري لو كان متعلّقا بالحصّة الموصلة من المقدّمة إلى الواجب النفسي دون غيرها ، فيلزم من ذلك أن يكون متعلّق الوجوب الغيري مركّبا من أمرين ، هما : ( ذات المقدّمة ، وكونها موصلة إلى الواجب النفسي ) أي بذات المقيّد وبالتقيّد بالإيصال إلى الواجب النفسي ، ولكن حصول التقيّد يتوقّف على حصول القيد ؛ لأنّ القيد مقدّمة لحصول التقيّد ومن دون حصول القيد لا يمكن أن يحصل التقيّد.

نظير تقيّد الصلاة بالوضوء فإنّ هذا التقيّد موقوف على الإتيان بالقيد أي بالوضوء ؛ لكي تقع الصلاة المقيّدة بالوضوء عن وضوء فعندئذ يحصل التقيّد ، وهنا لكي يقع المقيّد مع التقيّد أي المقدّمة مع تقيّدها بالإيصال إلى الواجب النفسي لا بدّ أن يتحقّق الواجب النفسي أوّلا ؛ لكي تتّصف المقدّمة بأنّها موصلة ، وحينئذ يكون الإتيان بالواجب النفسي قد صار قيدا ومقدّمة لحصول المقيّد أو التقيّد ، فإذا صار مقدّمة لزم أحد المحاذير التالية :

الأوّل : أنّ الإتيان بالواجب النفسي لمّا صار قيدا ومقدّمة للتقيّد أو للمقيّد ، فهذا معناه أنّه يتّصف بالوجوب الغيري ؛ لأنّ ملاك الوجوب الغيري هو المقدّميّة والتوقّف ، فيكون واجبا نفسيّا وواجبا غيريّا وهذا مستحيل ؛ لأنّه يعني أنّ شيئا واحدا يكون فعل المقدّمة من أجله ويكون فعله هو من أجل المقدّمة فيلزم الدور أو الخلف.

الثاني : أنّ الإتيان بالواجب النفسي لمّا صار قيدا ومقدّمة للمقيّد أو للتقيّد ، والمفروض أنّ المقدّمة هي خصوص الحصّة الموصلة فيكون الإتيان بالواجب النفسي الموصل إلى التقيّد هو المقدّمة لا غير ، وحينئذ يرجع الكلام الأوّل إلى هنا ؛ لأنّه سوف يكون مركّبا من ذات الواجب النفسي ومن كونه موصلا ، فيعود الكلام نفسه وهكذا فيتسلسل.

الثالث : أنّ الإتيان بالواجب النفسي لمّا صار قيدا ومقدّمة للمقيّد أو للتقيّد فسوف يتّصف بالوجوب الغيري ، والحال أنّه متّصف بالوجوب النفسي ، فيلزم اجتماع المثلين وهو مستحيل.

٢٩٣

الرابع : أنّ الإتيان بالواجب النفسي لمّا صار قيدا ومقدّمة للإتيان بالمقيّد أو التقيّد ، والمفروض أنّ المقيّد أي ( المقدّمة الموصلة ) مقدّمة له فيلزم من ذلك توقّف الواجب النفسي على حصول المقدّمة الموصلة ، وتوقّف حصول المقدّمة الموصلة على الواجب النفسي وهذا دور ؛ لتوقّف كلّ منهما على الآخر في الوجود (١).

وبذلك يظهر أنّ الوجوب الغيري لا يمكن أن يتعلّق بالحصّة الموصلة ، بل هو متعلّق بمطلق المقدّمة. وعليه يتعيّن أن يكون الملاك من الوجوب الغيري هو التمكّن من الإتيان بالواجب لا الوصول إليه وحصوله.

ويمكن أن يبرهن على الثاني بأنّ غرض الوجوب الغيري ليس هو التمكّن ، بل نفس حصول الواجب النفسي ؛ لأنّ دعوى أنّ الغرض هو التمكّن إن أريد بها أنّ التمكّن غرض نفسي فهو باطل بداهة وخلف أيضا ؛ لأنّه يجعل المقدّمة موصلة دائما لعدم انفكاكها عن التمكّن الذي هو غرض نفسي ، مع أنّنا نتكلّم عن المقدّمة التي تنفكّ خارجا عن الغرض النفسي.

وإن أريد بها أنّ التمكّن غرض غيري فهو بدوره طريق إلى غرض نفسي لا محالة ، إذ وراء كلّ غرض غيري غرض نفسي ، فإن كان الغرض النفسي منه حصول الواجب النفسي ثبت أنّ هذا هو الغرض الأساسي من الواجبات الغيريّة ، وإلا تسلسل الكلام حتّى يعود إليه لا محالة.

الدليل على وجوب المقدّمة الموصلة : أنّ الغرض والملاك من الوجوب الغيري هو

__________________

(١) ونضيف إلى ذلك بعض المحاذير التي ذكرها صاحب ( الكفاية ) :

أوّلا : أنّ الإتيان بالمقدّمة مع عدم قصد التوصّل بها إلى الواجب النفسي ، معناه أنّ ما أتى به ليس هو متعلّق الوجوب الغيري ؛ لأنّه مختصّ بالمقدّمة الموصلة فيلزم منه الإعادة مجدّدا.

وثانيا : لو كانت المقدّمة خصوص الموصلة إلى الواجب النفسي ، فحيث إنّ فعل الواجب اختياري للمكلّف إن شاء فعله وإن شاء خالفه فيلزم تعليق المقدّمة الموصلة على اختيار المكلّف ، فيكون اختياره دخيلا في الملاك والغرض ، وهذا لا يمكن لأحد أن يلتزم به.

وثالثا : أنّ المكلّف إذا أتى بالمقدّمة ولم يشرع بالواجب بعد ، فهل يسقط الوجوب الغيري المتعلّق بها أو لا؟

فإن قيل بعدم سقوطه لزم الإعادة والتكرار ، وإن قيل بسقوطه فهذا لازمه أنّه لم يتعلّق بالحصّة الموصلة.

٢٩٤

حصول الواجب النفسي دون التمكّن ؛ وذلك لأنّ كون الغرض والملاك هو التمكّن يلزم منه عدّة محاذير عقليّة.

وتوضيح ذلك : أنّنا لو فرضنا كون التمكّن من الإتيان بالواجب بفعل المقدّمة هو الملاك والغرض ، فهنا نسأل هل هذا الغرض والملاك نفسي أم غيري؟

فإن قيل بأنّه غرض وملاك نفسي فيلزم منه محذوران :

أحدهما : وضوح الفساد والبطلان ؛ لأنّ فرض الغرض النفسي معناه أنّه يوجد غرضان نفسيّان أحدهما موجود في الوجوب النفسي والآخر موجود في الوجوب الغيري ، وهذا واضح البطلان بداهة عدم وجود إلا غرض نفسي واحد يترتّب على الوجوب النفسي فقط.

وقد تقدّم سابقا أنّ الوجوب الغيري ليس فيه ملاك ولا غرض زائد على الواجب النفسي ، وإلا لصار التمكّن واجبا نفسيّا مع أنّه واجب غيري بحسب الفرض فيلزم الخلف.

والآخر : أنّ فرض كون التمكّن هو الغرض النفسي لازمه أن تكون المقدّمة دائما موصلة ؛ لأنّ التمكّن لو كان هو المطلوب النفسي من المقدّمة فكلّ المقدّمات تتّصف بالتمكّن ، سواء جاء المكلّف بالواجب أم لا ، فتكون المقدّمة دائما موصلة للتمكّن ؛ لأنّ التمكّن لا ينفكّ عن المقدّمة مع أنّ الواجب قد يتحقّق بعدها وقد لا يتحقّق ، فكيف تتّصف بكونها موصلة مع أنّ الواجب قد لا يتحقّق بعدها؟ وكيف يمكن أن نفرض المقدّمة غير الموصلة ما دام فعلها دائما يستتبع التمكّن ، والمفروض أنّه هو الغرض النفسي من فعل المقدّمة وليس الواجب النفسي؟

والحاصل : أنّ فرض كون التمكّن هو الغرض النفسي والأساسي من فعل المقدّمة ، لا يمكن المصير إليه ؛ لأنّه يستلزم الخلف من جعل المقدّمة للواجب وصيرورتها مقدّمة للتمكّن فقط ؛ ولأنّه يؤدّي إلى تعدّد الغرض والملاك النفسي مع أنّ المفروض كونه واحدا مترتّبا على الوجوب النفسي لا الغيري.

وإن قيل بأنّ التمكّن غرض غيري ، فهنا نسأل هل يوجد غرض نفسي وراء هذا الغرض الغيري أو لا يوجد؟

فإذا قيل بأنّه لا يوجد فهو واضح الفساد والبطلان ، إذ ما يكون غرضا غيريّا فهذا

٢٩٥

لازمه لا محالة وجود غرض نفسي ورائه ؛ لأنّ ما يكون غرضا لغيره فهذا الغير إمّا أن يكون أصيلا ونفسيّا أو لا يكون كذلك ، فإن لم يكن نفسيّا بل كان غيريّا عاد السؤال إليه ولا ينقطع التسلسل إلا بفرض وجود غرض نفسي يرجع إليه الغرض الغيري ، إذا لا بدّ من التسليم بوجود الغرض النفسي ورائه.

وإذا قيل بوجود غرض نفسي ورائه كما هو الصحيح ، فهنا نسأل عن هذا الغرض النفسي ما هو؟

فإذا كان هو حصول الواجب ثبت المدّعى ، وأنّ الغرض الأساس والنفسي من الوجوب الغيري هو حصول الواجب النفسي ، وليس التمكّن فقط.

وإذا كان هو التمكّن من الواجب النفسي عاد الكلام من أوّله ولا ينقطع ، فيلزم منه التسلسل الممتنع (١).

وبهذا يظهر أنّ الوجوب الغيري لا يتعلّق إلا بالمقدّمة الموصلة ، ممّا يعني أنّ الملاك والغرض منه إنّما هو حصول الواجب النفسي على المقدّمة وترتّبه عليها.

وإلى هنا نكون قد استعرضنا أدلّة الطرفين ، وأمّا الصحيح منهما فهو :

فالصحيح إذا : اختصاص الوجوب بالحصّة الموصلة ، ولكن لا بمعنى أخذ الواجب النفسي قيدا في متعلّق الوجوب الغيري كما توهّم في البرهان على القول الأوّل ، بل بمعنى أنّ الوجوب الغيري متعلّق بمجموعة المقدّمات التي متى ما وجدت كان وجود الواجب بعدها مضمونا.

__________________

(١) ونضيف إلى ذلك ما ذكره صاحب ( الفصول ) ، فقال ما ملخّصه :

أوّلا : أنّ الوجدان يقضي باختصاص الوجوب الغيري بالمقدّمة الموصلة ؛ لأنّ العقل الذي يدرك وجوب المقدّمة يقضي بتعلّق الوجوب بالمقدّمة الموصلة للواجب لا غير.

وثانيا : أنّ الغرض من الواجب الغيري ليس إلا الحصّة الموصلة ؛ لأنّ العقلاء إذا تعلّقت أغراضهم التكوينيّة بشيء فيسلكون الطريق الموصل إليه لا غيره ، فالمولى العرفي إذا تعلّق غرضه بشيء فلا يتحرّك بنفسه ولا يحرّك عبده إلا نحو المقدّمات الموصلة لغرضه دون غيرها.

وثالثا : أنّ المولى يمكنه أن ينهى ويردع عن المقدّمة غير الموصلة ، فلو كانت مطلق المقدّمة واجبة شرعا لم يمكنه إصدار مثل هذا النهي ؛ للزوم اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد وهو مستحيل.

٢٩٦

وأما القول المختار : فهو أنّ الوجوب الغيري إنّما يتعلّق بخصوص المقدّمة الموصلة دون غيرها ، وفاقا لصاحب ( الفصول ) وغيره ، ولكن على أساس ما نختاره من تفسير للإيصال.

وتوضيحه : أنّ الوجوب الغيري متعلّق بمجموع المقدّمات والأجزاء المساوقة للعلّة التامّة ، بحيث إذا وجدت كان وجود الواجب النفسي مضمونا أي مضمون التحقّق بعدها ، فذات المقدّمة وواقع العلّة التامّة هي المأخوذة تحت الإرادة الغيريّة وتحت الوجوب الغيري ، ولا يكون كلّ جزء جزء بنحو مستقلّ أو بنحو مركّب هو العلّة والمقدّمة ، بل مجموع الأجزاء بما هو مجموع هو العلّة التامّة والمقدّمة الموصلة للواجب.

وبهذا سوف يندفع الإشكال الذي ذكر في البرهان على القول الأوّل ، والذي كان حاصله : أنّ الواجب النفسي سوف يصبح قيدا للوجوب الغيري وهو غير معقول ؛ لما ذكر من المحاذير.

ووجه اندفاعه : أنّ أخذ مجموع الأجزاء والمقدّمات لا يعني أنّ كلّ جزء متوقّف على حصول الجزء الآخر ، أو مقيّد بذات الجزء الآخر ، بل المجموع بما هو مجموع مأخوذ في المقدّمة.

ومن جملة هذه المقدّمات والأجزاء أيضا اختيار المكلّف للفعل ، فإنّ الاختيار جزء من العلّة التامّة واقعا ، فيكون دخيلا في المقدّمة أيضا.

والحاصل : أنّنا نقصد بالمقدّمة الموصلة هو تحقّق كلّ ما يكون دخيلا في إيجاد الواجب بحيث إذا وجدت كلّها ترتّب الواجب عليها ، فهي بمثابة العلّة التي متى ما وجدت وجد المعلول بعدها لا محالة ، إلا إذا وجد مانع خارج عن اختيار وقدرة المكلّف.

* * *

٢٩٧
٢٩٨

مشاكل تطبيقيّة

٢٩٩
٣٠٠