شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٩

قاعدة استحالة

التكليف بغير المقدور

٢١
٢٢

قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور

شرطيّة القدرة ومحلّها :

في التكليف مراتب متعدّدة ، وهي : الملاك ، والإرادة ، والجعل ، والإدانة.

فالملاك : هو المصلحة الداعية إلى الإيجاب.

والإرادة : هي الشوق الناشئ من إدراك تلك المصلحة.

والجعل : هو اعتبار الوجوب مثلا ، وهذا الاعتبار تارة يكون لمجرّد إبراز الملاك والإرادة ، وأخرى يكون بداعي البعث والتحريك ، كما هو ظاهر الدليل الذي يتكفّل بإثبات الجعل.

والإدانة : هي مرحلة المسئوليّة والتنجّز واستحقاق العقاب.

مقدّمة البحث : إنّ الحكم في مقام الثبوت يشتمل على المراتب التالية :

١ ـ الملاك : وهو المصلحة أو المفسدة التي يدركها الشارع في الأشياء بحيث تكون هي الداعي إلى جعل الإيجاب أو التحريم.

٢ ـ الإرادة : وهي عبارة عن الشوق والحبّ أو البغض اللذين يتولّدان من المصلحة أو المفسدة في الفعل ، فبقدر تلك المصلحة أو المفسدة يتولّد شوق أو بغض مولوي وإرادة مولويّة تتناسب معها.

٣ ـ الجعل : وهو عبارة عن صياغة الإرادة والشوق والبغض المولوي صياغة اعتباريّة وجعليّة للإيجاب أو التحريم ، إلا أنّ هذه الصياغة يمكن تصوّرها على نحوين : فتارة يصوغ المولى الإيجاب أو التحريم لمجرّد الكشف عن الإرادة والملاك في هذا الفعل من دون أن يكون هناك شيء آخر وراء هذه الصياغة.

وأخرى يصوغه بداعي البعث والتحريك أي من أجل تسجيل الإيجاب أو التحريم على ذمّة المكلّف وإدخال الفعل في عهدته ، فيصبح مسئولا عنه ومطالبا به.

٢٣

والظاهر من الدليل الذي يدلّ على الحكم الشرعي كون هذا الحكم مبرّزا ومصاغا بداعي البعث والتحريك ؛ لأنّ الاعتبار هو عمليّة التشريع والتقنين ، وليس مجرّد صياغة اعتباريّة لا تحمل في طيّاتها أيّة مسئوليّة للمكلّف كما هو المتعارف بين الناس والعرف.

٤ ـ الإدانة : وهي المرحلة الأخيرة وهي ترتبط بعالم الإثبات ؛ وذلك لأنّ التكليف إذا وصل إلى المكلّف صار فعليّا ومنجّزا عليه ومطالبا به ؛ لأنّه أصبح في عهدته وذمّته ، ويجب عليه عقلا أن يفرّغ ذمّته منه وذلك بأدائه وامتثاله ، فإذا عصى ولم يمتثل كان مدانا ومستحقّا للعقاب بحكم العقل لعدم امتثاله وإطاعته لأحكام من تجب إطاعته عقلا.

ولا شكّ في أنّ القدرة شرط في مرحلة الإدانة ؛ لأنّ الفعل إذا لم يكن مقدورا فلا يدخل في حقّ الطاعة للمولى عقلا ، كما أنّ مرتبتي الملاك والشوق غير آبيتين عن دخالة القدرة كشرط فيهما ـ بحيث لا ملاك في الفعل ولا شوق إلى صدوره من العاجز ـ وعن عدم دخالتها كذلك ـ بحيث يكون الفعل واجدا للمصلحة ومحطّا للشوق حتّى من العاجز ـ وقد تسمّى القدرة في الحالة الأولى بالقدرة الشرعيّة وفي الحالة الثانية بالقدرة العقليّة.

محلّ شرطيّة القدرة في التكليف : بعد أن ذكرنا المراتب الأربع للتكليف ، نعود لأصل البحث في هذه المسألة وهي أنّ القدرة التي هي شرط في التكليف في أيّة مرتبة من هذه المراتب الأربع تكون شرطا؟

والجواب : أمّا مرتبة الإدانة فلا شكّ في كون القدرة شرطا في هذه المرحلة ، فالعقل لا يحكم باستحقاق المكلّف للإدانة واستحقاق العقوبة على عدم الامتثال والإطاعة فيما إذا لم يكن قادرا على ذلك ، بل لا يحكم العقل بدخول الفعل في ذمّة وعهدة المكلّف حينئذ ، ولا يشمل حقّ الطاعة للمولى المكلّف العاجز تكوينا عن الامتثال ؛ لأنّ إدانة العاجز وغير القادر قبيح عقلا ؛ لأنّه مضطر إلى الفعل أو الترك فما يصدر منه لم يكن عن اختيار وإرادة ليطالب به ؛ لأنّ حقّ الطاعة لا يشمل موارد عدم الاختيار.

وهذا الاشتراط واضح ولا كلام فيه ، ولذلك فمن المستحيل أن يصدر من الشارع

٢٤

إدانة وعقاب للمكلّف لمجرّد أنّه عصى أو خالف تكليف المولى مع عدم قدرته على امتثاله وإطاعته تكوينا.

وأمّا بلحاظ مرتبتي الملاك والإرادة فليس من الضروري أن تكونا مشروطتين بالقدرة ، بل يمكن إطلاقهما حتّى لموارد العجز ، فكما يمكن أن نتصوّر كون الملاك والإرادة مشروطين بالقدرة بحيث لا يكون هناك ملاك وإرادة على المكلّف العاجز ، فكذلك يمكن أن نتصور عدم كونهما مشروطين بالقدرة ، فيكون الملاك والإرادة ثابتين حتّى لموارد عجز المكلّف أيضا.

فإن قلنا بأنّ الملاك والإرادة مشروطان بالقدرة ، فالمصلحة والمفسدة أو الشوق المولوي لا تترتّبان على الفعل بما هو هو ، بل على الفعل المقدور فقط ، ممّا يعني أنّ اتّصاف الفعل بالمصلحة أو المفسدة مقيّد ومشروط بالقدرة عليه ، فما دام غير مقدور عليه فلا يمكن اتّصافه بذلك.

وأمّا إن قلنا بأنّ الملاك والإرادة غير مشروطين بالقدرة فالمصلحة والمفسدة أو الشوق المولوي موجودان حتّى في موارد العجز ، فالفعل يتّصف بالمصلحة والشوق وإن كان المكلّف عاجزا عنه تكوينا.

والوجه في أنّ الملاك والإرادة لا يأبيان التقييد بالقدرة وعدمه هو أنّ المصلحة والمفسدة من الأمور التكوينيّة التي يتّصف بها الفعل ، وهما موجودان سواء كان المكلّف قادرا على استيفائهما أم كان عاجزا عن ذلك ، والإرادة ليست إلا الشوق المولوي الحاصل من ذلك الملاك فيمكن تقييده بالقدرة وإطلاقه ؛ لأنّه يمكن أن يتعلّق بالمستحيل بالذات كاجتماع الضدّين أو النقيضين ؛ إذ لا مانع من حبّ ذلك أو بغضه ، كما يمكن تعلّقهما بالممتنع بالعرض كسائر الموارد التي لا يتمكّن الإنسان من القيام بها لعجزه ومحدوديّته.

وحينئذ فإن كانت القدرة شرطا في الملاك والإرادة أطلق عليها عنوان القدرة الشرعيّة ، وإن لم تكن شرطا فيهما أطلق عليها عنوان القدرة العقليّة.

وإنّما عبّر السيّد الشهيد عن هذه التسمية بقوله : ( وقد تسمّى ... ) من أجل أنّ هذين التعبيرين كما سوف يأتي لا حقا يطلقان على ما إذا كانت القدرة مأخوذة في لسان الدليل فتسمّى بالقدرة الشرعيّة ، وبين ما إذا لم تكن مأخوذة فيه فتسمّى بالقدرة

٢٥

العقليّة ، ووجه التسمية هناك واضح ؛ لأنّ أخذ القدرة في لسان الدليل يتناسب مع إطلاق القدرة الشرعيّة عليها ، وعدم أخذها في الدليل يعني أنّ العقل هو الذي يحكم باشتراط القدرة فقط ، وحينئذ لا بدّ من ملاحظة المرتبة التي يقيّدها العقل بالقدرة.

وأمّا وجه التسمية هنا فلأنّ القدرة إن كانت شرطا في الملاك والإرادة فهذا معناه أنّ الشارع هو الذي اشترطها فيهما ؛ لأنّ الملاك والإرادة بنفسهما غير آبيين عن اشتراطهما أو عدم اشتراطهما ، فتكون القدرة شرعيّة ؛ لأنّ الشارع هو الذي لاحظها في الملاك والإرادة. وإن لم تكن القدرة شرطا فيهما كانت القدرة عقليّة ، بمعنى أنّ القدرة شرط بحكم العقل ، وحينئذ لا بدّ من مراجعة حكم العقل لنرى أي مرتبة من مراتب التكليف يشترط القدرة فيها.

وأمّا في مرتبة الحكم فإذا لوحظت هذه المرتبة بصورة مجرّدة لم نجد مانعا عقليّا عن شمولها للعاجز ؛ لأنّها اعتبار للوجوب والاعتبار سهل المئونة ، وقد يوجّه إلى المكلّف على الإطلاق لإبراز أنّ المبادئ ثابتة في حقّ الجميع. ولكن قد نفترض جعل الحكم بداعي البعث والتحريك المولوي ، ومن الواضح هنا أنّ التحريك المولوي إنّما هو بسبب الإدانة وحكم العقل بالمسئوليّة ، ومع العجز لا إدانة ولا مسئوليّة كما تقدّم ، فيستحيل التحريك المولوي ، وبهذا يمتنع جعل الحكم بداعي التحريك المولوي.

وحيث إنّ مفاد الدليل عرفا هو جعل الحكم بهذا الداعي فيختصّ لا محالة بالقادر ، وتكون القدرة شرطا في الحكم المجعول بهذا الداعي.

وأمّا بلحاظ مرتبة جعل الحكم ، فقد تقدّم أنّ هذه المرتبة يمكن تصوّرها بنحوين : فتارة يكون جعل الحكم والاعتبار لمجرّد إبراز الملاك والإرادة والكشف عنهما ، فيكون الاعتبار مجرّد صياغة تعبيريّة وإنشاء محضا ، وأخرى يكون جعل الحكم بداعي البعث والتحريك المولوي للمكلّف وتسجيل الفعل على ذمّته وإدخاله في عهدته ، فيكون الاعتبار وجعل الحكم من باب التقنين والتشريع لا مجرّد صياغة إنشائيّة فقط.

فإن كان جعل الحكم بالنحو الأوّل فلا مانع حينئذ من عدم اشتراط التكليف بالقدرة في هذه المرتبة ؛ لأنّ مجرّد الاعتبار والإنشاء والصياغة من غير أن يكون وراء ذلك شيء آخر ، لا يمتنع بحكم العقل أن يكون مطلقا وغير مشروط بالقدرة ؛ لأنّه ما

٢٦

دام التحريك منتفيا فبالتالي لا اشتغال للذمّة ولا مسئوليّة ولا عقوبة ولا إدانة على شيء.

وليس ذلك إلا مجرّد اعتبار وإنشاءات لفظيّة فقط وهي سهلة المئونة ؛ لأنّ الاعتبار بمجرّده من دون أن يكون وراءه شيء ومن دون أن يكون معبّرا عن شيء حقيقي لا يعدو عن كونه مجرّد لفظ فقط.

فإن قيل : ما هي الفائدة والنكتة من إبراز الخطاب مطلقا حتّى يشمل موارد العجز ، مع أنّه في موارد العجز لن يكون لهذا الخطاب مؤثّريّة أصلا؟

كان الجواب : أنّ الفائدة من ذلك هي إظهار الملاكات والإرادة والشوق المولوي بهذا الخطاب المطلق ، وأنّها مطلقة وشاملة حتّى للعاجز بمعنى ثبوت الملاك والإرادة في موارد العجز ، ممّا يعني أنّ القدرة لم تؤخذ شرطا فيهما.

وقد تقدّم آنفا أنّ الملاك والإرادة لا يمتنع تعلّقهما بغير المقدور ذاتا أو الممتنع بالغير ، فمن أجل إبراز هذا الأمر والكشف عنه كان الخطاب والاعتبار الإنشائي مطلقا وغير مقيّد بالقدرة أيضا.

وأمّا إن كان جعل الحكم بالنحو الثاني أي بداعي البعث والتحريك ، فمن الواضح أنّ القدرة شرط فيه ؛ وذلك لأنّ البعث والتحريك للمكلّف يقتضيان إدخال الفعل في عهدته وصيرورته مسئولا عنه ومطالبا به ، ويستحقّ العقوبة على مخالفته ، وبالتالي يصبح مدانا عقلا.

وقد تقدّم أنّ القدرة شرط في التكليف في مرحلة الإدانة إذ يمتنع عقلا إدانة العاجز ؛ لأنّه غير مختار ، وما دامت المحركيّة مجعولة من أجل الإدانة أو هي مقدّمة للإدانة وسبب لها فهي مشروطة بالقدرة أيضا.

وبتعبير آخر : إنّ الداعي والهدف إن كان هو تحريك المكلّف ، فمن الواضح أنّ العاجز لا يمكنه تحريكه ولا يمكن تحرّكه عن الخطاب المولوي والجعل الشرعي ، فكان الجعل بهذا الداعي مقيّدا بحكم العقل بالقدرة.

وأمّا الصحيح : فقد تقدّم في محلّه إنّ جعل الحكم إنّما هو بداعي البعث والتحريك وليس مجرّد صياغة إنشائيّة اعتباريّة محضة ؛ وذلك لأنّ العرف يفهم من الجعل الشرعي هذا المعنى ؛ لأنّه هو المتداول في المحاورات العرفيّة بين الآمرين والمأمورين

٢٧

العرفيّة ، وما دام جعل الحكم بداعي البعث والتحريك إذا فهو مشروط بالقدرة عقلا.

وبهذا ظهر أنّ القدرة إنّما تكون شرطا فيما يلي :

١ ـ في مرحلة الإدانة والعقوبة فلا إدانة ولا عقوبة على العاجز.

٢ ـ في مرحلة جعل الحكم بداعي البعث والتحريك ، فلا محركيّة ولا بعث بحقّ العاجز.

وأمّا في مرحلتي الملاك والإرادة فقد تكون دخيلة وشرطا ، وقد لا تكون شرطا فيهما.

وأمّا في مرحلة جعل الحكم كاعتبار محض فهي ليست شرطا فيمكن جعل الاعتبار مطلقا.

والقدرة إنّما تتحقّق في مورد يكون الفعل فيه تحت اختيار المكلّف فإذا كان خارجا عن اختياره فلا يمكن التكليف به لا إيجابا ولا تحريما ، سواء كان ضروري الوقوع تكوينا أو ضروري الترك كذلك ، أو كان ممّا قد يقع وقد لا يقع ، ولكن بدون دخالة لاختيار المكلّف في ذلك كنبع الماء في جوف الأرض ، فإنّه في كلّ ذلك لا تكون القدرة محقّقة.

معنى القدرة هنا : المراد من القدرة المبحوث عنها هو كون الفعل واقعا تحت اختيار المكلّف ، بحيث يمكن للمكلّف فعله أو تركه ، فالمكلّف القادر هو الذي يمكنه أن يفعل كما يمكنه أن يترك ، بحيث ينتسب الفعل أو الترك إلى اختياره.

فإذا لم يكن المكلّف مختارا في الفعل أو الترك لم يكن قادرا ، فتنتفي القدرة فيما إذا سلب الاختيار عن المكلّف في الفعل أو الترك ، ومع انتفاء القدرة لا تكليف لا إيجابا ولا تحريما.

فإذا كان الفعل ضروري الوقوع من المكلّف لم يكن مختارا ؛ لأنّه ليس قادرا على الترك فلا تكليف عليه كما في دقّات القلب مثلا ، فإنّها ضروريّة الوقوع منه.

وإذا كان الفعل ضروري الترك منه لم يكن مختارا ؛ لأنّه ليس بقادر على الفعل فلا تكليف عليه أيضا ، كما في الخروج من الأرض مثلا من دون وسيلة لذلك.

وهكذا الحال فيما لو كان الفعل ممّا يقع ولا يقع من المكلّف ولكن من دون اختيار منه ، أي أنّ الفعل في نفسه ممكن إلا أنّه ليس داخلا تحت إرادته مطلقا ، بل في بعض

٢٨

الحالات فقط ، فهنا أيضا لا يكون مختارا فيه فلا يكلّف به لعدم قدرته عليه ؛ لأنّه هنا غير مختار في أصل الفعل وإن كان مختارا في حالاته فقط ؛ كنبع الماء في جوف الأرض ، فإنّه قد يقع من المكلّف وقد لا يقع منه ، ولكن في حالة وقوعه منه كما إذا حفر بئرا فخرج نبع الماء لا يكون استناد الخروج إليه ؛ لأنّ خروجه مستند إلى أسبابه وعلله التكوينيّة ، والحفر إنّما هو مقدّمة أو وسيلة للكشف عن هذا النبع.

أو كالنوم مثلا فإنّ أصل النوم ليس داخلا في اختيار المكلّف ، بل هو مضطر للنوم. نعم ، حالات النوم وأوقاته باختياره ، كالليل أو النهار أو الصباح أو الظهر أو الكثرة أو القلّة منه.

وبهذا يتّضح أنّ القدرة المأخوذة شرطا في التكليف بداعي البعث والتحريك أو في الإدانة واستحقاق العقوبة إنّما هي القدرة ، بمعنى تساوي الفعل والترك للمكلّف وقدرته عليهما ، بحيث يستند كلّ منهما إلى فعله واختياره وإرادته ، وفي غير ذلك يكون مسلوب القدرة والاختيار فلا تكليف عليه ولا عقوبة.

وثمرة دخل القدرة في الإدانة واضحة ، وأمّا ثمرة دخلها في جعل الحكم الذي هو مفاد الدليل فتظهر بلحاظ وجوب القضاء ، وذلك في حالتين :

ثمرة البحث : تقدّم أنّ القدرة شرط في التكليف في مرحلة الإدانة ، وهذا معناه أنّ العاجز وغير القادر لا يكون مدانا شرعا على عدم امتثاله أو عصيانه ؛ وذلك لأنّه خارج عن اختياره وقدرته ، والتكليف لا يكون إلا بما هو داخل ضمن اختيار المكلّف.

وأمّا إذا لم تكن شرطا في الإدانة فيكون العاجز الذي لم يمتثل التكليف مدانا ، وهذا يستحيل ثبوته من الشارع كما هو واضح.

وهكذا بالنسبة لدخالتها أو عدم دخالتها في الحكم بلحاظ مرتبتي الملاك والإرادة ، فأيضا تقدّم أنّ القدرة إن كانت دخيلة في الملاك والإرادة فهذا يعني أنّ العاجز وغير القادر لا ملاك في الفعل الذي يصدر منه ولو اتّفاقا ، ولا يكون هو المراد للشارع أيضا ، وأمّا إذا لم تكن دخيلة فيهما فالعاجز إذا صدر منه الفعل ولو اتّفاقا كان واجدا للملاك وكان مرادا للشارع.

ويترتّب على دخالة القدرة أو عدم دخالتها هنا الإجزاء وعدمه بالنسبة للعاجز الذي صدر منه الفعل ولو اتّفاقا ، فإنّه بناء على دخالتها فيهما لا يكون هناك إجزاء ،

٢٩

بل تجب عليه الإعادة أو القضاء. وبناء على عدم دخالتها يكون الإجزاء متحقّقا ويقال بالامتثال للمأمور به أو المنهي عنه.

وأمّا بالنسبة لاشتراط القدرة في التكليف بلحاظ مرتبة جعل الحكم ، حيث تقدّم إنّ المراد من جعل الحكم هو الداعي للبعث والتحريك ، فتكون القدرة شرطا فيه.

فثمرة اشتراط القدرة قد تبدو غير واضحة هنا ؛ إذ قد يشكل على ذلك فيقال : إنّ القدرة ما دامت شرطا في الإدانة بحيث لا يمكن إدانة العاجز ولا يكون العاجز مستحقّا للعقاب ، فسواء قلنا باشتراط القدرة في التكليف بلحاظ مرتبة جعل الحكم أم لم نقل باشتراطها فيه ، فالعاجز لن يكون مدانا على كلّ حال ؛ لأنّه سواء كان مخاطبا بالتكليف أم لم يكن مخاطبا به ، فعجزه عنه معذّر له عن الامتثال والإطاعة.

ولكن يجاب : أنّ لاشتراط القدرة في التكليف بلحاظ مرحلة جعل الحكم ثمرة تظهر بلحاظ وجوب القضاء فيما إذا كان للفعل المأمور به قضاء ، فإنّه حينئذ يمكن أن يبحث من هذه الجهة في وجوب القضاء على العاجز عن التكليف في وقته ، ولكن بعد انقضاء الوقت إذا ارتفع عجزه فهل يثبت عليه القضاء أم لا؟

والنكتة في انفتاح هذا البحث هي أنّ الملاك هل هو نحو ملاك يختصّ بحالات القدرة فقط ، أو أنّه ملاك يشمل حتّى حالات العجز أيضا ، فإنّه سوف يؤدّي إلى التساؤل بحقّ العاجز في كون الملاك شاملا له أم لا؟

ومن هنا سوف تظهر لنا الثمرة في حالتين ، هما :

الأولى : أن يعجز المكلّف عن أداء الواجب في وقته ، ونفترض أنّ وجوب القضاء يدور إثباتا ونفيا مدار كون هذا العجز مفوّتا للملاك على المكلّف وعدم كونه كذلك ، فإنّه إذا لم نقل باشتراط القدرة في مرتبة جعل الحكم الذي هو مفاد الدليل أمكن التمسّك بإطلاق الدليل لإثبات الوجوب على العاجز ـ وإن لم تكن هناك إدانة ـ ونثبت حينئذ بالدلالة الالتزاميّة شمول الملاك ومبادئ الحكم له.

وبهذا نعرف أنّ العاجز قد فوّت العجز عليه الملاك فيجب عليه القضاء ، وخلافا لذلك ما إذا قلنا بالاشتراط فإنّ الدليل حينئذ يسقط إطلاقه عن الصلاحيّة لإثبات الوجوب على العاجز ، وتبعا لذلك تسقط دلالته الالتزاميّة على المبادئ فلا يبقى كاشف عن الفوت المستتبع لوجوب القضاء.

٣٠

الثمرة الأولى : إذا فرض أنّ المكلّف قد عجز عن الإتيان بالواجب المأمور به في وقته ، كما إذا عجز عن أداء صلاة الصبح في وقتها ، أو عجز عن صوم يوم من أيّام شهر رمضان ، فهنا هل يجب عليه قضاء هذا اليوم أو هذه الصلاة أم لا؟

والجواب : أنّنا إذا بنينا فقهيّا على أنّ وجوب القضاء للفعل المأمور به إذا لم يؤت به في وقته كان منوطا إثباتا ونفيا بمسألة الملاك ، فإنّه تارة يكون العجز عن الفعل في وقته مفوّتا لتمام الملاك ، وأخرى لا يكون كذلك وإنّما كان هناك شيء من الملاك يبقى حتّى مع عجز المكلّف عن الفعل في وقته ، وهذا الملاك الباقي يمكن استيفاؤه بعد الوقت ، فإن كان مفوّتا لتمام الملاك فلا يبقى شيء من الغرض لا في وقته ولا في خارجه فلا يجب القضاء ، وإن كان هناك ملاك يمكن استيفاؤه فهنا تظهر الثمرة ؛ وذلك لأنّنا إذا لم نقل باشتراط القدرة في التكليف في مرحلة جعل الحكم الذي هو مفاد الدليل الشرعي ، فإنّ مثل : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) أو ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) تدلّ على البعث والتحريك وجعل الحكم لعنوان المكلّف ، سواء كان قادرا أم عاجزا.

وهذا يعني أنّنا يمكننا أن نتمسّك بإطلاق مثل هذا الخطاب لإثبات الوجوب على العاجز أيضا ، وإذا كان الوجوب ثابتا على العاجز والذي هو المدلول المطابقي للخطاب نثبت بالدلالة الالتزاميّة ثبوت الملاك بحقّه ؛ لأنّ الوجوب وراءه الملاك والمبادئ في كلّ مورد يثبت فيه.

وهذا معناه أنّ العاجز قد فوّت العجز عليه الملاك ، والحال أنّه يمكنه استيفاؤه بعد الوقت فيجب عليه القضاء ؛ لأنّ الواجب المأمور به لا يسقط إلا إذا امتثل المكلّف الفعل المأمور به ، أو حقّق ملاكه والغرض منه ، فإنّه يحقّق الامتثال أيضا.

وأمّا إذا كانت القدرة شرطا في التكليف في مرحلة جعل الحكم ، فالخطاب المذكور مقيّد عقلا بالقدرة ، ممّا يعني أنّه لا يشمل العاجز ، فالعاجز لا خطاب بحقّه ، بمعنى أنّ الشارع لا يخاطبه بوجوب الصلاة أو الصوم حال عجزه ، وإذا لم يكن مشمولا للخطاب الشرعي وكان المدلول المطابقي ـ أي الوجوب ـ ساقطا ، فلا يبقى دليل على وجوب القضاء بحقّه ؛ لأنّ المفروض عدم وجود الدليل الخاصّ على ذلك ، والدليل الاجتهادي المذكور ساقط عنه ، ومع سقوط الوجوب والمدلول المطابقي

٣١

يسقط المدلول الالتزامي والملاك والمبادئ بمعنى عدم وجود ما يكشف عن ثبوتها حال العجز ، وبالتالي لا يوجد ما يدلّ على ثبوت القضاء بحقّه.

وبتعبير آخر : إنّ الوجوب ساقط عنه فلا يجب عليه الأداء ، والملاك لا دليل على ثبوته فلا يجب عليه القضاء.

وبهذا ظهر أنّ لاشتراط القدرة في التكليف في مرحلة جعل الحكم فائدة وثمرة غير مسألة الإدانة ، فإنّ العاجز لا يدان على كلّ حال.

الثانية : أن يكون الفعل خارجا عن اختيار المكلّف ، ولكنّه صدر منه بدون اختيار على سبيل الصدفة ، ففي هذه الحالة إذا قيل بعدم الاشتراط تمسّكنا بإطلاق الدليل لإثبات الوجوب بمبادئه على هذا المكلّف ، ويعتبر ما صدر منه صدفة حينئذ مصداقا للواجب فلا معنى لوجوب القضاء عليه لحصول الاستيفاء.

وخلافا لذلك ما إذا قلنا بالاشتراط ، فإنّ ما أتى به لا يتعيّن بالدليل أنّه مسقط لوجوب القضاء وناف له ، بل لا بد من طلب حاله من قاعدة أخرى من دليل أو أصل.

الثمرة الثانية : وتظهر فيما إذا فرض أنّ المكلّف قد عجز عن الإتيان بالفعل المأمور به ، ولكن ومن دون اختيار منه صدر الفعل منه على سبيل الصدفة ، فهل مثل هذا الفعل يكون مجزيا عن المأمور به ومسقطا للتكليف أم لا؟

والجواب : أنّ التكليف لا إشكال في سقوطه فيما إذا امتثل المكلّف المأمور به ، فإنّه يستوفي بذلك تمام الملاك والغرض المطلوب ، كما أنّ التكليف يسقط بعصيانه عن الفاعليّة وإن بقيت الفعليّة فيجب عليه القضاء بعد ذلك كما سيأتي في بحث التعجيز ، وهكذا إذا كان للتكليف المأمور به بدل فإنّه يسقط بامتثاله بدله.

وهناك قسم آخر من الامتثال وهو فيما إذا حقّق المكلّف الملاك والغرض وإن لم يكن مخاطبا بالوجوب ، فإنّ الذمّة كما تشتغل بالفعل إذا خوطب بالوجوب ونحوه ، كذلك إذا خوطب بالملاك أو كان الملاك شاملا للمكلّف في مورد ، فإنّه يكفي لاشتغال الذمّة ويكفي أيضا لسقوط التكليف أن يؤتى بالملاك ، وهنا تظهر هذه الثمرة.

فإنّنا إذا لم نقل باشتراط القدرة في التكليف في مرحلة الجعل ، فهذا معناه أنّ العاجز مشمول للخطاب بالوجوب ، غاية الأمر كونه معذورا وغير مدان بسبب

٣٢

عجزه ، ولمّا كان مشمولا للوجوب فالملاك ثابت بحقّه ، فإذا صدر منه الفعل فقد حقّق الملاك واستوفاه ، فيسقط التكليف عن عهدته ، فلا يجب عليه القضاء ؛ لكونه قد حقّق المطلوب منه وهو الملاك ، وإن صدر منه الفعل صدفة ، فإنّ الملاك أمر تكويني يتحقّق بإيجاده سواء كان عن قصد أم صدفة ، ومع تحقّق الملاك فقد ثبت الامتثال فيسقط التكليف ، فلا يكون قد فاته شيء ليبحث عن وجوب قضائه وعدمه ؛ لأنّه يكون من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

وأمّا إذا قلنا باشتراط القدرة في التكليف في مرحلة جعل الحكم ، فالعاجز غير مكلّف وليس مخاطبا بالوجوب ، بمعنى أنّ المدلول المطابقي ساقط عنه ، ومع سقوطه يسقط المدلول الالتزامي ، فلا ملاك بحقّه أيضا.

وعليه ، فإذا صدر منه الفعل على سبيل الصدفة فهو فعل لم يكن مخاطبا به ، ولا واجبا عليه ؛ لكونه عاجزا ، وهو أيضا غير محصّل للملاك ؛ لأنّ الملاك يرتفع بحقّ العاجز فلا ملاك في حالات العجز ، فيكون المكلّف قد صدر منه فعل ليس بواجب عليه ، وليس وافيا بالملاك. وحينئذ ينفتح البحث عن وجوب القضاء عليه ؛ لأنّه لم يأت بالمأمور به ولا بملاكه في وقته ، أو بتعبير آخر لا دليل على كون ما صدر منه صدفة مسقطا للتكليف ، فهل يجب عليه القضاء أم لا؟

وهذا يجاب عنه في بحث الإجزاء ، وأنّه هل تجري البراءة لكون الشكّ في وجوب القضاء شكّا في التكليف الزائد ، أو تجري أصالة الاشتغال والاحتياط ؛ لأنّه كان مشتغل الذمّة ويشكّ في خروجه عن عهدة التكليف بسبب عجزه عن الفعل في وقته؟

والفارق بين الثمرتين هو أنّ الثمرة الأولى يشكّ في وجوب القضاء عليه وعدم وجوبه ، لأنّه لم يأت بالمأمور به في وقته ويشكّ في دخالة القدرة في التكليف في مرحلة جعل الحكم وعدمه.

بينما الثمرة الثانية يشكّ في الإجزاء وعدمه ، بمعنى أنّ ما صدر منه صدفة حال عجزه هل يكون مجزيا فلا يجب القضاء ، أو لا يكون مجزيا فيبحث عن وجوب القضاء وعدمه؟

* * *

٣٣
٣٤

حالات ارتفاع القدرة

٣٥
٣٦

حالات ارتفاع القدرة

ثمّ إنّ القدرة التي هي شرط في الإدانة ، وفي التكليف قد تكون موجودة حين توجّه التكليف ، ثمّ تزول بعد ذلك وزوالها يرجع إلى أحد أسباب :

الأوّل : العصيان ، فإنّ الإنسان قد يعصي ويؤخّر الصلاة حتّى لا يبقى من الوقت ما يتاح له أن يصلّي فيه.

الثاني : التعجيز ، وذلك بأن يعجّز المكلّف نفسه عن أداء الواجب ، بأن يكلّفه المولى بالوضوء والماء موجود أمامه فيريقه ويصبح عاجزا.

الثالث : العجز الطارئ لسبب خارج عن اختيار المكلّف.

تقدّم سابقا أنّ القدرة شرط في مرحلتي الإدانة وجعل الحكم والتكليف ، فالخطاب المولوي لا يشمل العاجز من أوّل الأمر ، وإنّما يختصّ بمن كان قادرا ، ولكن المكلّف الذي يكون قادرا حدوثا أثناء توجّه الخطاب إليه أو حين علمه بالخطاب أو حين إرادته امتثال الأمر في وقته ، قد تزول قدرته عنه قبل امتثاله ، وسبب زوال القدرة عن الفعل بقاء له أسباب ثلاثة :

الأوّل : العصيان ، فالمكلّف القادر على الصلاة أو الصوم إذا جاء وقتهما فلم يمتثل ، حتّى انتهى الوقت المحدّد لهما يصبح عاجزا وغير قادر على امتثال الصلاة أو الصوم في الوقت ، إلا أنّ سبب عجزه وزوال قدرته بقاء كان هو العصيان والتمرّد على الأمر المولوي.

الثاني : التعجيز ، وذلك بأن يكون المكلّف قادرا على الفعل في وقته ، ولكنّه يوقع نفسه بالعجز ، وذلك بأن لا يأتي بالمقدّمات المطلوبة منه أو يأتي بعمل يصبح معه عاجزا عن الفعل المطلوب ، فهو وإن لم يعص المأمور به اختيارا ومباشرة ، ولكنّه جاء بشيء يلزم منه أن يصبح عاجزا على الفعل ، فهذا هو التعجيز ، كما إذا كان لديه ماء

٣٧

فحضر وقت الصلاة ولكنّه أراق الماء بدلا من أن يتوضّأ به ، فهنا صار عاجزا عن الوضوء بسبب إراقته الماء لا بسبب عصيانه وتمرّده وعدم امتثاله لأمر الوضوء مع وجود الماء.

وهذا التعجيز تارة يكون بسوء الاختيار ، وأخرى لا يكون بسوء الاختيار ، والفعل الذي صار عاجزا عنه تارة يكون له بدل ، وأخرى لا يكون له بدل ، وسوف يأتي تفصيل ذلك لا حقا.

الثالث : أن يكون المكلّف قادرا على الفعل ولكن حينما يأتي وقت الامتثال يعرض عليه أمر يسلب عنه القدرة لا باختيار منه أو باختياره ، كما إذا كان لديه ماء فجاءت الريح فأراقته ، أو كان لديه ماء وجاء شخص مشرف على الموت من العطش فأعطاه إياه ، فهنا طرأ عليه العجز من دون أن يعصي اختيارا ومن دون أن يوقع نفسه بالمعصية.

وواضح أنّ الإدانة ثابتة في حالات السببين الأوّل والثاني ؛ لأنّ القدرة على الامتثال كافية لإدخال التكليف في دائرة حقّ الطاعة ، وأمّا في الحالة الثالثة فالمكلّف إذا فوجئ بالسبب المعجّز فلا إدانة ، وإذا كان عالما بأنّه سيطرأ وتماهل في الامتثال حتّى طرأ فهو مدان أيضا.

وعلى ضوء ما تقدّم يقال عادة : ( إنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقابا ) ، أي أنّه لا ينفي القدرة بالقدر المعتبر شرطا في الإدانة والعقاب. ويراد بالاضطرار بسوء الاختيار ما نشأ عن العصيان أو التعجيز.

هل تسقط الإدانة في الحالات الثلاث أم لا؟

أمّا في الحالة الأولى : فإذا عصى المكلّف الأمر ولم يمتثل المأمور به حتّى فات الوقت ، فلا إشكال في ثبوت العقاب وكون المكلّف مدانا ؛ لأنّ زوال القدرة بقاء كان بسبب العصيان والتمرّد ، فزوال القدرة كان باختيار المكلّف تماما ، ومع الاختيار في عدم الامتثال يستحقّ المكلّف الإدانة بحكم العقل ؛ لأنّ العقل يحكم بوجوب الإطاعة والامتثال لأوامر المولى الذي له حقّ الطاعة.

وهكذا في الحالة الثانية ، فإنّ المكلّف لمّا كان قادرا على الفعل ولكنّه أوقع نفسه بالعجز اختيارا فصار مسلوب القدرة في الوقت عن الإتيان بالفعل ، فهو أيضا يستحقّ

٣٨

الإدانة والعقاب ؛ وذلك لأنّه لمّا كان قادرا على الفعل فالعقل يحكم عليه بوجوب الإطاعة والامتثال ، فلمّا عجّز نفسه باختياره كان هذا عصيانا أيضا وخروجا عن رسم العبوديّة والطاعة.

ولا فرق في هاتين الحالتين من جهة تحقّق المعصية بالاختيار وعدم امتثال المأمور به بالاختيار ، وإن كانت القدرة في الحالة الأولى مسلوبة بالاختيار إلى انتهاء الوقت ، بينما في الحالة الثانية كانت بعد التعجيز مسلوبة لا بالاختيار. نعم ، هو الذي عجّز نفسه ، فلذلك يشتركان في كون القدرة زالت بالاختيار.

وأمّا في الحالة الثالثة أي حالة طروء العجز فهنا صورتان :

الأولى : أن يطرأ العجز من دون علم المكلّف به مسبقا ، وإنّما يفاجأ به اتّفاقا ، كما إذا كان لديه ماء للوضوء فجاءت الريح وأراقته ، فهنا لا يكون مدانا ولا مستحقّا للعقاب ؛ لأنّ سلب القدرة منه لم يكن باختياره ، وإنّما كان رغم إرادته والعقاب يدور مدار القدرة والاختيار.

الثانية : أن يطرأ العجز في الأثناء ولكنّه مسبوق بعلم المكلّف به ، كما إذا علم بأن الماء سوف ينقطع في أثناء الوقت فتجاهل ولم يحصّل الطهارة أو لم يوفّر الماء لذلك.

وبتعبير آخر : أخلّ بالمقدّمات فصار عاجزا ، فهنا يكون مدانا ومستحقّا للعقاب أيضا ؛ لأنّه باختيار صار عاجزا في الوقت.

وعلى هذا يقال : ( إنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقابا ) ، بمعنى أنّ المكلّف إذا صار مضطرّا وعاجزا بسبب سوء اختياره فإنّه يبقى مستحقّا للعقاب ، ولا منافاة بين هذا الاضطرار وبين استحقاقه للعقاب ؛ لأنّ الاختيار موجود في البين.

وأمّا التكليف فقد يقال : إنّه يسقط بطروّ العجز مطلقا ، سواء كان هذا العجز منافيا للعقاب والإدانة أم لا ؛ لأنّه على أيّة حال تكليف بغير المقدور وهو مستحيل. ومن هنا يكون العجز الناشئ من العصيان أو التعجيز مسقطا للتكليف وإن كان لا يسقط العقاب. وعلى هذا الأساس يردف ما تقدّم من أنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقابا بقولهم : ( إنّه ينافيه خطابا ) ، ومقصودهم بذلك سقوط التكليف.

هل يسقط التكليف في الحالات الثلاث المتقدّمة أم لا؟

٣٩

المشهور أنّ التكليف والخطاب الشرعي يسقط في جميع حالات ارتفاع القدرة ، أي سواء كان ارتفاع القدرة منافيا للعقاب أم كان مصحّحا له ، ففي حالات العصيان أو التعجيز أو طروء العجز مع العلم به أو مع عدم العلم به سوف لا يكون العاجز مكلّفا ، ولا يتوجّه إليه الخطاب المولوي ؛ وذلك لأنّنا قلنا سابقا : إنّ القدرة شرط في التكليف بمعنى الباعثيّة والمحركيّة ، فحيث لا محركيّة ولا باعثيّة لا خطاب ، وفي مقامنا تمتنع المحركيّة والباعثيّة من المكلّف العاجز فيسقط التكليف بحقّه ، نعم لا يسقط العقاب والإدانة كما تقدّم ؛ لأنّ القدرة المصحّحة للعقاب هي القدرة ابتداء وإن زالت بقاء بسوء الاختيار.

وبتعبير آخر : إنّ الإنسان الذي أصبح عاجزا بالفعل ـ سواء كان عجزه عن اختيار منه أم لا ـ لا يصحّ توجيه الخطاب إليه ؛ لأنّه لا يصحّ تحرّكه وانبعاثه نحو الفعل حال العجز وارتفاع القدرة.

ومن هنا أضافوا إلى ما تقدّم أنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقابا ولكنّه ينافيه خطابا.

بمعنى أنّ الاضطرار مهما كان سببه ومنشؤه فهو ينافي الخطاب والتكليف بسبب ارتفاع القدرة التي هي شرط في التكليف ، وشرطيّتها للتكليف ليست كشرطيّة القدرة في الإدانة تكفي حدوثا وإن زالت بقاء ، بل هي شرطيّة لا بدّ من تحقّقها ووجودها حال توجّه الخطاب.

والصحيح : أنّهم إن قصدوا بسقوط التكليف سقوط فاعليّته ومحركيّته فهذا واضح ؛ إذ لا يعقل محركيّته مع العجز الفعلي ، ولو كان هذا العجز ناشئا من العصيان.

وإن قصدوا سقوط فعليّته فيرد عليهم : أنّ الوجوب المجعول إنّما يرتفع إذا كان مشروطا بالقدرة ما دام ثابتا ، فحيث لا قدرة بقاء لا وجوب كذلك ، وأمّا إذا كان مشروطا بالقدرة بالقدر الذي يحقّق الإدانة والمسئوليّة فهذا حاصل بنفس حدوث القدرة في أوّل الأمر ، فلا يكون الوجوب في بقائه منوطا ببقائها.

والصحيح : أنّ ما ذكره المشهور من أنّ ارتفاع القدرة مطلقا ينافي التكليف غير

٤٠